يوسف الشاروني: النظرة الكلية
حين قدَّم الصديق الراحل جلال العشري المجموعة القصصية الثانية في سلسلة «كتابات معاصرة»،
قسَّم أدباء ما يُسمَّى بجيل الستينيات إلى جرَّتَين — هذا هو التشبيه الذي اختاره!
—
الأولى اسمها نجيب محفوظ، تكسَّرَت إلى مجموعة من الأدباء، يدينون بالتلمذة لأستاذية
محفوظ
… والثانية اسمها: يوسف إدريس، تكسَّرَت إلى مجموعة من الأدباء يدينون بالتلمذة لأستاذية
يوسف إدريس.
وأذكُر أني كتبتُ — تعقيبًا على ما كتبه العشري — أنبِّه إلى خطورة أديبَين، لا يقلان
عمقًا وتأثيرًا في أدباء الأجيال التالية لهما، وهما: يوسف الشاروني وإدوار الخراط
… وإن
اتسمَت أعمال هؤلاء الأدباء — في الحقيقة — بالتميُّز الذي يعبِّر عن الذات الإبداعية،
ولا
يُحاكي.
وإذا كان الخراط قد لزم موقع الأستاذ بالفعل، فهو لا يكتفي بالإبداع، إنما يقرأ ويرعى
ويوجِّه ويقدِّم أدباء الأجيال التالية … وبالذات أدباء ما يُسمَّى بجيل السبعينيات
وجيل
الثمانينيات، إلى الأدباء الذين يخطُون بعدُ خطواتهم الأولى … إذا كان الخراط قد لزم
— منذ
سنوات — هذا الدور الذي يعتز — ونعتز — به، فإن أستاذية الشاروني تتحدَّد في معطياته
الإبداعية والنقدية … والمعطيات الإبداعية قليلة نسبيًّا، أثَّر فيها انشغاله بالعمل
الوظيفي داخل مصر وخارجها، وانشغاله — من ناحيةٍ ثانية — بالمتابعة النقدية لإصدارات
المطابع … وهي متابعةٌ لا تقف عند جيلٍ بذاته، ولا تحرصُ على صورة الأستاذ، لكنها
نوع من
القراءة الإيجابية — التسمية للشاروني نفسه — تشغلها قيمة العمل، والثراء الذي يشتمل
عليه،
والإضافة التي يقدِّمها إلى حياتنا الثقافية عمومًا.
•••
لقد صدَرَت «أرخص ليالي» — المجموعة الأولى ليوسف إدريس — في ١٩٥٤م. وصدَرَت في الشهر
التالي مجموعة يوسف الشاروني «العُشَّاق الخمسة». نسَب النقاد قصص إدريس إلى الواقعية
النقدية، بينما نُسبَت قصص الشاروني إلى التعبيرية. ولقي التيار الأول اهتمامًا ومتابعة
من
القُراء والنقَّاد، بينما ظل التيار الثاني محدود الانتشار — وإن كان عميق الأثَر
— فلم
يُفصِح عن ملامحه الواضحة في الكتابات النقدية، وأمام القارئ العادي، إلا عقب نكسة
١٩٦٧م.
أما لماذا اتجه الشاروني إلى الاتجاه التعبيري، فلأنه أدرك أن الشكل التقليدي يضيق
عن
استيعاب المضمون الذي يُعنَى بأن يُقولِب فيه أعماله، وهو مضمونٌ يصفه بأنه «متفجِّر».
ويضيف: «ومن خلال هذا الفوَران العام كانت أعمالي الفنية تنطوي على بصيصٍ من
التفاؤل.»
١ والتعبيرية تُعنَى — أساسًا — بالعالَم الداخلي. لا تتسق الرؤية الفنية مع
قواعد المنظور، لكنها — مثلما حدث في الفن التشكيلي بعد اختراع الكاميرا — تُعبِّر
عن رؤية
الفنان الداخلية، وليس مجرد الواقع الخارجي.
فإذا حاولنا مناقشة أبعاد تلك النظرة في قصص الشاروني، فإنها تبين في توحُّد الأسلوب
والمضمون، مثل قصة «الزحام» التي يتخلى فيها الفنان عن حروف العطف وأسماء الوصل، وتتزاحم
الجمل تزاحُم الناس في وسائل المواصلات، وفي معظم مناحي حياتنا.
قال لي يوسف الشاروني: عندما بدأتُ أكتب في نهاية الأربعينيات، وبداية الخمسينيات،
كانت
كتابة القصة السائدة هي ما نُسمِّيه اليوم الكتابة التقليدية، وما أسمِّيه أنا كتابة
القصة
تبعًا لقواعد المنظور — إذا استخدمنا مصطلحات الفن التشكيلي — لكنني أحسستُ أن التعبير
عن
الأوضاع الاجتماعية، العالمية والمحلية، بعد الحرب العالمية الثانية، يضيق عن استيعابه
هذا
الشكل التقليدي.
وإدجار ألان بو أقرب كُتاب القصة القصيرة الى الشاروني «من حيث جَو الفزع الذي تتحرك
فيه
شخصيات قصصه وتجاوز المعقول».
٢ أما ديستويفسكي، فقد نال إعجابه لقدرته المذهلة على الاقتحامات
الفنية.
٣ وأما من احتذاهم في تجاوز الأساليب التقليدية، ففي مقدمتهم جيمس جويس وفرجينيا
وولف وكافكا. وقد استهواه كافكا إطلاقًا، لإتقانه تصوير الجو غير الواقعي بما يبدو
واقعيًّا
عن طريق إعطاء تفصيلاتٍ دقيقةٍ للغاية. أشبه بما يحدُث في الكابوس، حيث تتوالى الأحداث
التي
يصعُب تصوُّرها لغرابتها، لكننا نتقبَّلها في الكابوس كأنها تحدُث بالفعل!
٤
ثمَّة الكثير من التطورات والمشكلات التي يواجهها العالم المعاصر، مثل الزحام، وثورة
المعلومات، وسرعة المواصلات، والتقدم العلمي والتكنولوجي. وقد انعكس ذلك كله على تطورات
حياتنا، وعلى المعطيات القصصية بالتالي.
