الفصل الثامن
ألمانيا الأخرى «غير النازية»
كان غرض النازيين من فرض سلطانهم الصارم على الحياة في المجتمع الألماني أن يتمكنوا
من
تأليف تلك الكتلة الصلدة المتماسكة التي اعتبروا وجودها ضروريًّا من أجل إحراز السيطرة
العالمية في النهاية. وقد سبق كيف أنه حتى يتسنى لهم ذلك طفقوا منذ وصولهم إلى الحكم
في عام
١٩٣٣ ينظمون الحياة الألمانية ويعملون على توجيهها وجهة خاصة قائمة على فلسفة معينة ذات
مُثل عليا أوحت بها قرائح زعمائهم وفلاسفتهم، وكانت متفقة في جوهرها وتفصيلاتها مع أغراضهم
القريبة والبعيدة في ميادين الاجتماع والاقتصاد والسياسة.
وقد بذل النازيون كل جهودهم حتى يدعموا أركان ذلك «التوجيه المنظم» الذي أقرته فلسفتهم
الجديدة والذي عرفه النازيون باسم Weltanschauung، ومعنى
ذلك على حد قول الدكتور «دنكان جونز Duncan Jones» تلك
الفلسفة التي تفرض على صاحبها إدراكًا خاصًّا لمعنى الحياة ووجود العالم على نحو يجعل
نظره
للحياة والعالم بمثابة العقيدة الدينية لديه، فيستمسك بها بكل ولاء وإخلاص وتشعل في نفسه
جذوة التحمس الشديد لإذاعتها في كل مكان دون أن تعتاق نشاطه الحدود السياسية وغيرها من
الحواجز التي تفصل بين بلدان العالم، كأنما مهمته في الواقع التبشير بدين جديد. وكان
من
وسائل دعم ذلك التوجيه المنظم، إرغام الشعب الألماني على قبوله، والقضاء على كل معارضة
من
جانب أولئك الذين ظلوا متشبثين بمُثل الحياة العليا «القديمة»، ورفضوا هذه «البدعة»
الجديدة، فألقى النازيون بهؤلاء المعارضين في غياهب السجون وأرسلوهم إلى معسكرات الاعتقال،
ثم لجئوا إلى تطبيق قواعد العلوم النفسية لكسب معركة «التوجيه المنظم»؛ لما كانوا يعلمونه
من أثر الدعاية المنظمة القوية في نفوس الأفراد وسلوكهم وأعمالهم، فغدت الدعاية النازية
المتقنة من وسائل التبشير بهذه الفلسفة الجديدة بين الألمان وبين شعوب الأرض قاطبة، فادعوا
أن النازية قد نجحت في مهمتها نجاحًا عظيمًا إلى حد أن الريخ الثالث أصبح نازيًّا لحمًا
ودمًا، فاستطاع الزعماء بفضل ذلك أن يوجدوا في قلب دولتهم الجديدة كتلة نازية صلدة متماسكة
لا يتطرق الضعف إليها. وكان غرض الهتلريين المباشر من ترويج هذا الادعاء أن يرغموا الشعب
الألماني نفسه على تصديق هذه المزاعم حتى إذا ظل هناك جماعة يتوقون إلى العيش الحر الطليق
أسقط في أيديهم أمام هذا السيل الجارف من الدعابة، وأنكروا آمالهم وأحلامهم وراضوا أنفسهم
على العيش في ظل السيطرة النازية إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
وكان ادعاء النازيين أنهم أنشئوا كتلة نازية صلدة متماسكة في قلب الريخ الألماني من
أكبر
الأكاذيب التاريخية التي كاد ينخدع بها العالم؛ لأن الريخ الثالث لم يكن نازيًّا لحمًا
ودمًا؛ ولأنه كانت هناك إلى جانب ألمانيا النازية، ألمانيا «أخرى» تتألف من كل أولئك
الذين
ظلوا على الرغم من بطش الجستابو بهم ويئسهم من الحياة في معسكرات الاعتقال يحملون في
قلوبهم
البغض والكراهية للنازيين ويتربصون بهم الدوائر، وينظمون حروبًا من المقاومة الإيجابية
والسلبية في داخل الريخ نفسه لا تقل في خطرها عن مقاومة الشعوب المقهورة في أوروبا النازية
ذاتها.
والأدلة على ذلك كثيرة، فإنه على الرغم من نشاط الدعاية النازية أصر عدد من الألمان
في
السنوات التي سبقت نشوب الحرب الهتلرية على وضع الكتب وإعداد البحوث والمقالات وإصدار
النشرات والإحصائيات التي حرص النازيون من جانبهم على مصادرتها وإتلافها وتوقيع العقوبة
على
أصحابها — إذا عرف الجستابو أسماء الناشرين والمؤلفين — وكان أصحاب هذه المطبوعات السرية
يحاولون تهريبها عبر الحدود الألمانية حتى يقف العالم الخارجي على حقيقة ما كان يحدث
في
داخل الريخ الثالث. ولذلك شُغل الجستابو ورجال الحدود بمهمة مصادرة هذه المطبوعات
والمنشورات وإتلافها ثم معاقبة مهربيها.
وقد يخيل إلى المرء أن الانتصارات التي أحرزها النازيون في ميدان السياسة الخارجية
خصوصًا
في عام ١٩٣٧ كانت كفيلة باستمالة سواد الشعب الألماني إلى تأييد النظام القائم والقضاء
على
كل معارضة داخلية ضد النازيين. بيد أن الذي حدث كان على العكس من ذلك تمامًا، فقد ظلت
هذه
المعارضة «السرية» على شدتها حتى إن النازيين استطاعوا في عام ١٩٣٧ إحصاء «١٢٠٢٨٧» حالة
طُبعت فيها كتب ومنشورات سرية وغير ذلك من المطبوعات غير القانونية، حدثت في ٤٢٦ حالة
منها
التحامات دموية وتبودل إطلاق الرصاص بين البوليس النازي والألمان الذين اختاروا التضحية
بأنفسهم عن طيب خاطر في سبيل تهريب هذه المطبوعات عبر الحدود إلى العالم الخارجي.
وقد أدرك النازيون على الرغم من الدعاية الكاذبة لتضليل أهل البلاد من جهة ولتضليل
الرأي
العام في أوروبا وبقية أنحاء العالم من جهة أخرى، أنه من المتعذر عليهم التفرغ لشئون
الحرب
الخارجية، تلك الحرب التي هيأوا لها العدة منذ وصولهم إلى الحكم في ألمانيا إلا إذا شددوا
الرقابة على مواطنيهم واتخذوا الأهبة للقضاء دون إبطاء على أية معارضة قد تنذر بتصدع
الجبهة
الداخلية»، ولما كانت مهمة الجستابو الأساسية إحكام هذه الرقابة، فقد أعد هنريك هيملر he nrich Himmler رئيس قوة الجستابو وثيقة هامة عُرفت
باسم «وثيقة هيملر» وزَّعها على كبار رؤساء الجيش وضمنها آراءه فيما ينبغي اتخاذه من
الوسائل والتنظيمات الكفيلة بضمان النصر عند وقوع الحرب المنتظرة، ووقف العالم على أمر
هذه
الوثيقة فانكشف سرها في عام ١٩٣٧، وكانت وثيقة مطولة — تتألف من حوالي ١٥٠٠٠ كلمة — تحدث
فيها هيملر عن ضرورة تنظيم جماعة الحرس النازي من أصحاب القمصان السوداء Schutz-Staffel (S.
S.) تحت قيادته، وكانوا في ذلك الحين
يبلغون ٢٠٠٠٠٠، ثم أوضح بالتفصيل طرق تنظيمهم كما أشار إلى نوع التربية والتعليم الذي
يجب
اتباعه لإعداد الرجال المختارين، ثم أفرد قسمًا خاصًّا من هذا التقرير لوصف نوع المعاملة
التي ينبغي أن يُعامل بها أصحاب الحظ العاثر الذين يُلقون في معسكرات الاعتقال، وانتقل
من
ذلك إلى وصف أعمال هيئة الجستابو والأسلوب الذي يجري بمقتضاه توزيع هذه الأعمال على
أفرادها.
على أن أهم ما يسترعى النظر في هذه الوثيقة هو عناية هيملر الكبيرة بوصف الأخطار
التي
تنجم عن وجود ما سماه في تقريره بالجبهة الرابعة: أي الميدان الألماني الداخلي، فكان
من
أقواله عن هذه الجبهة: «لن نكون مشغولين في الحرب المستقلبة بما يحدث فقط في جبهة الجيش
المقاتل برًّا أو في جبهة الأسطول في البحار أو في جبهة سلاح الطيران في الجو، بل سوف
يكون
لدينا جبهة رابعة لميدان القتال Kriegaschauplatz ينبغي
علينا مراقبتها والعناية بأمرها، وهذه الجبهة هي ألمانيا الداخلية … ونحن في حاجة كبيرة
إلى
عدد أكثر من معسكرات الاعتقال، ولقد أعطاني الزعيم (هتلر) سلطات واسعة تجعل من حقي إلقاء
القبض على أي مخلوق اشتبه في أمره … إذ يصبح ضروريًّا عند بداية الحرب إلقاء القبض على
جماهير غفيرة … وسوف يتحتم علينا إعدام الجمهرة العظمى من هؤلاء الأسرى السياسيين رميًا
بالرصاص … ولذلك فمن الضروري أن يحتل هذه البلاد ما لا يقل عن ثلاثين فرقة من الفرق ذات
شارة الجمجمة وعظام الموت Totenkopf Surmbaenne. لأنه إذا
عجزنا عن مراقبة هذه الجبهة الرابعة، جبهة الوطن الداخلية، لتعطيل نشاطها بأية وسيلة،
فإن
الجبهات الثلاث المقاتلة الأخرى في البر والبحر والجو سوف تصاب من الخلف بطعنة نجلاء
ما في
ذلك ريب.» ومن الواضح أن هيملر كان يشير في قوله هذا إلى تلك الأقصوصة التي أذاعها القائد
الألماني المعروف لودندورف عقب هزيمة الجيش الألماني في الحرب العالمية الأولى؛ إذ ادعى
لودندورف أن جماعة الخونة والشيوعيين هم الذين دبروا هزيمة القيصرية بفضل الثورة التي
أشعلوا نيرانها في داخل البلاد خلف ظهور المحاربين في ميدان القتال. وهكذا ذكر هيملر
في
تلخيصه مخاطبًا رجال الجيش أن من واجبهم، بل من واجب كل إنسان يشغل مركزًا مسئولًا، أن
يدرك
ما لهذا الميدان الداخلي من أهمية كبيرة؛ «إذ في هذا الميدان وحده سوف يتقرر مصيرنا عند
نشوب الحرب، وعلى النجاح أو الإخفاق في هذا الميدان وحده يتوقف أمر حياتنا أو موتنا»،
ثم
قال: «وقد أصدر الزعيم إليَّ أمره لحل هذه المسألة بطريقة حازمة صارمة، كما أعطاني سلطات
لا
حد لها لتنفيذ أوامره.»
هذا موجز تقرير هيملر وكان من الطبيعي ألا يضيِّع رئيس قوة الجستابو وقته سدًى في
تفسير
الموقف الداخلي في ألمانيا، وفي تفصيل الخطط التي يجب اتخاذها لمكافحة ما أسماه «الجبهة
الرابعة» الداخلية إذا كان خطر هذه الجبهة ضئيلًا، أو أن المعارضة المتوقع ظهورها في
حالة
نشوب الحرب ضئيلة لا وزن لها، بل إن السلطات الحكومية ما لبثت أن اتخذت بعد نشوب الحرب
بعض
تدابير يتضح من صرامتها ومعارضتها لمبادئ القانون والعدالة مقدار ما كانت تخشاه هذه السلطات
من أخطار المقاومة الخفية. فقد أشارت إلى أحد هذه التدابير جريدة فرنكفورتر زيتونج في
عددها
الصادر في ٢١ يونية ١٩٤٠ فقالت:
تهمل من الآن فصاعدًا بمقتضى قرار أصدرته وزارة الدفاع مدةُ الحبس المنصوص عليها
في الأحكام الصادرة بالأشغال الشاقة مدةَ الحرب، على شرط أن تكون هذه الأحكام قد
صدرت في جرائم ارتُكبت في أثناء الحرب، ومعنى ذلك من الوجهة العملية أن أحكام
الأشغال الشاقة تظل سارية من تلقاء نفسها طوال مدة الحرب الحالية.
