أحمد بهاء الدين: مصر التي في خاطره
رأيتُ أحمد بهاء الدين — للمرة الأولى — وهو يغادر مبنى جريدة «الشعب»، بعد أن قدَّم
استقالته. يتقدَّمه الساعي، حاملًا كتبه وأوراقه.
كنتُ أستند إلى جدار الفيلا المواجهة، أترقَّب وصول أحمد عباس صالح لأعرضَ عليه محاولاتي
الإبداعية، وأطلب عونه في البحث عن فرصة عمل بالشعب، أو سواها من الصحف. كان موظَّف
الاستعلامات يُصِر أن أقف بعيدًا عن المبنى، حتى يصلَ أحمد عباس صالح، فأتقدَّم
للقائه.
كنتُ قد تعرَّفتُ إلى بهاء — كقارئ — في كتابه «فاروق ملكًا». صدَر عقب قيام الثورة
بأشهرٍ قليلة. قدَّمه إحسان عبد القدوس بكلماتٍ متحمِّسة، وأتمَمتُ قراءة الكتاب في
ليلتَين. لم أكن جاوزتُ الرابعة عشرة، لكن بساطة الأسلوب — المفردات والتعبيرات وطريقة
التناول — دفعَتْني إلى مواصلة القراءة دون مشقة.
ثم تابعتُ أحمد بهاء الدين في كل ما يكتب: رحلاته على الورق، و«خارج الحدود»، وتحليلاته
السياسية، وحواراته، ثم عموده «يوميات» في الصفحة الأخيرة بالأهرام.
•••
أحمد بهاء الدين — كما وصف نفسه بحق — يعيش بالأفكار. هي همُّه واهتمامُه. يكاد يتحدَّث
عن نفسه في حديثه عن «الذين يشمل إحساسهم بالمسئولية هذا العالم بأَسْره، والجنسَ
البشريَّ
كله. وهذا النوع — عادة — من واسعي الثقافة، الذين يرَون بين أنحاء هذا العالم الواسع
روابطَ ووشائجَ لا يراها الآخرون. يحزنون لقنبلةٍ تُلقى في آسيا، أو لمشنقةٍ تُقام
في
كينيا، ويشعرون بأنهم مسئولون، ويُحاوِلون القيام بدورٍ يتلاءم مع قدراتهم، ومدى إحساسهم
بهذه المسئولية.»
١
إن مهمة المثقَّف — في تقديره — ليست التعبير، وإنما الاستنهاض. ليس الكلام باسم
الضمائر،
وإنما الفعل المحرِّك لكل أجزاء الجسم الاجتماعي. يقول: «لا يمكن أن يجد إنسانٌ شريف
راحة
ضميره في أن يكرِّس علمه وجهده، لكي يحقِّق لنفسه أحلام الراحة والهدوء والأمن، في
وسط
عالمٍ يزخر بالقلق والظلم والصراع، لا يمكن أن يقرأ مجلَّداته في حجرةٍ مضاءة، وخارج
نافذته
عالمٌ بأكمله يُطبِق عليه الظلام. وهذه الثقافة الرفيعة كلها، إذا كانت لا تخلُق في
صاحبها
ضميرًا حيًّا، فكأنها لم تصنع به شيئًا. إن العقل في الإنسان — مهما بلغت قدرته —
لا يغني
عن الضمير، وإنَّ ضميرًا بغير عقل، لخيرٌ ألف مرة من عقلٍ بلا ضمير.»
٢ و«المصري الحقيقي هو الذي يؤرِّقه العدوان على وطنه، كما يؤرِّقه أن يرى معظم
مواطنيه يعيشون دون الكفاف، ويؤرِّقه أن تقوم أي ظروفٍ تسمح باستغلال المصري للمصري،
تحت
ستار أن الكل مصريون فقط.» … «إن كل مواطنٍ مصري كفيلٌ بأن يعمل شيئًا لبيئته وبلده،
لو
تمكَّن من عبور حاجز اليأس والاتكال، وحواجز المقاومة!»
٣ بل إنه إذا كان الكاتب صاحب الرأي قد كوَّن لنفسه عَبْر الأيام رصيدًا ما لدى
قُرائه، فإن الواجب عليه في المواقف الحرجة والقضايا الأساسية، أن يقول رأيه، حتى
لو ضحَّى
— في هذا المجال — بجزءٍ من هذا الرصيد. أولًا — والقول لبهاء: لأنني أعتقد أن القارئ
يحترم
الكاتب إذا شعَر أنه أمينٌ مع رأيه، حتى لو اختلَف معه، ورأى أنه على خطأ. ثانيًا:
ما فائدة
هذا الذي تسمُّونه رصيدًا لكاتبٍ ما لدى قُرائه، إذا كان ليس مستعدًّا لفقد جزء منه،
وفاءً
لمهمته الحقيقية، وهي الأمانة في رأيه، وفي نُصحه لقومه؟ إن الكاتب إذا نظر إلى هذا
الرصيد
فقط، وحرص على زيادته بمسايرة كل ريح، ولو كانت خاطئةً أو خَطِرة، أصبح مثل البقَّال
الذي
يهمُّه زيادة الزبائن، بصرف النظر عن نوع الطعام، أو منتجي السينما الذين ننتقدهم
حين
ينظرون إلى الشبَّاك فقط.
٤
•••
الحب — في تقديري — ليس مجرد ترديد كلماتٍ جميلة. ليس مجرد بذل وعود، قد لا تتحقق.
إنما
الحب تصرفاتٌ تعكس حالة الحب. ذلك ما أكَّدتُه في أكثر من مناسبة، سواء في مقالاتٍ
كتبتُها،
أو في حواراتٍ أجرِيَت معي. أتفق في ذلك تمامًا مع أحمد بهاء الدين، بل لعلي أجعَل
مِن بهاء
وسواه مِن الذين جعَلوا مصر داخلهم، مثلًا لما أكتبه، أو أقوله … أقول: أتفق في ذلك
مع
بهاء؛ فهو يرى أن كثرة التغنِّي في حب مصر ظاهرةٌ مرَضيَّة؛ لأن حب الوطن لا يحتاج
إلى
إثبات في كل لحظة. «المصرية» هي الانتماء لشعب مصر، لا بالتسلُّق على أكتافه والاستهتار
بآلامه، والمتاجَرة بمعاناته، ثم التلويح بالأعلام والهتاف الأجوف باسم مصر.