لقد أصدر الشاروني أربع مجموعاتٍ قصصية، بينما بلغَت أعماله النقدية وكتب الدراسات،
ما
يقرب من العشرين كتابًا.
وإذا كان رأي سارتر أن الناقد هو شخصٌ وجد عملًا بسيطًا محترمًا كحارسٍ لمقبرةٍ أدبية،
فإن الشاروني ينفي عن نفسه صفة الناقد: «لستُ أزعم أني ناقد، اللهم إلا إذا فهمنا
النقد
بأوسعِ معانيه، وهو تذوُّق العمل الأدبي، والاستجابة له بطريقةٍ إيجابية، لتعريف الآخرين
بنواحي الضعف والقوة فيه.»
٥
مع ذلك، فإن يوسف الشاروني يحدِّثنا عن نظريته النقدية، وأن أهم أبعادها هي أن المجاملة
أخطرُ من الصراحة مهما آلمَت، وأن النقد كشفٌ عن جوانب العمل الفني وتتبُّع لمساره،
بحيث لا
يفرض حكمًا معيَّنًا على القارئ. بل يدَع له أن يحكم عليه بنفسه ولنفسه، فهو نقدٌ
يدعو
القارئ إلى المشاركة الإيجابية في عملية النقد.
أما منهج الشاروني النقدي، فهو يذهب الى أن العمل الفني ليس إلا ابن بيئته الفنية،
وأن
كثيرًا من جوانبه تتكشَّف لنا حين نربطه بهذه البيئة … بل إن الفنان الناقد، أو الناقد
الفنان، يدعو الى وضع أساسٍ علميٍّ لحركتنا النقدية، ويعتبر ذلك من أهم الدعاوَى التي
تشغل
تفكيره.
يقول أستاذنا زكي نجيب محمود: إن الكاتب في مصر يكتب في غير قضيةٍ أساسية، تكون في
حياتنا
الفكرية والأدبية بمثابة القطب من الرحى.
٦ وفي المقابل، فإن الصديق الناقد صبري حافظ يرى أن أعمال الكاتب — أي كاتب —
تشكِّل — في أغلب الأحيان — وحدةً عضوية، ترتبطُ جزئياتُها بأكثر من وشيجة؛ ذلك لأن
رؤية
الفنان لقضايا الإنسان الأساسية تتردَّد كالنغم عَبْر أعماله جميعًا، وتربطها كلها
في وحدةٍ
عضويةٍ متماسكة.
٧
ثمَّة قضايا أساسية تُلِح بالضرورة — أو هكذا أقدِّر — على أي كاتب مثل الحب، الموت،
الزمن، هدف الحياة … إلخ. ويوسف الشاروني الناقد يُعنَى ببيان موضع العمل الفني لكاتبٍ
ما
من التاريخ الأدبي للمؤلِّف نفسه: هل هناك بذور للعمل الفني فيما سبقَه من أعمال،
بذور
الأسلوب أو الموضوعات أو الشخصيات؟ … وهي خطوة من شأنها — في تقدير الشاروني — أن
توضِّح ما
إذا كان للكاتب فلسفة، أو وجهة نظر يلتزمُها في كتاباته، وما تحقَّق فيها من تطوُّراتٍ
روحية وفكرية وتعبيرية.
٨ ذلك ما فعله الشاروني عندما تناول رواية «فساد الأمكنة» لصبري موسى، و«المشي
على الصراط»، ليحيى الرخاوي، و «حب في كوبنهاجن» لمحمد جلال، و«وراء الشمس» لحسن
محسب.
وقد أفاد الشاروني الفنان من الشاروني الناقد، والعكس صحيح. وهو ما يتبدَّى بوضوح،
سواء
في الأعمال القصصية للكاتب، أو في الأعمال النقدية؛ فالهموم والمشكلات والقضايا التي
يُعنَى
الفنان بتضمينها أعماله، يُعنَى الناقد بالبحث عنها فيما يقرؤه من أعمال الآخرين.
•••
وأذكُر أني سألتُ الشاروني — السؤال نفسه وجَّهتُه من قبلُ لمحفوظ وحقي والسحَّار
وغيرهم:
هل ترى أن مجموع أعمالك يعبِّر عن فلسفة حياة؟
قال: نعم؛ فأنا أعتبر باستمرار أن الفرد أضعفُ من المجتمع. الإنسان المعاصر يُعاني
ضغوطًا
رهيبة لكي يحصُل على أولويات حياته، مثل الجنس والعمل والسكن. كما أنني أومن باحترام
الإنسان؛ ففي قصة «الرجل والمزرعة» — على سبيل المثال — تناولتُ حكاية زوجَين عاقرَين،
وكيف
احتفَلا ورحَّبا بولادة طفلٍ أتاهما بعد سنواتٍ من الزواج. وعلى عكس ذلك، ففي قصة
«آخر
العنقود» تناولتُ حكاية أسرة ازدحمَت بالأطفال، ثم اقتحم طفلٌ حياة هذه الأسرة، وكان
مجيئه
مرفوضًا … لكن بمجرد ولادته انقلَب هذا الرفض الى ترحيبٍ شديد، لدرجة أن الأسرة كلها
ذهبَت
لتحضر حفلًا مدرسيًّا سيقول فيه هذا الطفل الذي أصبح في الثانية الابتدائية، جملةً
واحدة!
•••
لعل العنوان الرئيسي الذي نستطيع أن نضع تحته النظرة الكلية ليوسف الشاروني في مجموع
أعماله، هو «التقدم»، تقدُّم الإنسان، وتطوير حياته، وانتزاعُها من براثن التخلف والفساد
والظلم والقهر وكل البشاعات التي تتهدَّده، واستشراف آفاقٍ أكثر إيجابيةً وإشراقًا
… يقول
أحمد عباس صالح: «إن عشرات الكشوف العلمية لا تستطيع أن تُحرِّك شعبًا لعمل ثورة،
ولكنها قد
تكون سببًا في ظهور حالةٍ اجتماعيةٍ غير متوازنة، ينبغي التنبيه إليها بواسطة الفن،
واستفزاز الشعوب بها لعمل الثورة وإعادة التوازن.»