أي إنه لا يحدث إفراج عن أحد هؤلاء المحبوسين مهما قصرت مدة الحبس المحكوم بها عليهم
ما
دامت الحرب قائمة. وغنيٌّ عن البيان أن الجرائم التي يعنيها هذا الأمر كانت تلك التي
اتصلت
بأعمال المقاومة من إيجابية وسلبية في داخل الريخ الألماني، وذلك منذ أخذت هذه المقاومة
تشتد وتتسع رقعة نشاطها بعد قيام الحرب الهتلرية على وجه الخصوص، وبالرغم من تلك الانتصارات
الخاطفة التي أحرزها النازيون في جبهات الحرب المختلفة؛ إذ إنه عقب نشوب الحرب ألقى
الجستابو القبض على مئات الأهلين وأعدموا منهم عددًا كبيرًا، ثم ألقوا بما بقي منهم في
غياهب السجون وأرسلوهم إلى معسكرات الاعتقال. وقد أمكن العثور على أسماء أشخاص عديدين
من
هؤلاء الضحايا أعضاء تلك «الجبهة الرابعة» التي تحدث عنها هيملر في «وثيقة عام ١٩٣٧»
السابقة، وكان ذلك بفضل ما نشرته الصحف النازية نفسها بين وقت وآخر من أنبائهم. فقد درجت
هذه الصحف على نشر أسماء الأفراد الذين ثبتت إدانتهم وصدرت أحكام ضدهم، فضلًا عن أنها
كانت
تذكر نوع الجريمة التي ارتكبها هؤلاء واستحقوا من أجلها عقوبة الإعدام أو الحبس، وقد
ذكرت
كذلك التواريخ التي نُفذت فيها هذه العقوبات. ويتضح من القوائم التي نشرتها الصحف النازية
وقتذاك أن عدد الأفراد الذين أعدمهم النازيون بين ١٩ أكتوبر ١٩٣٩ و١٥ سبتمبر ١٩٤١ بلغ
خمسين
في داخل الريخ، نشرت الصحف النازية أسماءهم وتواريخ إعدامهم ونوع الجرائم التي ارتكبوها.
وكانت هذه الجرائم منوعة، منها جريمة الخيانة العظمى وأعمال التخريب، والاستماع إلى
الإذاعات الأجنبية وإيواء الطيارين الأعداء، والاشتراك في أحزاب أو جماعات معارضة للنظام
القائم وغير ذلك. أما أولئك الذين قتلهم الجستابو وعُرفت أسماؤهم بين ٢٤ أكتوبر ١٩٣٩
و١٢ سبتمبر ١٩٤١ — أي في الوقت الذي كان النازيون قد بلغوا فيه ذروة قوتهم وبسطوا سلطانهم
على
رقعة شاسعة من أوروبا — فقد بلغوا ٣٣ شخصًا، وفضلًا عن ذلك فقد صدرت أحكام بالسجن تتراوح
مدتها بين ١٢–١٠٨ أشهر على عدد من الأفراد بلغ ٦٩ بين ديسمبر ١٩٣٩ ونوفمبر ١٩٤١، وذلك
بسبب
استماعهم للإذاعة البريطانية B. B. C.، وأُعدم واحد في
نورمبرج لهذا السبب نفسه في ٢٠ مايو ١٩٤١.
على أنه مما ينبغي ذكره أن الإحصائيات الآنفة — وهي كما هو ظاهر لغاية نهاية عام ١٩٤١
—
لا تشتمل على جميع ما صدر من أحكام بالحبس أو بالإعدام في ألمانيا خلال هذه المدة؛ فقد
غصت
السجون بالرجال والنساء بسبب الاستماع إلى الإذاعات الأجنبية عمومًا أو إظهار الاحتقار
عند
الحديث عن حكومة الريخ أو السخر بشخص الزعيم هتلر أو ترويج الإشاعات والأخبار الكاذبة
أو
التي ينجم عن إذاعتها ضرر، أو التسبب في ضياع قطع الآلات من المصانع و«الورش»، أو إبداء
العطف على أسرى الحرب بإعطائهم بعض لفافات التبغ أو الأطعمة أو المشروبات، أو معاشرة
العمال
الأجانب المسخرين في خدمة الريخ معاشرة الصديق والخليل، وقد منع النازيون الشابات
الألمانيات على وجه الخصوص من معاشرة البولنديين، كما منعوا الرجال الألمان من مخالطة
البولنديات.
وواضح في صرامة هذه الأحكام وكثرتها أن ألمانيا ذاتها كانت تعاني نوعًا من المقاومة
الإيجابية والسلبية لا يقل في شدته عن مقاومة الشعوب الأوروبية المقهورة وقتذاك. فإذا
تذكرنا أن عدد القادرين على المقاومة الإيجابية كان قليلًا من جراء تجنيد كل صالح للخدمة
العسكرية في ألمانيا وإرساله إلى ميادين القتال أو إلى البلدان المحتلة، وأدركنا أن
الإحصائيات التي جُمعت والحوادث المتفرقة التي عُرفت مما كانت تنشره الصحف النازية لا
يمكن
بأي حال أن تكون كاملة أو نصف كل ما كان يحدث من وقائع؛ لأن النازيين إنما كانوا يقصدون
بما
ينشرونه تذكير سواد الشعب بأنه من الخير كل الخير الإقلاع عن المقاومة والرضا بالعيش
في ظل
النظام القائم، وعرفنا أنه لم يكن من صالح النازيين بتاتًا أن ينشروا على الملأ كافة
ما كان
يحدث من ضروب المقاومة خوفًا من تصدع الجبهة الداخلية، إذا تذكرنا ذلك كله أمكننا أن
نقف
على مدى المقاومة التي كان يصادفها النازيون في داخل الريخ الثالث نفسه.
بيد أن أكثر ما كان يخشاه هؤلاء في الحقيقة إنما هو انتشار «التخريب» في داخل المصانع
الألمانية، فقد وقعت حوادث من هذا النوع لا ريب في أنها كانت كثيرة، وقد أمكن الوقوف
على
شيء منها مما نشرته الصحف النازية وقتذاك. مثال ذلك ما حدث في مصنع «شمنيتز Chemnitz» للأسلحة حيث وقع ما لا يقل عن ١٧٩ حادث إتلاف في
خلال شهر واحد (فبراير ١٩٤٢)، أو ذلك التخريب الذي عُطلت بسببه محطة «فورباخ Forbach» لتوليد الكهرباء. ومما يجدر ذكره أنه قبل حدوث هذا
التخريب ببضعة أيام وزِّعت عدة منشورات ضد النازية بين العمال وفي القرى المجاورة، وألقى
الجستابو القبض على كثيرين لهذا السبب. وكان من حوادث التخريب ذات الخطر أيضًا تلك
الانفجارات التي خربت المصانع في «سبانداو Spandau» قرب
برلين في الوقت نفسه.
وعلى ذلك كان متعذرًا على المرء أن ينكر وجود المعارضة الداخلية في ألمانيا ضد السادة
النازيين على الرغم مما ابتكره هؤلاء من أساليب الدعاية لإقناع العالم الخارجي في ذلك
الحين
بأن دولتهم قد أصبحت نازية لحمًا ودمًا. وفيما يلي سوف يجد القارئ الدليل تلو الدليل
على أن
النازيين لم يستطيعوا بتاتًا إخماد هذه المعارضة رغم قسوتهم، بل إن هذه المعارضة نبتت
منذ
وصولهم إلى الحكم وبقيت إلى وقت انهيار دولتهم. وكان من أسباب ازدياد قوتها نشوب الحرب
الهتلرية؛ إذ سرعان ما أظهرت الحرب بطلان دعاوى النازيين الذين وعدوا مواطنيهم بأنها
سوف
تكون حربًا خاطفة تنتهي بعد شهور معدودة لا يلبث أبناء الريخ الثالث بعدها حتى يجدوا
أنفسهم
سادة شعوب العالم قاطبة.
وأسباب وجود هذه المعارضة الداخلية كثيرة ترتبط في جوهرها ارتباطًا وثيقًا بتلك الخطة
التي اتبعها النازيون منذ وصلوا إلى الحكم كي يؤلفوا كتلة صلدة متماسكة في قلب الريخ
الألماني، فجروا في سياستهم الداخلية على أسلوب خاص كان الغرض منه أن يصبغوا الحياة العامة
والخاصة في الريخ الألماني بصبغة نازية بحتة. وعلى ذلك كان مصدر المعارضة الشديد أن شطرًا
كبيرًا من الشعب الألماني نفسه ما كان يرضى بتاتًا أن يرى الزعماء الجدد يضيقون عليه
السبل
حتى يحرموه حرية اختيار نوع الحياة التي يريد أن يختارها، فضلًا عن أنهم كانوا يتدخلون
في
عقائده الدينية ويعملون لفرض سيطرتهم على الكنائس والمذاهب المختلفة؛ ليرغموها على قبول
تلك
الفلسفة التي شاءوا أن يبنوا عليها مُثلهم العليا في الحياة، وادعوا أنها فلسفة روحية
تختلف
كل الاختلاف عن الفلسفة القديمة التي قالوا إنها كانت يهودية مادية، زد على ذلك أن أساليب
النازيين في شئون التربية والتعليم ما كانت لتجلب رضاء شطر كبير من الأهلين الذين راعهم
أن
يروا دعائم الأسرة تنهدم، وفلذات أكبادهم يصبحون بانخراطهم في سلك الشباب الهتلري والحزب
النازي نفسه، من الغلاة المتطرفين الذين لا يعرفون لأهلهم كرامة ولا يعترفون للوالدين
بحق
من الحقوق، ثم لا يترددون في أن يبلغوا أمر آبائهم إلى السلطات الحكومية إذا أظهر الآباء
تذمرًا من الأحوال السائدة أو تبرمًا بها، فيكون جزاؤهم من جراء «تجسس» أبنائهم عليهم
تمضية
بقية العمر في غياهب السجون أو معسكرات الاعتقال. ولم يكن من المنتظر أن تخف وطأة المعارضة
بعد قيام الحرب العالمية الثانية؛ لأنه سرعان ما نجم عن إخفاق النازيين في إحراز النصر
السريع الخاطف عدد من المشكلات لم يكن الزعماء النازيون قد اتخذوا العدة من قبل لمواجهتها،
اللهم إلا إذا كنا نعتبر الالتجاء إلى وسائل الحبس والاعتقال والإعدام حلولًا مؤاتية
لمعالجة المعضلات. وأهم هذه المشكلات نظام التموين وشدته، ذلك بأن الأفراد العاديين ظلوا
زمنًا طويلًا قبل نشوب الحرب الهتلرية محرومين كثيرًا من ضروريات الحياة وكانوا يستعيضون
عنها بما كان يقدمه لهم «علماء» النازيين وخبراؤهم من صنوف المعوضات Ersatz في المأكل والمشرب والملبس، وكان الفرد لا ينال حاجته من هذه
المعوضات إلا بقدر معين وبمقتضى بطاقة التموين المعطاة له، وقد أحكم النازيون الرقابة
على
شئون التموين منذ عام ١٩٣٦، أي منذ بدءوا ينفذون «برنامج السنوات الأربع» المشهور بإشراف
«هرمان جورنج»، وكان الغرض من هذا البرنامج أن تصبح ألمانيا النازية دولة تعتمد على
الاكتفاء الذاتي في حياتها الاقتصادية، فتنقص من الواردات ما أمكنها ذلك، وتبذل كل جهد
لزيادة الصادرات زيادة عظيمة، حتى يجتمع لديها «فائض» تستخدمه في جلب المواد الخام اللازمة
لصناعة الحرب. ومنذ عام ١٩٣٦ كذلك نظمت الدعاية النازية برنامجًا واسعًا على أساس
«الاستغناء عن الزبدة والإكثار من صنع المدافع!» فكان من الطبيعي أن يشتد حرمان الفرد
عند
نشوب الحرب، وكان أول من أحس وطأة هذا الحرمان الشديد المرأة الألمانية ربة البيت التي
وقع
على عاتقها تدبير حاجتها وحاجات زوجها وأولادها. على أنه لما كانت أسباب المعارضة الداخلية
الأخرى كثيرة يضيق المقام عن التبسط في ذكرها، فقد يكفي اختيار عدد منها لإقامة الحجة
على
أن «هنريك هيملر» كان صادقًا عندما تحدث في وثيقته عن وجود جبهة رابعة في داخل ألمانيا،
وأهم أسباب المعارضة تذمر المرأة الألمانية وغضبها من النازيين واشتداد كراهية الأهلين
لرجال الحزب النازي، والخلاف الذي حدث بين مختلف الكنائس والمذاهب في دولة الريخ والسلطات
الحكومية، وإقدام النازيين على الحرب مع الروس وتطور الموقف الحربي في غير مصلحة الألمان
عقب دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب، وافتضاح أمر هرمان جورنج وظهور كذبه عندما
كثرت
الإغارات ليلًا ونهارًا على برلين وعلى مراكز الصناعة والإنتاج الألمانية بعد أن كان
يؤكد
لمواطنيه استحالة ذلك.
