ألمانيا النازية
سيطر النازيون بفضل تنظيماتهم الحزبية على الحياة الألمانية سيطرة كاملة، وكان غرضهم من هذه السيطرة أن يؤلفوا من الريخ تلك الكتلة الصلدة المتماسكة التي اعتبروا وجودها ضروريًّا من أجل إحراز السيطرة على القارة الأوروبية، ثم على بقية العالم في النهاية. ولا ريب في أن النازيين نجحوا في فرض سلطانهم على ألمانيا، ولو أنه من المشكوك فيه أنهم نجحوا في تأليف تلك الكتلة الصلدة المتماسكة التي كانوا يحلمون بها. وقد أفضى العمل على فرض سلطانهم على الريخ إلى التدخل في حياة الأفراد، رجاء أن يتمكنوا من توجيه الحياة العامة في ألمانيا حتى تسير في طريق واحد وعلى أسلوب واحد، ثم يقضون في أثناء ذلك على كل معارضة أو تذمر ويسعون لخلق الفرد الألماني الذي يبغون خلقه من جديد وفق الطراز النازي الصميم، أي الفرد الذي لا يستطيع أن يتذوق طعم السعادة الحقيقية الخالصة إلا بالاندماج أو الفناء في شخص الدولة التي يهيمن الزعيم على شئونها ومصيرها.
ولما كان إحكام هذه السيطرة الداخلية من أول الأسس التي أراد النازيون أن يشيدوا عليها صرح السلطة في داخل ألمانيا وخارجها، فقد وضعوا نصب أعينهم منذ أن خلص الحكم لهم التدخلَ في حياة الفرد والأسرة. ومر هذا التدخل في مراحل معينة، فنشط النازيون في أول الأمر يبغون فرض رقابتهم الدقيقة على حياة أعضاء الحزب النازي الخاصة؛ حتى يُنشئوا أعضاء الحزب تنشئة نازية خالصة صحيحة، ويقصوا من صفوف الحزب كل المشتبه في ولائهم لتعاليم النازية ولشخص الزعيم؛ لذلك لم يكد النازيون يطمئنون إلى خلوص الحزب من كل شائبة، حتى طفقوا يتدخلون في حياة بقية المواطنين. ومنذ بداية شهر مايو عام ١٩٣٦ اتسعت سلطة الزعماء السياسيين حتى شملت كل مواطني دولة الريخ، وكانت فترة هذه المرحلة طويلة — وهي مرحلة بدأت في الحقيقة منذ وصول النازيين إلى الحكم في عام ١٩٣٣، وامتدت إلى وقت نشوب الحرب العالمية الثانية في عام ١٩٣٩، وفي أثنائها بذل النازيون كل جهودهم حتى يعمموا المبادئ والتعاليم النازية ويطبقونها في مناحي الحياة جميعها من خاصة وعامة، ثم صاروا يعملون على تنظيم المجتمع الألماني وفق «توجيه موحد» كافٍ، الغرض المقصود منه أن يصبح الريخ الثالث مستعدًّا لخوض غمار الحرب في النهاية من أجل بسط السيطرة الجرمانية على أوروبا ثم على العالم أجمع.
بيد أن اشتعال الحرب لم يلبث أن أفضى إلى زيادة توغل النازيين وتدخلهم في حياة الأفراد الخاصة، حتى يشتد إحكام «التوجيه الموحد» ويقوى الإنتاج الحربي إلى الدرجة المطلوبة من جهة، وحتى يمتنع على الأهلين أي سبيل للتذمر أو المعارضة الداخلية من جهة أخرى. ولذلك فقد ساءت حياة الفرد العادي في أثناء هذه المرحلة إلى حد كبير، وسرعان ما اشتد طغيان النازيين، وبخاصة منذ بدأت حربهم مع الروسيا «في يونية ١٩٤١»، حتى تحطمت حياة الفرد الخاصة تحطيمًا، وعبأت الدولة الكهول والنساء في خدمة الحرب. وتذوق الألمان طعم الهزيمة في الميادين الروسية، ثم أصابهم الدمار في بلادهم عندما أخذت أسراب الطائرات البريطانية والأمريكية تلقي على مدنهم الصناعية الكبيرة أطنان القذائف المحرقة والمدمرة دون رفق أو شفقة، وفي هذا الدور الأخير كان قد بلغ السيل الزبى، وعجز الأفراد عن أن يحتملوا أكثر مما أُرغموا على تحمله من تضحية بالغة طوال السنين الماضية، واضطر النازيون اضطرارًا إزاء ذلك كله إلى الاعتراف بوجود ما أطلقوا عليه هم أنفسهم اسم «الجبهة الداخلية» أي الجبهة التي كان عمادها سواد الشعب الألماني المتذمر من ثقل التضحيات التي تحملها على غير طائل.
وهذه المبادئ هي التي طبقها النازيون في دولتهم بكل دقة، ولم يلجأ النازيون إلى المواربة لإخفاء ما كانوا يريدون؛ بل أعلن الدكتور «لي» تأييدًا لإشراف الدولة — أي الحزب النازي نفسه — على حياة الأفراد: «إن من الواجب على كل فرد أن ينضم إلى صفوفنا ويسير معنا، ومن واجبه أن يقبل العمل بالروح المتغلبة علينا ويرضى به، وإلا تعذر عليه تمامًا أن يجد هواء يستنشقه؛ لأننا سوف نحرمه أية فرصة تمكنه من كسب عيشه، بل ندعه يموت ويفنى، وإذا قال قائل إنه يريد أن يُترك وشأنه ليعيش في سلام أجبناه بالنفي دائمًا، وقلنا له: كلا يا صديقي، فإني لن أفكر في فعل شيء من هذا مطلقًا.» والواقع أن الدكتور «لي» كان يعني ما يقول؛ إذ من المعروف أنه كان لديه حوالي المليون من الرجال المنتشرين في كل نواحي البلاد مهمتهم الأولى الحرص على تطبيق ما قاله زعيم جبهة العمل في الريخ الثالث.
ولما كانت هذه مبادئ النازية وتعاليمها، ولم يكن مسموحًا للأفراد أن يتخلفوا في الطريق حتى يحيوا الحياة التي يريدونها، عني النازيون من مبدأ الأمر بضرورة القضاء على كل معارضة من شأنها عرقلة سير هذا النظام الوطني الاشتراكي، وضربوا بيد من حديد على كل مخالفة داخلية منذ خلص لهم الحكم في ألمانيا، فقد تساءل وزير دعاوتهم المعروف الهر جوبلز في خطاب ألقاه في نوفمبر ١٩٣٤: «عن أولئك الذين ينقضون النظام القائم»، فقال: «هل هم من أعضاء الحزب النازي؟ كلا! هل هم إذن بقية الشعب الألماني؟ إذا كان الأمر كذلك فخليق بهم أن يعدوا أنفسهم سعداء؛ لأنهم لا يزالون على قيد الحياة! الواقع أنه من المتعذر كل التعذر أن يطمع إنسان يعيش بفضل ما نظهره من رحمة عليه، في أن نسمح له بتوجيه النقد إلينا.» ورغبة في أن يقضي النازيون على كل أثر للمعارضة أو التذمر اعتبرت «محكمة الريخ العليا» أي نقد يوجه للنظام القائم من الأمور التي تدخل تحت طائلة القانون، وتقتضي عند الإدانة توقيع العقوبة الصارمة، سواء أكان هذا النقد أو التجريح أو التعريض في دائرة الأسرة وبين جدران البيت، بين الزوج وزوجه أو الوالد وولده، أم كان علانية في محل عام، بل إن هذه المحكمة العليا لم تلبث أن ذهبت في سبتمبر ١٩٣٧ إلى أنه من واجب الأفراد أن يتحللوا من أية يمين أقسموها على كتمان حديث دار سرًّا وتناول المتحدث في أثنائه النظام القائم أو نشاط المهيمنين على شئون الشعب بالنقد أو التجريح، كما ذهبت إلى أنه من حقها توقيع العقوبة في الحالات التي يثبت فيها أن المتحدث لم يكن يريد التشهير بالنظام القائم أو بأشخاص المسئولين عن هذا النظام أو بأعمالهم ونشاطهم. ومن الطريف أن المحكمة العليا قضت بعدم إنزال العقوبة بالأشخاص الذين يثبت أنهم كانوا يتحدثون إلى أنفسهم ولا يقصدون إذاعة شيء مما يقولون، ولا يرومون أن يسمع أحد ما يتحدثون به إلى أنفسهم، وكذلك أولئك الذين يدونون انتقاداتهم في مذكرات أو يوميات خاصة، ولا يحتفظون بها من أجل نشرها، ثم وقعت هذه المذكرات أو اليوميات بطريق المصادفة أو الإهمال في أيدي غيرهم. ومع هذا كان «الجستابو» يأخذ برأي مخالف لما ذهبت إليه المحاكم في هذه الشئون وما يماثلها. وقد تقدم كيف سيطر الجستابو سيطرة تامة على الحياة في ألمانيا حتى صار لا يمكن أن يفلت من قبضته إنسان.
وكان من أثر ذلك أنه لم يعد في ألمانيا وجود لحياة خاصة، في البيت أو الأسرة، كما انعدمت الحياة الحرة الطليقة التي تكفل حرية الرأي والفكر والعمل. ومن أقوال بعض الذين درسوا هذا الموضوع في ألمانيا النازية قبل الحرب: «إن تدخل النازيين في حياة الفرد إنما يبدأ في الحقيقة قبل أن يولد ويخرج إلى عالم الوجود، ثم يظل هذا التدخل باقيًا حتى بعد وفاة الفرد وانتقاله إلى العالم الآخر؛ لأن النازيين هم الذين يقررون هل ينبغي لك أن تولد أو لا تولد، فهم الذين يقررون أي الأشخاص يصح له أن يتزوج أو لا يتزوج، وهم الذين يشترطون على من يرغب في الزواج، ويصرح له بذلك، أن يختار الزوج التي يرون أنها تصلح له، وهم الذين يقررون إذا كان ينبغي للمتزوج أن يكون له نسل أو لا يكون، كما أنهم يقررون مصير من يرونهم غير صالحين للزواج، فيقتلونهم أو يخصونهم أو يعقمونهم.» وليس أدل على مبلغ صحة هذا القول من النظر في حياة أسرة عادية في ألمانيا النازية.
•••
وفي التنظيم النازي تحتل الأسرة مكانًا ممتازًا، لا لأن النازيين يعنون بدعم أركانها على اعتبار أنها الأساس الذي يقوم عليه بنيان المجتمع، وإنما يعنى النازيون بأمر الأسرة من وجهة نظر محدودة؛ إذ يعتبرونها مجرد «أداة» تمكنهم إذا أحكموا الإشراف عليها، وسيطروا على حياة أعضائها، من بنيان النظام الوطني الاشتراكي الذي ينشدونه، وهو نظام كما تقدم القول، يرمي إلى إفناء الأسرة في شخص الدولة، وإفناء الفرد في شخص الزعيم تحقيقًا في نهاية الأمر لمبدأ الزعامة المسئولة. ومن هذه الناحية وحدها نشأ اهتمام النازيين بأمر الأسرة، فإذا عُرف أن من برنامج النازيين لتحقيق سيطرتهم الأوروبية والعالمية، أنه ينبغي من مبدأ الأمر تأليف كتلة صلبة متماسكة في قلب الريخ الألماني، أصبح من الميسور إدراك ما للأسرة من أهمية في نظامهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي؛ إذ كيف يتسنى لهم إنشاء ذلك المجتمع النازي المتماسك في قلب ألمانيا إذا ظل أعضاء كل أسرة أحرارًا طليقين، يعيشون ويفكرون، ويعملون كما يشاءون؟ لذلك لم يكد يتسلم النازيون أزِمَّة الحكم في ألمانيا حتى شرعوا ينظمون حياة الأسرة تنظيمًا دقيقًا، ارتبط منذ البداية بالخطط والقواعد التي وضعوها لدعم النظام الجديد، الذي أكثروا من الدعاوة له عندما أحرزوا انتصاراتهم الخاطفة في القارة الأوروبية، بينما لم يكن هذا النظام جديدًا في الحقيقة، بل عرفه الأهلون أنفسهم وتذوقوا طعمه في ألمانيا ذاتها، قبل أن يطبقه النازيون في بقية أرجاء أوروبا المفتوحة بزمن طويل.
وكان معنى الإشراف على تنظيم حياة الأسرة، تدخل الدولة — أو بالأحرى الحزب النازي نفسه — في شئون الزواج، وتربية الأطفال والناشئة، والصحة العامة، كما اقتضى هذا التدخل بحث مركز المرأة، وتحديد العلاقة بين المرأة والرجل، وتنظيم حياة الأسرة من الناحية الاقتصادية أيضًا لتعيين مقدار حاجاتها من مأكل وملبس ومأوى وما إلى ذلك من مطالب.
