معنى يوسف إدريس
١
لأني كنتُ قد قرَّرتُ هجر كتابة الرواية والقصيدة والمقال والخاطرة (!) والاقتصار على كتابة القصة القصيرة، ولأني كنتُ قد قرَّرتُ نبذ القص واللصق ومحاولة تقليد الآخرين، فقد حرَصتُ على شراء كتاب الدكتور رشاد رشدي «فن القصة القصيرة». دفعتُ من مصروفي الشهري خمسة وثلاثين قرشًا كاملة. وأغلقتُ باب حجرتي، أحاول أن أُفيد من الكتاب بوعيِ صبيٍّ لم يبلغ الخامسة عشرة. وتعلَّمتُ البداية والذروة ولحظة التنوير. وأعجبَتْني — بلا حد — ترجمة قصة تشيكوف: «لمن أسردُ أحزاني». الحوذي الذي يريد أن يَرويَ للآخرين مأساة فقد ابنه … فلما ينصرف عن سماعه الجميع، يروي المأساة لحصانه! وجدتُ فيها مثلًا للقصة القصيرة التي ينبغي أن أكتبها. ثم قرأتُ أعمال أمين يوسف غراب ومحمود البدوي وعبد الحليم عبد الله ويوسف السباعي ويوسف جوهر وعبد الحميد جودة السحار وغيرهم. بدت تطبيقات لنظرية رشاد رشدي، وإن اختلفَت بصورةٍ مؤكَّدة — فارق الموهبة! — عن قصة تشيكوف.
فلما بدأتُ الكتابة، جاءت محاولاتي مغايرةً لوصايا رشاد رشدي ولأعمال هؤلاء الأدباء … فهي أقربُ إلى قصص أديبٍ لم أكن تنبَّهتُ إلى قصصه التي نشرها في المصري وروزاليوسف والقصة.
ثم أعارني صديقٌ مجموعة يوسف إدريس الأولى «أرخص ليالي».
قلتُ — فور قراءتي للقصة الأولى: هذه هي القصة القصيرة!
وأقبلتُ على بقية قصص المجموعة، حتى أتممتُها. تفهَّمتُ قول فاليري: «القصة الجيدة هي التي لا يمكن أن نغيِّر كلمةً واحدةً فيها دون أن يختلَّ بناؤها الفني ككل.» وعرفتُ معنى لحظة القصة القصيرة، والوحدة، والتناسُب، والتكثيف، والنهاية المفتوحة التي تناوَل بها النقاد أعمال يوسف إدريس.
•••
كانت أساليب الأدباء الذين كتبوا أعمالهم في ضوء مواصفات رشاد رشدي للقصة القصيرة، بل ومفرداتهم اللغوية، متشابهة. حتى إنه ليصعُب التفرقة بين كاتب وآخر. وكانت أعمالُهم تعتمد السرد بصورةٍ ملحوظة، أقرب الى حكاية — على حد تعبير أستاذنا محمد مندور — يفضُّ بها الكاتب عن نفسه. والنهاية واضحة، حاسمةٌ محدَّدة، تدعو — في الأغلب — إلى نبذ الشر، وفعل الخير، وإن اتسمَت قصص أمين يوسف غراب بالنهاية المتشابهة، التي تتعمد المفارقة: «شيءٌ واحد ذلك الذي …»، ثم يفاجئنا الكاتب بما لم نكن نتوقعه!
ولكن يوسف إدريس قدَّم في قصصه: اللحظة، الموقف، الشريحة، الومضة. سمِّها ما شئت. القصة التي لا تعتمد مجرد السرد، وتفرق بين القصة القصيرة والحدوتة، وبين القصة القصيرة والرواية. وتُبدي المذاق التشيكوفي الرائع الذي قد يترك نهايةَ القصة مفتوحة، لكنه يخلف في وجدان المتلقي تأثيرًا لا يزول.