•••
وكان تذمر المرأة في ألمانيا النازية راجعًا قبل كل شيء إلى صعوبة التموين، فقد أدخل
النازيون نظام «الوجبة ذات الصنف الواحد Eintopfgericht»
قبل بدء الحرب العالمية الثانية بخمسة أعوام على الأقل، وطلبوا إلى ربات البيوت التبرع
بكل
ما يمكن توفيره من نفقات تلزم لطهي أكثر من هذا الصنف الواحد «لصندوق إعانات الشتاء»
الذي
خصصه النازيون من سنوات مضت للإنفاق منه على العاطلين أو الفقراء. وخلال سنوات السلم
عمد
النازيون رغبة في أن يتأكدوا من اتباع ربات البيوت لهذا النظام والعمل به إلى إرسال عمالهم
من جنود الهجوم S. A. أو الحرس الأسود S.
S. لفحص «مطابخ» البيوت والأطعمة
التي بها من وقت لآخر، ثم ما لبثوا حتى زادوا هذا التدخل بدعوى إنشاء «جبهة» جديدة لا
غنى
عن وجودها لنجاح برنامج السنوات الأربع أسموها «جبهة المطبخ».
وفي عام ١٩٣٦ كان العثور على البن الجيد والشاي من الأمور المستعصية، ثم اختفت «الزبدة»
من عالم الوجود — بدعوى إنفاق المال اللازم لإنتاج أو شراء ذلك الطعام الكمالي في صنع
المدافع والأسلحة — ثم اختفى البيض وتبعه الخبز الأبيض واستُعيض عنه بخبز مخلوط أدكن
اللون
تشمئز منه النفوس، وقلت اللحوم وتعذر الحصول على الأطعمة المحفوظة. ومنذ عام ١٩٣٦ كذلك
خرجت
«الصحيفة الوطنية
الاشتراكية Korrespondenz Nationals tische» تقول في أحد أعداد نوفمبر إنه يجب أن يكون لدى الشعب الألماني
«معدة سياسية»؛ ولذلك نصحت الجريدة بضرورة الإقلال من الدهنيات واللحوم والإكثار بدلًا
من
ذلك من الأسماك والخضراوات، ونصحت بتفضيل الخبز الأسود على الأبيض، كما نصحت بإجادة المضغ
للتأكد من استخلاص المواد المغذية في الطعام. وادعى النازيون أن الإكثار من الأكل خيانة
للوطن! ولم يكن في استطاعة الفرد إذا أراد أن يسد رمقه أن يجد حاجته في المطاعم العامة؛
لأنها صارت لا تقدم سوى صحاف معدودة، وقد حدث هذا كله قبل نشوب الحرب الهتلرية بمدة
طويلة.
ولما كان توزيع الأغذية جميعها قائمًا على نظام البطاقات، فقد تحتم على المرأة أن
تقف في
طوابير أمام الحوانيت في أوقات توزيع هذه الأغذية وبيعها، وكثيرًا ما كان يحدث أن تعود
المرأة إلى بيتها دون قضاء حاجتها بسبب نفاد ما تريده، وأدرك النازيون ما يسببه ذلك من
تذمر
السيدات وغضبهن فأعدوا طائفة من النساء مهمتهن ملاحظة «المشتريات» والتجسس عليهن؛ حتى
لا
تتفوه إحداهن بشيء يهين سمعة السلطات الحكومية.
ثم سوَّغ النازيون هذا النظام بقولهم: «إن كثيرًا من ربات البيوت يتسلط عليهن الخوف
الشديد إذا توقعن العجز عن شراء حاجاتهن، وهذا الخوف لا سبيل إلى الخلاص منه؛ لأنهن لا
يثقن
بأن هناك شيئًا اسمه الغد يحصلون فيه على ما يردن، بل إنك لتجدهن منتظرات خارج الحوانيت
قبل
أن تفتح أبوابها، فيسببن بهذا المسلك الشقاء والتعب لا لأشخاصهن فحسب بل وللباعة والتجار
كذلك.» على أن تسلح المرأة بالبطاقة التي بيدها كان لا يعني أنها تستطيع دائمًا الحصول
على
المقدار المدون بهذه البطاقة، فقد حدث في شتاء ١٩٤١-١٩٤٢ مثلًا أن اختفت البطاطس من
الأسواق، وبلغ عدد الحوانيت التي أُرغمت على إغلاق أبوابها من جراء نقص الأغذية وعدم
وجودها
حتى ١٥ مارس ١٩٤٣ حوالي المائة ألف في مختلف أنحاء الريخ، وسبَّب ذلك زيادة متاعب المرأة
الألمانية واضطرها إلى الشراء من «السوق السوداء»، ثم الالتجاء إلى «المقايضة». ولما
كانت
السلطات الحكومية لا ترى غضاضة كبيرة في ذيوع هذه الوسائل غير القانونية للبيع والشراء،
فقد
زاد عدد الأسواق السوداء زيادة عظيمة، وأقبل الأهلون على نظام المقايضة بشغف كبير.
ولم يكن منشأ صعوبات المرأة في عالم النازية نقص الأغذية وعدم وجودها فحسب، بل إن
النازيين كانوا قد بدءوا منذ مدة طويلة حملة واسعة حتى يقتصد الناس في استعمال الصابون،
ومع
قلة هذا الصنف كان النوع الموجود منه من المعوضات Ersatz
مصنوعًا من المواد الرديئة ويؤدي استعماله إلى بلاء الملابس، مما خلق صعوبات جديدة للمرأة
الألمانية؛ لأن الحصول على ملابس جديدة كان قد أصبح من أشق الأمور وأبعدها منالًا في
دولة
الريخ الثالث، وكان للنازيين في هذه المسألة أفكار عجيبة، فإنهم كما كانوا يعتبرون الإكثار
من الأكل خيانة للوطن، فقد أعلنوا كذلك أن «ارتداء الملابس الجيدة ذات المنظر الحسن خيانة»،
وفضلًا عن ذلك فإنه لم يفُتهم إصدار القرارات الصارمة لتنظيم استهلاك الملابس أو شراء
الجديد منها.
مثال ذلك أنهم كانوا يحددون ما يجب أن يبلغه طول قمصان الرجال وعدد الجيوب في بذلاتهم،
وحرموا الأكمام أو الذيول الطويلة إلى غير ذلك. وفي ١٨ مايو ١٩٣٧ كتب عمدة بلدة
«بيرماسنس Birmasens»: «من الملاحظ أن الأموات كثيرًا
ما يهيئون للدفن في أردية ثمينة وزينات عظيمة، ومن واجبي أن أسترعي انتباهكم لأمر من
واجب
كل مواطن أن يعطيه ما يستحقه من عناية كبيرة، ذلك أنه لا ينبغي دفن الموتى متدثرين بملابس
أو أردية ثمينة وغالية!» وفي أول يناير ١٩٤٣ صدرت بطاقة جديدة للملابس يسري العمل بها
مدة
ثمانية عشر شهرًا أنقصت مقدار المنسوجات المرخص بإعطائها في أثناء هذه المدة، وفضلًا
عن ذلك
فإن أحدًا ما كان في وسعه الانتفاع بهذه البطاقة إلا إذا أثبت حاجته الملحة إلى الملابس،
وأقام الدليل على أن ما يوجد لديه منها قد بات من المتعذر رتق فتوقها أو حياكة ما بلي
من
أجزائها، وقد أعطى النازيون عمالهم الحق في فحص خزانات الملابس في البيوت للتأكد من أن
المرأة لا تخفي في مكان ما ثيابًا أخرى لم يتطرق إليها البلى، وزادت محنة الملابس هذه
عند
نشوب الحرب مع روسيا، ذلك أن الهتلريين أرغموا ربات البيوت على التبرع بالمعاطف والأردية
الثقيلة والأغطية الصوفية «البطاطين» للجند المقاتلين في الجبهة الروسية، وذلك علاوة
على ما
كانت المرأة تُرغم على التبرع به عادة كل شتاء «لصندوق إعانة الشتاء».
وقديمًا أكثرت الدعاية النازية من بذل الوعود لاستمالة المرأة الألمانية، وكان من
أهم هذه
الوعود تهيئة البيوت الصحية الحديثة ذات الحدائق الصغيرة، ولكنه لم يمر عام واحد على
وصولهم
إلى الحكم حتى كان قد أُوقف بناء المنازل الجديدة. ومنذ عامي ١٩٣٥ و١٩٣٦ قرر النازيون
قصر
جهودهم على الإنتاج الحربي، فسبَّب ذلك زوال حلم آخر من الأحلام اللذيذة التي كانت المرأة
الألمانية تمني النفس بتحقيقها، وكان من الأسباب القوية التي دفعتها إلى تأييد الحزب
النازي
في الانتخابات الأولى للريخستاج ثم لرياسة دولة الريخ ذاتها. وزادت محنة المرأة في ألمانيا
عندما كثرت الإغارات الليلية والنهارية على المدن وهدمت قذائف الأعداء بيوتًا عدة لا
سبيل
إلى إعادة بنائها، ناهيك عن التفكير في بناء غيرها، فنجم عن ذلك أن ارتفعت الإيجارات
ارتفاعًا فاحشًا حتى إن إيجار الشقة التي كانت مؤلفة من ثلاث غرف بلغ في برلين خمسة عشر
جنيهًا إنجليزيًّا في الشهر الواحد. على أن مشكلة السكنى هذه كانت مرتبطة بمشكلة أخرى
لا
تقل عنها خطرًا نجمت عن تعذر العثور على الخادمات والمربيات والمرضعات، وكان سبب ذلك
«تعبئة» النساء جميعًا في خدمة الحرب، ثم صرامة النظام الذي تحتم على ربة البيت أن تتبعه
إذا قُدر لها العثور على خادمة من بين أولئك البولنديات اللواتي انتزعهن النازيون الفاتحون
من أوطانهن وأرسلوهن في عربات البهائم للخدمة في البيوت أو العمل في مواخير الدعارة
الرسمية؛ إذ كان يتحتم على ربة البيت الألمانية ألا تسمح لخادمتها البولندية بالراحة
من
عملها أو تظهر نحوها شيئًا من العطف والشفقة، حتى إذا عُرف عنها لين الجانب وحسن المعاملة
حُرمت في التو والساعة من خادمتها.