٩
وتتوضَّح حفاوة الشاروني بالتقدُّم في تأكيده على أن كلمة تطوُّر ليست مرادفةً للتقدُّم.
التطور يعني التغيير بما يتخلَّله من مراحل ازدهار وانتكاس على السواء؛ ومن ثَم فإن
كل نمُو
أو تقدُّم يُمكِن أن يكون تطورًا، والعكس ليس صحيحًا، بمعنى أن كل تطور ليس نموًّا
أو
تقدُّمًا بالضرورة.
١٠
الشاروني يتساءل في نقده لرواية عبد الرحمن منيف «الأشجار واغتيال مرزوق»: ماذا فعل
جيلي
من الكتاب والأدباء؟ … وماذا فعلَت أجيال الكُتاب من قبلنا، وبعدنا؟ … ولمن نكتُب؟
… بل
ولماذا نكتب؟ ويجيب على تساؤلاته: صحيحٌ أن الأديب ليست مهمته أن يخطب أو يعظ، لكنه
— على
الأقل — كشاهد على عصره، يأمُل عن طريق نظرته، التي يدفعُها الاحتجاج في معظم الأحيان،
أن
يتطوَّر مجتمعه، إلى الأفضل دائمًا.»
١١
ويقول: «أعتقد أن كل أدبٍ جيد، لا بد أن يكون دافعه احتجاجًا من نوعٍ ما باستمرار،
مهما
بلغَت البشرية من تقدُّم، فهناك أوضاعٌ أكثرُ تقدُّمًا. وما يكون كماليًّا اليوم،
يصبح
ضروريًّا غدًا. ومهمة الكاتب أن يطالب دائمًا بما هو أفضل؛ فالرغبة البشرية في التحسُّن
أو
التقدُّم لا تنتهي. وهذا هو الدافع الأساسي — فيما أعتقد — لكتابتي. وأعتقد أنه هو
نفسه
بالنسبة للآخرين أيضًا.»
١٢ ويؤكِّد الشاروني أن أزمتنا ليست مجرد أزمةٍ اجتماعية، كما هي في نظرة المدرسة
الواقعية، بل هي أزمةٌ حضارية، مارَّة بالأزمة الاجتماعية؛ أي إن الأزمة الاجتماعية
إحدى
مظاهر أزمتنا الحضارية.
•••
وابتداء، فإن الفنان يجد في الحرب — وقد كتب كل قصصه في سني الحرب العالمية الثانية،
وبعدها — نفقًا مظلمًا يفضي إلى تدمير كل ما أنجزَتْه البشرية، وكل ما تتطلَّع إلى
إنجازه
في المستقبل.
الإنسان المعاصر، ذلك الذي عانَى ويلات الحرب العالمية الثانية، ثم عانى — فيما بعدُ
—
نتائجها التدميرية والسياسية والاجتماعية، هو بطلُ أغلب قصص الشاروني. ثم سعى لأن
يُجاوِز
ذلك كله إلى مستقبلٍ أفضل، سواء على مستوى الفرد، أو على مستوى العالم.
المثل القديم يقول: أما السِّلم فهو حُلم العقلاء، وأما الحرب فهي تاريخ الإنسان.
وإذا كان التاريخ البشرى قد أفرَز الكثير من «العقلاء» الذين جعلوا الدعوة إلى السِّلم
قضية حياة، فإنه قد أفرز — في الوقت نفسه — مئات الملايين من المفكرين والعلماء والقادة
والجنود الذين «امتهَنوا» الحرب؛ أي جعلوها مهنة لهم، يخطِّطون، ويخترعون الأسلحة
ويُنتجونها، ويُصدرونها، ويخوضون المعارك … وكما يقول آنجل فإن الحرب — وأستثني الحرب
التي
تستهدف الدفاع عن حق الإنسان في الحياة، وحقه في حرية بلاده — وهمٌ كبيرٌ ظن الناس
أنه
وسيلة ربحٍ اقتصاديٍّ مادي، أو حل لمشكلات السياسة.
والوباء الذي يعنيه الفنان في قصة بنفس الاسم، هو إفرازات الحرب العالمية الثانية
في مصر،
وفي العالم. ثمَّة انعكاساتٌ للوباء على حياة الناس في بلادنا، وهي انعكاساتٌ سلبية
إطلاقًا. وثمَّة انعكاساتٌ أخرى، سلبية أيضًا، على حياة العالم … أخطرها تلك الانقسامات
التي تسبَّبَت في قيام الحرب، ثم استمرَّت — بعد انتهائها — بصورة، وبأخرى.
والحق أن معظم قصص الشاروني تعبيرٌ عن تأثُّرٍ بالغ بأحداث الحرب العالمية الثانية
…
فشباب الجيل ينتشرون بين القهاوي، يقتلون الوقت، أو يتسكَّعون وراء الفتيات في الطرقات
الكبيرة. يربط بينهم الإحساس بالشقاء والفزع، والتأرجُح ما بين اليأس الكبير والأمل
الكبير.
١٣ بل إن مهنة زيطة كانت لا شيء بالقياس إلى صناعة القنابل وأسلحة التدمير. وكما
يقول الفنان، فهناك تشويهٌ خلَّاق كالذي يصنعه زيطة، وتشويهٌ محطِّم كالذي تصنعه لنا
الحرب
والغارات … ويقول في حوار مع نبيل فرج: «كانت فترة دراستي الجامعية هي نفس فترة الحرب
العالمية الثانية من ٤١–٤٥؛ فسنة تخرُّجي في الجامعة، هي نفس السنة التي انتهَت فيها
الحرب.