•••
أذكر قول صديقي ماهر شفيق فريد: لقد قام يوسف إدريس في حياته بثلاث مهام، تكفي كلٌّ مهمة منها لأن تستغرق عمرًا كاملًا وتستأثر بحياة أي أديب؛ مهمة التأسيس، ومهمة التطوير، ومهمة ارتياد الدروب غير المطروقة … فهو — في المحل الأول — من البناة العظام، أو مؤسسي فن القص المصري. لقد مصَّر القصة مثلما مصَّر طلعت حرب الاقتصاد، ونقلَنا من دور محاكاة تشيكوف أو موباسان أو إدجار ألان بو أو همنجواي، إلى دور الغوص في أعمق ما في الضمير المصري من معتقدات وأساطير وخرافات وفولكلور، وحوَّل النادرة أو النكتة إلى عملٍ فني له دلالاته الاجتماعية والنفسية والفلسفية … وهو — في المحل الثاني — قد طوَّر أدواته الفنية من خلال معالجة الأقصوصة البالغة القصر، والقصة المتوسطة الطول، والرواية الطويلة. وتمكَّن من أن يبتدع لكل شكلٍ من هذه الأشكال إيقاعًا يلائمه، بحيث لا نشعر قط — في حالته — أن القصة القصيرة مجرد ملخَّص لعملٍ أطول، أو أن الرواية عنده منظومة من قصصٍ قصيرة، وُضعَت جنبًا إلى جنب. ليس إدريس مهندسًا مدققًا من نوع نجيب محفوظ أو يوسف الشاروني، ولكن فطرته الفنية، وغريزة القاصِّ فيه، تهديانه إلى مراعاة التناسُب في عمله، ومن ثم يخرج على نحوٍ لا يقل إتقانًا عن أعمال غيره ممن يستخدمون القلم والمنقلة والمسطرة والفرجار … وهو — ثالثًا — لم يكتفِ بتدعيم الاتجاه الواقعي في أدبنا الحديث — واقعية تسجيلية حينًا، نقدية حينًا آخر، اشتراكية حينًا ثالثًا — وإنما سبق نفسه وكثيرًا من معاصريه، حين مدَّ حدود الواقعية لكي تُلامس تخوم التعبيرية من ناحية، والسوريالية من ناحيةٍ أخرى؛ فوراء الطرح الاجتماعي الدقيق نجد عنده سبرًا عميقًا لأغوار الشخصية بكل أبعادها، وبصيرةً فنيةً خلافة، تُجاوِز الواقع، وتغوصُ في عوالم اللاشعور والحلم والكابوس، حتى تلمسَ أعمق جذور المخاوف والرغبات (المساء، ٤ / ۱٠/ ۱۹۹۱م).
•••
الخصائص التي طالعَتْنا بها قصص إدريس، تغيب في قصص الثلاثينيات والأربعينيات وأوائل الخمسينيات، والتي اعتبرَت أعمال محمود كامل — برومانسيتها المفرطة — مثلًا لها.
الشخصيات التي قدَّمَتها هذه القصص لا تختلف في ظاهرها عن الشخصيات التي قدَّمها إدريس … ولكن الأماني والتطلعات والأحلام والثورة والإصرار، وغيرها من المشاعر التي كانت نبضًا لشخصيات يوسف إدريس، تُناقِض سواها مما قدَّمه لنا أدب الفترة السابقة والمواكبة … والفاصل في التناقُض هو الصدق الفني؛ عبد الكريم الذي يضطرُّه الفقر إلى البُعد عن السهر والنوم المبكِّر، فينجب أطفالًا كثيرين، الخادمة الصغيرة التي تتوق لأن تلعب مع الأطفال في مثل سنها، المدرِّس الذي تتجدَّد آماله في شاب من طلَبته أصبح طبيبًا، أبو اسماعين الذي يستطيع — بمفرده — أن يزيح ظل الهجانة الثقيل بعيدًا عن أبناء قريته. الأعرابي الذي يراهن على التهام مائة ثمرة تين شوكي «ويمشي في الطريق، وبدايات المغص تلوي أحشاءه، وكل ما يهمه أنه تغذَّى، وسكتَت عنه، ولو هُنيهة، مسامير الجوع، وليكُن بعد ذلك ما يكون»، وعبد القادر طه الذي استُشهِد بأيدي رجال الملك لأنه أعلن احتجاجه على فساد الواقع، البرعي الذي أمسَك بسمَّاعة التليفون لأول مرة في حياته، وداعبَتْه أمنيةٌ نفَّذها على الفور. طلب المركز وقال: يلعن … يلعن أبوك يا مركز! … وشبراوي الذي كانت القاهرة في مخيِّلته شيئًا خطيرًا، فيه عذوبة الحواديت وروعة الأساطير ورهبة المجهول … ونماذج أخرى تُناقِض تمامًا في مشاعرها وتكوينها النفسي، معظَم الشخصيات التي قدَّمَتها القصة المصرية قبل «أرخص ليالي».