ولكن ماذا كانت الوسيلة التي استطاعت بها المرأة الألمانية، وهي التي حتَّم عليها
النظام
النازي أن تعيش في شبه عزلة، ثم أقصاها عن جميع الوظائف أن تعبر بها عما شعرت به من حزن
وألم وبأس، علاوة على عجزها عن إدراك ما كانت تتطلبه الحرب من تضحيات لا غنى عنها في
عُرف
النازيين من أجل إحراز السيطرة العالمية؟ وجدت المرأة الألمانية المتذمرة الحزينة المتألمة
اليائسة وسيلة مؤاتية لإظهار ما كانت تكنه من شعور في إصرارها على نعي زوجها أو ولدها
أو
شقيقها أو أي عزيز لديها عقب ورود الأخبار منبئة بسقوطه في ساحة الوغى بعيدًا عن أهله
وعشيرته، فقد انقضى الزمن الذي كانت تجد فيه المرأة الألمانية عزاءً وسلوى، بل فخرًا
ومجدًا
في موت عزيزها من أجل شخص «الفوهرر» العظيم أو قضية الوطنية الاشتراكية المقدسة بعدما
امتد
أجل الحرب وطالت الحملة الروسية على وجه الخصوص وتحطمت آمالها في النصر السريع الخاطف
وزاد
عيشها سوءًا في داخل الريخ، وعبثًا صارت تحاول السلطات الحكومية إرغام الزوجات والأمهات
على
اتباع صيغة معينة عند النعي تنص على «سقوط المقاتل في الميدان من أجل الفوهرر والوطن»،
وكانت الصحف عند بداية الحرب تنشر قوائم النعي على هذه الصورة، ولكنها ما لبثت عند اشتداد
سخط الزوجات والأمهات حتى أفسحت أعمدتها لأنباء النعي تصوغها المرأة كما تريد وتشتهي،
فتذكر
كيف أن عزيزها «قد عاد إلى الميدان بعد فترة وجيزة أمضاها بين أهله وعشيرته، فلم ينقضِ
يومان على عودته حتى قُتل في أرض أجنبية في بلاد روسيا النائية الموحشة!» وهكذا تضمنت
أنباء
النعي إشارة صريحة إلى مقدار ما كانت تعانيه الأمهات والزوجات من آلام مبرحة ويأس عظيم
لا
يمكن أن يخفف من حدته القول بأن أبناءهن وأزواجهن إنما ضحوا بأنفسهم في سبيل الزعيم العظيم
أو قضية الوطنية الاشتراكية المقدسة أو من أجل الوطن العزيز!
وكان مما زاد في حزن المرأة الألمانية التي فقدت ولدها أو زوجها أنها كانت ترى عددًا
كبيرًا من الشبان الأقوياء والرجال الصالحين للخدمة العسكرية ينعمون بالوظائف التي أغدقها
عليهم الحزب النازي في داخل البلاد عند انخراطهم في سلك «الشباب الهتلري» أو «جبهة العمل»
أو غير ذلك من الهيئات والمنظمات النازية، وذلك عدا العدد العظيم من جنود الهجوم والحرس
الأسود ورجال الجستابو الذين انتشروا في أرجاء البلاد بحجة الإشراف على الجبهة الداخلية،
واعتمدت الحكومة عليهم في دعم نفوذها والقضاء على أية بادرة من بوادر التمرد والعصيان
في
الريخ الألماني.
وقصة تلك القوات التي كانت تتألف منها شراذم الهجوم ووحدات الحرس الأسود وهيئة الجستابو
عجيبة حقًّا؛ إذ إن توزيع هذه القوات عند بداية الحرب حدث على نحو يضمن قبل أي شيء آخر
تحقيق مآرب الزعماء النازيين، في ضرورة السهر على استتباب الأمر للحكومة ودعم أركان النظام
القائم عن طريق مراقبة القوات المحاربة في خطوط القتال الأمامية، فضلًا عن مراقبة الأهلين
في داخل الريخ نفسه. وبيان ذلك أن الهر هتلر أسرع عقب نشوب الحرب إلى تقسيم الحرس الأسود S. S. فريقين: فريق عُهد إليه الإشراف والمراقبة على
خطوط القتال في وحدات صغيرة تنبث بين الجنود في الجبهات المختلفة في الميدان الروسي خاصة،
وفريق استُبقي في داخل البلاد نفسها لتأييد سلطان الحزب النازي، وكانت مهمة الفريق الأول
مراقبة الجنود المقاتلة ومنع انتشار روح التذمر بينهم والحيلولة دون حدوث أية حركة قد
يقوم
بها الجيش المحارب من أجل التقهقر أو الانسحاب مهما اشتدت ضربات العدو وعظمت خسائر الجيش،
وكان يطلق على هذا الفريق اسم «زملاء
المحاربين Waffen-S. S.» وكان عددهم حوالي ٣٥٠٠٠٠، أما الفريق الثاني: فقد بلغ عدد
رجاله ٢٥٠٠٠٠، وكان هتلر قد سمح لوحدات من الحرس الأسود أن تشترك في القتال في بداية
الحرب
عندما بدأ النصر يبدو سهلًا رخيصًا، كما اشترك الحرس الأسود في القتال عندما بدأ الزحف
على
روسيا، غير أنه بعد أن تبين للزعيم أن الحملة الروسية لن تنقضي قبل الشتاء التالي
«١٩٤١-١٩٤٢»، أسرع في استدعاء هذه الوحدات المقاتلة وجعل عملها مقصورًا على مناوشة العصابات
الروسية في المؤخرة. وبعد ديسمبر ١٩٤١ اختُص الحرس الأسود بأعمال الإرهاب خلف الخطوط
الأمامية، فأصبحت مهمتهم أن ينقلوا الفلاحين الروس والنساء والأطفال من قرية إلى أخرى
ومن
مكان إلى آخر، وتسليط سوط العذاب على أبدانهم جميعًا.
ومنذ ديسمبر سنة ١٩٤١ تألفت كذلك من الحرس الأسود وحدات اتخذت مكانها في مؤخرة الجيش
الألماني المحارب، وكانت مهمتها السهر على منع حوادث التمرد والعصيان في صفوف المقاتلين
في
الخطوط الأمامية، ومنع هؤلاء المقاتلين من التقهقر بشتى الوسائل، وفضلًا عن ذلك فقد عهد
هتلر بمهمة مراقبة وحدات الجيش في خطوط القتال الأمامية إلى جماعات من شراذم الهجوم S. A. ورجال الجستابو.
وبلغ عدد الرجال الذين كانت تتألف منهم شراذم الهجوم حسب إحصاء أدلى به «لوتز Lutze» رئيس أركان حرب هذه الشراذم إلى جريدة سويدية في مايو
١٩٤٢ حوالي مليون وأربعمائة ألف جندي، كان عدد الموجود منهم فعلًا في خطوط القتال «٩٨٩٠٠٠»
بينما ظل أكثر من أربعمائة ألف منتشرين في أنحاء الريخ لتوطيد دعائم الحكم النازي ومراقبة
الجبهة الداخلية، وكان عدد الجستابو في تلك الآونة حوالي أربعمائة ألف وجد منهم في داخل
ألمانيا ذاتها حوالي ربع مليون، بينما انتشر الباقون في أنحاء أوروبا المحتلة.
فإذا أضيف عدد رجال الحرس الأسود S. S. إلى
عددجنود الهجوم S. A. ممن كُلفوا مراقبة الجبهة
الداخلية، ثم أُضيف إلى هذين الفريقين رجال الجستابو المنتشرون في أرجاء الريخ الثالث
لبلغ
عدد الرجال الأشداء الأصحاء من هذه الفئات الثلاث «٩٠٠٠٠٠» رجل أقاموا بداخل البلاد بدلًا
من الذهاب إلى خطوط القتال الأمامية والدفاع عن الفوهرر ومبادئ الوطنية الاشتراكية المقدسة
وأرض الوطن العزيز! وكان هذا الرقم الضخم لا يشمل بطبيعة الحال أعضاء حزب النازي العاملين
أو الموظفين في هيئات الحزب ومنظماته المختلفة ذات الخلايا المتعددة الموزعة في كل مدينة
وقرية من مدن وقرى الريخ الألماني، وقد بلغ عدد هؤلاء الموظفين والأعضاء بعض مئات
الألوف.
ومع أن وجود هذا العدد الضخم من الرجال الصالحين للقتال بعيدين عن ميادين الحرب كان
وحده
من أكبر العوامل التي سببت كراهية شطر كبير من الأهلين للحزب النازي وزعمائه، فإن هذه
الكراهية كانت ترجع أيضًا إلى ذلك الفزع العظيم الذي استبد بالأهلين من بطش قوات الحرس
الأسود ورجال الجستابو وقسوتهم، وليس أدل على مبلغ هذا الفزع مما روته جريدة سويدية
Svenaka Dagbladet بعددها الصادر في «مالمو Malmo» في ١٥ مايو سنة ١٩٤٢ من أن ثلاثة من الرجال انتحلوا
شخصية أعضاء من الجستابو ودخلوا أحد المساكن في برلين زاعمين أنهم إنما حضروا لإجراء
تفتيش
دقيق بأمر من السلطات الحكومية، فمكنهم هذا الادعاء من الاستيلاء على جميع قطع الأثاث
وغير
ذلك من النفائس التي راقت في أعينهم، بينما وقف أهل البيت مكتوفي الأيدي لا يبدون حراكًا
يعقد الخوف ألسنتهم، ويذهب الرعب برشدهم فبقوا على هذه الحالة مدة حتى إذا هدأ روع أحدهم
وجد الشجاعة الكافية الذهاب إلى مركز البوليس يقص ما جرى، ولكن أحدًا لم يهتم بالبحث
عن
هؤلاء اللصوص. وفي الواقع لم يكن هذا الحادث الأول والأخير من نوعه؛ فقد وقعت عدة سرقات
مشابهة لهذه منذ وصل النازيون إلى الحكم، وبدأت تنتشر في طول البلاد وعرضها منظمات جنود
الهجوم والحرس الأسود والجستابو، حتى إن لفظ الجستابو كان وحده كفيلًا بإلقاء الرعب والفزع
في نفوس الأهلين، ثم تطايرت الإشاعات عن نشاط هؤلاء الجستابو «المرعبين»، وما كانوا يأتونه
من جرائم وفظائع، وسرعان ما بلغت هذه الإشاعات حدًّا جعل السلطات الحكومية تبادر في مارس
١٩٤٢ بتكذيبها تكذيبًا قاطعًا، وتحذر الأهلين من الاستماع إلى أولئك الذين كانوا «يروجون
هذه الأباطيل»، على حد قول الصحف النازية.