على أن هذا التنظيم لم يكن سهلًا هيِّنًا؛ لأنه كان يرتبط في الحقيقة بجميع المسائل والمعضلات الاجتماعية الاقتصادية التي واجهت النازيين من أول الأمر، وأهمها: مسائل الآرية واليهودية، وتحديد النسل أو الإكثار منه، واحتقار المرأة أو الإعلاء من شأنها، وإجازة العلاقات الجنسية الشاذة أو تشجيع الزواج، إلى غير ذلك.
ولعل أدق المشكلات التي كانت تواجه الفرد الألماني العادي في دولة النازيين، هي مشكلة زواجه، ولما كان من المتعذر الإفاضة في بحث فكرة الزواج ومنشئها البيولوجي أو الاجتماعي، وتطورها في مختلف العصور، فقد يكفي أن يذكر القارئ أن الزواج في المجتمع الألماني، قبل وصول النازيين إلى الحكم، كان يتم بناءً على الرغبة المتبادلة بين الرجل والمرأة على أساس اتفاق الميول أو العاطفة أو المصلحة. ولكنه لما كان الزواج هو الأساس الذي يمهد لقيام الأسرة والرباط الوثيق الذي يحفظها، لم يرضَ النازيون بأن يظل الزواج من المسائل الشخصية المتروكة لتدبير الراغبين فيه؛ بل جعلوا للزواج مقاييس جديدة: جنسية، واجتماعية، وعقلية، وجثمانية، وخلقية، بدعوى أن ملاحظة هذه المقاييس من الأمور التي تعني الدولة ذاتها قبل أن تعني الأفراد؛ لأن مهمة الدولة في النظام النازي الجديد، إنما هي السهر على إعداد مجتمع وطني اشتراكي صميم، وينبغي لذلك أن تتوافر في الأفراد الذين يتألف منهم هذا المجتمع صفات جثمانية وجنسية وعقلية وخلقية خاصة؛ لذلك سرعان ما أصدر النازيون في هذا الشأن قانونًا أسموه: «قانون المحافظة على صحة الشعب الألماني الوراثية»، واشتهر هذا القانون باسم: «قانون الصحة والزواج».
وبمقتضى هذا القانون أُنشئت رقابة صارمة على الزواج، فمُنع من الاستمتاع به كل مصاب بعاهة جثمانية أو عقلية أو انحلال خلقي، ثم تحتم في الوقت نفسه على كل راغب في الزواج أن يحصل مقدمًا على «شهادة صلاحية للزواج»، وهذه الشهادات كانت تصدرها السلطات المسئولة عن الصحة العامة — أو مكاتب الصحة العمومية — ولم تكن تُعطى لمن يطلبها إلا إذا فُحص فحصًا دقيقًا وأجاب على عدة أسئلة تتعلق بحالته الشخصية، وبحال أسرته. ومن المسائل التي كان يفحصها «الممتحِنون» وينبغي تدوينها في «شهادة صلاحية الزواج»، أو رخصة الزواج: مقدار نمو الشخص الجثماني، وتوزيع الدهن في جسمه، ونمو عضلاته، ثم حياته الجنسية وحال أعضائه التناسلية، وعدد مرات إخفاقه في أثناء دراسته ونواحي نموه العقلي وسن الطفولة التي أمكنه فيها أن يتكلم وأن يمشي وكذلك أمراض الطفولة، ومقدار انكبابه على الكحول والتدخين ومدى قدرته على الإنسال، إلى غير ذلك من الأمور، وكانت جميع هذه التفاصيل تُدون على أحد وجهي الرخصة المعطاة، بينما يلصق على الوجه الآخر صورة شمسية نصفية لصاحب الرخصة.
أما الأشخاص الذين كانوا يُحرمون بتاتًا من الزواج — رجالًا كانوا أم نساءً — فهم الذين كانوا يدخلون بمقتضى قانون الصحة والزواج، في زمرة جماعة من الجماعات الأربع الآتية؛ أولًا: الأشخاص المصابون بأمراض معدية، ويُخشى أن يفضي زواجهم إلى نقل هذه الأمراض إلى زوجاتهم — أو أزواجهم — أو إلى أطفالهم. ثانيًا: كل الموضوعين تحت الوصاية أو ما يماثلها. ثالثًا: الأشخاص الذين — على الرغم من عدم وجودهم تحت نوع من أنواع الوصاية — يثبت أنهم مصابون باختلال أو ارتباك عقلي، ويبدو من وجهة نظر المجتمع عمومًا في هذه الحالة أنه من غير المرغوب فيه زواجهم. رابعًا: الأشخاص المصابون بأمراض وراثية. وزيادة على ذلك فإن المحاكم النازية عند تفسير هذا القانون ما لبثت أن أضافت جماعة خامسة حُرِّم عليها الزواج، ووصف أفرادها بأنهم من الذين يعتبر زواجهم مخالفًا لروح القانون وأهدافه، مثال ذلك: الرجل الذي صار عقيمًا، فإنه لا يبغي له أن يتزوج من امرأة متمتعة بصحة طيبة وبقدرة كاملة على الإنسال؛ لأن الزواج في هذه الحالة لا يُؤدي الغرض منه، وهو إنتاج الأطفال الذين تحتاجهم الدولة.
وأما الأمراض المعدية فهي الزهري والحمى الصفراء والدفتريا والتيفوس، والبرص والجدري، والطاعون، والسل. وأما الموضوعون تحت الوصاية فهم أولئك الذين تقرر المحاكم عدم قدرتهم على إدارة شئونهم لإصابتهم بالخبل أو إمعانهم في السكر، أو إسرافهم في الاقتراض والاستدانة. وأما أفراد الجماعة الثالثة فهم المتهمون باللواط، والاختلاط الجنسي الشاذ مع النساء، وهؤلاء يجب عليهم أن ينتظروا حتى يكتب لهم الشفاء التام من هذه الأدواء وكذلك الميالون إلى الإجرام أو الذين صدرت ضدهم أحكام بسبب القتل أو السرقة أو خطف الأطفال والأفراد.
ولعل أقسى ما في هذا القانون حرمان الطائفة الثانية من الزواج؛ إذ كيف يتسنى تحديد مدى الاختلال أو الارتباك العقلي الذي يمنع صاحبه من الزواج إطلاقًا، أضف إلى هذا أنه حتى في الحالات الأخرى، ما تزال مسألة انتقال الأمراض أو العاهات بالوراثة من المعضلات التي يعالجها العلم ولم يصل فيها إلى رأي حاسم، كما أنه لم يقم دليل قاطع على أن جميع الموضوعين تحت الوصاية أو ما يماثلها لا يصلحون للزواج، ومع هذا فقد تشدد النازيون في تنفيذ هذا القانون إلى حد أنهم صاروا يعتبرون كل زواج وقع مخالفًا لمقتضيات «قانون الصحة والزواج» كأنه لم يكن، وكل شخص يقدم على مخالفة هذا القانون يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن ثلاثة شهور.
وكأن جميع هذه القيود والاشتراطات لم تكن كافية، فتحدثت إحدى المجلات النازية عن مقياس جديد للزواج، هو مقدار ميل الفرد لغشيان المسارح والاهتمام أو الشغف بالألعاب الرياضية، هذا إلى جانب مقدار خلوص جنسه من الشوائب، فقالت: «من الواجب على كل رجل آري أن يتزوج من امرأة آرية شقراء، ذات عينين واسعتين زرقاوين ووجه طويل بيضي الشكل، جلدها أبيض مشرب بالحمرة، لها أنف دقيق، وفم صغير. كما يجب أن تكون هذه المرأة عذراء مهما كانت الظروف؛ أي إن الرجل الأشقر صاحب العينين الزرقاوين لا ينبغي أن يتزوج من امرأة سمراء أو من امرأة من نوع نساء البحر الأبيض ذات سيقان قصيرة وشعر أسود وأنف معوج وشفاه غليظة وفم واسع، تميل إلى البدانة. وكذلك فإن البطل الآري الأشقر من واجبه ألا يتزوج من امرأة شبه زنجية ذات الرأس المعروف والجسم النحيف الهزيل.» وزيادة على هذا، «فإن البطل الآري من واجبه أن يتزوج من امرأة آرية مساوية له، على أن تكون هذه المرأة من غير المشغوفات بالذهاب إلى المسارح أو الحفلات أو المولعات بالألعاب الرياضية، أو من اللواتي يملن إلى تمضية الوقت خارج بيوتهن.»
ولما كان الغرض الذي كان يرمي النازيون إلى تحقيقه من هذا كله، إيجاد الكتلة الصلدة المتماسكة في داخل الريخ، تلك الكتلة التي لم يكن عن وجودها غنى في نظرهم لبسط سيطرتهم العالمية في النهاية، فقد تفرغ عن هذه المسائل الثلاث، واتصل بها في الوقت نفسه اتصالًا وثيقًا، مسألتان أخريان: هما ضرورة تحديد مركز المرأة في المجتمع النازي، وضرورة الإكثار في النسل بشتى الوسائل؛ حتى تجد الدولة الوطنية الاشتراكية «قوة بشرية» تستطيع بعد تنشئتها التنشئة النازية الصحيحة، أن تستخدمها كأداة فعالة في بسط سلطانها على القارة الأوروبية وعلى بقية العالم في النهاية.
•••
وكان من رأي مفكري النازيين «أن نوع الجنس الذي ينتمي إليه الإنسان يؤثر في أعمق نزواته النفسية مهما كانت هذه النزوات لا شعورية، كما أن من شأن هذا الأثر أن يتغلغل إلى أدق أجزاء المخ. وعلى ذلك يطبع الجنس خصائص الإنسان النفسية أو الروحية بطابع معين لا يُمحى أثره، كما يترك طابعه أيضًا على مظهر الإنسان الخارجي. فالجنس هو الذي يعين نوع الأفكار والإدراكات العقلية التي تكون من نصيب الإنسان، وهو أيضًا يعين مدى قوته ومدى غرائزه وميوله، ويقرر نوع خلقه وطبيعة نفسه».
ولكن متى وأين نشأ هذا الجنس الآري المبجل المفضل؟
يقول العلماء النازيون إن الجنس الآري أو النوردي وجد منذ أقدم الأزمنة في إقليم يبدأ من «لوبك» ويمتد صوب الشمال إلى «استكهولم» ثم صوب الجنوب إلى «برنزويك»، ويتألف هذا الجنس من رجال أفذاذ أصحاب قامات فرعاء، وسيقان طويلة، نحاف الأجسام، عريضي الكتفين، ضيقي الحوضين، شعرهم أشقر، ولون بشرتهم أبيض، وعيونهم زرقاء أو زرقاء رمادية في العادة، وهو أفضل الأجناس قاطبة، وحامل لواء المدنية والحضارة في العالم، ولهذا السبب نفسه ينبغي أن يبذل النازيون كل جهد من أجل أن يظل مخلدًا باقيًا. وفي كتاب «كفاحي» شهد الهر هتلر بفضل الآري على العالم، فكتب ما معناه: «إن ما نراه حولنا اليوم من ثقافة إنسانية وبروز في الفن والعلم والصناعة، يكاد يكون برمته من نتاج الآري وحده، وإن هذه الحقيقة ذاتها هي التي تفسر قولنا بأن الآري وحده، كان على وجه التأكيد موجد الحياة الإنسانية العليا؛ ولذلك فإن ما نسميه الإنسان — أو المخلوق البشري — إنما هو في الحقيقة هذا الآري ليس غير. وعلى هذا فإذا قُدِّر للآري الزوال من الوجود، فإن الظلام الحالك سرعان ما يطبق على الأرض، ومن المحتمل لذلك أن تختفي الحضارة الإنسانية في غضون ألوف قليلة من السنوات، ويعود العالم إلى حالته الصحراوية السابقة.» ثم لم يشأ الهر هتلر أن يقصر مسئولية الآريين على نشر الحضارة في أوروبا وأمريكا، بل شاء خياله أن يجعل من الآريين والأوروبيين والأمريكيين رسل الحضارة والمدنية في القارة الآسيوية أيضًا، ذلك بأنه عزا إليهم الفضل في إدخال المدنية إلى اليابان، وكان من رأيه أن الآريين هم الذين أوجدوا الثقافة اليابانية، وأنه إذا قُدر للآريين الانسحاب من اليابان ثم قُطع صلتهم بها، فإن اليابان لا تلبث أن تغط في نومها القديم الذي أيقظها الآريون منه.