النقلة التي أحدثَها يوسف إدريس في القصة القصيرة تشبه — إلى حدٍّ كبير — تلك النقلة التي أحدثها تشيكوف في الفن نفسه أواخر القرن الماضي … فضلًا عن أن أولى مجموعات إدريس قدَّمَته كاتبًا اجتماعيًّا في الدرجة الأولى. المشكلة الاجتماعية هي الخيوط التي نسَج منها أحداث قصصه. والمحتوى الذي تشتمل عليه، يصدُر عن الإحساس العميق بهذه المشكلة. ومع ذلك، فقد اتسمَت قصص إدريس بحيادية، تكتفي بأن ترسم اسكتشًا سريعًا لموقفٍ ما يمتلئ بالجزئيات الصغيرة، فيرتفع بها إلى الكليات التي تحدِّد المشكلة، دون أن تجد لها حلًّا.
في قصة «الطفل» لألبرتو مورافيا، تقول الزوجة في بساطة: لو كانت لدينا المقدرة لذهبنا إلى السينما في المساء … ولكن هذا هو الحال … فلأننا لا نجد المال، نذهَب إلى السرير، وهكذا يُولَد الأطفال.
إنها ذاتُ المشكلة التي يعانيها فلاح الليالي الرخيصة، وحديثُ الزوجة إشارةٌ لما أراد يوسف إدريس أن يقوله في قصته. لم يضغط الفنان على دور الفن القيادي … فليس ثمَّة صرخةٌ رومانتيكية أو نهايةٌ سعيدة يفرضها على القصة لكنه اكتفَى بأن يحدِّد أبعاد لوحاته جيدًا، ويُعنى تمامًا بكل الظلال والألوان والإيحاءات، ثم يضع ريشته مدركًا أن الشعور السلبي للمتلقي سيُولِّد بالضرورة شعورًا إيجابيًّا.
وكما يقول يوري ناجيبين فإن يوسف إدريس «لا يلجأ أبدًا إلى زخرفة أبطاله من الفلاحين والعمال والسائقين والميكانيكيِّين وصغار الموظفين وغيرهم من ممثلي الشعب العامل … إنه يصوِّرهم كما هم في واقع الحياة، بكل ما فيهم من فضائل ونقائص.» … وتضيف زينب العسال في دراسةٍ متميزة عن «المرأة في قصص يوسف إدريس» أن الإجماع يكاد ينعقد على أن حياة إدريس تنعكس في مرايا أعماله … طفولة إدريس هي النبع الذي استمَد منه معظم أعماله القصصية، منذ أولى مجموعاته «أرخص ليالي»، إلى روايته التي لم تكتمل «ملكة»، وتُعَد المرأة — أمًّا وزوجةً بالتحديد — تكوينًا أساسيًّا في شخصيات إدريس (من كتاب «أجيال في الرواية والقصة» — قيد النشر).
وقد أضاف إدريس إلى تكنيك القصة القصيرة. تبدِّي المذاق التشيكوفي الرائع، الذي يترك نهاية القصة مفتوحة … لكنه يخلِّف في وجدان المتلقِّي تأثيرًا لا يُمحَى … وهذا هو قمة ما يهَبُه لنا الفن العظيم.
ومع أن إدريس اتهمني في حوارٍ صحفي بالتعسُّف، عندما قلتُ إن ملامح أبناء جيله باهتة في ظله القوي … فإن تأثير إدريس لا يقتصر على أبناء جيله وحدهم، وإنما على الكثيرين من أبناء الأجيال التالية أيضًا … فقبل رحيله بأعوامٍ قليلة، أجرى الأديب الشاب سعد القرش حوارًا مع يوسف إدريس، نقل إليه فيه أسئلةً لأدباء جيل الستينيات مع تحفُّظي الدائم على التسمية! وأذكُر أن ملاحظتي — لم تكن سؤالًا — تركَّزَت حول النجم الظاهرة الذي قلَّص أدوار الآخرين. عاشوا في ظل نجوميَّته الساطعة، فبهتَت ملامحهم. قال إنه كان مبدعًا ضمن تيارٍ من المبدعين، وإن هذه الملاحظة توجِّه إليه الاتهام، بقَدْر انتقاصها من قدرات الآخرين. وقرأتُ كلمات إدريس، وتساءلتُ بيني وبين نفسي: هل كان يعني ما يقول؟!
يوسف إدريس موجةٌ هائلة، تلَتها موجاتٌ أخرى لأجيالٍ متتابعة من كُتاب القصة القصيرة، هم الآن فرسان في الساحة. وسيمتد تأثير إدريس — بلا جدال — إلى أجيالٍ أخرى تالية.
۲
لعله من الخطأ أن نقصُر نظرتنا إلى يوسف إدريس باعتباره كاتبًا للقصة القصيرة وحدها. إنه فنانٌ متعدِّد المواهب. فنَّان حتى أظافره. خلَّاقٌ ومبدعٌ في كل ما كتبه، سواء كان عملًا أدبيًّا أو عمود رأي في جريدة.