وهي نفس السنة التي بدأتُ أتأهَّب فيها للكتابة والنشر. وجدتُ نفسي أواجه عالمًا يتنفَّس
الصُّعداء بانتهاء الحرب، ولكنه ينوء بعبء مشاكلِ ما بعد الحرب. وكانت مشكلة مصر بالذات
هي
أنها كانت تحلُم بالاستقلال بعد هذه الحرب. كما كانت تحلُم به بعد الحرب العالمية
الأولى،
مع تغيُّر الظروف؛ ولهذا فقد كانت فترة غليانٍ سياسيٍّ واجتماعي معًا.
١٤
كان العالم — عقب انتهاء الحرب — يستعد لحربٍ جديدة، بغير أن يتخلصَ من آثار
الحرب.
١٥ ولم يعُد صراع العصر يقتصر على هؤلاء الذين يريدونه، ويعلنونه، ويشاركون فيه.
بل هو يمتد إلى الآخرين الذين لا يُدلون برأيٍ في المعركة، ويُحاوِلون عبثًا أن يتجنَّبوا
لفح الصراع.
١٦ وكما يقول الفنان، فإن الحدث العام جزءٌ جوهريٌّ من الحياة الخاصة، من حياةِ كل
إنسانٍ الخاصة.
١٧ والعديد من قصص الشاروني يربط بين العام والخاص، بين المشكلات الفردية ومشكلات
المجتمع، وبين المشكلات المحلية ومشكلات العالم … وعلى سبيل المثال، فإن الفنان، بعد
أن
يروي مأساة العشاق الخمسة، يشير — في نهاية القصة — إلى أنه كانت قد اكتُشفَت في نفس
الفترة
طريقة لمعالجة شلَل الأطفال، وابتُكر أسلوبٌ جديد لحفظ المعادن والآلات من الصدأ،
واختُرعَت
آلة تحل مائة ألف مسألة في دقيقةٍ واحدة، وتوصَّل العلماء الى آلةٍ أخرى تقيس ما يكون
تخانتُه أقل من الشعرة البشرية بثلاثمائة ضعف، واكتُشِف قطبٌ مغناطيسيٌّ آخر في شمالي
الكرة
الأرضية، وأُجريَت تجاربُ لإعادة الحياة بعد الموت، وكان حكمُ الإعدام قد ألغِي في
بعض جهات
العالم.
لقد كان مصرع عباس الحلو، ذلك الحلَّاق الشاب بزقاق المدق، جريمةً اقترفها عصر. الجنود
الذين قتلوه بالزجاجات، وحميدة التي تخلَّت عن حبه، والعلماء الذين صنَعوا أسلحة التدمير،
والزعماء الذين أعلَنوا الحرب، والقادة العسكريون الذين قادوا الجنود في حربٍ قاسيةٍ
مدمرة.
ويقول الفنان: «أنتم تضحكون بلا شك من جدوى هذا الاتهام … فهو يتناول لفظًا مجردًا،
ولا
يتعلق بأفرادٍ معيَّنين نستطيع أن نُبصِرَهم ونلمسَهم ونكرهَهم، وأن تقتصَّ منهم العدالة
التي تحرصون عليها دائمًا، لكنكم تدركون كذلك أن كثيرين غير عباس الحلو قد ماتوا أيضًا
بسبب
العصر، بعضُهم غرق في البحر وأكلَتهم الأسماك، وبعضهم صعقَتهم الغارات ودفنَتْهم تحت
الأنقاض، وبعضهم جُن، وبعضهم تشوَّه، وبعضهم ترمَّل أو تثكَّل أو تيتَّم، وبعضهم مات
مثل
عباس الحلو بسبب حادثٍ غرامي في حانة من حانات اللهو، وفي بلدٍ لم يذق من أهوال الحرب
ما
ذاقته بلادٌ أخرى. وفي كل حالةٍ من هذه الحالات كان القتَلة مجهولين. وكانت العدالة
التي
تحرصون عليها — أيها السادة — تقف دائمًا معصوبة العينَين.
١٨
أما زيطة صانع العاهات، فهو ليس إلا إفرازًا طبيعيًّا لطفولةٍ تعيسة … فقد عاش بين
رجل
وامرأة ليسا أبوَيه، وائتلف مع القاذورات والحشرات والمياه الراكدة والعطَن. وكان
زعماء
العالم آنذاك يصنعون الحِقد والكُره في القلوب، ويصنعون القنابل والطائرات في المصانع،
ومزَجوا ذلك كله، وصنعوا منه حريقًا عالميًّا هائلًا.
١٩
وفي قصة «العشاق الخمسة» يموت حامد، ويعاني أصدقاؤه الرعب، رعبٌ قاسٍ مُحبِط … لكن
الأمل
ما يلبث أن يبين عن قسماته، ويجتذبهم حبٌّ جديد، في موازاة استعادة العالم لاتزانه
ووعيه في
أعقاب الحرب العالمية الثانية، وسعيه المؤكَّد نحو التقدم بتوالي الاكتشافات العلمية
والإنسانية الباهرة: «كنتُ أُحِس أنهم يفعلون ذلك لآخر مرة في حياتهم. وكنتُ أدرك
أن وفاة
صديقهم أرعبَتْهم. غير أني كنتُ أدرك أيضًا، أن الألم هنا هو بدء الطريق؛ فأنا أعلم
أن
المأساة ليست سوى جانبٍ من جوانب الحدث. بل أنا أعلم أكثر من هذا، أن كل مأساة تحمل
معها
عناصر خلاصها، وأن النور يضيء في الظلمة.»
٢٠
أبطال الشاروني يضنيهم البحث عن الهدوء، وعن السلام والحب والطمأنينة والوظيفة والبيت
والتعاطف الإنساني. يقول: «شخصياتي تبحث عن الطمأنينة، ولا تنشد إلا الطمأنينة. ويبدو
أن
هذا هو أعسرُ طلَب في العصر الحاضر. والقاعدة أن تكونَ الشخصيات قلقةً أرقة، تُثقِل
كاهلها
ضغوطٌ تنوء بعبئها، مادية ونفسية وفكرية … ذلك أن الفرد دائمًا أضعف من المجتمع، وتتمثل
كل
محاولاته في أن يجد لقدمه مكانًا في هذا العالم.»