وأمام هذا التمجيد العظيم للآرية وللآريين، يحق للقارئ أن يتساءل، وماذا يا ترى تكون نسبة الآريين الخلص في المجتمع الألماني؟
لقد أجاب على هذا السؤال الدكتور «جونثر» فقال: «إن نسبتهم تتراوح بين ٦٪ و٨٪ من مجموع الشعب الجرماني، وأنه من المحتمل أن تكون هذه في الواقع أعلى نسبة موجودة بين أي شعب على ظهر الأرض. أضف إلى ذلك أن هذه النسبة تشمل جميع النورديين الموجودين في العالم، وظاهر أنها نسبة ضئيلة؛ ولذلك فقد أصبح من واجب النازيين أن يفكروا في أنجع الوسائل التي تحفظ هذا الجنس الرفيع الشأن من الانقراض، لا سيما وقد اعتقد النازيون أنفسهم أن عدة مصائب قد نزلت بهذا الجنس النوردي منذ أزمنة قديمة لدرجة تهدد بحدوث أسوأ النتائج للشعب الجرماني، بل وللحضارة قاطبة إذا ظل الأمر غير متدارك بصورة فعالة.» وكان النازيون يعزون أسباب هذه الشرور التي أفنت هذا المقدار العظيم من الجنس النوردي إلى الحروب التي خاض غمارها النورديون الشجعان على مر العصور، فأفنت الأعداد العظيمة منهم، هذا إلى أن الريخ الألماني كثيرًا ما كان يخسر أبناءه النورديين الذين آثروا لظروف منوعة الخروج من أرض الوطن والهجرة إلى جهات أخرى، كما أن النورديين الذين ظلوا في الريخ كانوا معرضين للوفاة في سن باكرة بنسبة تفوق كثيرًا نسبة الوفيات التي تحدث في هذه السن بين بقية الأهلين من الأجناس الأخرى، على أن النورديين كانوا دائمًا أقل قدرة على التناسل من غيرهم. بيد أن أشد الأخطار التي يتعرض لها الآريون، منشؤها في زعم النازيين، ما يحدث من اختلاط النورديين بغيرهم من الأجناس الوضيعة.
ولذلك فإنه بينما ينحدر حوالي ٦٪ أو٨٪ من الجرمانيين من الجنس الآري أو النوردي الصميم، فإن نصف الشعب الجرماني بأجمعه ما يزال يجري في عروقه الدم النوردي ممزوجًا بدم الأجناس الأخرى. ولما كان من فضائل المرأة النوردية الاحتشام الشديد، وكان اكتمال الأنوثة أو الرجولة بين أفراد الشعب النوردي يتأخر وكان الرجل النوردي لا يتزوج من المرأة النوردية إلا في سن متقدمة نسبيًّا، ولا ينسل المتزوجون سوى القليل من الأطفال، فقد خشي علماء النازيين أمثال الدكتور «جونثر» من احتمال اختفاء الجنس النوردي الخالص في نهاية الأمر، أضف إلى هذا خطر زواج النورديين من النساء السمراوات المتمتعات بالصفات الجنسية المغرية الشائعة بين نساء الأجناس الأخرى غير النوردية، وكذلك فإن من العوامل المساعدة على اختفاء الجنس النوردي ما هو مشاهد في أفراد هذا الجنس من الميل إلى الانتحار.
وفي كتاب «كفاحي» لخَّص الهر هتلر النتائج التي تحدث من اختلاط الأجناس المختلفة في قوله: إن ذلك يؤدي أولًا: إلى هبوط مستوى الجنس الأعلى مكانة. وثانيًا: إلى انحطاط جثماني وروحي يفضي — ولا شك — إلى انتشار الضعف والمرض، ولو أن هذا يحدث بطيئًا في بداية الأمر. ولذلك رأى الهر هتلر من الضروري أن يسود قانون أعلى ومقدس ينبغي بمقتضاه أن يحرص كل إنسان على أن يظل «الدم» نقيًّا خالصًا. ويسوغ الهر هتلر وجود هذا القانون وواجب العمل به بزعمه أن امتزاج «الدم» وهبوط المستوى الجنسي تبعًا لذلك قد أفضيا وحدهما إلى فناء الثقافات القديمة، كما حدث للثقافة الآرية على وجه الخصوص. فقد ظل الفاتحون سادة القوم، وخالقي أو مبتكري ألوان الثقافات المنوعة ما داموا متمسكين بمراكزهم كحكام، وما داموا محتفظين بنقاوة الدم الذي يجري في عروقهم. غير أنه في كل مرة امتزج دم الآري بغيره من دم الأجناس الوضيعة، أظهر التاريخ أن النتيجة الحتمية لهذا الامتزاج كانت اختفاء حامل لواء الحضارة، أي الرجل الآري وحده.
وأما الذين أفادوا من هذا الامتزاج فكانوا دائمًا شعوب الأجناس الوضيعة؛ لأن الدم الآري من شأنه أن يحفظ لهم بقاءهم؛ إذ بغيره يسيرون إلى الفناء بخطوات سريعة، والشر في ذلك كله أن هذه الشعوب الوضيعة إنما تستمد القوة والحيوية من طريق تدنيس الآريين وإحالتهم إلى شعب «لقيط»، أي إلى شعب غير نقي الدم.
ثم يمضي الهر هتلر فيقول: إن هذا الفساد كان قد بدأ يحطم ميزات الجنس النوردي في ألمانيا قبل وصول النازيين إلى الحكم إلى حد هدد بجعل القاطنين بالمدن الألمانية الكبيرة خصوصًا يشبهون من حيث مستواهم الجنسي الشعوب القاطنة بأرض إيطاليا الجنوبية، ومع هذا فإن خطر انحطاط الجنس النوردي لم يكن في رأيه مقصورًا على الجرمانيين وحدهم، بل إنه كان يهدد العالم أجمع بعواقب وخيمة؛ لأن إهمال الألمان في صون نقاء الدم الذي يجري في عروقهم جعلهم يخفقون في إحراز السيطرة العالمية؛ إذ «إن السموم التي أثرت في شعبنا (من جراء امتزاج الدم الآري بدم شعوب الأجناس الأخرى) وخصوصًا من أيام حرب الثلاثين سنة المعروفة، لم تسبب انحلال دمائنا فحسب، بل وأرواحنا أيضًا، حتى نجم عن ذلك أن أصيب الشعب الجرماني بالانحلال في كل ظرف عصيب قابله؛ إذ ينقص الشعب الألماني وجود غريزة الجماعة القوية التي أساسها وحدة الدم وتجانسه، والتي من شأنها على وجه الخصوص في اللحظات التي يجيء فيها الخطر مهددًا أن تصون الأمة وتحفظها من الدمار … فلو أن الشعب الألماني كان يتمتع بهذه الوحدة المستمدة من وجود غريزة الجماعة القوية في أثناء نموه التاريخي — وهي الوحدة التي انتفعت بها شعوب أخرى — لأصبح الريخ الألماني سيد الكرة الأرضية بأجمعها …»
•••
وقد زعم الهتلريون أن أفضل الطرق الحاسمة لضمان نقاء الدم الآري، في دولة الريخ الثالث، فناء اليهود أو طردهم من ألمانيا؛ ولذلك ارتبطت «هيستريا الدم» عند النازيين «بهيستريا» أخرى كانت وما تزال في الحقيقة أشد خطرًا على البشرية من دعاوى الجنس الخالص، والدم النقي، هي «هيستريا اليهودية». وكما أن «هيستريا الدم» لا تستند إلى أي أساس علمي صحيح كما أثبت علماء الأجناس، فإن «هيستريا اليهودية» في ألمانيا تستند إلى طائفة من المعلومات المشوهة والحقائق المزيفة التي حرص النازيون منذ طمعوا في فرض سلطانهم على ألمانيا، على أن يغذوا بها الجماهير المتقلبة في أحضان الفوضى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أعقبت انهيار دولة الريخ القيصرية بعد هزيمة الحرب العالمية الأولى.
فقد قدر النازيون أنفسهم، قبل اندلاع نيران الحرب العالمية الثانية بعام واحد، أن عدد سكان ألمانيا — عدا النمسا — الذين يجري في عروقهم دم يهودي بنسبة ٢٥٪ أو أكثر يتراوح بين ٨٠٠٠٠٠، ومليون، من بينهم ٥٠٠٠٠٠ إلى ٦٢٥٠٠٠ يهودي و٢٠٠٠٠٠ إلى ٢٥٠٠٠٠ أنصاف يهود، و١٠٠ إلى ١٢٥٠٠٠ أرباع يهود. وعلى هذا اعترف النازيون أنفسهم بأن اليهود الخلص كانوا لا يجاوزون ٧ / ١٠ أو ٩ / ١٠ من ١٪ من عدد سكان ألمانيا، بينما يبلغ أنصاف اليهود ٢ / ١٠ أو ٣ / ١٠ من ١٪، أما أرباع اليهود فيؤلفون جزءًا صغيرًا يزيد قليلًا على ٠ / ١٠ من ١٪ وزيادة على هذا فمن الثابت أن عدد اليهود في ألمانيا كان آخذًا في النقصان بدرجة ملموسة قبل حدوث الثورة النازية ذاتها؛ فقد دلت الإحصائيات على أن نسبة المواليد — بما في ذلك اليهود — في عام ١٨٨٠ بلغت ٤١٫٠٥ في الألف، من ذلك ٣٢٫٢٦ في الألف بين اليهود الألمان. ولكن هذه النسبة انخفضت في عام ١٩١٠ إلى ٣٣٫٠٥ في الألف، من ذلك ١٦٫٥٥ في الألف بين اليهود. وفي الفترة بين عامي ١٩١١–١٩٢٥ بلغت زيادة الوفيات على المواليد بين اليهود البروسيانيين ٣٧٫٠٩٣، ومن المحتمل أن هذه النسبة كانت محفوظة أيضًا في بقية أنحاء الريخ. وعلى هذا فإنه استنادًا إلى ما كان يذيعه النازيون أنفسهم، يتضح أن عدد اليهود في ألمانيا كان قليلًا جدًّا، بل وآخذًا في النقصان المستمر حتى قبل أن يصل النازيون إلى الحكم.
ومع ذلك، زعم النازيون أن اليهود هم أخطر أعداء ألمانيا، ومن حق القارئ أن يسأل كيف تصبح أقلية تافهة لا تزيد على ١٪ أو ١٫٤٪ مصدر الخطر الكبير على أغلبية عظيمة تبلغ ٩٨٪، ولكن من العبث أن ينتظر إنسان جوابًا من النازيين على هذا السؤال، فإذا فعلوا كانت إجابتهم تشتمل على الدعاوى الآتية؛ أولًا: أن اليهود إذا لم يُكبح جماحهم ظلوا مستأثرين بالمراكز الهامة في البلاد وصار لهم نفوذ كبير لا يتناسب قط مع عددهم الضئيل. ثانيًا: أن اليهود جنس جم النشاط يتمتع بحيوية عظيمة حتى إن الفرد الواحد منهم لترجح كفته ٩٩ ألمانيًّا من غير اليهود. ثالثًا: مما يزيد هذا الأمر خطرًا أن الضرر الذي يهدد الريخ ليس مصدره اليهود في داخل ألمانيا نفسها، بل مصدره الحقيقي كل أولئك اليهود المتشردين في أرجاء العالم والذين يتآمرون ضد دولة الريخ الثالث.
بينما ينال اليهود الذين ألحقوا الأذى بألمانيا جزاءهم العادل على ما فعلوا، فإن جميع اليهود الذين دخلوا ألمانيا بعد شهر أغسطس من أيام ١٩١٤ سوف يطردون من البلاد، وسوف يطرد كذلك بقية اليهود دون نظر إلى منشئهم، من جميع الوظائف المسئولة في الصحافة والمسرح والسينما والمدارس والجامعات، وعلى الجملة من كل عمل أو وظيفة قد يستطيع شاغلها استخدام نفوذه لإضعاف الأمة وإفسادها ومكافحة الروح الوطنية والقومية ونشر الميول والآراء الدولية، في غير مصلحة الشعب الألماني.