٥ الوطنية هي حب الوطن، من خلال حب المواطنين، لا من خلال تقديس الفِرعَون الذي
يقسِّم المناصب والأرزاق؛ ومن ثم فهو يرفض مقولةَ المستبِد العادل؛ لأن المستبد العادل
والمستبِد المجنون كلاهما مستبِد. بل إن المستبِد المجنون خَطْبُه أهوَنُ وأيسَر؛
لأن
استبداده أقصر!
٦ ويرفض كذلك هؤلاء «الذين يكتفون بحب مصر على أمواج الإذاعة وشاشات التليفزيون،
والأناشيد الغنائية، والمقالات الغرامية. إننا فقط نريد من هؤلاء أن يحبوا مصر في
غير
التمثيليات والخُطَب والمقالات والأناشيد، نريدهم أن يحبُّوا مصر بأن يحبُّوا شعبها؛
فهذا
هو الحب الأصيل، وليس مجرد حبها لظلِّها الظليل، وأن يحبُّوا شعبها هو أن يكافحوا
لكي يتعلم
الطفلُ المصري أحسن، ويعمل المواطنُ المصري أحسن، ويجدِّد مرافق حياته التي صارت بدائية،
كمواسير المياه والمجاري والمواصلات العامة والشوارع المدمَّرة. الوطنية اليوم بالممارسة،
لا بالأغنيات والأناشيد والمهرجانات.
٧
إن تاريخ هذا الشعب يجب أن يُكتَب، وبأدق التفاصيل، لا لمجرد المباهاة، ولا لتمجيد
الأبطال؛ فقد أدَّوا واجبهم، ودفَعوا أرواحَهم ومَضَوا … لكن الهدف من كتابة التاريخ
هو أن
تعود إلى هذا الشعب ثقتُه بنفسه، وليسكت الذين ما زالوا يؤمنون بأن هذا الشعب خامل،
خانع،
لا يمكن أن يثور، لا يمكن أن يستفزَّه طغيان، أو ينتظمه كفاح.
٨
أما محاولة إسقاط الماضي، والثورة الشاملة عليه، فبالإضافة إلى استحالة تحقيق ذلك
عمليًّا، فإنه عملٌ غير منتج؛ لأن الحضاراتِ تواصُل، ليس في الجوانب الفلسفية والفكرية
وحدها، وإنما في الجوانب المادية والتطبيقية أيضًا. وعلى سبيل المثال، فإن اختراع
الدبابة
يجد بدايتَه في اختراع الفراعنة للعربة الحربية، والنظريات الرياضية الحديثة تعود
جذورها
إلى اكتشافات علماء العرب في الرياضيات والفلك … إلخ.
٩
مع ذلك، فإن الخطر على حاضر الأمة ومستقبلها في الهرب إلى الماضي، والاستكانة إلى
القديم،
فلا يمكن لمجتمع يريد الحياة أن يرجع كليًّا إلى الوراء، بل إن الأمة التي كان لها
حضارةٌ
عظيمة، وتاريخٌ مجيد، هي التي يجب أن تكون أسرعَ في اليقظة من غفوتها، والتخلص من
عوامل
التخلُّف، والانطلاق إلى التقدُّم.
١٠ «فإلغاء التاريخ عبثٌ والسكنى بين مقابره وآثاره انتحار، إنما لا بد من الإسراع
بإيجاد صيغةٍ تجمع بين القدرة على استيعاب التراث ومواجهة المستقبل.»
١١
ولم ينسَ بهاء مصريَّته أثناء إقامته في الخليج. لم يُهمِل مشكلاتِ مواطنيه في دول
الخليج
نفسها، النظرة إليهم، ووسائل التعامل معهم. ربما يراعي البعضُ ظروفَ عمله في بلدٍ
عربي إزاء
ما قد يبدو تجنيًا على وطنه ومواطنيه … لكن بهاء لم يحرص على منصبه، ولا ظروف إقامته
خارج
مصر، فكتب مقالًا في جريدة «الاتحاد» الإماراتية، أعتبره من أصدقِ ما دافع به كاتبٌ
مصري عن
مواطنيه. وتقديري للصدق هنا يستند إلى ظروف النفي الاختياري التي قَبِل بهاء الحياة
فيها،
بعيدًا عن خلافه السياسي، مع قمة النظام الحاكم في بلاده.
بل إن بهاء عندما كتب في السينما مثلًا كانت المصرية/المحلية هي أول ما شغَله. أذكِّرك
بمقالته الرائعة عن فيلم «السفيرة عزيزة» الذي أعتبره تجسيدًا للعمل الفني الذي يصدُر
عن
البيئة. وفيما أعلم، فإن سعاد حسني — بطلة الفيلم — ظلَّت تحتفظ لِمَا كتبه بهاء في
الفيلم،
وفي أداء بطلته، بموضعٍ لم يُبدِّله طوفان الكتابات التالية!
وقد اتجه بهاء بملاحظاته — أحيانًا — إلى مواطنيه. رفَض تملُّق الذات، وركَّز على
الجوانب
السلبية التي تزيد من مساحة التخلُّف «ألا نتردَّد في نقد أنفسنا كشعب، كما ننتقد
الحكام.»
١٢ ثمَّة عدم الحرص على النظافة، وعلى الدقة في المواعيد، وثمَّة الإسراف المظهري
وإهمال أن تكون لشعبنا سمعةٌ فيما يزرع ويصنع.
١٣ وربما لفَّه اليأس — لحظات — فهو يكتب في مرارةٍ واضحة: «لقد ضرب المرضُ في كل
النفوس. بصراحة: صار المصريون في حاجة إلى علاج! المأساة طرفاها الدولة والمواطن
معًا!»
١٤
•••
وُلِد أحمد بهاء الدين عبد العال سلام لوالدٍ موظَّف. وتنتمي أسرته إلى قرية «الدوير»
التابعة لمحافظة أسيوط. دخل — بعد حصوله على شهادة التوجيهية — كلية الحقوق،
١٥ وإن حرص على حضور محاضرات كلية الحقوق، وكلية الآداب، وأحيانًا غيرهما. وعلى حد
تعبيره، فقد دخل الجامعة بأكملها، وتفتَّحَت أمامه — مع سني الشباب — كل فروع المعرفة.