٢١ ومصير الشخصيات — كما يقول الراوي في قصة «الوباء» — ليس مستقلًّا عن الأرض؛
فمن هذه الأرض تنبعث قيودٌ وعلاقاتٌ تجذبنا دائمًا نحو مصيرنا الذي نحياه، ونحاول
الفرار
منه.
٢٢
•••
قلتُ ليوسف الشاروني: علم الاجتماع الأدبي في مقدمة الاهتمامات التي عُنيتَ بها …
فما
«صورة» مصر في إبداعاتك؟
قال: من الطبيعي لأي كاتب أن يستمد المكان في قصصه، من بيئته التي عاش فيها؛ فهي مصدرٌ
رئيسي من مصادر مادته التي يقيم منها بناءه الفني، لا سيما البيئة التي عاش فيها في
طفولته.
ولكل بيئةٍ معالمها الشديدة الخصوصية، والتي إذا استطاع القاص أن يُجيد توظيفها في
قصصه،
نجح في إضفاء طابعٍ مميزٍ لأدبه، يهبه خصوصيته وإنسانيته. وأعتقد أن من سمات أي فنان
أن
يكون الهم العام هو همه الخاص. وهذا هو الذي يهبُه الشحنة الدافعة للإبداع، والصلة
بينه
وبين قُرائه. وللأسف — ولحسن الحظ في الوقت نفسه — فإن هم مصر كان دائمًا همي الخاص،
وإن
كان هذا الهم يتحدَّد في دوائر ثلاث؛ مصر، عالمنا العربي الذي يرتبط بمصر، شئنا أم
أبَيْنا،
باعتبار أن مصر قلب العالم العربي، وأكثره سكانًا. أما الدائرة الثالثة، فهي الدائرة
العالمية التي أصبح من المستحيل الانعزالُ عنها وعدم التأثُّر بها، في هذا العصر الذي
تقدَّمَت فيه وسائل المواصلات والاتصالات والمعلومات هذا التقدُّم المذهل، مما يجعل
من
المتاح — على سبيل المثال — لدولةٍ كبرى أن تحرِّك الخيوط بما يشبه «الروموت كنترول»
في
معظم دول العالم، دون أن تطأ أراضيَ تلك الدولِ قدمُ جنديٍّ واحدٍ من جنودها، كما
كان
مألوفًا حتى منتصف القرن العشرين.
ومسرح الحوادث في قصصي، معظمه في المدينة المصرية، وبالذات في القاهرة … لكن للريف
نصيبه
الملحوظ أيضًا. وربما تلك النسبة ترجع إلى تجربتي الحياتية، فقد عشتُ في القاهرة أساسًا
لكنني كنتُ أتردَّد على الريف — جزيرة شارونة وسط النيل بمحافظة المنيا — في إجازات
صباي
الصيفية؛ حيث كان يعيش جدي وجدتي لأمي، حتى وفاتهما عندما بلغتُ السادسة عشرة؛ أي
نهاية
مرحلة الدراسة الثانوية. وقد اختزَنتُ ذكرياتي عن الحياة في هذه القرية، لأعود إلى
إفرازها
في قصص مثل: الأم والوحش، قصص الثأر الأربعة، العيد، حلاوة الروح، زين، المعذَّبون
في
الأرض، نظرية الجلدة الفاسدة، الثعبان، حمار جدي، العفاريت … إلخ. أما القصص التي
تدور
أحداثها خارج مصر، فلا تتجاوز أربع قصص، منها ثلاث مسرح أحداثها الخليج العربي؛ حيث
عشتُ في
سلطنة عمان تسع سنوات هي: الانتقام، الثور شاهين يعتزل، فرحة تفوز في السباق … بينما
هناك
قصةٌ واحدةٌ تدور أحداثُها في مدينة لندن هي «دعوة لتناول الشاي».
وثمَّة قصصٌ أُطلِق عليها القصص الكونية؛ أي التي يمتزج فيها المحلي بالعالمي، مثل
قصتي
«زيطة صانع العاهات»، و«مصرع عباس الحلو»، المستوحاتَين من رواية «زقاق المدق» لنجيب
محفوظ.
الأولى تمتد زمانًا من المسيح صانع المعجزات منذ ألفَي عام، إلى زيطة صانع عاهات القرن
العشرين، ومكانًا من قواد الجيوش الذين يصنعون التشويه على نطاق الجملة، إلى زيطة
الذي
يمارس فن التشويه في حارات القاهرة على نطاقٍ ضيق. أما قصة «مصرع عباس الحلو» فهي
تُحمِّل
العالم كله مسئوليةَ مصرعِ هذا الحلَّاق في إحدى حانات القاهرة؛ حيث شارك في مصرعه:
هتلر
الذي أعلن الحرب العالمية الثانية، ومصنع الخمور في بوردو، والبحَّارة الذين أبحروا
بهذه
الخمور ما بين فرنسا ومصر. حتى صديقه حسين كرشة، وحميدة الفتاة التي أحبها. كذلك من
هذه
القصص «نشرة الأخبار» التي يدور محورها حول بيتٍ ينهار في أحد أحياء القاهرة، بينما
راديو
قهوة الحي يُذيع نبأ إطلاق أول قمرٍ صناعي يدور حول العالم … وقصة «نشرة الأخبار»
تقدِّم
نموذجًا لمحور معظَم قصصي، وهو ما أسمِّيه الهم المصري الذي يؤرِّقني بتخلفه، بداية
من
أوائل قصصي: العشاق الخمسة، اليوم الثامن، مرورًا ﺑ: الحذاء، ونظرية الجلدة الفاسدة،
وشكوى
الموظف الفصيح … حتى اعتراف ضيق الخُلُق والمثانة، ومن تاريخ حياة مؤخَّرة، والوقائع
الغريبة لانفصال رأس ميم، والضحك حتى البكاء.