والواقع أنه بعد أن آلت السلطة في ألمانيا للنازيين شرعوا ينفِّذون وعودهم السابقة دون إبطاء. ففي أول أبريل ١٩٣٣، أي بعد أقل من شهر واحد من وصول الهر هتلر إلى منصب المستشارية، وفي اليوم نفسه الذي أعلن فيه «الفوهرر» بداية الثورة الوطنية الاشتراكية في الخطاب الذي ألقاه في مبنى «تمبلهوف»؛ حدث أن نظمت مقاطعة اليهود، وبدأ اضطهادهم حتى أصبح يومًا تاريخيًّا لا يمكن أن ينساه اليهود قاطبة. وفي ٧ أبريل ١٩٣٣ صدر قانون يقضي بطرد غير الآريين من الخدمة العامة، أو إقالتهم من وظائفهم إذا استحقوا معاشًا، وجاء في تفسير «غير الآريين» أن المقصودين بذلك هم جميع الأفراد الذين يثبت أن أحد آبائهم أو جدودهم من اليهود أو سبق لهم اعتناق اليهودية، على أن يُستثنى من ذلك جميع الذين شغلوا وظائف حكومية مدنية قبل أول أغسطس ١٩١٤، ومن قاتلوا في الحرب العظمى الماضية دفاعًا عن ألمانيا أو في جانب إحدى حليفاتها، وكذلك الذين فقدوا آباءهم أو أبناءهم في أثناء الحرب. وأما الخدمة العامة التي ذكرها هذا القانون فتشمل جميع وظائف الحكومة الفدرالية، أو المحلية، والنقابات، والشركات، والهيئات المختلفة عدا الدينية منها، والقضاء، والمحاماة، والتعليم في الجامعات وغيرها، عدا المدارس اليهودية التي يدرس بها يهود فقط، وجنود الخدمة الوطنية «أو الميلشيا» عدا الضباط والجنود العاملين، ثم أصحاب الوظائف الشرفية، وقد صدر قانون في ١٨ مايو ١٩٣٣ يمنع غير الآريين من شغل الوظائف «الشرفية»، وخصوصًا ما كان متعلقًا منها بوظائف التأمين الاجتماعي وإسداء المعونة والنجدة لضحايا الحرب. وفي ٧ أبريل ١٩٣٣ صدر قانون خوَّل السلطات القضائية طرد غير الآريين من مهنة المحاماة. وفي ٢٥ أبريل ١٩٣٣ صدر قانون «لمنع ازدحام المدارس الثانوية والعليا» من شأنه منع غير الآريين بطريق غير مباشرة، من الالتحاق في المستقبل بعمل من الأعمال التي تقتضي مزاولتها ثقافة عالية. وفي ٣٠ يونية ١٩٣٣ صدر قانون آخر يمنع غير الآريين من شغل الوظائف المدنية، ويقضي بطرد أي موظف متزوج بامرأة غير آرية أو يتزوج في المستقبل بغير آرية. وفي ١٣ يولية ١٩٣٣ تقرر إخراج جميع مديري السينما والمخرجين والمؤلفين ومهندسي التصوير ومن إليهم من الخدمة إذا تعذر عليهم إثبات آريتهم.
وفي عام ١٩٣٥ صدر «قانون وقرار الجنسية وتعيين صفة المواطن»، وقد جاء في هذا القانون ما معناه «أن المواطن في دولة الريخ هو الذي يجري في عروقه الدم الجرماني أو الدم القريب منه، والذي يبين بفضل مسلكه أنه يرغب في خدمة الشعب الألماني ودولة الريخ بأمانة، ويكون صالحًا لهذه الخدمة. ولما كان الريخستاج يعتقد تمام الاعتقاد بأن نقاء الجنس الجرماني ضرورة لا غنى عنها لبقاء الأمة الألمانية، ولما كان يحدوه العزم الذي لا يمكن أن يتزعزع للمحافظة على كيانها للأبد؛ لذلك قرر الريخستاج بالإجماع قبول «قانون نورمبرج لصون الجنس والشرف الجرماني» الصادر في سبتمبر ١٩٣٥. وعلى ذلك يمتنع الزواج بين اليهود والرعايا الذين هم من دم جرماني أو من الدم القريب منه، وكل زواج يعقد بالرغم من وجود هذا القانون يكون لاغيًا حتى لو كان هذا الزواج معقودًا في الخارج كمحاولة لتجنب آثار هذا القانون … ولا ينبغي أن يستخدم اليهود في بيوتهم رعايا الريخ الذين هم من دم جرماني أو من دم قريب منه والذين تقل أعمارهم عن خمسة وأربعين عامًا، ويُمنع اليهود من أن ينشروا علم الريخ أو العلم الوطني أو يظهروا الأعلام القومية. والذين لهم حق التصويت في المسائل السياسية، وشغل الوظائف العامة هم مواطنو الريخ المتمتعون بكامل حقوقهم السياسية … ولا يمكن أن يكون اليهودي مواطنًا في دولة الريخ، وليس له حق التصويت ولا الحق في أن يشغل إحدى الوظائف العامة …»
وقد أُطلق على جميع القوانين والقرارات والأوامر التي أصدرتها السلطات النازية ضد اليهود اسم «قوانين نورمبرج». وفي الفترة التالية، وعلى الخصوص عند اشتداد الحملة الإرهابية على اليهود، أعادت الصحف نشر بعض هذه القوانين، كما نشرت ملخصًا كاملًا لأهم محتوياتها، ومن ذلك يتبين أن «قوانين نورمبرج» كانت تقضي أولًا: بطرد جميع الموظفين غير الآريين من الخدمة العامة، ويدخل في ذلك الموظفون العاديون وإخوانهم من المستخدمين في البلديات، والمدرسون، وأساتذة الجامعات، والقضاة، والمدعون العموميون. وكذلك صدر قانون يمنع المحامين غير الآريين من مزاولة مهنتهم. وكانت تقضي ثانيًا: بحرمان الأطباء غير الآريين ثم أطباء الأسنان والجراحين من مزاولة عملهم. وفي قانون جديد حُرم غير الآريين من التوظف في المستقبل، كما أن «جبهة العمل» — وهي التي حلت محل النقابات العمالية واتحادات أصحاب العمل — طبَّقت هي الأخرى هذه القوانين. كما كانت تقضي ثالثًا: بحرمان اليهود من التعليم في المدارس والجامعات. ورابعًا: بحرمان غير الآريين — اليهود — من العمل في صناعة الأفلام. وخامسًا: بعدم السماح لليهود بالانضمام إلى جامعات الوقاية ضد الغارات الجوية. وسادسًا: يُمنع أي شخص لا يستطيع إثبات انحداره أو انحدار زوجه من أصل آري منذ عام ١٨٠٠ ميلادية، من وراثة الأرض التي يزرعها. وسابعًا: بتحريم العمل في الصحافة على غير الآريين، إلا إذا كانت الصحف التي يعملون بها يهودية صميمة. وثامنًا: بمنع جميع أعضاء الحزب النازي من الاختلاط أو الاتصال باليهود، وهذا بناءً على قرار أصدره «ردولف هس» نائب هتلر في ذلك الحين. وتاسعًا: بقيام وزارة المعارف النازية بنشر قائمة من الكتب التي فرضت استخدامها في المدارس؛ وذلك حتى تعرف الناشئة المسألة اليهودية على حقيقتها، ومن هذه الكتب «بروتوكولات حكماء صهيون» المزورة. وعاشرًا: بإصدار قرار من وزير الداخلية يسمح للآريين فقط بدخول امتحانات كلية الطب، كما أصدر الوزير قرارًا ثابتًا بعدم إعطاء الصيادلة غير الآريين الترخيص اللازم لمزاولة أعمالهم. وأحد عشر: بإصدار قرار يمنع كل من لا يستطيع إثبات انحداره وانحدار زوجه من أصل آري منذ عام ١٨٠٠ ميلادية من الاشتغال في أعمال الطبع والنشر.
•••
وفي مثل هذه الظروف، كان من الطبيعي أن تنتشر في ألمانيا موجة من الاضطهاد العنيف ضد اليهود، واتخذ هذا الاضطهاد أشكالًا منوعة على أيدي المتعصبين، وزعانف القوم وأراذلهم، فأخذوا يدنسون مقابر اليهود ومعابدهم، حتى بلغ عدد الحوادث التي من هذا القبيل إلى صيف عام ١٩٣٢ مائة وتسعة «١٠٩»، وأعلن المتعصبون ومن إليهم عزمَهم على إحراق معابد اليهود وبيعهم في القريب العاجل. هذا، إلى الضرر الجسيم الذي أُلحق بحوانيت اليهود ومخازنهم التجارية. ومن الحوادث المشهورة ما فعله متطرفو النازيين في عيد فصح اليهود عام ١٩٣٢؛ فقد هاجموا في هذا اليوم في «كورفر تندام» أحد شوارع برلين كل شخص اشتبهوا في أنه ينحدر من جنس سامي. وكان المغيرون — وهم حوالي العشرين — من الشبان صغار السن الذين لا خبرة لهم في مسائل الجنس. واستطاعت هيئة يهودية بعد ذلك أن تنشر قائمة طويلة بحوادث الاعتداء المتكرر على أشخاص اليهود المنفردين. وزيادة على ذلك فقد وجد الصبيان والفتيات الصغيرات تسلية كبيرة في تلطيخ بيوت اليهود وحوانيتهم بالأقذار ورسم الصليب المعقوف — رمز النازية — في كل مكان. ولم يقتصر الأمر على إهانة كبار السن وإيذائهم، بل إن الأطفال اليهود في المدارس لم يسلموا من الاعتداء عليهم، ومن أن يؤذيهم زملاؤهم المسيحيون. وفي كثير من المدن الصغيرة أُرغم التجار اليهود إرغامًا على ترك متاجرهم ومحالهم ومغادرة القرية أو المدينة التي عاش فيها أجدادهم منذ أجيال طويلة؛ وذلك لشدة الاضطهاد وإحكام المقاطعة. وفي جامعة برلين قرر الطلبة النازيون طرد جميع اليهود. ومع أنه كان من المنتظر أن يجد اليهودي في المحاكم والقضاء وسيلة للوقاية أو الحماية من اعتداء المعتدين، فإن هذه المحاكم لم تجد سببًا يسوِّغ توقيعها العقوبة على ملحقي الأذى؛ لأنها — كما قررت — كانت لا ترى أن استخدام كلمة يهودي في معرض التحقير من شأنه إثارة غضب أحد، وكذلك فإن هذه المحاكم لم تجد مسوغًا لتوقيع عقوبة قاسية على كثيرين ممن اشتركوا في حوادث تدنيس مقابر اليهود وبيعهم. وإذاء هذا كله لم يجد عدد من اليهود في صيف ١٩٣٢ مناصًّا من الكتابة إلى مستشار دولة الريخ، يسألونه عما إذا كانت الحكومة لا تجد ضرورة لإعطاء المواطنين اليهود الحماية التي من حقهم كمواطنين أن ينتظروها من حكومتهم.
ولما كان من المتعذر سرد جميع حوادث اضطهاد اليهود في ألمانيا منذ برز الحزب النازي إلى عالم الوجود ووصل رئيسه إلى مستشارية الريخ، إلى وقت اندلاع الحرب العالمية الثانية، فإنه يكفي أن نسجل الآن حوادث موجات الاضطهاد التي اجتاحت اليهود في كل من ألمانيا والنمسا في شهري أكتوبر ونوفمبر من عام ١٩٣٨، لا لتبيان ما وصل إليه الطغيان النازي من شدة مريرة فحسب، بل ولأن هذه الاضطهادات المروعة سرعان ما أوجدت مشكلة اللاجئين، تلك المشكلة التي ذهب عدد غفير من اليهود ضحية لها من أوروبا عمومًا وفي أوروبا الوسطى على وجه الخصوص.
وكان جميع هؤلاء يُتركون من غير إسعاف أو مساعدة، ولكن الحراس البولنديين لم يسمحوا لنا بالمضي في سبيلنا واجتياز حدود بلادهم وأُرغم هذا الحشد — وكنا ثمانية آلاف، من همبورج وبرلين وكولون وإيسن — على المكث في غابة هناك. وفي أثناء ذلك كله ما كان يعنى بأمرنا إنسان، فأخذ منا الجوع كل مأخذ، وعضنا البرد القارس بأنيابه، وسقط منا كثيرون ضحية للجوع والبرد. وظللنا على هذه الحال حتى استطعنا أن نجد مكانًا في قرية على الحدود مكثنا بها ثمانية أيام يحرسنا الجنود البولنديون … وكانت إقامتنا خلال هذه المدة في حظائر الخيول، وفي اثنتين من هذه الحظائر التي ما كانت إحداهما تتسع لأكثر من مائة حصان، اضطر حوالي الثمانية آلاف شخص إلى الإقامة، ينامون على القش ويهلكهم البرد. وأخيرًا شُكلت لجنة لمساعدتنا وتزويدنا بالطعام؛ فكنا نتناول وجبتين: إحداهما في الصباح والأخرى في المساء، ولم يكن ما نأكله في كل وجبة يزيد على كسرة صغيرة من الخبز وقليل من الحساء، وهي كمية لم تكن تسد الرمق مما أدى إلى انتشار المرض. وكان المرضى يُعزلون في خيام وينامون على القش. وكان عدد هذه الخيام سبعًا، ويجري العمل لبناء عشر غيرها بسبب ازدحامها، وليس هناك أي مستشفى، ويزداد عدد المرضى الذين يشكون من الآم المعدة بسبب رداءة الطعام وقلة التغذية. أما الذين أصيبوا بحمى التيفود فقد بلغوا المائة. والماء الموجود في معسكرنا لا يصلح للشرب؛ لأنه ملوث، ومع هذا يدفع اليأس الجميع إلى الشرب منه؛ إذ لا يوجد سواه!