يستمع إلى عبد المنعم بدر يدرِّس القانون، كما يستمع إلى يوسف مراد يدرِّس الفلسفة
…
إلخ.
١٦ وقد عمل — فور تخرُّجه في كلية الحقوق — مفتِّشًا للتحقيقات بوزارة المعارف.
زاملَه في الكلية، وفي الوظيفة، أديبان هما: عبد الرحمن الشرقاوي وفتحي غانم. وقد
ساعد
ثَلاثتُهم بعضهم البعض على الاتجاه للعمل الصحفي، انطلاقًا من هواية الكتابة الأدبية
(حاول
بهاء، في بداية عمله بالصحافة، أن يكتب القصة والشعر). وكانت البداية في مجلة «الفصول».
أثق
أنه قد أفاد من تلك الفترة، سواء على المستوى المعرفي أو المهني أو الإنساني، أعني
مستوى
العلاقة الإنسانية التي كان طرفَها الآخر صحفيٌّ كبير، هو محمد زكي عبد القادر، له
نفس
اهتمامات بهاء وسلوكياته.
كانت إسهاماتُ بهاء في مجلة «الفصول» تأكيدًا على التفوق الذي يتميز به عن كُتاب الفترة.
ومن هنا كان إقدام السيدة فاطمة اليوسف على اختياره رئيسًا لتحرير مجلتها الوليدة
«صباح
الخير» قبل أن يبلغ الثلاثين. وبديهيٌّ أنها كانت تدرك أبعاد مراهنتها برصيدها الصحفي
والمادي، حين أُسندَت رئاسة تحرير ثاني مجلة تصدر عن «روز اليوسف» إلى صحفيٍّ في مقتَبل
حياته!
ثم تنقَّل بهاء بين العديد من الصحف؛ فبعد إسهاماته الباكرة في «الفصول»، ورئاسته
لتحرير
«صباح الخير»، انتقل — لفترةٍ قصيرة — رئيسًا لتحرير «الشعب» التي صدر قرارٌ سياسي
بدمجها
في «الجمهورية». وعُيِّن بهاء رئيسًا لتحرير «أخبار اليوم»، ﻓ «المصور»، فرئيسًا لمجلس
إدارة دار الهلال، فكاتبًا في «الأهرام»، فرئيسًا لتحرير «العربي» الكويتية، ثم عودته
كاتبًا في «الأهرام» … وكان طيلةَ تلك الرحلة، أشبه بمن يُمسِك عصًا سحرية، تحقِّق
النجاح
لكل ما تُلامِسه! … لا فارق في ذلك بين جريدةٍ أو مجلَّة. ثمَّة صحفيون اشتُهِروا
بأن
تولِّيَهُم مسئوليةَ عملٍ صحفيٍّ ما، يعني قُرب إغلاقه … لكن شهرةَ بهاء ارتبطَت بالنجاح
في
توالي مسئولياته الصحفية، سواءٌ داخل مصر أو خارجها.
أما الأسلوب الذي اختاره بهاء لصياغة أفكاره، فهو — كما أشرتُ — بسيطٌ وسهلٌ، ويخلو
من
التكلُّف والتعقيد والتلغيز. إنه يختار أصلحَ المفردات للتعبير عن المقولة التي يُريد
توصيلَها، دون محاولةٍ للاستعلاء، أو لتملُّق مشاعر القارئ، ودون نتوءاتٍ أو ترهُّلاتٍ
لفظية!
وإذا كان كاتبٌ مثل محمد حسنين هيكل قد أفاد من المعلومة في تقديم تحقيقاتٍ صحفيةٍ
لافتة.
ساعدَه في ذلك اقترابُه من صانع القرار، فإنَّ قيمةَ كتاباتِ بهاء الأهم هي التحليل.
ربط
الحدث بمسبَّباته واستشراف آفاق المستقبل. والمعلوماتُ التي قد تبدو غير مهمة، يصلُها
بما
سبق، وبالمتوقَّع، يستقرئ الأحداث، ويُناقِش، ويُحلِّل، ويصنع من ذلك كله نظرةً بانوراميةً
متكاملة الأبعاد، فضلًا عن انغماسه المُلِح في مشكلات السواد الأعظم من أبناء الشعب،
ربما —
على حد تعبيره — «لأنني لم أدخل الصحافة كسائر الصحفيين، من باب العمل في السوق على
جمع
الأخبار من مصادرها، ولكنني دخلتُ الصحافة من باب الجلوس إلى مكتبي، وكتابة مقالات
الرأي.»
١٧
•••
مع أن كتاب أحمد بهاء الدين «فاروق ملكًا» إدانةٌ قاسية للفترة التي سبقَت ثورة يوليو،
وتأكيد على وجوب الثورة الوليدة، فإنه قد حرص على أن يظل بعيدًا عن الثورة في أعوامها
الأولى. لم تكن هُويتها الحقيقية قد توضَّحَت بعدُ. ثم اتخذ موقفَه بتأييد الثورة
منذ
١٩٥٧م. وكانت قد ألغت الألقاب، وأعادت توزيعَ الأراضي الزراعية، وشارك جمال عبد الناصر
في
مؤتمر باندونج بوصفه زعيمًا مؤسِّسًا لحركة عدم الانحياز، ثم أعلن عبد الناصر تأميم
قناة
السويس ردًّا على مساومات الغرب وابتزازه وتهديداته، ونشبَت حرب ١٩٥٦م، وتبعَها استعادةُ
مصر لأراضيها. حتى بقايا الوجود الاحتلالي الإنجليزي اختفت تمامًا.
يصفُ نفسَه بأنه لم يكن أبدًا من حزب الانتقاميين، والأخذ بالثأر، لا من قريب ولا
بعيد
«فأنا أضيف ولا أخصم؛ لأن مَن صفحتُهم بيضاء، وآراؤهم ثابتة، لا يخافون تقلُّب الزمن،
ولا
يلهثون وراء المغانم مع تقلُّب كل زمن.»
١٨
لقد ظل بهاء على حوارٍ مستمرٍّ مع جمال عبد الناصر، رغم أنه لم يلتقِ بعبد الناصر
يومًا،
ولا اتصل به بعلاقةٍ ما «لم أقابله قَط، ولم أعرفه شخصيًّا قَط.»