هل أذكِّرك بالحرام؟ … عزيزة، امرأة الترحيلة التي دفعَها الفقر إلى الوقوع في الخطيئة؟ … خطيئة لم تكن مسئولةً عن ارتكابها، وكان المسئول الفعلي هو المجتمع الذي جعل الآلاف من أبنائه يحيَون على هامش الحياة، يقتاتون رزقَ يوم بيوم، وينظُر إليهم حتى أبناء جلدتهم من الفلاحين باعتبارهم كائناتٍ غريبة … أنت تغادر الحرام وقد اتسعَت أمامك بانوراما نابضة متدفقة، في قالبٍ روائيٍّ متماسك، وفذ، وبلا ترهُّلات أونتوءات.
لقد كتب هيكل زينب، وكتب طه حسين دعاء الكروان، وكتب الشرقاوي الأرض، وعبَّر حقي والبدوي وعبد الحليم عبد الله عن القرية المصرية في أعمالهم … وهي أعمال تتفاوت في اقترابها من التفوُّق أو ابتعادها عنه.
أما «الحرام»، فإنها — بلا جدال — أقربُ تلك الأعمال إلى روح القرية المصرية، وأشدُّها تعبيرًا عنها. وكانت هي البداية لأعمالٍ تالية، أجادت تناوُل الحياة في الريف المصري كما في قصص، وروايات، محمد خليل قاسم وبهاء طاهر وعبد العال الحمامصي وعبد الوهاب الأسواني ومحمد روميش ومحمد مستجاب وعبد الحكيم قاسم وأحمد الشيخ ومحمد البساطي وفؤاد قنديل وسعيد الكفراوي وخيري شلبي وإدريس علي وحسن نور وجار النبي الحلو ويوسف أبو رية ومحمد إبراهيم طه ومحمد عبد الله الهادي وسعد القرش وفريد معوَّض وإيهاب الورداني وعبد الحكيم حيدر … وغيرهم من أدباء الأجيال التالية.
•••
أما «الفرافير» فقد قدَّمَت نفسها كتجسيدٍ فنيٍّ للمسرحية المصرية التي لا تقف عند حد طرح المشكلات الآنية، أو تكتفي بتناول مظاهر الحياة في المجتمع المصري … ولكنها تُزاوِج بين الفنية العالية والتعبير عن المجتمع، وطرح المشكلات ذات المدلول الإنساني في آنٍ معًا.
أحدثَت «الفرافير» — حين عُرضَت على المسرح — تأثيرًا مُدوِّيًا، وتناولَتْها معظم الأقلام بالتقدير، واعتُبرَت بالفعل نقلةً جديدةً للمسرح المصري المعاصر. بل لقد احتل إدريس بها مقدِّمة الصفوف بين كُتاب المسرح، وهو الذي لم يكن قد كتب قبلها سوى مسرحيةٍ طويلةٍ واحدة، ومسرحيتَين قصيرتَين.
يقول يوسف إدريس عن فهمه للمسرح — أو التمسرح على حد تعبيره — بأن الجمهور إذا لم يكن مشتركًا في العمل المسرحي، فكأنه لم يرَ مسرحًا. ويضرب مثلًا بمسرح علي الكسار: كان يزاول «الفرفورية». وكان هو كفرفور أهم ما في رواياته. ربما أوقَف أحداث المسرحية، ليُلقي بنكتة، أو ليدخل قافيةً مع أحد المتفرجين. وقد ينتهز فرصة كلمةٍ تفلت من لسان متفرجٍ طويل اللسان، ليَنسَى الكسار الرواية تمامًا، وينهال — بكلماته اللاذعة — على المتفرج السيئ الحظ.
وأذكُر حين كنتُ رئيسًا لسلسلة «كتاب الحرية» أني حرَصتُ على أن يشارك في السلسلة شهودٌ على حياتنا المعاصرة، مثل فتحي رضوان (۷۲ شهرًا مع عبد الناصر) وعبد الفتاح أبو الفضل (كنت نائبًا لرئيس المخابرات) وغيرهما … واتصلتُ بأحمد بهاء الدين ويوسف إدريس. عرضتُ أن تُصدِر السلسلة كتبًا لهما.
هتف إدريس مرحبًا: سأقدِّم لك كتابًا مهمًّا عن علاقتي بثورة يوليو.
واستوضحتُ تفصيلات الكتاب. وأنصتُّ إليه ما يقرب من الساعتَين، وهو يروي ظروف ممارسته للعمل السياسي، في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وبالتحديد، منذ التحاقه بكلية الطب، ثم تفرُّغه للأدب والصحافة، من خلال آراء ومواقفَ سياسية، تبدَّت في تغطيته لأحداث ثورة الجزائر، وفي تعرُّضه للفصل والتشريد والاعتقال، وفي تأكيده المُلِح، أنه يريد أن يُحدِث زلزالًا في الحياة المصرية!