وكان من أهم أسباب المقاومة الداخلية اضطهاد النازيين للكنيستين الكاثوليكية
والبروتستنتية. وقد بدأ عداء النازيين للكنيسة الكاثوليكية قبل وصولهم إلى الحكم بزمن
طويل،
يدل على ذلك بيان أصدره أساقفة بافاريا في عام ١٩٣١ احتجاجًا على الحركة النازية بسبب
مبادئها المتعلقة بالعنصرية وتفضيل الجنس الآري على ما عداه من الأجناس، وموقف النازيين
من
الكتاب المقدس وتدخلهم في أعمال القساوسة، ومنع بعضهم من القيام بوظائفهم الدينية. فقد
عمد
النازيون في أول الأمر إلى استجلاب مودة المعتدلين من رجال الدين الكاثوليك الذين أبدوا
استعدادهم لتخفيف معارضتهم ضد النازية على أمل أن يفضي هذا التساهل من جانبهم إلى إزالة
شيء
من أسباب العداء الذي بدا مستحكمًا بين النازيين والكنيسة الكاثوليكية. وفي تلك السنوات
الأولى التزم هتلر خطة الحيطة والحذر في علاقاته مع الكاثوليك؛ لأن شعور الكاثوليك في
ألمانيا ضد الشيوعية كان شعورًا قويًّا، فلم يكن من مصلحة النازية بتاتًا إثارة عداء
الكاثوليك ضدهم بدرجة ظاهرة، وأحرز هتلر انتصارًا كبيرًا عندما استطاع أن يعقد مع الفاتيكان
معاهدة Concordat في يولية ١٩٣٣؛ لأن إبرام ذلك الاتفاق كفل
على — حد قول النازيين أنفسهم — اعتراف الكنيسة الكاثوليكية بالوطنية الاشتراكية اعترافًا
نهائيًّا. وكان الكونكردات ينص على أن يُقسم كل أسقف عند تعيينه في أسقفيته يمين الولاء
للدولة الألمانية، وحرم على القساوسة الانضمام إلى الأحزاب السياسية أو مساعدة هذه الأحزاب
مهما كانت أغراضها. أما النازيون فقد تعهدوا في نظير ذلك بأن يعطوا الحرية الكاملة لمدارس
الكاثوليك والجماعات الدينية الكاثوليكية ما دامت لا تهدف إلى أغراض سياسية، ثم تعهدوا
بعدم
تدخل الدولة في عقائد الأفراد وكل ما كان متصلًا بشئون حياتهم الدينية، وألا يتعرضوا
للأطفال الكاثوليك بشيء.
غير أن النازيين الذين كانوا قد وصلوا إلى الحكم قبل هذا الاتفاق بشهور معدودة، كانوا
يبيتون النية على نقض التزاماتهم عند أول بادرة، وفضلًا عن ذلك فإن مضيهم في تنفيذ برنامجهم
الداخلي لتأليف تلك الكتلة الصلبة المتماسكة التي أرادوا إنشاءها في قلب الريخ الألماني
ما
لبث حتى أثار ضدهم احتجاج الكنيسة الكاثوليكية، وكان سببًا في استحكام العداء بين النازيين
والكاثوليك في الريخ الثالث. فقد أصدر النازيون بعد مضي ستة أيام من توقيعهم الكونكردات
قانون التعقيم، الذي سبق الحديث عنه، فأثاروا بذلك شعور الكاثوليك؛ لأن التعقيم يتعارض
مع
عقائدهم الدينية ولا يمكن أن يوافقوا عليه بحال من الأحوال، وعدوا إصدار هذا القانون
تحديًا
صريحًا لهم. وتوقع النازيون أن يمتنع الكاثوليك عن تنفيذه وأن ينقد القساوسة هذا القانون
نقدًا مرًّا، وتحقق ما توقعوه؛ إذ ألقى الكاردينال «فولهابر Faulhaber» عظة في آخر عام ١٩٣٣ يبين فيها موقف الكنيسة الكاثوليكية
رسميًّا من مسألة النسل والتعقيم، وكأنما كان إفصاح الكنيسة الكاثوليكية عن موقفها من
هذا
القانون كل ما يبتغيه النازيون حتى يعلنوا على الملأ أن رجال الدين الكاثوليك امتهنوا
الكونكردات ونقضوا يمين الولاء الذي أقسموه للدولة الألمانية وأنهم مصرون على المضي في
عدائهم للوطنية الاشتراكية. وعلى ذلك شرع النازيون يكممون الصحف الكاثوليكية في غير توانٍ.
وفي بداية العام التالي «١٩٣٤» بدأ «ألفريد روزنبرج» يعد حملته لانتزاع الشباب الألماني
من
أحضان الكنيسة. ولما كان هتلر يأخذ أهبته في تلك الآونة لضمان نجاح الاستفتاء في أقليم
السار وانضمامه إلى ألمانيا، وكان النفوذ الكاثوليكي في هذا الإقليم قويًّا، فقد رأى
هتلر
عدم الظهور بمظر العداء الصريح للكاثوليكية، ووعد بصون حقوق الكنيسة الكاثوليكية وتنفيذ
مواد الكونكردات بكل أمانة، غير أن هذه الوعود لم تكفِ لإقناع رجال الدين الكاثوليك بأن
النازية لا تريد شرًّا بكنيستهم. فأعد أساقفتهم في اجتماعهم السنوي وقتذاك في بلدة «فولدا»
«خطابًا رعويًّا» أظهروا فيه انزعاجهم من سير الأمور وعدم اطمئنانهم إليه، ولكن أحدًا
من
الأفراد لم يقرأ هذا الخطاب؛ لأن الجستابو سرعان ما صادروه وأتلفوا كل أثر له. واشتد
عداء
النازيين للكاثوليكية، فأعلن زعيم الشباب الهتلري «بلدورفون شيراش» الحرب السافرة ضد
المنظمات الكاثوليكية «مارس ١٩٣٤»، وأُسيئت معاملة فتيان الكشافة الكاثوليك في كل ظرف
ومناسبة، وانتهز الهتلريون عودة فريق من هؤلاء الفتيان بعد زيارة قاموا بها إلى رومة
في
غضون عام ١٩٣٥، ففاجأهم رجال البوليس السري في أثناء عودتهم واغتصبوا منهم آلات التصوير
والمسابح والصلبان ومزقوا ملابسهم. وفي العام التالي نشط عداء النازيين للكاثوليكية فأتموا
خنق الصحافة الكاثوليكية، وكانوا قد بدءوا يكممون أفواهها منذ وصولهم إلى الحكم رويدًا
رويدًا. وفي عام ١٩٣٨ كانت قد حُلت كل منظمات الشباب الكاثوليكي تقريبًا، ولم يبق في
الميدان سوى «الشباب الهتلري».
ودأب النازيون على إظهار الكاثوليك بمظهر أولئك الذين يضمرون العداء للدولة دائمًا
ولا
يحترمون القوانين ويلطخون سمعة الريخ الألماني، فأصدروا قوانين لمنع تصدير النقد الألماني
إلى الخارج، وكان معنى هذا تعذر سداد الديون المتراكمة على كل تلك الهيئات والمؤسسات
الدينية التي اضطرت أيام تدهور المارك الألماني في عهد «جمهورية ويمار» إلى استدانتها
من
الخارج إلا إذا لجأت إلى التهريب؛ لأن هذه الهيئات والمؤسسات الدينية لم تكن بطبيعة الحال
تشتغل بالتجارة حتى يمكنها أن تسدد ديونها بفضل ما تصدره من سلع، فلم تكن ثم وسيلة لتسديد
الديون غير تهريب النقد ومخالفة أوامر الحكومة. وفضلًا عن ذلك فقد بدأ النازيون في أوائل
عام ١٩٣٧ حملة واسعة الغرض منها اتهام القساوسة والرهبان والراهبات بسوء الخلق، ونشرت
الصحف
النازية بعناوين كبيرة حوادث هذه الاتهامات المخزية، ووعدت بتقديم ما لا يقل عن ألف من
هؤلاء القساوسة والراهبات إلى المحاكمة، وشجعت السلطات أفراد الشعب على البحث عن مرتكبي
الموبقات من رجال الدين الكاثوليك، ولكن هذه الحملة الواسعة أسفرت عن إدانة خمسة وثمانين
قسيسًا من بين خمسة وعشرين ألفًا في الريخ، ولم يثبت على راهبة ما أية تهمة من تلك التهم
الشنعاء. على أن هذا الفشل لم يمنع النازيين من الإمعان في اضطهاد رجال الدين الكاثوليك
من
أجل سلامة الدولة على حد قولهم، لعدة أسباب من أهمها: أن الكنيسة الكاثوليكية ذات ثقافة
أجنبية، فضلًا عن أنها لم تكن مؤسسة وطنية؛ لأن اتجاهاتها وميولها مصطبغة بصبغة دولية،
ولا
يمكن أن يُعد أعضاؤها مواطنين بمعنى الكلمة لما كان لهم من علاقات مع سائر الكاثوليك
في
الخارج. وهكذا استطاع النازيون في غضون ثمانية أعوام من بدء سيطرتهم أن يلقوا في السجون
حوالي خمسة آلاف قسيس.
وعظمت محنة الكاثوليكية بعد نشوب الحرب الهتلرية، وكان من وسائل إرهاقها مصادرة أملاك
الكنائس والجماعات الدينية، فصادر الجستابو في عام ١٩٤١ مراكز «جماعة يسوع» وبيت الراهبات
في مونستر بوستفاليا، ومراكز جماعة القديس أوغسطين بالقرب من «بون» في الراين، وبلغ عدد
مراكز هذه الجماعة التي صادرها الجستابو حتى أواخر عام ١٩٤١ ثلاثة عشر مركزًا. وفي مارس
١٩٤٢ أعلن أسقف برلين أن النازيين صادروا كثيرًا من أملاك الكنيسة الكاثوليكية. وفي أبريل
من العام نفسه أغلق النازيون أديرة البندكتين في شتى نواحي ألمانيا. ولكن في عام ١٩٤٢
كانت
الولايات المتحدة الأمريكية قد دخلت الحرب ضد ألمانيا واشتدت غارات قوات الطيران البريطانية
على المناطق الغربية، لا سيما وأن الجيش الألماني كان يزحف على روسيا، وأخذت أركان الجبهة
الداخلية في التصدع على الرغم من قسوة النازيين وبطش رجال الجستابو، وفي هذه الظروف رفع
رجال الكاثوليك أصواتهم فجأة يتحدون فلسفة النظام الهتلري ويهددون بتقويض أركانه، وصحيح
أن
قادة الكاثوليك قالوا إن الامتثال لأوامر الدولة والخضوع لقوانينها واجب على كل فرد،
ولكنهم
صاروا يطالبون في الوقت نفسه بتغيير النظم القائمة وإنشاء نظام آخر بدلًا من نظام الزعامة
المسئولة، فكان معنى ذلك تسديد ضربات المعارضة ضد النظام النازي بأجمعه، وألقى أسقف مونستر
الكونت «جالن Galen» عظاته الثلاث المشهورة في غضون شهري
يولية وأغسطس من عام ١٩٤١، وحمل على وثنية النازيين حملة شديدة داعيًا الآباء إلى إمعان
النظر في مستقبل أبنائهم، والمسيحيين إلى اتباع تعاليم الكنيسة الصحيحة؛ فلا يقتلوا النفس
التي حرم الله قتلها، ولا يتخذوا من دعوى تخليص المرضى من آلامهم والمجتمع من المعتوهين
مسوِّغًا لارتكاب جرائم القتل. وأطال الكونت «جالن» الحديث عن «الوصايا العشر» فوضح
لمستمعيه أن مصادرة الأملاك — على غرار ما كان يفعل النازيون — سرقة صريحة، وأن الحب
الطليق
وإنتاج الأبناء لخدمة الريخ خارج نطاق الزوجية زنا ومعصية، وأن عدم احترام الآباء والأمهات
عقوق ونكران، وأن عبادة الطبيعة والدولة والجنس زيغ وكفران. وفي آخر العام نفسه ألقى
الكردينال «فولهابر» عظة في كتدرائية ميونخ عدَّد فيها الاتهامات التي كان يكيلها النازيون
للكنيسة الكاثوليكية، ثم أخذ يدحض هذه المفتريات الواحدة بعد الأخرى، وأظهر ما كان يفعله
النازيون — على حد قوله — لاقتلاع جذور الكنيسة. وفي مارس ١٩٤٢ قُرئ في الكنائس «خطاب
رعوي»
وضعه الأساقفة الكاثوليك. وفي العام التالي كان أعداء الكنيسة الكاثوليكية للنازية سافرًا،
فانفض كثيرون من حول الهتلرية، وزادت مقاومة المتذمرين من نظام النازيين شدة على
شدتها.