١٩ وأذكُر أنه حين رفع عبد الناصر شعار قوى الشعب العاملة، واتخذ الاشتراكية
منهاجًا للحكم، دعا بهاء إلى تسمية الاتحاد الاشتراكي، بدلًا من الاتحاد القومي. ووافق
عبد
الناصر على اقتراح بهاء، واستبدل التسمية فعلًا!
والحق أن بهاء لم يدافع عن عبد الناصر الشخص؛ فلم تكُن بين الرجلين — كما أشرنا —
صداقة،
ولا علاقة من أي نوع، لكنه دافع عن عبد الناصر الفكرة، عن التحرُّر والتقدُّم، وعدم
سيطرة
رأس المال على الحكم، والقومية العربية، وغيرها من مبادئ — وشعارات — الفترة (أذكِّرك
بشخصية عماد عبد الحميد في روايتي «النظر إلى أسفل»).
كان بهاء حريصًا على تأكيد استقلاليته عن النظام تمامًا؛ فهو يؤيِّد الخطوات التي
تستهدف
صالح الجماعة، ويناقش ما قد يتضمَّنه القرار أو التطبيق من ملاحظات، وربما أعلن الملاحظة
دون أن تشغلَه ردود الأفعال. وحين نقل الرئيس السادات أحمد بهاء الدين من دار الهلال
إلى
رئاسة مجلس إدارة «روز اليوسف»، كتب بهاء إلى الرئيس رسالةَ اعتذارٍ عن قبول الموقع
الجديد،
قال فيها: «لقد اخترعَت الثورة صحفيين وكُتابًا ودكاترة في كل مجال، ولكنني لستُ أحد
اختراعات الثورة. وقد كنتُ رئيسًا لتحرير أكبر جريدة في مصر، وهي أخبار اليوم، واتقاضى
أقصى
حدٍّ للمرتَّب قبل تأميم الصحف بسنتَين … وقد نُقِلتُ إلى دار الهلال منفيًّا في حقيقة
الأمر؛ وبالتالي فإن من حقي أن يؤخذ رأيي في أي أمرٍ يتصل بي شخصيًّا، فلا أقرأه في
الصحف
دون سابق علم، ولا أتحرَّك كقطعة شطرنج من مكان إلى مكان، وبلا رغبة.»
٢٠ وقبل بهاء عرضَ هيكل، بأن يعمل كاتبًا في الأهرام.
الغريب أن بهاء ربطَته علاقةُ صداقةٍ بالرئيس السادات، حتى إنه كتب العديد من خطب
السادات
… لكن تلك العلاقة شابَتْها خلافاتٌ وتوتُّرات، تناوَل بعضها في كتابه «محاوراتي مع
السادات»، ثم قَبِل بهاء عرض مجلة «العربي» الكويتية.. وإن ظلَّت الهموم المصرية شاغلَه
الأهم، بل إنَّ إقامتَه في الخارج ساعدَتْه على تبيُّن أبعاد الصورة بكل تكويناتها
وظلالها.
وقد اعتاد قُراء «الأهرام» — طيلة الفترة التي كان يُطالِعهم فيها عمودُه اليومي أن
يبدءوا قراءة الجريدة من الصفحة الأخيرة، أن يقرءوا بهاء أولًا، فلما توقَّف بهاء
عن
الكتابة بسبب المرض، عاد قُراء الأهرام إلى الطريقة المألوفة في قراءة جريدتهم، فهم
يبدءون
بالصفحة الأولى!
•••
حين عرضتُ على فتحي رضوان أن تصدر سلسلة «كتاب الحرية» التي كنتُ أتولى رئاسة تحريرها،
مقالاته في مجلة «الفجر» القطرية، بعنوان «۷۲ شهرًا مع عبد الناصر»، وافق بلا تردُّد،
وكتب
لها مقدمةً تستدعي ظروف كتابتها، فلما عثَرتُ على مقالاتٍ أخرى، تمثِّل إضافةً للكتاب،
قدَّمتُها لفتحي رضوان، فنشَرها في الطبعة الثانية. ثم اكتشفتُ مقالًا آخر، فقدَّمتُه
إلى
الصديق مصطفى نبيل، ليُضيفه إلى الطبعة الثالثة، التي أصدَرَتها سلسلة «كتاب الهلال».
ولما
طلبتُ من عبد الفتاح أبو الفضل أن يروي لكتاب الحرية، ذكرياتِ فترة عمله في المخابرات
العامة، وضع بين يدي آلافَ الصفحات، وقال في بساطةٍ طيبة: تصرَّف! … وخلَوتُ إلى الأوراق
شهرًا أو أقل، أتممتُ خلاله صياغة كتاب أبو الفضل «كنتُ نائبًا لرئيس المخابرات».
واتصلتُ بأحمد بهاء الدين. عرضتُ أن أنشر مختاراتٍ من مقالاته التي تتناول همومًا
محلية
وعربية ودولية. وحدَّدتُ له عناوين المقالات مما أحتفظ به في أرشيفي الخاص.
وافق، وإن طلب مهلةً كي يتولى اختيار المقالات بنفسه … لكن المرض فاجأ بهاء، وفاجأَنا،
فأبعَده عن الكتابة، وعن الحياة العامة، وافتقَدنا مثلًا متفوقًا للكاتب الذي يعي
مسئوليته
إزاء وطنه ومواطنيه.
لقد دفع بهاء من صحته، ومن وقته، الكثير الكثير، مقابلًا لأمراضٍ كادت — للأسف — تصبح
متوطنة في مصر المحروسة، مثل الغيرة المسرفة والحقد والوشاية وتملُّق المسئول واستعدائِه
—
بالباطل — على الآخرين. وقد رفض عبد الناصر فكرة اعتقال بهاء، نتيجةَ وشايةٍ حقيرة،
وقال
لمن عرض عليه الفكرة: سيبوه … هو دماغه كده! … ولم يُجاوز تصرُّف السادات — عندما
علت أمامه
تقارير الوشاة والكذابين — نقل بهاء من وظيفته إلى وظيفةٍ أخرى، ثم سافر بهاء إلى
الكويت،
دون أن تصل العلاقة بينه وبين السادات إلى درجة القطيعة! … وأذكُر — بهذه المناسبة
— أني
أوردتُ في روايتي «النظر إلى أسفل» عبارة لأحمد بهاء الدين، قالها عقب تعيين السادات
لمجموعةٍ جديدةٍ من رؤساء تحرير الجرائد والمجلات المصرية. قال: لقد بدأنا عهد رؤساء
التحرير الذين يُعرَّفون بمناصبهم! … والمعنى — فيما أتصوَّر — واضح. أوردتُ العبارة
—
بنصها — على لسان عماد عبد الحميد … وهو صحفي!