وإذا كانت النسبة بين قصص المدينة وقصص الريف تتناسب طرديًّا مع الفترات التي عشتُها
في
كلتا البيئتَين، فإن العكس قد حدث بالنسبة للبيئتَين الإسلامية والقبطية، ومساحة كلٍّ
منهما
في قصصي؛ فبالرغم من البيئة المسيحية التي نشأتُ فيها، فإنني أُحِس وجدانيًّا أنني
أنتمي
إلى البيئة الأكبر والأشمل، وهي البيئة الإسلامية. ومع ذلك، فإن بعض شخصيات قصصي تنتمي
إلى
البيئة القبطية بخصوصياتها، مثل الظفر واللحم، أنيسة، جسد من طين. أما قصة «رأسان
في
الحلال» فمحورها علاقات الجوار الطيِّبة بين أسرتَين، مسلمة وقبطية.
وعلى الغلاف الخلفي للجزء الثاني من المجموعات القصصية الكاملة، نقرأ أنها بقلم «يجوب
ريف
مصر وعاصمتها، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، مُبرِزًا سمات الشخصية المصرية،
إيجابًا
وسلبًا، وأن القصص تميَّزَت برصد حركة المجتمع المصري وتحوُّلاته. فأبطال القصص يُغطُّون
قطاعًا عريضًا من الشخصيات المصرية، مثل: الولي، قديس في حارتنا … وشخصية المنطوي؛
سرقة في
الطابق السادس … والمثقَّف في «القيظ» … والأسرة المصرية في عقمها وخصوبتها في قصتَي:
الرجل
والمزرعة، وآخر العنقود … والموظَّف الشاب الطيب القلب الذي يشقَى في سبيل الوصول
بأبنائه
إلى أوضاعٍ أفضل منه، ويتحمَّل البَهدَلة في سبيل ذلك، ويُدافِع عن كرامته دفاعًا
لا طائل
من ورائه في قصة «مع فائق الاحترام»، وفي مقابله الموظَّف الأرقى الذي يُفرِحه أن
يحقِّق
نفوذه في تعيين موظَّفٍ جديد، ولو أن فرحتَه لا تتم لأن الموظَّف الشاب تُوفي فجأةً
قبل أن
يتسلَّم وظيفته؛ قصة «قرار التعيين». كذلك فإن بعض أبطال القصص من قاع المجتمع المصري،
مثل
الخدم، على نحوِ ما نقرأ في قصصي: العيد، شربات، حلاوة الروح.
أما همومي فيما يتعلق بالنظم السياسية التي حكمَت مصر على التعاقُب، فقد كانت خلفيةً
واضحةً لما أُطلِق عليه قصصي التعبيرية، مثل: الزحام، لمحات من حياة موجود عبد الموجود،
دفاع منتصف الليل، اعتراف ضيق الخُلُق والمثانة، من تاريخ حياة مؤخَّرة؛ حيث الواقع
المشحون
بالرمز، بل لعل الشكل التعبيري الذي تميَّزَت به هذه القصص وغيرها، والذي ميَّز هذه
القصص
عن قصص التيار الواقعي، منذ الخمسينيات، كان هو الشكل الأمثل، والذي فرض نفسه على
قصصي،
للتعبير عن ذلك القلق على مصير الوطن، والخوف على مستقبله بسبب أوضاعه الكابوسية.
وللأسف
فقد تحقَّق في الستينيات وبعدها، كثيرٌ مما كنتُ أخشاه منذ مطلع الخمسينيات. كما أن
هذا
الشكل التعبيري قد أصبح أكثر شيوعًا عند الأجيال التالية من كُتاب القصة القصيرة المصريين.»
٢٣
ويقودنا هذا إلى ما اتسمت به بعض القصص من لمسةٍ تنبؤية لما تلا ذلك من أحداث مصرية،
مثل
قصة «الحذاء»، التي نُشرَت في مجلة «الأديب» البيروتية في أبريل ١٩٥١م؛ حيث إن بطلها
ساعٍ
في إحدى المصالح الحكومية، عنده حذاءٌ وحيد، قديم، كل رتقٍ فيه طلائعُ فتقٍ أكبر،
حتى ضاق
به الإسكافي قائلًا له: هذه آخر مرة أرتقُه لك، وعليك أن تشتري حذاء جديدًا … في ذلك
اليوم،
كان عمال المواصلات قد أضربوا، وكان عليه أن يعود سائرًا، مما اضطرَّه أن يُواجه المعركة
بين قدمَيه وحذائه الذي ضاق عليه. وواضح أن هذه القصة كانت تُشير — بوعي — إلى أنه
لا بد من
تغيير النظام الذي ضاق به الناس، ولم يعُد يجدي مزيدٌ من رتقه. كذلك قصة «نظرية الجلدة
الفاسدة» التي تنبَّأَت بهزيمة ١٩٦٧م؛ حيث كشفَت عن الفساد المفضي إلى الهزيمة. الجادُّون
يُستبعَدون، ويُحرَمون من مكافأتهم ماديًّا، وتكريمهم أدبيًّا، بينما يحدُث العكس
مع من كان
يجب عقابُهم، حتى إنه لكي تُطلِق دولة قمرًا صناعيًّا في الفضاء، يجب ألا يفقد من
مخازنها —
إهمالًا أو سرقة — شيءٌ من عُهدَتها؛ فالقائمون على حراستها هم إخوة أو آباء وأبناء،
أولئك
العلماء الذين يعملون في إطلاق صواريخهم الفضائية. أما قصة «الأم والوحش» فقد تنبأَت
بانتصارنا الجزئي في ۱۹۷۳م؛ فأم سيد رمز لمصر؛ فهي من قرية الكرنك بالأقصر، يُشبهها
السائحون بالملكة الفرعونية الجميلة نفرتيتي، تدافع عن طفلها بفرع شجرة في شجاعةٍ
منقطعة
النظير، ضد الوحش الذي يريد افتراسه. ومع أنها لم تقتله، إلا أنها استطاعت أن تفقأ
إحدى
عينَيه، بينما تُبتَر منها أصابع ثلاثة، كان الوحش قد حاول قَضْمها.
أضاف الشاروني: هل تعلم أني لم ألحظ كل هذه الدلالات في قصصي، لولا سؤالك الذي فاجأني،
وأثار في داخلي ما دفعَني إلى توضيحٍ ربما طال بعض الشيء.