وكان مما قوَّى حركة المقاومة «الدينية» موقف النازيين من البروتستنتية في ألمانيا،
فقد
بدءوا بإحكام رقابة الدولة على الكنيسة البروتستنتية منذ استتب لهم الأمر في الريخ؛ فعينوا
«قومسيريين» للإشراف على شئون الكنائس البروتستنتية في بروسيا وسكسونيا وغيرها عام ١٩٣٣،
ومنعوا نشر كل ما كان يتناول المسائل الكنسية ١٩٣٤، وارتكبوا غير ذلك من الأعمال التي
أثارت
المقاومة ضدهم، وألقى النازيون القبض على كبار رجال الدين البروتستنت في ورتمبرج وبافاريا
١٩٣٤، وأرسلوا القساوسة البروتستنت خصوصًا في سكسونيا ونساو-هس إلى معسكرات الاعتقال،
وقبضوا على سبعمائة منهم في أنحاء بروسيا؛ لأنهم قرءوا من فوق المنابر احتجاجًا ضد تلك
«الوثنية الجديدة» التي أراد النازيون أن يستعيضوا بها عن الأديان جميعها ١٩٣٥، ونفوا
عددًا
عظيمًا من القساوسة البروتستنت في «بروسيا» وغيرها. وعندما ألَّف المعارضون البروتستنت
كنيسة جديدة أسموها الكنيسة الاعترافية، حتى يتحرروا من القيود التي فرضها النازيون على
الكنيسة البروتستنتية، عطلت السلطات الحكومية إقامة الشعائر بالكنائس الاعترافية وصادرت
أموالها وفرضت رقابة شديدة على مطبوعاتها. غير أن التدابير النازية لم تخضد من شوكة
الاعترافيين، وظهر زعماء أمثال مارتن نيمولر وغيره قادوا المعارضة ضد الهتلرية بشجاعة
فائقة، وضحى كثيرون بأنفسهم في سبيل تعزيز العقائد المسيحية الصحيحة، فقدم «نيمولر» وإخوانه
مذكرة إلى الفوهرر، يتساءلون فيها عن نوايا النازية تجاه الديانة المسيحية ١٩٣٦. ثم تكررت
احتجاجاتهم في العام التالي. وفي يولية ألقى النازيون القبض على نيمولر، وفي فبراير ١٩٣٨
قدموه للمحاكمة، ثم أرسلوه إلى معسكرات الاعتقال. وعندما بدأ الحرب اشتد الضيق على الكنائس
الاعترافية «١٩٣٩»، فلم يسعها إزاء انتصارات النازيين الباهرة في مراحل الحرب الأولى
وانتشار رجال الجستابو في طول البلاد وعرضها سوى أن تطأطئ الرأس انتظارًا لساعة الخلاص،
وكانت الحرب التي شنها هتلر على روسيا مؤذنة بأن هذه الساعة لا بد آتية. ذلك بأن الحرب
الروسية كانت من أهم الأسباب التي أدت إلى ازدياد المقاومة ضد النظام الهتلري وتصدع الجبهة
الرابعة نهائيًّا، فضلًا عن أنها كانت بمثابة المعول الذي هدم ذلك البنيان الشامخ: آلة
الحرب النازية. فإنه بمجرد أن سرى التذمر في الجيش بين صفوف الجند وضباطهم وكبار قوادهم،
بات انهيار ألمانيا أمرًا لا مفر من حدوثه.
فقد عُرف عن الألمان من قديم الزمن أنهم يعنون بتنظيم الجيش عناية كبيرة، ومع ذلك
قد يخفى
على الكثيرين أن الجيش الألماني كان يُعد أعظم الجيوش الديمقراطية إطلاقًا بعد الجيش
الأحمر، وسبب ذلك أن الألمان حين خسروا الحرب العالمية الأولى، رغبوا في الانتفاع من
دروس
الهزيمة القاسية، وقد وجدوا أن النظام القيصري القديم كان من عوامل تلك الهزيمة؛ إذ كان
القواد والضباط والجنود يؤلفون طبقات منفصلة جعلت من المتعذر قيام الألفة والتفاهم بين
الرتب العسكرية المختلفة؛ ولذلك حرص الألمان منذ أيام جمهورية ويمار، على أن يزيلوا هذه
الفوارق على الأقل بين الضباط وضباط الصف وبقية الجند. وعندما وصل النازيون إلى الحكم
درجوا
على ذلك حتى خرج إلى عالم الوجود في النهاية جيش «ديمقراطي» شديد التماسك دقيق النظام،
يشعر
أفراده شعورًا قويًّا بأنهم إنما يؤلفون مجموعة واحدة تربط بينهم جميعًا أواصر التفاني
في
خدمة الوطن. وعلى ذلك ظل الجيش الألماني في مراحل الحرب العالمية الثانية قوة متماسكة
لا
يمكن أن يجد الوهن إليها سبيلًا، وكان من أسباب ذلك أن جميع الانتصارات التي أحرزها
النازيون حتى منتصف عام ١٩٤١، كانت انتصارات سهلة لم تكلفهم جهودًا كبيرة بل كانت كل
القوة
التي اعتمد عليها الألمان في كسب معاركهم لا تزيد على ربع مليون رجل وحوالي اثنتي عشرة
فرقة
من فرق الهجوم المصفحة، وبضعة آلاف من رجال الطيران والغواصات، أي إن النازيين — بعبارة
أخرى — اعتمدوا في إحراز انتصاراتهم على الجيش المحترف، وعماده الجند المدربون الذين
خدموا
زمنًا طويلًا وتغلغلت فيهم روح التنظيم العسكري الألماني، وعرفوا تقاليد الجيش الألماني
وحرصوا على الذود عنها. ولكن الأحوال لم تلبث أن تغيرت عندما اضطر النازيون منذ أن بدأت
الحرب الروسية في يونية ١٩٤١ إلى تجنيد كل شاب في سن الخدمة العسكرية صالح لحمل السلاح،
فضموا إلى الجيش الألماني فرقًا جديدة جمعوا جنودها من بين أعضاء تلك «الجبهة الرابعة»
التي
كان يخافها «هيملر» كل الخوف منذ عام ١٩٣٧، ويرى فيها عوامل انحلال عاجل أو آجل إذا تُركت
وشأنها، ولم يفرض عليها «الجستابو» نطاقًا من المراقبة الشديدة، ولم يكن «هيملر» في مخاوفه
هذه مخطئًا أو مغاليًا.
فإن هذه «الجبهة الرابعة» التي قام أعضاؤها — من الصناع والعمال والزراع والموظفين
المدنيين — بجميع أنواع المقاومة الإيجابية والسلبية في داخل الريخ الألماني، على النحو
الذي تقدم ذكره لم يلبث أن ظهر نشاطها في ميادين القتال أيضًا، وبخاصة في الميدان الروسي
الكبير الذي كان يتطلب من الألمان حشد الألوف من شبان الريخ لمنازلة الجحافل الروسية،
ولا
جدال في أن تلك المقاومة كانت مقصودة، فضلًا عن أنها كانت نتيجة حتمية لما حل بالجنود
من
التعب والملل والشكوى من سوء التموين، والتذمر من قلة الملابس والتعرض لبرد الروسيا القارص،
واليأس من إحراز النصر السريع، على نحو ما كان يعدهم به الهر هتلر من جانب، ويغرر بهم
الهر
جوبلز بدعايته الواسعة العريضة من جانب آخر. وقد ظهرت المقاومة في أشكال متنوعة، كان
منها
هروب المقاتلة الألمان وتسليمهم من غير قتال وامتناعهم عن تنفيذ أوامر الهجوم وتفضيلهم
التقهقر في الميدان على مواجهة العدو، ثم التذرع بشتى الوسائل عقب وقوعهم في الأسر
واطمئنانهم إلى أنهم قد أصبحوا بعيدين عن مخالب الجستابو؛ لإظهار كراهيتهم وبغضهم للنظام
النازي وللزعيم، وعصابته. وما لبثت حوادث هذه المقاومة أن استرعت أنظار الروس عقب نشوب
الحرب بينهم وبين النازيين، وذلك على الرغم من أن انتصارات الألمان كانت قد جعلتهم في
الشهور الأولى من عام ١٩٤٢ على مقربة من ليننجراد وتجاوزت بهم «سمولنسك» ومكنتهم من التوغل
في الأوكرين، فبدأ الروس يدرسون أحوال الهاربين والأسرى الألمان دراسة منظمة تلقي ضوءًا
كبيرًا على حقيقة هذا النوع من المقاومة. وسواء كانت هذه المقاومة ذات أثر فعال في اندحار
النازيين في النهاية أو تضافرت عوامل أخرى أشد خطرًا على تقويض دعائم الريخ الثالث؛ فإن
وجود هذه المقاومة في مراحل الحرب الأولى دليل على أن الهتلريين قد أخفقوا في استمالة
سواد
الأمة الألمانية إلى تأييد ذلك النظام، الذي فرضوه على ألمانيا فرضًا ثم أرادوا تطبيقه
على
بقية أوروبا النازية، وأسطع برهان على هذا الإخفاق أن الجندي الألماني الذي عمد إلى الفرار
من الخطوط الأمامية أو التسليم أو عصيان الأوامر أو عدم الثبات أمام العدو في بداية الحرب
مع روسيا كان — من غير شك — لا يجد في تلك الفلسفة التي قامت عليها دعائم النظام النازي
أيةَ مُثل عليا خليقة بتضحية النفس، وبذلها رخيصة في سبيل تحقيقها.
فقد أخذ عدد الهاربين من المقاتلة الألمان إلى الجيش الأحمر يزداد منذ بداية الحملة
الروسية حتى بلغ درجة جعلت من المتعذر الاعتقاد بأن حوادث الهرب كانت حوادث فردية، ولا
تدل
على فقدان الرغبة في القتال لدى شطر من الجنود الألمان في الجبهة الشرقية. ومنذ ١٨ مارس
١٩٤٢ أشارت صحيفة النازيين الرسمية «فولكشير بيوبختر» إلى هذه الحالة إشارة خفية عندما
قالت:
إن الجنود الألمان يفكرون في البرد والقمل وغيره من كلام أكثر مما يفكرون في
وطنهم، فإذا فتح جندي فاه في الجبهة الروسية فعل ذلك دائمًا للشكوى من البرد أو من
أن مطبخ الميدان لا يُعد الطعام في موعده، أو من أن الخبز قديم أو غير ذلك من
الشكاوي.
وجاء في مفكرة يومية عثر عليها الروس بين أوراق «ألفريد روهيل» أحد الضباط الألمان
الذين
سقطوا في الميدان الأوسط بالقرب من «أفاوفو» في غربي موتزايسك في آخر يناير ١٩٤٢ ما يؤيد
انتشار روح التذمر في الجيش إبان الحملة الروسية. فقد دون هذا الضابط في مذكرته بتاريخ
٢٨
ديسمبر ١٩٤١: «إنه من الصعب على المرء أن يفهم ما يحدث الآن، فإننا نتقهقر، مع أننا لم
نتقهقر في بولندة، ولم نتقهقر في فرنسا أو اليونان، ولكن هنا في الروسيا، بدلًا من التقدم
إلى الأمام بدأنا لسبب ما نتقهقر، وهذا أمر يصعب فهمه لا سيما وأن «الزعيم» أكد لنا أن
الروس سوف يخرون صرعى، وأن الحملة الروسية لا بد منتهية في ختام عام ١٩٤١ حتى يستطيع
الانتهاء من الإنجليز أيضًا في عام ١٩٤٢. ولكن هذه الآمال تنهار الآن كأنها بيت من الورق.»