•••
أما السبب الذي دعا إلى بقاء هؤلاء المنكوبين وأمثالهم من غير مأوى أو ملبس أو مأكل في المناطق الحرام الواقعة بين حدود دولة الريخ وحدود الدول المجاورة، فهو أن هؤلاء «اللاجئين» اليهود كانوا في الحقيقة لا يحملون «جوازات» أو أية أوراق رسمية من حكومة الريخ الثالث تدل على جنسياتهم؛ ذلك بأن النازيين رفضوا بتاتًا إعطاء هؤلاء اليهود المطرودين المنبوذين أية جوازات أو أوراق رسمية، كما فعلوا مع خصومهم السياسيين الآخرين الذين اضطروا إلى الفرار من الطغيان النازي، أو أرغمهم النازيون أنفسهم على مغادرة البلاد، الأمر الذي أوجد ما صار يُعرف باسم «مشكلة اللاجئين».
وذلك أنه كان من المتعذر على الحكومات، تبعًا لأحكام القانون، أن تقبل في بلادها الأشخاص الذين ليس لديهم جوازات تثبت جنسياتهم، «فعُرفوا لذلك باسم الأشخاص الذين لا دولة أو لا وطن لهم»، وكذلك الأشخاص الذين ليس لديهم تأشيرات من قنصليات الدول التي يبغون اجتياز حدودها أو الإقامة بأرضها.
«وقد حدث مثل ذلك أيضًا عند الحدود السويسرية، بل إن حوادث اللاجئين عند هذه الحدود ما لبثت أن زادت زيادة كبيرة؛ إذ إن سويسرة أجازت مؤقتًا دخول اللاجئين إلى بلادها، بيد أن السلطات الحكومية في «برن» ما لبثت هي الأخرى أن غيرت من موقفها إزاءهم، فصارت ترفض كما فعلت حكومة «براج» — التشيكوسلوفاكية — قبول اللاجئين إليها، وهكذا أخذ جنودها ورجال الشرطة فيها ومن إليهم يبدون نشاطًا عظيمًا في حراسة معابر الجبال وشواطئ بحيرة «كونستانس» حتى أُوصد هذا الباب في وجوه اللاجئين وزادت تبعًا لذلك شقاوتهم وتعاستهم.»
سوف يستنفد اليهود ما لديهم من رءوس أموال، ويغدون في عداد المجرمين، وعند بلوغ هذه المرحلة، فسوف نواجه ضرورة ملحة شديدة، هي ضرورة إبادة عالم اليهود الإجرامي بالوسائل نفسها التي نتبعها مع المجرمين، أي بالسيف والنار. وأما النتيجة المنتظرة فهي نهاية اليهودية وتحطيمها تحطيمًا لا قيامة لها من بعده.
ولما كانت «هستريا اليهودية» جزءًا متممًا «لهستريا الجنس» ولا يمكن أن تنفصل عنها، فقد صار من الضروري إظهار مدى ما بلغته هذه الهيستريا الأخيرة في مسألة صون الجنس الآري وتهيئته للسيطرة العالمية المنتظرة لا من جهة ضمان نقاء الدم الآري وعدم تلوثه بدم الأجناس الأخرى غير الآرية مثل اليهود، وإنما من جهة لا تقل في نظر النازيين خطرًا عن سابقتها وهي ضرورة تأسيس المجتمع النازي من أفراد أشداء صحيحي الأجسام، سليمي العقول، يصلحون بفضل نقاء دمهم، وصحة أبدانهم وسلامة عقولهم «؟» للاستئثار بالحكم والسلطان، لا في ألمانيا وحدها بل وفي العالم أجمع.
•••
لم يتورع النازيون عن ارتكاب أشنع الجرائم للتخلص من جميع الأفراد الذين قضوا بعدم صلاحيتهم، لأن يكونوا أعضاء في المجتمع النازي الذي ينبغي أن يتألف في نظرهم من الأفذاذ والأسياد فحسب، ولجئوا في تحقيق أغراضهم إلى وسائل ثلاث: هي القتل، والخصي والتعقيم؛ إذ إنه لم يكن هناك مناص من اختيار الصالحين بدنيًّا وعقليًّا وخلقيًّا حتى ينسلوا أطفالًا صالحين من تلك النواحي، يقوم على أكتافهم عندما يشبون عن الطوق صرح الدولة الوطنية الاشتراكية الصميمة.
وقد دلت الإحصائيات على أن عدد المصابين بعلل جثمانية وعقلية وبأمراض تمنعهم من النضال في الحياة من أجل كسب العيش يبلغ المليونين. من هذا العدد الضخم، كان دافعو الضرائب في دولة الريخ يعولون ١١٥١٠٠٠، وقُدِّر ما كانوا يتكلفونه بمبلغ ١١٥١٠٠٠٠٠٠ ريخمارك سنويًّا. وقدر عدد المصابين منهم بأمراض عقلية بنحو ٨٨٠٠٠٠ أي ٧٦٪ من مجموعهم. ويبلغ ما كان ينفقه عليهم دافعو الضرائب سنويًّا ٦٣١٠٠٠٠٠٠ ريخمارك أو ٥٤٪ من العبء المالي كله. وقد استدل النازيون من ذلك على أن بقاء هذه الحال على ما هي عليه لا بد مفضٍ إلى تدهور المجتمع في النهاية؛ ولذلك استقر رأيهم على أن من واجب الدولة العمل على التخلص من هؤلاء المرضى غير الصالحين دون إبطاء.
ومع أن النازيين لم يعترفوا صراحة بأنهم يلجئون إلى القتل حتى يتخلصوا ممن يرون أنهم غير صالحين للعيش في المجتمع الألماني، فقد أضحى هذا الأمر من الحقائق المعروفة، ودل البحث على أن عدد القتلى من هؤلاء المنكوبين بلغ في عامي ١٩٣٩، ١٩٤٠ مائة ألف شخص اختارهم الزعماء والأخصائيون النازيون، وتولى رجال الجستابو عملية الإجهاز عليهم من غير استشارة أسراتهم في ذلك، فلم يعرف أهلوهم من أمرهم شيئًا، بل كان يصلهم نبأ وفاة مرضاهم فجأة على غير انتظار، وقد تقدم كيف أن «جرافينيك»، «هارثيم» و«بيرنا» كانت مراكز هذه المجازر البشرية.
وفي أول يناير ١٩٣٤ صدر قانون يقضي بأن يُخصى غير الصالحين، ثم نفَّذ «مكتب سياسة الجنس أو العنصرية» هذا القانون، فبلغ عدد من تم خصيهم في عامي ١٩٣٤، ١٩٣٥: ٩٩٦ شخصًا، وقدَّر المكتب المذكور عدد الذين أُخصوا عمومًا منذ صدور هذا القانون إلى قيام الحرب في سبتمبر ١٩٣٩ بين ١٥٠٠–٢٠٠٠ أي بما يزيد على ٣٠٠ شخص في كل سنة.
وبعد خمسة شهور من وصول الهر هتلر إلى الحكم، صدر قانون استطاع النازيون بفضله أن يعقموا «٣٧٥٠٠٠» شخصًا تقريبًا في ست سنوات، أي إلى عام ١٩٣٩، وأما هذا القانون ويُطلق عليه اسم «قانون منع المصابين بالأمراض الوراثية من التناسل» فقد نص على ضرورة إجراء جراحة لكل فرد مصاب بمرض وراثي؛ حتى يصبح عاجزًا عن أن يكون له أطفال، على شريطة أن يثبت بطريق الخبرة والتجارب العلمية الطبية أنه من المحتمل جدًّا أن يرث الأطفال الذين يولدون لهذا الشخص قدرًا كبيرًا من النقص الجثماني والعقلي، وبلغت هذه الأمراض الوراثية تسعة، منها ضعف العقل، والصرع، والصمم والعمى الوراثيان، والعاهات الجثمانية والجنون والإدمان على المسكرات وغيرها. وكان هذا القانون يُطبق على الألمان وعلى الأجانب سواء بسواء، فلم يستطع الأخيرون الإفلات من جراحة العقم إلا إذا غادروا الريخ. وأما الألمانيون المصابون بأحد هذه الأمراض، وكانت سنهم تزيد على عشر سنوات، فكانت تُجرى لهم هذه الجراحة، ولم يستثن من ذلك سوى الأشخاص الذين لم تكن لديهم قدرة على التناسل بسبب شيخوختهم أو لأسباب أخرى، وكذلك الأشخاص الذين كان يُخشى على حياتهم من إجراء هذه الجراحة لهم، هذا فضلًا عن الأشخاص الموضوعين تحت الرقابة التامة في إحدى المؤسسات أو المصحات التي توافق عليها الدولة، أو الذين كانوا يفضلون بمحض اختيارهم دخول إحدى هذه المؤسسات حتى لا تعقمهم الدولة.
وقد أجاز النازيون التعقيم بصفة اختيارية ما دامت الجراحة لا تعرض حياة الراغبين في إجرائها للخطر، وفي غير الظروف التي يثبت فيها أن الأفراد الذين يرغبون فيها، غير مصابين بعاهات أو أمراض يخشى انتقالها بالوراثة إلى ذراريهم، والسبب في هذا القيد أن القانون النازي كان يعتبر الإكثار من النسل واجبًا تفرضه الدولة على المواطنين الأصحاء، أصحاب العقول والأجسام السليمة، كما كان يعتبر منع المرضى والمصابين بالعلل الوراثية من أن يتناسلوا من أهم وأقدس واجبات الدولة.
ولا شك في أن «قانون منع المصابين بالأمراض الوراثية من التناسل» كان من أخطر القوانين التي سنها النازيون وأقساها، فمن الناحية العلمية، لم يقطع علماء البيولوجيا برأي في أنواع الأمراض التي يمكن انتقالها بالوراثة، كما أنه من المتعذر تقدير مدى ضعف التفكير وإعمال الروية لدى أي إنسان، أو إقامة الدليل على أن رجلًا من الرجال ضعيف العقل قاصر الذهن، قليل الإدراك، وكل هذه من الحالات التي كان النازيون يطلبون أن يعقم من أجلها أصحابها ولم يجد واضعو هذا القانون وسيلة للتمييز بين ذوي العقول السليمة وذوي العقول المضطربة سوى الالتجاء إلى ما يسمونه «اختبارات الذكاء»، وهي عبارة عن مجموعة من الأسئلة كانت تضعها الحكومة النازية وتطلب إلى الأفراد الذين تريد فحصهم الإجابة عليها، فإذا استطاعوا ذلك كانوا من أصحاب العقول الراجحة السليمة، أما إذا عجزوا كان التعقيم الإجباري من نصيبهم. غير أنه كان يحدث في حالات عدة أن «المرضى» كانوا يستطيعون الحصول على الإجابات المطلوبة في نظير رشوة يدفعونها عن طيب خاطر في سبيل التحرر من قسوة هذا القانون، ولما وجد النازيون أن كثيرين من خصومهم الذين أرادوا حرمانهم القدرة على التناسل نكايةً بهم قد استطاعوا الإفلات من «اختبارات الذكاء»، ابتكروا مقاييس أخرى تمكنهم من تنفيذ مآربهم، فقال الهر هتلر: «إنه يكفي لإثبات حالات ضعف العقل، وقصور الذهن أن يوسم الفرد بالتفكير السطحي أو بعدم القدرة على تقليب وجوه الرأي في أمر من الأمور، أو بالانحلال الخلقي.» وهكذا عقم النازيون أكثر من ٢٠٠٠٠٠ شخص بسبب «ضعف عقولهم»، كما ادعوا. كما سيطروا بفضل هذا القانون وبفضل التفسيرات والاختبارات التي أعدوها على حياة ثمانين مليونًا من الأنفس في دولة الريخ الثالث.
ولم يقنع النازيون بإجراء عمليات التعقيم والخصي للأشخاص الذين ينطبق عليهم القانون، بل اتخذوا من وجود هذا القانون ذريعة لإلقاء الرعب والفزع في قلوب أولئك المواطنين الذين اعتبرهم السادة النازيون أعداء للنظام القائم، فكان التعقيم والخصي إلى جانب القتل والعزل في مصحات الاعتقال من وسائل بسط نفوذهم وسلطانهم على ألمانيا.
ومع هذا كان النازيون يبررون ما يفعلون بأنهم إنما يريدون أن يُنشئوا مجتمعًا من السادة الصالحين لممارسة شئون الحكم في العالم، فهم من أجل إنشاء هذه الطبقة «النبيلة» لا يترددون في اتباع كل ما يرونه ضروريًّا للمحافظة على نقاء الدم وخلوص الجنس الآري من الشوائب. وللتأكد من أن الصالحين جثمانيًّا وعقليًّا وخلقيًّا هم وحدهم أصحاب الحق في أن يتناسلوا، وكان ذلك أهم ما دعا النازيين إلى إصدار ما سبق الحديث عنه من القوانين المتعلقة بالزواج.