والكلام للشاروني!
•••
الأزمة ليست اجتماعية، كما تذهب إلى ذلك المدرسة الواقعية، لكنها أزمةٌ حضارية تُعَد
الأزمة الاجتماعية بعض إفرازاتها … فوقوع حادثٍ صغيرٍ في أحد أزقَّة القاهرة، يرتبط
ارتباطًا وثيقًا بما يحدُث على بعد آلاف الأميال.
٢٤
ويحدِّد الشاروني أهم تطوُّرَين حدثا للمجتمعات الحديثة، مجتمعات ما بعد الحرب العالمية
الثانية، بأنهما: سرعة المواصلات مما أدى إلى سرعة تناقل البشر والأنباء والبضائع
والأسلحة
والموضات، وأيضًا سرعة أخطار الحروب.
والتطوُّر الثاني، هو زيادة السكان بصورةٍ مذهلة، وما أسفر عنه هذا الزحام من أخلاقياتٍ
جديدة، في مقدِّمتها التنافُس الذي قد يبلغ حد الجريمة، وقيَّد حرية الإنسان في أوليَّات
حياته، كاختيار سكنه، والحصول على قوته. وكان لهذين التطوُّرَين — وغيرهما من تطوُّراتٍ
حضارية واجتماعية — أثَرٌ في ظهور شخصيات أكثر تعقيدًا من مجرَّد نشوب صراعٍ داخلي
فيها.
٢٥
يقول لي: لقد أفاد البينسيلين البشرية، لكنه زاد من مشكلة الزحام، وهي أخطَر المشكلات
التي تُعانيها البشرية الآن.
ونحن نلحظ أن بطل قصة «دفاع منتصف الليل» لم يكن يشغله إلا الفرار من زحام المدينة
الصاخب، إلى مكانٍ يتسم بالهدوء. كانت زحمة الطريق تُضايِقه. حتى القهوة التي اختارها
لأنها
هادئةٌ بعض الشيء، كانت تزدحم في الكثير من الأمسيات، فينعكس ضجيج الناس ووهج النور
في
عيونهم، وفي رائحة دخانهم، فيصيبني انقباضٌ ويأسٌ شديدان. كان الأمر في بدايته مجرد
رغبة في
الهدوء، ثم أصبح شبه إحساس بالخوف، وبلزوجةٍ في أجسام الناس وكلماتهم ونظراتهم.
٢٦ ويقول المحصل فتحي عبد الرسول: «في زحام الأوتوبيس ظننتُ أني في إحدى غرف
طابقنا الأرضي. السقف منخفضٌ كسقف غرفتنا. الناس يزدحمون على هيئة أقواس وأنصاف دوائر
كما
يزدحمون في طابقنا. أجسام الرجال وأجسام النساء تنضغط، فيتوهَّج الجنس. الداخلون والخارجون
يتصادمون، يدوسُ بعضهم بعضًا، فيعلو الشجار. يركِّز الواحد منهم كل تفكيره على مقعدٍ
قد
يخلو. هذا الاحتمال يصبح أهم ما يشغل فكره في العالم، كأنما عليه يتوقَّف مصيره.»
٢٧ ويقول الفنان على لسان أحد شخصياته: الزحمة حرب … كلما نظرتُ إلى أطفالي أشفقتُ
على مستقبلهم. بعد بضع سنوات، لن يجد الناس مكانًا على الأرض إلا واقفِين مُتلاصِقين.
النكتة أن الزحمة نتيجة التقدُّم الطبي. وتغلغُل الأطباء في الريف، نعمة ولَّدَت نقمة
… فمن
يصدق؟
٢٨
ولا يخلو من دلالة، قول الراوي في قصة «الزحام»: «أما أنا، فقد اضطُرِرتُ — بين صخب
المدينة وزحمتها — أن أتخلى عن سمنتي حتى أُفسِح مكانًا للآخرين، وأجد متنفسًا لي
بينهم.»
٢٩
وزحام المدينة يدفَع الراوي إلى استعادة طفولتِه قبل أن يغادر القرية إلى المدينة:
«أريد
أن أشمَّ رائحة الخضرة. أن أتنفَّس ضوء القمر ينتشر على حقولٍ غطَّتها عيدان الأذرة.
لم
أعُد أشمُّ إلا رائحة العرق والأنفاس. في الليل يختنق القمر تحت زحمة البيوت.»
٣٠
ويمتزج الضيق بالزحام، بالخوف من المطاردة، من محاولات التسلط والقهر في قصة «دفاع
منتصف
الليل»، حين يدرك الراوي وهو يعبُر شوارع المدينة، أن هناك مَن يتبعه وسط الزحمة،
يتساءل:
أنا رجل مسالم لا أصدقاء لي ولا أطفال … فلماذا يتعقبني شخص أو أشخاص، وأنا سائر في
هذه
الزحمة الكريهة؟!
والزحام — بالطبع — نتيجةٌ مباشرة لكثرة التناسُل. وإذا كانت المشكلة قد فرضَت نفسَها
على
الحياة المصرية منذ السبعينيات، فإن الشاروني يحذِّر من المشكلة باعتبارها مشكلةً
محلية —
وعالمية أيضًا — منذ الخمسينيات، فقد كان عبد الموجود أحد إخوة عشرة. وكان أبوه فرحًا
بهذه
الكثرة، ويقول إن لكل ولد رزقَه. بل إنه طالما شبَّه أسرتَه بالشجرة المتعدِّدة الأغصان،
لكن الرجل — بسبب تلك الزيادة المُسرِفة في عدد الأبناء — لم يستطع أن يُعلِّم واحدًا
منهم
تعليمًا عاليًا، ولم يخلِّف إلا منزلًا، اضطُر إلى بيعه بعد وفاته. ومع ذلك فإن عبد
الموجود
لم يستفد من مأساة أبيه، فقد حرصَت زوجتُه أن تنجب له طفلًا كل عام، لا يشغلها أن
كل شيء
أصبح له ثمَن، والولد الذي لا يتعلم لا مستقبل له، وكل لقمةٍ لها تكاليفها: «النساء
الجاهلات هن وحدهن اللائي لا يعرفن كيف يتحكمن في مثل هذه الأمور، فيلدن كالأرانب.»