•••
لا بد من إدراك أن نقطة البدء في التطور هي الإنسان. ذلك هو رأي أحمد بهاء الدين
الذي
يتردَّد في مقالاته وكُتبه، يكاد يبلُغ مرتبة اليقين. الإنسان عقل وقلب، والتطوُّر
ليس بناء
ناطحات سحاب، وليس شراء أحدث الأسلحة، وليس اقتناء أي نوعٍ من الماديات. إن العقل
الإنساني
لا يتحرك إلا بالحرية والإقناع، وإن القلب الإنساني لا يُكسَب إلا بالحب والكرامة
والاحترام.
٢١ ويستعير بهاء من ديفيد إيترن قوله: «قد يقبل المواطن بسلطة الحكم عليه لألف سبب
وسبب، لكن الشرعية هي أن يجد المحكوم أنَّ من المقبول عنده، والمناسب له، أن يطيع
متطلبات
النظام السياسي القائم؛ إذ يجد أنها تتَّسِق مع قيَمه ومبادئه وأخلاقياته وأمانيه،
وذلك ليس
لمنفعةٍ شخصيةٍ مباشرة له، ولكن بمعنى المنفعة العامة، وعلى المدى الطويل.»
٢٢
إن المجتمع لا يمكن أن تقوده — في تطلعه إلى المستقبل — مهمة اقتصادية فحسب؛ فلا
بد أن
تقترن هذه المهمة الاقتصادية بمهماتٍ أخرى، معنوية، وأن تكتسب صفاتٍ أخرى كالعدالة،
والتحرُّر الاجتماعي، والكبرياء القومية، والمساواة … أي لا بد أن تقود الشعبَ عقيدةٌ
شاملة
على نحوٍ ما، تُشعِره أنه يغيِّر نوع حياته ذاتها، لا كمية طعامه وكسائه فقط. وبغير
ذلك
نكون اقتصرنا في التنمية على جانبٍ اقتصاديٍّ تجاري بحت.
٢٣ وكما يقول بهاء، فإن «الحرية هي أثمنُ ما يجب أن نحرص عليه. دائمًا، يجب أن
نذكُر هذه الحقيقة وأمامنا هذا الدرس العظيم؛ فإن السنتَين اللتَين أُطلقَت فيهما
الحريات
(١٩٥٠-١٩٥١م) هما اللتان أتاحتا للأحرار أن يتحرَّكوا، وأن يُعبِّئوا الرأي العام
بغضًا
لسارقيه، وسخطًا على غاصبيه. ولم تكن حركة الجيش إلا نتيجةً منطقيةً لكفاح الأحرار،
في
هاتَين السنتَين المضيئتَين.»
٢٤
ويخاطب بهاء قارئه: إن الدرس الذي يجب أن يتعلمه — القارئ — هو أن يؤكِّد دائمًا
حقَّه في
أن يعتنق الرأي الذي يراه صوابًا، وأن يعبِّر عن هذا الرأي بالكتابة والخطابة والجدل،
وأن
يعمل على تطبيق رأيه بعقد الاجتماعات، وتكوين الأحزاب والجمعيات.
٢٥ ويؤكِّد على القول: الخبز مع الحرية، العدل مع الكرامة، وبغير ذلك يظل حقُّ
الإنسان ناقصًا،
٢٦ بغير الاحترام الكامل، الخالي من أي تحفُّظ لحقوق الإنسان العربي، لن تخترق
الحلقة المفرغة من التخلُّف، ومن المآسي، ومن شتى أنواع الإحباط التي تكاد تُزهِق
رُوحَ
الإنسان العربي، مهما حاولَت بعض الماديات تغطية ذلك، لبعض الوقت.
٢٧ ويقول: ارفعوا شعار الوطنية الاقتصادية بضع سنوات، وستستريح مصر مدى
العمر.
٢٨ ومن الوطنية الاقتصادية أن تُعامِل المال العام كأنه مال كل فردٍ منا.
٢٩ ومنها: أن نُحوِّل المواطن إلى مواطنٍ مُنتِج، وجعل الإنتاجية صفةً نابعةً منه،
وكرامةً ترفع رأسه، وقيمةً تزيد من قَدْره في بيئته.
٣٠ لا يكفي أن نكون مشترين فقط، مستهلكين فحسب، إنما يجب أن نُنتِج، أن نُتقِن
العلوم والفنون المتصلة بجوانب الحضارة المادية، فنطوِّعها لإرادتنا، ونشارك في التحكُّم
فيها.
٣١ ويوضِّح حقيقة أن المجتمع الذي يعمل وينتج، هو المجمع الذي يعرف كيف يستمتع
بحياته. وعلى حد تعبيره «فإن الكثيرين منا يقعون تحت وهم الصور الناقصة التي تُنقَل
إليهم
من الخارج … فالناس يقرءون ويشاهدون الأفلام عن لندن وباريس ونيويورك وغيرها، فيظنون
أن
لندن ليست سوى حدائق هايد بارك؛ حيث يُباح الهوى، ونيويورك ليست سوى شارع برودواي؛
حيث أكبر
مسارح اللهو، وباريس ليست سوى مونمارتر؛ حيث يسهَر الفنانون بلا عمل حتى الصباح! ولكن
هذه
ليست إنجلترا وفرنسا وأمريكا. إن أهم ما في هذه البلاد هو الجهد العنيف، هو المناطق
الصناعية الهائلة، هو قاعات العلم ومعامل البحث وأفران الحديد المصهور! … والذين تراهم
في
الشوارع والحدائق والمسارح، يلهون ويمرحون، هم أنفسهم الذين تراهم في المعامل والمصانع
والمدرجات، يبحثون، ويعملون، ويتصبَّبون عرقًا. إن ازدهار اللهو، جاء نتيجةً لازدهار
العمل،
وليس العكس.»