فإذا استطاعت السيدة بعد هذه المتاعب الأولى الحصول على الشهادات والوثائق التي تريدها من الأبروشيات المختلفة، وقبلت السلطات النازية هذه الأوراق وقطعت بأنها صحيحة، وجب عليها بعد ذلك أن تعرض نفسها لفحص طبي دقيق تقوم به وزارة الصحة حتى تحصل على «شهادة الصحة» التي لا غنى عنها بتاتًا من أجل إجازة الزواج والموافقة عليه. وقد يظن القارئ أن هذا الفحص طبي بالمعنى المعروف، ولكن الذي يحدث خلاف ذلك؛ إذ يكفي أن تقتنع السلطات النازية بأن السيدة من مؤيدات «الزعيم» والنظام القائم، فتعطيها الشهادة الطبية المطلوبة ما دامت ذات شعر أشقر، وجمجمة طويلة وعينين زرقاوين، ولها غير ذلك من الخصائص الجثمانية التي تميز — في نظر النازيين — الجنس الآري من الأجناس الأخرى. ومما ينبغي ذكره أن هذا الفحص الطبي قد أُغفل إغفالًا تامًّا في أثناء الحرب، فصار طالبو الزواج يحصلون على الشهادات الصحية بعد فحص سجلات الصحة العمومية، بينما يُعفى الجنود وغيرهم ممن يؤدون خدمات وطنية مماثلة لما يؤديه الجنود من الفحص الطبي إعفاءً تامًّا.
فإذا استطاعت السيدة إرضاء السلطات النازية والحصول على «شجرة الأسرة» المطلوبة أو «جواز الآرية»، ثم على الشهادة الصحية؛ أمكنها أن تقدم طلبًا للدولة حتى تحصل على «قرض الزواج» ذلك بأن الدولة النازية أخذت على عاتقها منذ دانت السلطة للهتلريين في دولة الريخ الثالث، إعطاء الزوجين معًا قرضًا يصل أحيانًا إلى الألف من الريخماركات أو الخمسين جنيهًا إنجليزيًّا. وعند بدء العمل بهذا النظام منذ أول يونية ١٩٢٣ كثر الإقبال على الزواج حتى اعتبر النازيون هذا التنظيم نجاحًا عظيمًا لهم. وعلى هذا لم يكن الغرض الأول من «قروض الزواج» سوى معالجة أزمة البطالة المنتشرة في تلك الأونة بطريق غير مباشر؛ إذ كان من شروط الحصول على «قروض الزواج» أن تكف السيدة المزمعة على الزواج عن مزاولة عمل من أعمال كسب العيش في الدولة، فتفسح بخروجها من ميدان العمل مكانًا لأحد الرجال العاطلين. أما ما أحدثه هذا التنظيم من آثار فيحسن إرجاء الكلام فيه حتى يُبحث مركز المرأة في ألمانيا في ظل النظام النازي الجديد.
•••
سوف تعيش المرأة الألمانية منذ الآن في دولة يشيدها ويقودها الرجل، أي في دولة غير برلمانية، دولة محافظة لن يكون للمرأة فيها خلال المدة الطويلة التالية أيُّ نفوذ مباشر، كما كان الحال فيما مضى.
لقد كان دائمًا من رأي أصحاب التفكير العميق أن الرجل متفوق على المرأة في ميادين البحث العلمي والاختراع والكشف، وفي جميع الأعمال التي تدعو إلى الابتكار. أما المرأة فوظيفتها مقصورة على صون الدم وتخليد الجنس (أي التناسل).
وفي أوقات المحن العصيبة، يظهر إلى عالم الوجود كل من الرجل المخنث والمرأة «المحررة» وكلاهما دليل الانحلال السياسي والثقافي. وعلى الرغم من جميع الحريات الممنوحة للمرأة، فإن قول الفيلسوف اليوناني أرسطو لا يزال صحيحًا وهو: إن عجز المرأة هو الذي يجعل منها المرأة التي نعرفها!
لقد حرصنا — نحن الوطنيين الاشتراكيين — منذ عهد طويل على أن نمنع النساء من التدخل في شئون الحياة السياسية التي لا تعنيهن؛ إذ إن هذا التدخل عارٌ وأي عار.
ومع هذا، فقد حرص النازيون على ألا يظهروا بمظهر المحقرين لشأن المرأة. ومن الحقائق المعروفة أن النساء في ألمانيا كن من أكبر المشجعين للحزب الوطني الاشتراكي عند نشأته، ومن أكبر المؤيدين للزعيم هتلر وأنصاره في جميع الانتخابات التي أوصلته في النهاية إلى منصب المستشارية، اعترف الهر هتلر نفسه بهذه الحقيقة، فقال إنه لا يسعه سوى الاعتراف بما كان لجلد النساء وشدة احتمالهن للمصاعب، وإخلاصهن للحركة النازية من أثر كبير في نجاحها، فلولا هذا الجلد وذياك الإخلاص من جانب المرأة الألمانية لما استطاع أن يقود الحزب إلى النصر في النهاية؛ ولذلك لم يشأ الزعماء النازيون في البداية إغضاب المرأة، فشرع «الهر جوبلز» وزير دعاوتهم يفسر أقوال «روزنبرج» وغيره، بقوله: «إن إخراج المرأة من الحياة العامة ليس المقصود منه التخلص منها أو الاستغناء عن خدماتها، وإنما إرجاعها إلى الحياة الأصيلة الشريفة حياة الأسرة والمنزل.»
وكذلك يتبين مبلغ امتهان المرأة من الأساليب التي كان يتبعها الهتلريون في معاملة النساء عامة في المجتمع الألماني. فبينا كانوا يطلبون إلى زوجاتهم البقاء في بيوتهن لإدارة شئون الأسرة ويحضونهن على عدم التزين واستخدام المساحيق وما إليها بحجة أن المرأة النوردية ليست في حاجة إلى مثل هذه الوسائل المنافية للحشمة والتي تلجأ إليها غير الآريات والزنجيات ومن في عدادهن لاصطياد الرجال وإغرائهم، كانوا من ناحية أخرى — باعتبارهم أصحاب السيادة والنفوذ في دولة الرجل الجديدة — يسيرون مع غير زوجاتهم سيرة معوجة، فيقبلون على معاشرة الشقراوات الجميلات خارج نطاق الزوجية، ويطلبون إلى خليلاتهم الاهتمام بكل ما يزيدهن جمالًا ويكثرون من إهدائهن الورود والزهور، ويقرعون معهن كئوس الشراب مترعة، حتى قال أحد النقاد الاجتماعيين ما معناه: «إن كل شيء في ألمانيا لا يمكن الحصول عليه بدون بطاقة التموين، عدا الشقراوات، والزهور والرياحين، والشمبانيا، ومعاطف الفرو الثمين والجنبري!»
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد ظهرت عوامل أخرى نشأ بعضها — ولا شك — من امتهان المرأة وتحقيرها، وتحريم الزينة عليها وإرغامها على الترهل والبدانة — لأن البدانة كما كان يزعم النازيون من أنجع الوسائل لسرعة الحمل وولادة الأطفال الأصحاء — ونشأ بعضها الآخر من طبيعة تنظيم الحزب النازي نفسه، وكذلك تنظيم الدولة التي شاء الزعماء أن تكون دولة من الرجال، وللرجال وحدهم. وقد نجم عن تضافر هذه العوامل انتشار مرض الاختلاط الجنسي الشاذ بين هؤلاء الرجال أنفسهم.
وقد تقدم الكلام عن تأسيس الحزب النازي وشرح نظرية «الزعامة» المسئولة وبيان ما كانت تتطلبه تلك الزعامة من ضرورة إفناء الفرد في شخص الزعيم، كما تقدم الكلام عن رغبة الزعماء النازيين في أن يؤلفوا من شبان حزبهم طبقة جديدة من النبلاء في ألمانيا، فعزلوهم عن غيرهم، كما قيدوا زواج أعضاء الحزب وجماعة الحرس الأسود على وجه الخصوص بتلك القيود الصارمة التي سبق ذكرها. ويتضح من هذا كله أن النازيين أنشئوا حزبهم على القواعد والمبادئ ذاتها التي عملت بها الأحزاب والجماعات القديمة، مثل «البورشنشافت» وغيرها. وقد انتشرت العلاقات الجنسية الشاذة بين أعضاء الحزب النازي انتشارًا مريعًا من مبدأ الأمر حتى صار زعماء الحزب لا يجدون غضاضة في أن يعرف الناس عنهم هذه الصفات المرذولة، بل إنهم كانوا يفخرون بها. وما يزال حادث «إرنست روم» وإخوانه من ضحايا «حمام الدم» المشهور في ميونخ في يونية ١٩٣٤ ماثلًا للأذهان.
ولكن أهم من ذلك تلك القصة التي يرويها ويؤكد صدقها أحد أقرباء وزير نازي مشهور، وهي تلقي ضوءًا على حياة هتلر الشاذة؛ فقد اعترف هذا الشاهد بأن «بالدور فون شيراش» كان الشخص المكلف باختيار ضحايا الزعيم، أما هؤلاء الضحايا فكانوا بعد افتراس الزعيم العظيم لهم وقسوته الشاذة معهم، يُقتلون في التو والساعة تخلصًا منهم حتى لا يذيع شيء من أمر هذه المآسي، وعندئذ يرسل زعيم شباب الريخ خطاب تعزية لوالدي الضحية البائس يخبرهما فيه بأن فتاهما أصيب بحادث أودى بحياته في أثناء خروجه في رحلة للسير على الأقدام مع زملائه.
وفي استطاعة القارئ أن يتصور ما تكون عليه حال المرأة في مجتمع تنتشر بين شبابه ورجاله وزعمائه رذيلة الاختلاط الجنسي الشاذ هذا الانتشار المروع!
على أن المصائب التي نزلت بالمرأة الألمانية لم يكن مصدرها جميعًا انتشار هذا المرض، فهناك ناحية إيجابية أيضًا في التنظيم والتشريع النازي سبَّب للمرأة الألمانية آلامًا لا تُحصى، وألحقت بها المذلة والمهانة. مثال ذلك ما فعله النازيون؛ إذ حرموا النساء في دولة الريخ الثالث مباشرة حقوقهن السياسية.
ولكن إذا حُرمت المرأة التعليم العالي، والفرصة التي تمكنها من مزاولة المهنة التي يقع عليها اختيارها كالطب أو التدريس أو الخدمة الاجتماعية، فماذا يا ترى كان يريد النازيون أن يكون عملها؟ لم يستطع النازيون الإدلاء برأيٍ صريحٍ حاسم في هذه المسألة، ولو أنهم قالوا إن الخدمة المنزلية، هي ميدان المرأة الطبيعي الذي يتلاءم مع أنوثتها؛ إذ في وسعها أن تعمل كممرضة أو كمربية للأطفال أو مديرة منزل أو خادمة. وكان من رأيهم قبل اشتداد أزمة الأيدي العاملة خلال سنوات الحرب أن العمل في المصانع أو المكاتب لا يتلاءم مع أنوثة المرأة، بل ينبغي أن يكون من نصيب الرجل وحده. والظاهر أنهم كانوا يريدون تفريج أزمة البطالة التي واجهت النازيين في بداية عهدهم. لذلك بذل النازيون جهودًا عظيمة لإخراج النساء من ميدان العمل، ولكنها كانت جهودًا فاشلة. إذ دلت الإحصائيات الحكومية على أن عدد النساء العاملات قد ارتفع من ٤٢٧٢٤٨٧ في يناير ١٩٣٣ إلى ٥٣٣٧٥٧٣ في عام ١٩٣٦ أي بزيادة «١٠٦٥٠٨٦» امرأة. وسرُّ هذا الفشل أن الرجل المتزوج ظل تحت الحكم النازي عاجزًا عن زيادة كسبه بدرجة تمكِّنه من الإنفاق على أسرته، أضف إلى هذا أن النازيين لم يستطيعوا تحقيق الوعود التي أسرفوا في بذلها للنساء الألمانيات عند بداية حكمهم، ومنها: إعداد «البيوت» ذات الطراز الحديث التي ينبغي أن تكون من نصيب كل أسرة ألمانية في دولة الريخ الجديدة. فقد وجد النازيون أن تشييد هذه البيوت وتهيئتها للسكنى من الأمور المستعصية في وقت كان الزعماء يوجِّهون فيه نشاط الأمة الألمانية نحو الاستعداد للحرب المنتظرة، بل لقد كان هذا الاستعداد نفسه من الأسباب التي أدت إلى فشل النازيين في إخراج المرأة من ميادين العمل المختلفة. فإن الحكومة النازية سرعان ما جعلت نشاطها مقصورًا على إنتاج عتاد الحرب، حتى ظهرت الحاجة الملحة إلى الأيدي العاملة وإلى استخدام النساء في نواحي الاقتصاد الأهلي المتعددة. بل إن النازيين سرعان ما عمدوا إلى إرغام عدد من النساء على ترك العمل في الحوانيت والمكاتب وهو ما يلائم أنوثتهن للعمل في المصنع والحقل، وقد حدث هذا حتى قبل نشوب الحرب بمدة طويلة، ثم لم تلبث أن عظمت الحاجة إلى خدمات النساء في مختلف الأعمال الإنتاجية بعد قيام الحرب وإخفاق النازيين في جعلها حربًا خاطفة، تكفل لهم النصر السريع.