وكتب الضابط أيضًا في ٨ يناير ١٩٤٢: «لقد أصبح جنودنا غير أولئك الذين عهدناهم من قبل،
إنهم
الآن يلزمون الصمت ويصعب على المرء أن يجد من يتحدث إليه منهم، بل إنه ليبدو عليهم التجهم
وعدم الثقة، وصحيح أن الجنود ما زالوا يخشون بأس الضباط، ولكن العلاقات القائمة بين الطرفين
قد تغيرت نوعًا ما، حتى إن الإنسان ليشعر بوجود توتر غير طبيعي. وذلك نذير سوء.» وكتب
في
اليوم التالي: «اختفى من فرقتنا أمس ثلاثة رجال، ولم يكن هذا الحادث الأول من نوعه، والظاهر
أنهم هربوا أو سلَّموا للعدو.» وكتب في ٢٠ يناير: «اخترق الروس صفوفنا ثانيةً، ونحن في
خطر
التطويق وخسارتنا جسيمة، والجنود متجهمون، يبدو عليهم الوجوم، وحبذا لو أمكن معرفة ما
يجول
بخاطرهم، ولكنهم يلزمون الصمت دائمًا، وهذا الصمت يرهق أعصابنا كثيرًا.» وذكر في ٢١ يناير:
«لا شك أن الجنود يكثرون من الكلام فيما بينهم، ولم يعد النظام دقيقًا، وحدث أمس أن الجندي
«هانز إيبرت» أُرسل إلى مركز أمامي للمراقبة، ولكنه سرعان ما رجع إلى الجنود لاهثًا
مذعورًا، ولم يعد إلى مركزه إلا بعد أن هُدد بإطلاق الرصاص عليه.» وفي ٢٢ يناير كتب يقول:
«تزداد نفسية الجنود سوءًا يومًا بعد يوم … وقد حدث أمس أن رفض عدد منهم القيام بهجوم
مضاد،
حتى اضطررنا إلى تهديدهم بإطلاق نيران المدافع الرشاشة عليهم. وقد حاول ثلاثة من الرجال
التسليم إلى العدو، فأُعدموا رميًا بالرصاص. إن النجدات التي تصل إلينا هي من رجال
الاحتياطي غير المدربين …» وأخيرًا دوَّن في مذكرته بتاريخ ٢٤ يناير: «وصلت إلينا أوامر
تحتم علينا عدم التقهقر خطوة واحدة، وقد أُنذر الضباط بأنهم سوف يُقدمون إلى المحاكم
العسكرية إذا انسحبوا أو تقهقروا قبل أن تصل إليهم أوامر بذلك. ولكن إصدار الأوامر شيء،
وإطاعتها شيء آخر، ويبدو أن القيادة العامة لا تدري بكل ما يجري في هذه الجهات على وجهه
الصحيح … إن معركة اليوم يُقصد من ورائها الاستيلاء على «أفاروفو» …» وفي هذه المعركة
قضى
صاحب المذكرات نحبه.
ومن أمثلة التسليم المقصود إلى العدو ما وقع في أكتوبر ١٩٤١ في الجبهة الشمالية عندما
أُرغم جنود إحدى آلايات المشاة على رفع راية التسليم البيضاء، فقد غادروا أماكنهم آخذين
معهم ضابطهم وسلموا أنفسهم لرجال الجيش الأحمر، وقد حدث أن وقف أحد هؤلاء الجنود خطيبًا
يتنبأ بقرب انهيار النازية ويحض الجنود الألمان على وقف القتال. وحدث في فبراير ١٩٤٢
أن
عُهد إلى فريق من جنود المشاة بمهمة تغطية تقهقر الجيش، ولكنهم بدلًا من ذلك «لم يطلقوا
رصاصة واحدة على العدو، وعندما اقترب الروس منهم، أرسل رئيسهم مندوبًا يبلغهم رغبة جنوده
في
التسليم». وفي غير الميدان الروسي أمثلة عدة للهرب من الجيش والتسليم للعدو ورفض القتال،
حتى إن القيادة العليا الألمانية وجدت من الضروري إرسال الجستابو وطائفة من الجنود
المتحمسين للنازية للانضمام إلى القوات المحاربة في الميدان لمراقبة الهاربين أو الراغبين
في التسليم أو الممتنعين عن تنفيذ الأوامر والقبض عليهم وتقديمهم إلى المحاكم العسكرية
أو
إطلاق الرصاص عليهم بدلًا من ذلك في التو والساعة. فقد حدث في نوفمبر سنة ١٩٤١ أن رفضت
وحدة
ألمانية في ليل Lille على حدود فرنسا الشمالية الشرقية
مغادرة الثكنات والانتقال إلى الجبهة الشرقية، فأُطلق الرصاص على تسعة وعشرين منهم، وأُلقي
القبض على ثلاثمائة، وأُعدم في الشهر نفسه ستة من الجنود الألمان في بتسامو في طرف فنلندة
الشمالي لمحاولة الهرب. وفي ٢٣ ديسمبر ١٩٤١ حدث في قرية «ميليخوفو» بالقرب من «بلجورود»
أن
رفض تسعون جنديًّا إطاعة أوامر الهجوم فأُطلق الرصاص عليهم. وفي يناير ١٩٤٢ أُطلق الرصاص
على عدد من جند الآلاي السابع والثلاثين بعد المائة بسبب التمرد والعصيان. وفي نفس الشهر
أُعدم ثلاثة عشر جنديًّا ألمانيًّا في «أسن» وثمانٍ في «ليبزج»؛ لرفضهم الذهاب إلى الجبهة
الشرقية. وفي فبراير ١٩٤٢ أُعدم ثلاثة وستون من الألمان في «نانسي» بفرنسا؛ لأنهم رفضوا
الذهاب إلى خطوط القتال الروسية، وفي نفس الشهر هرب عشرة جنود في أثناء نقلهم بالسكة
الحديد
من أحد المراكز بفرنسا، وضُبط واحد منهم فانتحر قبل محاكمته.
وثمة ظاهرة أخيرة تدل على مبلغ ما كان هناك من شعور عدائي مشترك بين أسرى الحرب الألمان
نحو النازية وزعيمها أنه لم تكد السلطات السوفيتية في معسكرات أسرى الحرب تسمح بتأليف
الجمعيات الأدبية للخطابة والمناظرة، وما إلى ذلك حتى انتهز هؤلاء الفرصة للخوض في مساوئ
الوطنية الاشتراكية والتدمير الذي تم على أيدي الزعماء النازيين الذين ألقوا — تلبيةً
لأطماعهم وخدمة لمآربهم الشخصية — بملايين الرجال من الألمان، ومن حلفائهم «المكرهين»
على
التعاون معهم إلى ميادين القتال.
وكان من المتوقع بطبيعة الحال أن تشجع السلطات السوفيتية هذه الحركة فسمحت بذهاب الوفود
من الأسرى الألمان لزيارة أسرى الحرب الرومانيين وغيرهم؛ لنشر الدعوة ضد النازية وبيان
مبلغ
الأخطار التي تستهدف لها البلاد المحتلة من جراء تعاونها مع النازيين، وزيادة على ذلك
أذنت
السلطات السوفيتية بعقد اجتماعات كبيرة يحضرها مندوبون عن معسكرات أسرى الحرب جميعًا؛
لتوضيح موقفهم من النازية وتوثيق العلاقات بين كافة أسرى الحرب على أساس التخلص من الهر
هتلر والنازيين كخطوة لا غنى عنها لنشر ألوية السلام على أوروبا. وفي يناير ١٩٤٣ اجتمع
في
أحد معسكرات أسرى الحرب في الروسيا مندوبون عن سائر معسكرات الأسرى بلغ عددهم ٨٧٦، وكان
معظم المندوبين من الألمان برئاسة «الأونباشي» ردولف وولف من برلين، ثم كثرت اجتماعات
أسرى
الحرب في الشهور التالية. فحدث في فبراير أن حضر إلى المعسكر رقم ٩٥ حوالي مائة وتسعين
مندوبًا يمثلون ١٢٤٢ من ضباط الصف في المعسكرات الأخرى. وبعد أسابيع قليلة — أي في أواخر
مارس — عقد الأسرى الألمان الذين وقعوا في الأسر بين ديسمبر ١٩٤١ وفبراير ١٩٤٢ اجتماعًا
في
المعسكر رقم ٧٤، واتخذوا قرارًا طويلًا، ختموه بعبارة رنانة: «لتسقط الحرب، وليسقط هتلر
وعصابته، وليحيَ النضال من أجل ألمانيا الحرة!» وفي فبراير ومارس من العام نفسه أصدر
ثمانية
وعشرون ضابطًا من أسرى الحرب الألمان في روسيا نداءً طويلًا أذاعته المحطات الروسية وكذلك
المحطات السرية في الريخ الثالث عدة مرات، أوضح فيه الضباط لأبناء وطنهم كيف غرر هتلر
وعصابته بأهل البلاد وزجوا بهم من أجل أطماعهم الجنونية في حرب يفنى فيها مئات الألوف
من
الشباب سدى، وأنه لا يمكن أن تنتهي ما دام هتلر في الحكم؛ لأنه لن يعقد إنسان أي صلح
معه
بينما تستطيع حكومة وطنية يؤيدها الجيش ويوليها الشعب ثقته أن تحصل لألمانيا على صلح
خليق
بأمة عظيمة، فكان هذا النداء دعوة صريحة للثورة على النازيين في ألمانيا.
وقد يتبادر إلى الذهن أن أسرى الحرب كانوا مدفوعين لظروفهم الخاصة إلى إظهار هذا العداء
وهذا البغض نحو النازية وزعيمها، ولكن الحقيقة كانت على عكس ذلك تمامًا، بل إن هناك من
الأمثلة الكثيرة الأخرى ما يكفي لإظهار مبلغ التصدع للجيش الألماني وقتذاك. ولعل من أخطر
هذه الحوادث ما وقع في إقليم «الفوج» الفرنسي على الحدود الشرقية بين فرنسا وألمانيا
في
فبراير ١٩٤٢، عندما التحم الجند الألمان مع حرس «هيملر» في معارك دموية كما حدث بالقرب
من
باريس في الوقت نفسه أن أُعدم ثمانية من الجنود الألمان؛ لارتكابهم جريمتي التخريب ومحاولة
الهرب. وفي «بار دوبيش» في تشيكوسلوفاكيا سار الجنود الألمان في مظاهرة كبيرة؛ فطافوا
بشوارع المدينة وهم يصيحون: «نطلب الصلح ونريد العودة إلى الوطن.» فما لبث رجال «هيملر»
أن
حضروا مسرعين وأطلقوا الرصاص، فقتلوا من المتظاهرين ثمانية وجرحوا ثلاثين وألقوا القبض
على
ستين منهم. وحدث في أوائل عام ١٩٤٣ أن اختفى فجأة عدد من القواد في ظروف غامضة كان من
بينهم
الجنرال «فون ريشناو» عدا غيره من كبار الضباط الألمان، وقد أذاعت المحطات السرية الحرة
الألمانية وقتذاك تفصيلات عن ظروف اختفائهم ثم إعدامهم بعد ذلك. ويتبين من هذه التفصيلات
أن
أحد عشر ضابطًا من كبار رجال الطيران الألماني الذين قتلهم «الجستابو» كانوا جميعًا قد
وقَّعوا بأسمائهم على «مذكرة» يعارضون فيها هيملر، فكان توقيعهم على هذه المذكرة السبب
المباشر لسفك دمائهم.