٣٢ ويقول: «عندما ركَّزنا في الخمسينيات والستينيات، على التصنيع والمشروعات
الكبرى، كانت هناك — مثلًا — قيود على السفر والسياحة في الخارج، ولكن سافر — لأول
مرة —
عشرات الآلاف من الشباب للدراسة، في كافة المجالات، من موسكو إلى كاليفورنيا، ومن
خبراء
علوم الذرة إلى الأسطوات والعمال، للتدريب في المصانع في ألمانيا الغربية وغيرها.
ولو لم
نتقشَّف، ونركِّز على التصنيع والإنتاج في الخمسينيات والستينيات، لدُوهِمنا في السبعينيات
والثمانينيات بمشاكل زيادة أعنفَ مما نواجهه الآن.»
٣٣
وقد انتقد بهاء سياسة الانفتاح، عندما أصبحَت — على حد تعبيره — «سداح مداح». هاجم
تصوُّرات البعض بأن «سياسة الانفتاح معناها أن تصبح مصر الاقتصادية والاجتماعية سداح
مداح،
كل شيء فيها مباح.» لم يعارض بهاء سياسة الانفتاح من حيث المبدأ، لكنه اعترض — بشدة
— على
أن يتحول الانفتاح إلى مسارٍ آخر، غير الذي تصوَّره. الانفتاح لا يعني أن يكتب أحد
— ذات
يوم — ما كتبه اللورد كرومر، عقب القضاء على الثورة العرابية بسنوات: لقد اختفت الصناعات
المحلية من الأسواق، وصارت السلع الأوروبية في كل مكان.
ويتساءل: هل يكسب المال مَن يحترم القوانين الموضوعة؟ أو يكسبه مَن يخترق القوانين؟
هل
يكسب الفرد قيمةَ عمله من العالِم إلى الكنَّاس؟ أو يكسب الفرد قيمة علاقاته ومصاهراته
وبلطجته، وإغفاء عين السلطة عنه؟ هل يكسب المال مَن يستطيع أن يقدم كشفًا بمصدر كل
مليم؟ أو
يكسبه مَن لا يستطيع أن يفسِّر إحرازه لعشرة ملايين؟
ثم يوضِّح «إن الذين يأكلون الخبز الفاخر، وينسَون شكل رغيف العيش، والذين يُنفِقون
عَرق
الناس في استيراد أفخر الثياب والكماليات، وينسَون ملابسَ الشعب الذي يسرقون، هم طبقةٌ
دخيلةٌ مبتذلة الرخاء والثراء، ويظنون أن هذا هو حال الشعب. إن الذين قاموا على وضع
هذه
السياسات، هم المتهمون الأساسيون، وما أصحابُ الملايين الحرام إلا مستفيدين من الفرص
التي
أتاحتها لهم هذه العقلية، وهذه النفسية، ثم يطالبون المواطن الذي لا يجد حتى الماء
ولا
الصرف الصحي أن تتخلَّص نفسه من الحقد! أي حقد سادة، وقد صارت ملايين لسان حالها يقول:
أنا
الغريق، فما خوفي من البلَل؟»
ويؤكِّد بهاء أن الأوضاع التي كشف عنها الانفتاح، كانت هي بداية الشرخِ الحقيقي بين
السادات وبينه. وقد أخذ الشرخُ في الاتساع حتى انتهت العلاقة تمامًا، بعد سنوات.
٣٤
والقارئ لكتابات بهاء يتوضَّح له — بسهولة — تركيزها على رفض اختلاط الحابل بالنابل،
وسطوة المال الحرام، والتسيُّب والسلب، والنهب، وأعمال الوساطة والنفوذ، وانهيار القانون،
وانقلاب القيم، وسياسة التغاضي، أو التشجيع على الفساد، والغلاء الطاحن، والمال السائب،
وبروليتاريا ذوي الياقات البيضاء، وانعدام التنسيق بين أجهزة الدولة، وغلَبة الشعارات،
وغياب الذوق العام، ونقص الأخلاق الاجتماعية، مقابلًا لتعاظُم الأخلاق الفردية، وإهدار
الإنفاق العام … إلخ.
لقد تمنَّى بهاء في يومياته، أن يقوم بيننا جبرتي آخر. وهذه التعبيرات التي نقرؤها
في
كتاباتِ بهاء، تُريحنا من عناء البحث. إن أحمد بهاء الدين — في بعض أبعاد كتاباته،
وما
أكثرها! — هو جبرتي زماننا الحالي!
أخطر ما في المسألة، أن البيروقراطية في بلادنا، تلجأ — منذ سنوات — إلى سلاحٍ اسمه
الملل
أو الزهق. دعه يكتب، فلا بد أن يأتي اليوم الذي يُدرِكه فيه الملَل، فيتوقف، ويتحول
إلى
قضيةٍ أخرى. والخطورة هنا أن الصحفيَّ يشعر بانتفاء الجدوى من كل ما يكتب، بأنه يصرخ
في
الوادي، يحرث في البحر، يروي رمال الصحراء … وبذلك تفقد الصحافة — كسلطةٍ رابعة —
أهم
خصائصها، بل تفقد مُبرِّرًا مهمًّا لوجودها، وهو التعبير عن قضايا المجتمع الذي تصدُر
عنه،
وتصدُر له.
•••
ووَضْع المرأة يمثِّل بُعدًا واضحًا، في اهتمامات بهاء … فشيوع مفهومات المساواة،
والحَرَاك الطبقي، ورفض الجمود الطبقي، لا بد أن يؤثِّر في العلاقات الاجتماعية، بحيث
تتحقَّق المساواة للمرأة، انطلاقًا من إيمان المجتمع بالمساواة، بين الولد والبنت،
الذكر
والأنثى، الزوج والزوجة.
أما استبداد الرجل بالمرأة، فهو ليس مجرد مشكلةٍ طريفةٍ نتسلى بها، فنتذكر — على سبيل
المثال — السيد أحمد عبد الجواد وأمينة، في رائعة أستاذنا نجيب محفوظ «بين القصرين».
إن
حُجة الرجل في الاستبداد بالمرأة، لا تختلف عن حُجة الدول الاستعمارية في استعمار
الشعوب
الضعيفة؛ فهي تزعم أن هذه الشعوب لا تستطيع أن تحكُم نفسها؛ إذ ليس لها عقلٌ ولا خبرةٌ
ولا
مال. والواقع أن هذه الشعوب الضعيفة، مسلوبةٌ من العقل والخبرة والمال؛ لأنها مستعمَرة،
ولأن الاستعمار نفسَه يهتم بأن يسلبَها العقلَ والخبرةَ والمال، وكذلك الحال بالنسبة
للمرأة.