ذلك بأن الحرب أوجدت النازيين أمام مشاكل كثيرة، كان بعضها متعلقًا بضرورة استخدام جميع الوسائل التي من شأنها زيادة الإنتاج الحربي، ومن أهم هذه الوسائل: الأيدي العاملة. وكان البعض الآخر متعلقًا بضرورة الإكثار من عدد المقاتلين الذين يرسلون تباعًا إلى ميادين القتال من جهة، وإلى البلدان التي غزاها الألمان وخضعت لحكمهم من جهة أخرى. وقد أحدث وجود هذه المشكلات تغييرًا ملحوظًا في مركز المرأة وفي الحياة بصفة عامة في داخل ألمانيا.
- فأما عن الأثر الأول: فقد مر بنا كيف كان عدد النساء العاملات آخذًا في الزيادة بدرجة كبيرة، مما يدل على أن النازيين قد أُرغموا إرغامًا بسبب ظروف الحرب والحاجة إلى الأيدي العاملة على تغيير نظرهم إلى المرأة، حتى صاروا يعترفون لها بالذكاء والقدرة على التفكير، وإمكان الاعتماد عليها كأداة نافعة من أدوات الإنتاج الهامة، فأجازوا لامرأة المُزارع الذي أُرسل إلى ميدان القتال، أن تدبر شئون المزرعة، ولزوجة صاحب الحانوت الذي سقط في ساحة الوغى أن تدير عمله، وهذا بطبيعة الحال إلى جانب عملها (الطبيعي) الذي يتلاءم مع أنوثتها في البيت والمطبخ. كما أجاز النازيون استخدام الفتيات ضمن القوات المحاربة كعاملات للتليفون والتلغراف، وفي المصانع كذلك. بل إن «الدولة» في هذه الظروف الجديدة، صارت تحتم على النساء المتزوجات — مهما بلغ عدد أطفالهن — أن يكرسن ساعات معينة من كل يوم، بطريق «التطوع»، للخدمة العامة كبائعات أو مشتغلات في عمل من الأعمال التي كانت تشرف عليها مكاتب العمل الرسمية، وهذا من غير نظر إلى ملاءمة هذه الأعمال أو عدم ملاءمتها لهن (كما جاء في إحدى صحف برلين الصادرة في ١٨ أبريل ١٩٤٢ Berliner Borsenzeitung). وقد نشرت جريدة فرنكفورت Fransk further Zeitung في عدد ٢٩ مارس ١٩٤٢، أنه ينبغي على النساء أن يزاولن بعض المهن التي يقوم بها الإسكافيون أو الكهربائيون ومن إليهم، إلى جانب اشتغالهن بتمريض جرحى الحرب. إذ كان النازيون يطلبون إلى جميع النساء بين سن السادسة عشرة والستين التطوع في خدمة الصليب الأحمر. ويتبين معنى «التطوع» في هذه الخدمة «الإنسانية» مما نشرته جريدة «فولكشير بيوبختر volkischer Beobachter» في عدد ٢٩ مارس ١٩٤٢ تحت عنوان: «قلوب النساء في الميدان»؛ إذ قالت ما معناه أن حماسة النساء المتطوعات للتمريض من شأنها أن تقلل من الخطأ الذي يرتكبه غيرهن من النساء اللواتي يصلحن لهذا العمل، ولكنهن يمتنعن عن التضحية بأوقات فراغهن في هذه الخدمة! غير أنه من المنتظر أن يدرك أمثال هؤلاء أهمية هذا العمل الآن!
- أما عن الأثر الثاني: فقد بذل النازيون كل جهد حتى يقنعوا النساء بضرورة الإكثار من ولادة الأطفال بكل وسيلة؛ إذ نظموا حملة واسعة لهذا الغرض، وأطلقت الدعاية النازية العنان لنشاطها في سبيل «معركة الأطفال» التي أرادوا إقناع الشعب الألماني بأن كسبها لا يقل أهمية في الحقيقة عن كسب معارك الحرب الحامية ضد أعداء دولة الريخ الكثيرين الذين يريدون القضاء على ألمانيا الكبرى، وكانت تشرف على هذه الحملة «زعيمة النساء» في الريخ، السيدة «شولتزكلينك Frau Scholtz-klinck» ومن عباراتها المأثورة: «أعطونا أطفالًا ومدافع!» وقد أدرك الزعماء النازيون أنه لا مفر لهم عن تغيير نظرتهم السابقة نحو المرأة حتى يتسنى نجاح هذه المعركة؛ لذلك شرعوا يحثون المرأة النوردية على ضرورة العناية بمظهرها، وانتقاء الأثواب الجميلة التي تناسبها، واستخدام المساحيق التي تلائم بشرتها، كما صاروا يطلبون من الرجال الابتعاد عن الخشونة و«السلوك» العسكري الجاف في مجالس السيدات، حتى إن زعيم الشباب «بلدور فون شيراش» — وسمعته السيئة أشهر من أن يشار إليها — لم يلبث أن أعلن في يناير سنة ١٩٣٨ عن إعداد برنامج شامل الغرض منه تجميل الفتيات الألمانيات «سواء أرغبن في ذلك أم رغبن عنه!» — على حد قوله. ثم أنشأ «فون شيراش» جمعية للفتيات الألمانيات بين الثامنة عشرة والحادية والعشرين أطلق عليها اسم جماعة «العمل والجمال والإيمان»، وجعل التحاق الفتيات بها إجباريًّا. ولم يعطل حملة «التجميل» الجديدة سوى نشوب الحرب.
ومع هذا فقد ظل النازيون يطلبون إلى الألمانيات أن يحرصن على جمال أجسامهن وأناقة مظهرهن على الرغم من الصعوبات التي أوجدتها ظروف الحرب.
على أن «معركة الأطفال» هذه كان نجاحها يتطلب زيادة في إقبال الشعب الألماني المطردة على الزواج، ومن مبدأ الأمر عني النازيون بمسألة الزواج لأهمية هذه المسألة من ناحية نقاء الجنس والدم، وما يترتب على ذلك من تنظيمات اجتماعية وسياسية واقتصادية سبق الحديث عن طرف منها وعن قروض الزواج، كوسيلة من وسائل التشجيع على الخروج من نطاق العزوبة رغبة في الإكثار من النسل. وقد نُفذ قانون قرض الزواج هذا ابتداءً من أول أغسطس ١٩٣٣، وأفاد منه كثيرون، حتى بلغ عدد القروض التي أعطتها الدولة «للمتزوجين» من بدء العمل به إلى أول مايو ١٩٣٩ «١٢٠٠٠٠٠» قرضًا، كلفت الخزانة حوالي «٧٥٠٠٠٠٠٠» ريخمارك. هذا عدا جملة قروض أخرى أُعطيت للغرض نفسه بمعدل ٢٥ ألفًا في الشهر الواحد. وتدل الإحصائيات الرسمية على أن نسبة الزواج ارتفعت بالفعل من ٧٫٩ في الألف في عام ١٩٣٢ إلى ٩٫٤ في الألف في عام ١٩٣٨، كما ارتفعت نسبة المواليد من ١٥٫١ في الألف في عام ١٩٣٢ إلى ١٩٫٧ في الألف في عام ١٩٣٨. وبلغ عدد المواليد حتى أول مايو ١٩٣٩ حوالي المليون طفل ولدوا لآباء استطاعوا الزواج بفضل القروض التي حصلوا عليها من الدولة.
وكذلك كان من وسائل تشجيع الإكثار من النسل أن الدولة أخذت على عاتقها إمداد أصحاب الأسرات الكبيرة بالإعانات حتى إن الرجل والد الأطفال الكثيرين صار يحصل على إعانات تزيد قيمتها على ما يمكن أن يحصل عليه بكسبه من عمله العادي. ولم تشترط الدولة لمنح هذه الإعانات أن يكون الأطفال من أسرة واحدة، بل إن الأسرة التي تتبنى طفلًا أو أكثر أو يكون أحد أطفالها من أب آخر وأم أخرى تستطيع أن تحصل كذلك على إعانة الدولة السخية مثلها في ذلك مثل الأسرة العادية المؤلفة من أب وأم وأولادهما. وقد بدأ النازيون يدفعون هذه الإعانات في أكتوبر ١٩٣٥، فبلغ ما دفعوه حتى أول مايو ١٩٣٩ حوالي «٢٥٥٠٠٠٠٠٠» ريخمارك لأطفال بلغ عددهم حوالي «٣٧٥٠٠٠٠» أي بمعدل ٦٨ ريخمارك لكل طفل. ولم يلبث أن زاد سخاء النازيين فعدلوا في شروط منح هذه الإعانات، وخففوا من قيودها إلى حد كبير في أكتوبر ١٩٣٧، ثم في أبريل ١٩٣٨ حتى بلغ ما صاروا يدفعونه في كل شهر «كما ذكر النازيون أنفسهم في صيف ١٩٣٩» حوالي ٣٠٨٠٠٠٠٠ ريخمارك لعدد من الأطفال يبلغ «٢٥٠٠٠٠٠».
هذا إلى أن النازيين صاروا يصرفون أجورًا عالية لأصحاب الأسر الكبيرة، وذلك عدا تكريمهم للأمهات اللواتي يلدن أطفالًا كثيرين، حتى أعد الهر هتلر أوسمة خاصة تُعطى للأمهات حسبما يكون لهن من أطفال، فتنال ذات الأربعة أو الخمسة أطفال وسامًا حديديًّا، وذات الستة أو السبعة وسامًا فضيًّا، وذات الثمانية أو التسعة وسامًا ذهبيًّا. وعينت الدولة يومًا مشهودًا، هو يوم مولد الهر هتلر نفسه «١٢ أغسطس» من كل عام لتوزيع هذه الوسامات في احتفال رسمي كبير، وسمته، يوم الشرف لجميع الأمهات. وفضلًا عن ذلك ضمنت الدولة راحة الحوامل فعملت على تخفيف أعباء العمل، وإزالة المضني منه عن كواهلهن. كما أصدرت قوانين معينة لمعاقبة كل من تحدثه نفسه بإهانة الأمهات أو الحوامل. كما أن الدولة لم تلبث أن اتخذت إجراءات صارمة لمنع الإجهاض، وحرمت ذيوع الموضوعات التي تبحث في وسائل منع الحمل، كما منعت بيع الأدوية أو الأجهزة الخاصة بذلك.
ومع هذا لم يقنع النازيون في معركة الأطفال بما أدركوه من نجاح كان في نظرهم ما يزال محدودًا؛ فطفقوا يبحثون عن وسائل جديدة وبخاصة عندما حمي وطيس القتال في ميادين الحرب المختلفة وعظم عدد قتلاهم. فهداهم التفكير السقيم إلى ابتكار أسلوب جديد للإكثار من النسل، كان وما يزال منذ بدء الخليقة من الأمور التي حرمتها جميع الشرائع والأديان، وأنكرتها المقاييس الخلقية إنكارًا شديدًا، هذا الأسلوب هو تشجيع التناسل خارج نطاق الزوجية الشرعية.
وعندما يرى النساء هؤلاء الشبان (من جماعة العمل) يرتدون سراويلهم القصيرة ليس غير ويعرضون صدورهم عارية تمامًا، فإن النساء — ولا شك — سوف يرددن «ما أجمل هؤلاء الشبان! وما أحلى متعة المرأة بهم!
وليس بعد هذا التحريض الرسمي على إتيان الفاحشة شيء. وقد قال فيلسوف النازية «ألفرد روزنبرج»: «إن الأمة الجرمانية ما كانت تستطيع اجتياز الأزمات العصيبة التي اعترضت نموها في الماضي لو أن رجالها آثروا العيش مع امرأة واحدة فحسب!» وقال أيضًا: «سوف ينظر الريخ الألماني في المستقبل إلى المرأة التي لا أولاد لها، سواء كانت متزوجة أو غير متزوجة «!»، كعضو لا يتمتع بالحقوق الكاملة التي يتمتع بها بقية أعضاء هذا المجتمع، وعند الكلام في هذا الصدد، لا ينبغي أن تكون جميع العلاقات الجنسية التي تسفر عن ولادة أطفال في خارج نطاق الزوجية، موضع مؤاخذة أو عقوبة قانونية!