كان إدريس يروي، وأنا أُنصِت — في ملاحقة وإعجاب — للحكايات المثيرة التي شارك الرجل في صياغة أحداثها.
وطلب إدريس إهماله عشرة أيام، كي يعيد النظر فيما كتب، وذهبتُ إليه في الموعد الذي حدَّده. وأذهلَتْني البساطة التي أخبرني بها، أنه لم يكتُب حرفًا واحدًا مما رواه لي، وإن كان قد تصوَّر أنه سيفرغ لإنهائه في الفترة التي حدَّدها … لكن الشواغل صرفَتْه عن الإنجاز!
وعلمت من أصدقاءَ أشدَّ قربًا إلى يوسف إدريس، أنه قد يكتفي بالرواية الشفاهية، فلا يحاول كتابتها، وأنني أخطأتُ عندما تركتُه ينقلَ ما في ذاكرته إلى لسانه، بدلًا من أن ينقلَه إلى قلمه!
لقد مارس إدريس فرفوريته معي. عاش في حالة «تمسرح» كنت أنا ضحيَّتها، وإن استمتعتُ بدلًا من المتفرِّج الذي أشار إليه إدريس!
•••
وإذا كان إدريس قد غالي في تقدير قيمة مقالاته الصحفية، واعتبرها لونًا من الفن القصصي، فإن هذه المقالات لم تكن — في الحقيقة — مجرد آراء في أمور حياتنا … لكنها كانت أصداءً للزلزلة التي كان الفنان يحرص على إحداثها في المجتمع.
لقد وقفَت به بعضُ تلك المقالات أمام القضاء، متهمًا أو مجنيًّا عليه، ولقيَت إعجابًا من كثيرين، ورفضًا وسخطًا من كثيرين كذلك. لم يكن يشغَلُه ردُّ الفعل بقَدْر ما يشغله إحداث التفكير، إحداث الصحوة؛ حث الأذهان على التفكير، وعلى رؤية الصورة الحقيقية للواقع، ومحاولة استشراف المستقبل بلا رومانسياتٍ أو رؤًى انفعالية.
•••
أذكُر أني كتبتُ عن أحد كبار كُتابنا، أخذتُ عليه أنه حاول الكتابة في الرواية والقصة القصيرة والمسرح، إلى غير ذلك من فنون الكلمة … لكنه لم يُحاوِل الإجادة في كل ما كتب. رُقِّيَت بعضُ أعماله فجاءت متوسطة القيمة، لكن أحدها لم يضف إلى حياتنا الأدبية بما يستدعي التوقُّف كثيرًا ولا قليلًا … فأنت إذا وضعتَ قائمةً لكُتاب الرواية أغفَلتَه، وإذا وضعتَ قائمة لكُتاب القصة فعلتَ الأمر نفسه، وهكذا بالنسبة لكُتاب المسرحية والمقال … إلخ. أما يوسف إدريس، فانت لا تملكُ إلا أن تضعه في المقدمة بين أدباءَ كتبوا في كل الأجناس التي أسهم فيها بقلمه.
۳
وبعد …
فهذا هو يوسف إدريس. خاض المعارك، فنال من الاتهامات والشتائم ما يهدُّ جبلًا. وأبدع، فنال من ثناء النقاد — وسخطهم أحيانًا — ما لم يحدث مع كل مبدعي العصر … فيما عدا صاحب نوبل نجيب محفوظ.
وبالمناسبة: لقد أعلن إدريس أنه رشِّح قبل محفوظ بسنوات لنيل الجائزة العالمية. وهاجمناه على ما قال، واتهمناه بالغَيرة والحسد، لكن وثائق لجنة الجائزة أثبتَت أنه كان قد رشِّح للجائزة فعلًا … ونُشِر نبأ ترشيحه في مجلاتٍ عالمية لا شأن لها بيوسف إدريس، ولا بسواه من أدبائنا، ولا بخصوماتنا الأدبية أو الشخصية.
وإذا كان من حقنا أن نعتَز بنجيب محفوظ كأديبٍ مصري حقَّق العالمية برواياته، فإن من حقنا أيضًا أن نعتَز بيوسف إدريس كواحدٍ من أعظم كُتاب القصة القصيرة في العالم. وهو حكم لسنا أصحابه … لكنه تقدير أدباء ونقاد في كل الدنيا!
القاهرة ١٩٩١م (مع إضافات)