ونظرة بهاء إلى وضع المرأة في المجتمع، لا تنفصل عن نظرته إلى وضع المجتمع نفسه، عن
مشكلاته وقضاياه وهمومه وتطلعاته … فتنمية المجتمع تؤدِّي — بالضرورة — إلى تنمية
المرأة؛
لأنها تُجاوِر الرجل في ظروف حياته.
إن عمل المرأة ضرورة، ليس لمجرد تحقيق المكسب المادي، وإنما لأنه يفتح للمرأة آفاقًا
واسعةً في الحقوق والاختيارات. أما عودة المرأة إلى البيت، فإنها تعني عودة البلاد
إلى
الوراء بسرعةٍ مذهلة. معنى أن تعود المرأة إلى البيت، أن القوة العاملة المستقبلية
يجب أن
تهبِط إلى النصف، أو إلى الثلث في الأقل. وفي حين أن العالم كله يحاول العمل بقوته
البشرية
الكاملة، فإن الأصوات العالية بيننا تذهب إلى الاكتفاء بنصف قوتنا؛ ذلك لأن النساء
— إذا
خرجن إلى العمل — فسوف يواجهن انقضاض الرجال عليهن، ويَفسَد الأمر!
ويقول بهاء: «إن المعامل والمصانع والمتاجر والوزارات والمؤسسات، فيها عشراتُ الآلاف
من
النساء العاملات، وأغلبهن يمكنهن ترك العمل دون أن يمُتن جوعًا، ولكنهن يعملن؛ إما
مساهمةً
في الحياة العامة، وإما بحثًا عن تعبيرٍ سامٍ لوجودهن، وإما لرفع مستوى معيشتهن إلى
أحسن.»
ويقول: «حين تنهضُ المرأة من مكانها الذي تقبع فيه، عند قدمَي الرجل، لكي تجلسَ بجانبه،
سيكتشف المجتمع كله أن دفء الزمالة والمساواة سيكون أروعَ وأحنَى من برد السيادة
والسيطرة.»
٣٥
•••
عندما زرتُ أحمد بهاء الدين في جناحه بفندق «الفلج» المُطِل على العاصمة العمانية
مسقط،
كانت تلك هي المرة الأولى التي أجلس فيها إليه.
سألني عن ملاحظاتي، التي امتدت بطول إقامتي في السلطنة، وسألتُه عن ملاحظات الأيام
الثلاثة، أو الأربعة، التي تنقَّل فيها بين مسقط وصلالة وبعض مدن الداخل، والتقى بعددٍ
من
المسئولين، وإن لم يُتَح له — لغير سببٍ محدَّد — أن يلتقي بالسلطان قابوس.
بدا لي بهاء هادئًا. يُلقي سؤاله، ويُنصِت في اهتمام ومتابعة، فلما تحدَّث، همَّني
التركيز، لكي أتابع الكلمات في خُفوتِ صوته.
أبدى قلقه من صرامة الإجراءات الأمنية: أتفهم الحرص على التفتيش والتدقيق، في الرحلات
القادمة من الخارج، لكنني أستغرب تفتيش الأشخاص والحقائب، في رحلات الداخل!
لكن ملاحظات بهاء، عن تطورات الحياة في السلطنة، كانت — في عمومها — إيجابية!
في قصتي «المستحيل» تصوَّر البطل أنه إذا أغلَق على نفسه باب بيته، وعزَل نفسه عمن
حوله،
فإنه سيتقي الأذى الذي طالما يتهددهم، لكنه يُفاجأ بأن المجهول يقتحم حياته!
٣٦ الشعب.
المستحيل في القصة أن تنعزل مصر عن المحيط العربي، أن تصبح جزيرةً لا شأن لها بما
حولها …
وتلك هي نظرة أحمد بهاء الدين إلى موقف مصر من القضية الفلسطينية. إنها قضية صراع
الفلسطيني
ضد الاستعمار الصهيوني الاستيطاني. وهي كذلك قضية صراع الشعب العربي — والشعب المصري
تكوينٌ
مهمٌّ في نسيجه — ضد الاستعمار الصهيوني الاستيطاني، التوسُّعي. من النيل إلى الفرات
شعارٌ
لم يتخلَّ عنه بعدُ قادةُ إسرائيل!
يطرح بهاء المقولة: إن هدف إسرائيل هو ضرب الشعوب العربية جميعًا، وليس فلسطين فحسب؛
وبالتالي فالقضية قضية العرب جميعًا، وليست قضية شعب فلسطين وحده. ويعلن رأيه: طبعًا.
وهل
يقول أحدٌ بغير ذلك؟ … ولكن هل هذا ينفي أن هناك دولًا عربيةً شتَّى، لا دولةً عربيةً
واحدة؟ هل هذا يجعل قِطعَ الشطرنج، فوق رقعة الصراع، قطعةً واحدة؟ … كلا! إنها أكثر
من
قطعة. كل قطعةٍ لها إمكانية، ولها دور، ولا بد من حسن استخدام كل قطعة إلى أقصى ما
نستطيع.
أما تصوُّر بهاء لنهاية الصراع العربي الإسرائيلي، فهو يثق في وجود مجتمعٍ يهودي
— مهما
كان الاسم الذي سوف يحمله — يعيش تحت ظلٍّ وارفٍ من وجود مجتمعٍ عربيٍّ واسع، له قيَمُه
الحضارية والإنسانية التي تتسع لهذا الوجود — وأمثاله — في البحر العربي الفسيح. وهذا
المجتمع — الذي يتصوره بهاء — لا بد أن يرضى عنه العرب، بل ويكونون هم حفاظًا عليه،
وليس
قوة كبرى محلية، روابطها وشخصياتها أجنبية تمامًا.
٣٧ ولن يتحقَّق ذلك — في تقدير بهاء — بالقوة العسكرية فقط؛ فلن تقوم يومًا معركة
عسكرية واحدة، ينهزم فيها العرب، وإلى الأبد، أو تنهزم إسرائيل وتندثر تمامًا؛ فالعرب
لا
يحاربون إسرائيل الموجودة على الخريطة، لكنهم يحاربون الحضارة الغربية.