إن كل مولود جديد له أهمية خاصة وقت الحرب؛ لأن الحرب تكلف الأمة حياة كثيرين من خيرة رجالها؛ ولذلك فإنه عندما يذهب الشبان الذين ثبت نقاؤهم من الناحية العنصرية إلى الحرب بعد أن يتركوا وراءهم أطفالًا لا تجري في عروقهم دماء آبائهم النقية، وفي وسعهم نقل هذه الدماء إلى الأجيال المستقبلة، بينما تجري في عروقهم كذلك دماء أمهات من الشابات سليمات البنية من الناحية الوراثية، ولكن كان من المتعذر لسبب ما زواجهن من آباء هؤلاء الأطفال، عندئذ سوف يبذل كل جهد حتى لا تُترك هذه الكنوز القومية دون أن تلقى ما تستحقه من العناية.
إن الواجب يقضي على السيدات والفتيات الألمانيات اللواتي يجري في عروقهن الدم الآري النقي أن يصبحن أمهات لأطفال يلدنهم من آباء يذهبون إلى جبهات القتال المختلفة، ولو اقتضى الأمر أن يولد هؤلاء الأطفال خارج نطاق الزوجية الشرعية
من أجل الزعيم وألمانيا الكبرى، قصف المنون عودك ولما تبلغ الثانية والعشرين يا خطيبي العزيز ووالد طفلي في يوم ١٦ أغسطس ١٩٤١ وأنت تقاتل ضد البلاشفة.
أما عدد الأطفال غير الشرعيين في ألمانيا، فقد بلغ المائة ألف في كل عام، وتذكر الإحصاءات أن هذا العدد مساوٍ لما وصلت إليه نسبة عدد الأطفال غير الشرعيين في عهد جمهورية ويمار، وأنه لمن المتعذر بتاتًا فضلًا عن ذلك معرفة عدد الأطفال الذين يولدون قبل مضي المدة القانونية للحمل وهي تسعة شهور.
•••
وللمرء أن يتساءل: وما مصير هؤلاء الأطفال من شرعيين وغير شرعيين في دولة الريخ الثالث؟ وكيف ينشئون؟
والإجابة على هذا السؤال، تعود بنا مرة أخرى لذكر المتاعب التي كانت تصادفها المرأة في دولة الريخ الثالث، وأولى المشاكل التي كانت تعترضها عقب ولادة الطفل، هي انتقاء اسم المولود الجديد، وذلك أن النازيين وضعوا «لتنظيم» اختيار الأسماء في دولتهم قواعد صارمة تقضي باختيار «اسم» من شأنه أن يظهر بوضوح «شخصية» الفرد العنصرية والقومية والجنسية؛ لذلك كان يتحتم اجتناب الأسماء اليهودية واختيار الأسماء النوردية وحدها، وحتى هذه الأسماء كان ينبغي ألا يسبب النطق بها أي شك في كون صاحبها نورديًّا خالصًا. وكانت تقبل الأسماء التي هي من أصل أجنبي إذا شاع استعمالها من زمن قديم حتى صارت جرمانية مثل هانو، ماريا وأليصابات. وكان من الواجب اختيار الأسماء الملائمة لنوع الطفل ذكرًا كان أو أنثى، فلا يُسمى الصبي «ماريا» كما درج الكاثوليك على ذلك في بعض جهات ألمانيا، وجعل القانون النازي من الصعوبة بمكان تغيير الأسماء واستبدال غيرها بها، ولو أن السلطات الحكومية النازية أخذت لنفسها الحق بمقتضى هذا القانون نفسه في تغيير أسماء من تريد من الأحياء ومن الأموات أيضًا.
وفي أبريل ١٩٣٨ صدر قانون يخول الحكومة الحق في اتخاذ الإجراءات اللازمة للتأكد من صحة نسب كل طفل في كل حالة تدعو فيها المصلحة العامة إلى ذلك، سواء أبدى الوالدان أو أحدهما شكًّا في صحة نسب الابن أو لم يفعلا ذلك، ويدل تدخل الحكومة في أكثر الحالات التي طُبق فيها القانون، على أن غرض السلطات النازية الأول من هذا كله إنما هو التأكد من صحة آرية الأشخاص المشكوك في جنسهم، أو الاطمئنان إلى أنهم غير مصابين بعاهات أو أمراض وراثية.
وهذا ما كان يحدث! فكان الأطفال يعيشون في بيوتهم حيث يتكفل آباؤهم بالإنفاق عليهم حتى يبلغوا العاشرة، وفي أثناء ذلك يقوم النازيون بالإشراف والمراقبة، حتى إذا وجدوا الآباء يُنشئون أطفالهم تنشئة لا تتفق مع التعاليم والمبادئ النازية، انتزعوا هؤلاء الأطفال من أحضانهم. وفي فبراير ١٩٣٧، ثم في نوفمبر من العام نفسه أصدرت المحاكم الألمانية أحكامًا تقضي بإعطاء حق تربية الأطفال الذين شكَّت السلطات الحكومية في عدم أهلية والديهم للقيام بتربيتهم للدولة — أي الحزب النازي نفسه.
وفي سائر مراحل التربية التي أشار إليها الهر هتلر في خطابه، كانت تنحصر مهمة النازيين في قطع الصلة التي تربط بين هؤلاء الشبان والشابات ووالديهم، وذلك بإخماد العواطف البنوية، وتعويد الشابات والشبان الاعتزاز بحياة مستقلة ذات مسئولية كاملة، وتنفيرهم من «التقاليد البالية الضارة» التي حرص المعلمون القدماء على صونها وملاحظتها في أثناء تربية النشء وتعليمه؛ إذ كانت تقوم — في نظر النازيين — على ضرورة كبت الغرائز الطبيعية، ثم تنفيرهم من هؤلاء الأساتذة والمعلمين القدماء أنفسهم وتشجيعهم على الإمعان في احتقارهم وامتهانهم، ثم تلقينهم مبادئ النازية وتعاليمها القائمة على إفناء الفرد في الدولة، والتضحية من أجل الزعيم والإخلاص في خدمة دولة الريخ الجديدة، وما يقتضيه هذا الإخلاص في مذهبهم من ضرورة التجسس على آبائهم وأقاربهم واحتقارهم.
تنحصر المهمة التي تضطلع بها التربية عندنا في تخريج الوطنيين الاشتراكيين!
لن يسلِّم الريخ الحديث شبانه الأحداث إلى يد أي إنسان!
وقد عمد النازيون إلى القضاء على جميع المراكز الثقافية التي توقعوا معارضتها لنظامهم وتعاليمهم، فطهروا مكتبات المدارس من الكتب التي ألفها اليهود، أو تضمنت أي امتداح لهذا الشعب، أو قصرت في إظهار الاحترام الكامل للشعب الجرماني والرجل الآري، كما حتم النازيون على رجال المكتبات أن يختاروا ما يريدون شراءه من بين الكتب التي اعتبرتها وزارة المعارف ملاءمة.
وعند النظر في برامج الدراسة النازية يبين مدى التغيير الذي أراد الهتلريون أن يدخلوه على التعليم، وأثر هذا التغيير في الناشئة. فقد أصدروا قرارًا في ١٣ سبتمبر ١٩٣٣ يحتِّم تدريس مادة «البيولوجيا» في جميع المدارس الثانوية من أدنى الفرق إلى أعلاها، ولو أدى ذلك إلى تضحية الرياضيات واللغة الأجنبية. وفي ١٥ يناير ١٩٣٥ صدر قرار آخر يفسر هذه الخطوة جاء فيه أن «الفوهرر» يريد أن يلم كل فتى وفتاة بالمدرسة بمسألة نقاء الجنس وضرورتها؛ ولذلك ينبغي أن يكون الغرض من تدريس البيولوجيا «إظهار أهمية المحافظة على نقاء الجنس وإدراك ما في امتزاج الأجناس من خطر، ومعرفة المسألة اليهودية وقوانين نورمبرج، والوقوف على حقيقة الإصلاح الذي تم من أجل تحسين الجنس نتيجة للفلسفة وللتشريع الوطني الاشتراكي». ومعنى هذا أن الغرض من تدريس البيولوجيا ليس إلا تخريج ناشئة تغلي في صدورها مراجل الحقد على اليهود. وفضلًا عن ذلك فإن جميع برامج الدراسة تحتم تلقين التلاميذ دروسًا معينة في الاجتماع والعلوم والرياضة والسياسة والاقتصاد والتاريخ، على أن يتم هذا كله في ضوء المبادئ والتعاليم النازية المعروفة. فلا بد للتلميذ أو الطالب من أن يحضر دروسًا تتناول القبيلة والجنس، وعصر ما قبل التاريخ، وأصل الإنسان والسلالات البشرية، وتطور الشعب الألماني من الناحية السياسية خلال السنوات المائة الأخيرة على وجه الخصوص.
•••
هذه صورة موجزة لما كان يجري في داخل ألمانيا منذ تسلم النازيون أزمَّة الحكم بها، ولكن قد يتساءل المرء، إذا كان الحزب النازي قد أدخل كل هذه التغييرات في حياة الشعب الألماني، وفرض سيطرته عليه، بالتدخل في شئون أفراده الخاصة، وانتهاك الحرية الشخصية، وامتهان المرأة، والقضاء على مئات الألوف من الألمان، سواء أكان ذلك بقتلهم أو بتعقيمهم أو بخصيهم تحت ستار عدم صلاحيتهم لأن يكونوا أعضاءً نافعين في المجتمع النازي، ثم إذا كان الحزب النازي قد ضرب بجميع المُثل الأخلاقية والمبادئ الاجتماعية عُرض الحائط، وانتزع الأبناء من أحضان آبائهم، ولقنهم احتقار هؤلاء الأمهات والآباء حتى يفصم عُرى الأسرة ويقوض أركانها، ثم نشأ هؤلاء الأبناء والفتيات التنشئة التي يريدها استعدادًا لخوض غمار الحرب لإحراز السيطرة العالمية، إذا كان الأمر كذلك، فهل رضي الألمان عن هذا كله، وسلموا بتلك التغييرات العنيفة عن طيب خاطر وبغير أية مقاومة؟
لا شك في أن النازيين، مثلهم في ذلك مثل أية جماعة أخرى يعميها التعصب وتصم القسوة آذانها، فتمضي في تنفيذ برامجها لا تلوي على شيء، ولا شك في أنهم استطاعوا الحصول على تأييد شطر من المجتمع الألماني، وهم الذين تمكنوا من البقاء في الحكم سنوات أخمدوا في أثنائها كل مقاومة، وهيمنوا على تصريف شئون الشعب المادية والروحية، وقد يكون هذا الشطر كبيرًا حقًّا. ولكن سنة العمران وطبيعة التقدم والنمو لا يمكن أن تهيئ الفرصة للطغاة دائمًا حتى يمضوا في طغيانهم إلى ما لا نهاية له. وقديمًا في أشد عصور الطغيان والفساد كان تيار المقاومة الخفية يجري محجوبًا عن الأنظار، ونشأ أفراد ووجدت جماعات ما كانت ترضى بالعيش في ظلال الجور، حتى إذا تضافرت عوامل الضعف والتفكك التي لا مناص منها في كل مجتمع يقوم على أساس متداعٍ، بدأ تيار المقاومة ظاهرًا جليًّا، ثم اشتد جريانه حتى يجرف كل ما يعترض سبيله. وليست ألمانيا إلا كغيرها من الدول التي حفظ التاريخ قصصها؛ فقد كانت عوامل المقاومة موجودة منذ وصول النازيين إلى الحكم، ثم بقيت على نشاطها رغم ما بذله النازيون من جهد للقضاء عليها. ومنذ بداية الحرب قويت هذه المقاومة، ثم زادت شدة وعنفًا منذ تذوق الألمان طعم الهزيمة في الميادين الروسية وقذفتهم طائرات الأمم المتحالفة بقنابلها وحممها، وأقضَّت مضاجعهم مثابرة الشعوب المقهورة على المقاومة الإيجابية والسلبية في أرجاء أوروبا المحتلة، وظهر كأنما قد تخلت آلهة النصر نهائيًّا عن الشعب الألماني المختار. وفي الفصل التالي بيان لهذا كله، ودليل على أن الدولة الوطنية الاشتراكية قد أخفقت أيما إخفاق في تأليف تلك الكتلة الصلدة المتماسكة التي عدت تأليفها ووجودها في قلب الريخ الألماني شرطًا أساسيًّا لإحراز السيطرة على أوروبا، ومن ثم على سائر أنحاء العالم.