وكان «هيملر» قد طلب في ذلك الحين أن يكون لدى فرق الحرس النازي من أصحاب القمصان
السود S. S. الخاضعين لرياسته قوة منفصلة من السلاح
الجوي خاصة بها، فلقي هذا الطلب معارضة شديدة من الجنرال «براو شيتش» ومن هيئة القيادة
العليا للجيش الألماني، ومن جانب فريق من كبار الضباط وخصوصًا في سلاح الطيران، وكانت
حجة
المعارضين أنه ينبغي الاحتفاظ بوحدة القيادة العليا العسكرية وعدم تجزئتها، وأنه ما دامت
التنظيمات النازية الحزبية المعروفة، وهي فرق الهجوم وفرق الحرس قد دخلت في خدمة الجيش،
فقد
أصبح من المتحتم عليها الخضوع التام لنظامه. وأمام هذه المعارضة، رأى «هيملر» أن يلجأ
إلى
«هتلر» حتى يحصل على تأييده، ولكن «هتلر» كما كانت عادته في هذه الأمور ظل مترددًا، ورأى
تأجيل الفصل في هذا الموضوع، وعندئذ وجد الضباط والقواد بدورهم، وكانوا قد فاتحوا «هتلر»
نفسه في الأمر، أن يستميلوا إلى جانبهم «هرمان جورنج». بيد أن «جورنج» الذي كان قد بدأ
يفقد
في تلك الأونة ذلك النفوذ القديم الذي تمتع به طويلًا، لم يلبث أن رأى من مصلحته عدم
القطع
برأي حاسم قد يُرضي فريقًا ويغضب فريقًا آخر، وفضَّل بدلًا من ذلك أن تظل علاقاته طيبة
مع
الجماعتين، ولكنه لما كان يرى في شخص «هيملر» منافسًا خطيرًا له فقد لجأ إلى استخدام
الجنرال «ميلش» وسيطًا لدى كبار ضباط الطيران في السلاح الجوي حتى يطلب إليهم إعداد «مذكرة»
في هذا الموضوع يرفعونها إلى هتلر، متضمنة احتجاجًا شديدًا على ما يريده «هيملر»، وقد
أعد
هؤلاء الضباط المذكرة فعلًا، وكان عددهم أحد عشر، وعلى رأسهم كل من «أوديت»، «مولدرز»،
و«فون فيرا» و«ويلبرج»، فكانت نتيجة ذلك أن اختفى الموقعون عليها في أيام قليلة، فجاء
هذا
الحادث دليلًا جديدًا — إلى جانب حوادث أخرى من نوعه — على أن الضعف قد بدأ يتطرق إلى
قوة
الحرب الألمانية بسبب ذلك الانقسام القائم على وجه الخصوص بين المنظمات النازية العسكرية،
وهي تنظيمات حزبية وقوة الجيش المقاتلة النظامية في ألمانيا. وأحدث انقسامًا كبيرًا بين
كبار القواد الألمان فشلُ الألمان في الاحتفاظ بستالينجراد في أواخر عام ١٩٤٢، واضطرارهم
إلى تسليمها للروس ثم التقهقر المستمر في الجبهة الروسية منذ نوفمبر من العام نفسه إلى
أواخر ١٩٤٣، وبدأ جماعة من الضباط الألمان في الجبهة الروسية يضعون الخطط من أيام تسليم
«فون باولوس» في ستالينجراد لإسقاط هتلر، وسرعان ما تطورت هذه الخطط بعد ذلك حتى أصبحت
مؤامرة طفق أصحابها يضعون التدابير لاغتياله، وكادت المؤامرة تنجح وقتذاك لولا أن الصدفة
وحدها جعلت هتلر يغادر مركز القيادة قبل تنفيذها بحوالي خمس وعشرين دقيقة.
وكانت معركة ستالينجراد فاتحة شؤم على الجيوش الهتلرية؛ إذ انهالت عليها الضربات من
كل
جانب، فنزلت القوات البريطانية والكندية في جنوبي إيطاليا في سبتمبر ١٩٤٣، واستمر زحفهم
إلى
الشمال طوال العام التالي، وأزال سقوط «كاسينو» العقبات التي كانت تعترض سبيل الحلفاء
في
الطريق إلى روما «مايو ١٩٤٤»، فتقهقر الألمان بدون نظام أمام الغزاة. وفي أوائل يونية
نزلت
القوات البريطانية والأمريكية من البحر والجو على ساحل أوروبا الغربي في مقاطعة نورمانديا،
فأعلن تشرشل في مجلس العموم البريطاني في ٦ يونية ١٩٤٤ بدء الغزو وفتح الجبهة الثانية،
وبدا
كأنما قد أطبقت جحافل الحلفاء على «قلعة هتلر» التي ظلت مصدر رعب وفزع ردحًا من الزمن،
وأنه
لا مفر من تقويض أركانها بسرعة خاطفة، وعندئذ أفاق الزعماء النازيون من غفلتهم، وكان
من
المتوقع أن يتضافروا على دفع هذه الكارثة التي نزلت بساحتهم، ولكن بدلًا من ذلك فوجئ
العالم
يوم ٢٠ يولية ١٩٤٤ بإذاعة من برلين أن فريق القواد المتذمرين في الجيش الألماني منذ أيام
الحملة الروسية أرادوا اغتيال هتلر، ومع أن العناية الألهية وحدها — على حد قول إذاعتهم
—
هي التي أنقذت هتلر من الموت في «أوبرسالزبرج»، وأن جوبلز استطاع أن يحبط محاولة «عصبة
كبار
الضباط للاستيلاء على مباني الحكومة في برلين»، فإن الأمر كان على جانب عظيم من الخطر؛
إذ
ثبت أن عددًا من كبار القواد الذين قادوا الجيوش الألمانية المنتصرة في السنوات الماضية
كانوا ضالعين مع المتآمرين أو كانوا على الأقل من الناقمين على هتلر وجماعته، فعُزل هؤلاء
من مركز القيادة، وكانوا الفيلد مارشال فون رونشتد القائد العام السابق للجيش الألماني
في
غرب أوروبا، والفيلد مارشال فون براوشتش قائد القوات الألمانية البرية العام سابقًا،
والفيلد مارشال فون بوك أحد قواد الجيش في روسيا، وزملاؤه الثلاثة في الحملة الروسية
الفيلد
مارشال فون لبيب، والفيلد مارشال فون مانشتين والفيلد مارشال فون كلايست، ثم الجنرال
فون
فالكنهاوسن القائد العام السابق في هولندة. وفضلًا عن ذلك فقد تمردت وحدات من القوات
البرية
والبحرية، وقام الأهلون بحركة عصيان واسعة في المناطق الصناعية التي خربتها قذائف طائرات
الحلفاء في ستوتجارت وشواينفرت وبريمن وميونخ، ونشبت الثورة بين وحدات من الجيش الألماني
في
جنوبي ألمانيا واشتبك الجيش مع الجستابو في جهات مختلفة بألمانيا، ووقعت مصادمات بين
شراذم
الهجوم وجنود الجيش الألماني في فرنسا في بوردو وليموج ونيم ونانت، وأعطى الفوهرر هيملر
سلطات واسعة فقام الآخر بعمليات تطهير واسعة قاسية، فانقض الجستابو على كل من اشتبهوا
في
أمره يعدمونه رميًا بالرصاص أو يرسلونه إلى معسكرات الاعتقال، ونُفذ الإعدام في كثير
من
المقبوض عليهم، وأُودع غياهب السجون عديدون من العلماء والنبلاء ورجال المال والصناعة.
وتألفت في أوائل أغسطس ١٩٤٤ «محكمة الشرف»، وكانت مهمتها عزل القواد الذين تحوم حولهم
الريب
في الجيش، ورفع أسمائهم إلى هتلر حتى يتخذ قرارًا بتقديمهم إلى «محكمة الشعب الألمانية»،
فباشرت محكمة الشرف مهمتها، وأصدرت قرارها بإدانة كثير من القواد وفصلهم من خدمة الجيش،
وبعد محاكمة دامت يومين أصدرت محكمة الشعب الألمانية أحكامها على ثمانين من القواد
بالإعدام، ثم نُفذ فيهم الحكم شنقًا.
ووسط هذا الاضطراب الشامل ظلت تجيء الأخبار السيئة من كل جانب منبثة بتحرج الأمور
في
الميدان الروسي والجبهة الغربية وميدان إيطاليا، ولم يُحدث إعدام القواد المتآمرين أو
الضالعين معهم أو انتحار فريق منهم أي تأثير في بقية الضباط والقواد المتذمرين في الجيش
الألماني حتى إنه في أوائل سبتمبر كان شغل هؤلاء الشاغل إفساد جميع الخطط التي كان يضعها
الفوهرر لمنع إطباق العدو على دولة الزعامة المسئولة، فقد رفض الجنرال فون شولتز أن ينفذ
أوامر هتلر له بتدمير أقصى ما يمكن تدميره من باريس حتى يتأخر زحف الحلفاء في فرنسا
وبلجيكا، وعظم الشعور بأن اهتمام القواد الألمان كان منصرفًا إلى محاولة إدخال قوات الحلفاء
الزاحفة من الغرب إلى ألمانيا قبل وصول الروس إليها، واعترف جوبلز بحرج موقف ألمانيا
في
منتصف سبتمبر.
وفي أواخر الشهر نفسه بعث فون رونشتد بتقرير عن سوء الموقف في الجبهة الغربية، فاشتد
القلق بالهر هتلر وفقد السيطرة على أعصابه؛ إذ بات متيقنًا من تدهور الروح المعنوية في
نفوس
قواد الجيش الألماني، وذلك علاوة على ما كان يخامره من ريبة شديدة في ولائهم أو في عزمهم
الصمود أمام العدو، ولمس هتلر تدهور الروح المعنوية في أقرب الناس صلة به وتطايرت الشائعات
أن هيملر وجوبلز وجورنج وغيرهم من كبار رجال حكومة الريخ الثالث يعدون العدة للفرار من
ألمانيا، حينما يرون بوادر الانهيار التام تلوح للأبصار، ولكن إطباق الروس عليهم من جانب
وقوات الأمريكيين والبريطانيين من جانب آخر، لم يدع لهؤلاء الزعماء والقواد فرصة للهرب،
وكان الروس أول من طرق أبواب برلين، ونشطت طائرات الحلفاء في تسديد الضربات القاصمة إلى
قلب
الريخ الألماني، وكان على إثر إحدى هذه الغارات الشديدة أن لقي الهر هتلر حتفه تحت أنقاض
دار المستشارية في ١-٢ مايو ١٩٤٥، واختلفت مصائر بقية الزعماء؛ فآثر جوبلز الانتحار،
أما
بقية الزعماء فقد قدمهم الحلفاء المنتصرون إلى المحاكمة في نورمبرج إحدى معاقل النازية،
وأصدرت المحكمة العسكرية الدولية حكم الإعدام على المرشال «هرمان جورنج» والمرشال «ويلهلم
كيتل» والجنرال «ألفريد يودل» و«هانز فرانك» و«يوليوس شترايخر» و«سايس أنكوارت» و«يواكيم
فون رينتروب» و«أرنست كالتنبرونر» و«ألفريد روزنبرج» و«ويلهلم فريك» «وفريتر سوكل»، وصدر
حكم الإعدام أيضًا غيابيًا على مارتن بورمان الذي اختلفت الآراء في مصيره، كما حكمت بالسجن
المؤبد على رودلف هيس والأميرال رايدر وولتر فونك، وحكمت على الأميرال «دونتز» بالسجن
عشر
سنوات وبخمسة عشر عامًا على فون نوراث، وبعشرين سنة على بالدور فون شيراخ وألبرت سبير،
وقد
أُفرج عن كل من هيالمار شاخت وهانز فريتش، وفرانز فون بابن، وكان إصدار الحكم بتاريخ
أول
أكتوبر ١٩٤٦، وقد نُفذ حكم الإعدام شنقًا في ١٦ أكتوبر ١٩٤٦، وأما جورنج فقد انتحر قبل
تنفيذ الحكم بساعات، وقد أُحرقت جثث الأحد عشر زعيمًا فصارت رمادًا تذروه الرياح.