٣٨ التي تُمثِّل إسرائيل خنجرَها المغروسَ في لحم المنطقة العربية، وثمَّة فجواتٌ
حضارية بالتالي بين العرب وإسرائيل. وسوف تمر فتراتُ قتال، وفتراتُ سكون، لزمنٍ طويل،
أطول
مما يتصوَّر أحد، قبل حسم الصراع بصورةٍ نهائية، يسبقها تقدُّمٌ حضاري لا بد منه في
العالم
العربي، حتى يكون على مستوى أية مواجهة، هي — في النهاية — مواجهةٌ حضارية. وحتى ذلك
الوقت،
ليس المهم هو غزو إسرائيل عسكريًّا، وإنما إقامة نوعٍ من الوضع المتجمد، يحاول العرب
خلاله
إقامة الحد الأدنى من التوازن الحضاري والاستراتيجي.
٣٩
•••
أما قضايا العالم الثالث، فإن بهاء يضغط على أبرز ما فيها: ارتفاع نسبة الأمية، انخفاض
مستوى الصحة العامة، بدائية وسائل الإنتاج، اعتماد الاقتصاد على الخامات أساسًا، قرب
عهدها
بالاستقلال والمسئولية عن نفسها، وبالتالي عدم قيام مؤسساتٍ دستوريةٍ ثابتة، تحقِّق
لها
درجةً من الاستقرار، انعدام وجود طبقةٍ وسطى كبيرة تكون هي أساس الاستقرار الاجتماعي،
واتساع الفجوة بين نخبةٍ قليلة العدد، وقاعدةٍ فقيرة، وغير متعلمة
٤٠
•••
ما هي صورة المستقبل في نظر بهاء؟
إنه مشروعاتُ استغلال الأنهار، وجعل الزراعة عملًا علميًّا منظمًا، وسدٌّ عالٍ على
الفرات
لاستثمار الماء والكهرباء في الزراعة والصناعة، وصناعاتٌ جديدة، وتخطيطٌ علمي، وأفران
لصهر
الحديد والصلب، وآلاتٌ تدقُّ الأرض، وتكشفُ البترول وخامات الحديد، وفلاحون يتحوَّلون
إلى
عمال، وعمال عاديون يتدربون ويتحولون إلى عمالٍ فنيين، وسِلعٌ أجنبيةٌ مصنوعة، نستغني
عنها،
ونستعمل — بدلًا منها — سِلعًا من صنع بلادنا وعمالنا ومهندسينا. يقول: «التقدم العلمي
هو
نتيجة عمل الإنسان المتقدم. والاختراع — كما هو معروف الآن — لم يعُد — كما كان قديمًا
—
رهنَ صُدفة، أو إلهامٍ عبقري يهبط على أحد المخترعين. كلا. الاختراع الآن أصبح وليد
التعليم
والتنظيم، في المعامل ومراكز الأبحاث. المنطق العلمي والتنظيمي والتجريبي، هو الآن
الأشياء
التي تخلق الاختراع. التقدم الصناعي يقوم على تحسين الآلات، وتحسينُ الآلات لا يتم
إلا عن
طريق تحسين الإنسان نفسه. إننا نكسب من الإنسان المتقدم أكثر كثيرًا مما ننفق عليه.
إن
الإنفاق على الإنسان الآن، وعلى تعليمه وتدريبه، أصبح أهم لسلامة أي مجتمعٍ من الإنفاق
على
السلاح.»
٤١ إن أية معركة لا يحسمها كذا ألف جندي، وكذا كيت من السلاح. هذا مهمٌّ وحيويٌّ
إلى أقصى الحدود … لكن أي جيش لا يؤدي مهمته إلا إذا كان مستندًا إلى مجتمعٍ قويٍّ
متقدمٍ
سليم. قدرةُ أي جيش مرتبطةٌ ارتباطًا عضويًّا بقدرة المجتمع نفسه وفاعليته. الثورة
الاجتماعية إذن، والثورة الصناعية، والثورة الثقافية، وإقامة مجتمعٍ سليمٍ عصريٍّ
متحضِّر
هي المعركة الجدِّية التي تحسم معركة هذه الأقدار المتصادمة، عَبْر مواجهات كثيرة،
في مدًى
طويل.
٤٢ أستعير من بهاء، ما اختتم به كتابه «وتحطَّمَت الأسطورة عند الظهر»: «كان ٦
أكتوبر امتحانًا جديدًا، عرفنا منه، وعرف العالم، أننا وقد هزمنا الهزيمة، نستطيع
أن ننتصر،
ليس في ساحة القتال ضد عدوٍّ عنصريٍّ توسعيٍّ فقط، ولكن أن ننتصر في كل ساحات التحديات،
التي يطرحها العصر الحديث، على العالم العربي بأكمله.»
٤٣ الصدام بيننا وبين إسرائيل ليس معركةً عسكرية، وليس معركةً سياسية. إنه شيءٌ
أوسعُ من هذا وأعمق. إنه معركةٌ حضارية، والحرب والسياسة ليسا سوى عنصرَين عابرَين
من عناصر
واحتمالات المعركة الكبرى، الطويلة الأمد، هذه المعركة الحضارية.
٤٤
ولعل دعوة بهاء الباكرة إلى وجوب استخدام الكمبيوتر في مجالات الحياة المختلفة، تأكيدٌ
على نظرته المستقبلية … فهو لا يكتفي برصد الواقع، وإنما تشغَله أيضًا صورة المستقبل.
كيف
تصبح استاتيكية حياتنا ديناميكيةً تحاول مواكبة العصر. طبيعي أن تصُدر مثل هذه الدعوة
من
عالم مثل عبد المحسن صالح، أو سيد عويس … لكن اللافت والمثير للإعجاب، أن يجري بها
قلم
الكاتب الصحفي أحمد بهاء الدين. بل إنه لا يخلو من دلالة، ذلك الحوار المطوَّل، الذي
أجراه
بهاء — عقب هزيمة ١٩٦٧م — بعنوان «نحو مجتمع عصري»، وملخَّصه أنه من الصعب فصلُ بواعث
الهزيمة العسكرية، عن أوضاع المجتمع في عمومها، وأنه لا بد من إحداث تطويرٍ حقيقي
في كافة
المجالات.
هوامش