٣١
الشاروني يؤمن بالمصير الإنساني الواحد، انطلاقًا من المشكلات الإنسانية الواحدة.
وكما
يقول في دفاعه عن عباس الحلو بطل زقاق المدق، فقد كنا موجودين جميعًا ليلة مصرع الحلو،
ولم
نفعل شيئًا في سبيله، وحرَمْناه حقَّه في التحرُّر، لئلا يُحرِّرنا معه، واحتمَينا
بجهلنا
وفضائلنا السابقة، والمقبلة، فتركناه ونحن نتنفَّس معه عطرًا واحدًا، ونتناول معًا
خبزًا،
ربما من مخبزٍ واحد، أو من قمحِ حقلٍ واحد. كان كلٌّ منا يعبُر طريقه في الحياة. ويختلف
مدى
أطماعنا ومدى قدراتنا. وكان طريق عباس الحلو قد تعرَّج بين هذه الطرق، حتى ضاق عليه
الخناق
شيئًا فشيئًا، وقتلَتْه اللكمات والركلات والزجاجات، وفحص الطبيب الجثة، وكتب المحقِّق
التقرير، وخط أمام اسم القاتل بخطٍّ واضحٍ ظاهر كلمة «مجهول».
٣٢
الفنان يدافع عن الفرد في مقابل إدانته للمجتمع. الجماعة مسئولةٌ عن تصرُّفات أفرادها.
إنها تفرضُ معتقداتها وتقاليدها وقسوتها … ولامبالاتها أيضًا! وكما يقول نعيم عطية،
فإن
«شخصيات يوسف الشاروني تُدين مجتمعًا تعيش فيه، دون أن تبيِّن الإطار الكامل، أو الثابت،
للمجتمع الأفضل الذي تريد أن تعيش فيه، أو يجب أن تحيا بين جنباته. إنها تُدين أوضاعًا
جائرة هي فريستُها، وهي تُسحق، لا دفاعًا عن مبدأ، بل كضحيةٍ لأوضاعٍ اجتماعيةٍ
جائرة.»
٣٣
إن الراوي يصرُخ بأعلى صوته، أنه ما أراد أن يصبح عظيمًا ولا زعيمًا ولا غنيًّا،
بل
مواطنًا تطمئن أقدامه للخطوة التالية «وأنا أعلم أن هذا هو موطن الضعف الوحيد في دفاعي،
ولكني سأدافع عن نفسي حتى نهاية النهاية.»
٣٤ أقصى ما يُريده البطل الشاروني هو أن يحتفظ بطهارته وعذريته في مجتمعٍ يأبى
عليه ذلك.
٣٥
وفي قصة «شكوى الموظف الفصيح» يُهمِل الفنان الكثير من المقومات الفنية، تعبيرًا عن
آرائه. وهي آراءٌ تشمل معظم نواحي حياتنا الاجتماعية، وإن حاول الفنان تغليف عباراته
بمَسْحةٍ شعرية لم تُفلِح في تخليصها من التقريرية والمباشرة. الفنان يناقش أحوال
القاهرة،
ومشكلة المواصلات، ومحو الأمية، والتعليم، وغياب العدالة، ونظم الضرائب، وسوء العلاج
…
إلخ.
قيل إن العلم يحلُّ مشكلات الطبيعة، ويحقِّق سيطرة الإنسانية عليها … لكن الفن هو
الذي
يكوِّن هذا الإنسان ويحرِّكه ويطوِّره: «إن الفعل يستوعبُ الجزء الأكبر من حياة الغالبية
العظمى من الناس، والفكر مرتبطٌ لديهم أشد الارتباط بأفعالهم، فهم لا يفكِّرون إلا
لخدمة
الفعل، للعزم عليه قبل وقوعه، أو لتبريره بعد وقوعه … لكن الأمر ليس هكذا دائمًا مع
الفنان؛
فهو مهما أحَسَّ بغنى تجربته الواقعية الدافئة، فهو لن يراها فعلًا وحركةً فحسب، بل
سيرى —
بحكم حياته واتجاهاته — جوانبَ فكريةً وتعبيريةً ورمزية، بل وسديمية، هي أجزاءٌ ضروريةٌ
مكملة للتجربة لديه. والفنانون العظماء قد استطاعوا أن يُسيطِروا على جوانب الظلام
في
حياتهم، وأن يطووها تحت أجنحتهم وهم يُعلنون انتصار الإرادة الإنسانية والرغبة الإنسانية،
بمختلف الطرق وشتى التعابير.»
٣٦
وعندما مات الرجل الذي تصوَّره أبناء الحارة قديسًا، وآمنوا ببركاته، حلَّت مكانه
عمارةٌ
حديثةٌ ضخمة، بما يعني أن المستقبل للعلم. وبصرف النظر عن جهارة صوت الفنان في هذه
القصة،
فإن ما يعنينا — هنا — هو المعنى، المقولة التي يريد الفنان توصيلها في ثنايا
قصته.
٣٧
أما قصة «نظرية الجلدة الفاسدة» فهي أشبه بتحليلٍ يُزاوِج بين الفن والرأي العلمي
في
كيفية مجاوزة التخلف، والأخذ بأسباب التقدُّم. إنه يضع أيديَنا على الكثير من العِلَل
المجتمعية، ويُومئ بالعلاج. ويلخص الكاتب ملاحظاته وآراءه في القول: «النتيجة يا بني
ألَّا
يكون التعليم مجرد تلقين معلومات. الطفل يتعلم من تصرُّفات أستاذه أكثر مما يتعلم
من
أقواله. هذا الكلام لا بد أننا نعرفه من قبلُ جميعًا. فإذا كانت الجلدة فاسدة في المدرسة،
أصاب الرَّشْح الأجيال التالية، بل سارت الأمور إلى أسوأ، ولن يصبح الزمن يا بني معنا،
بل
ضدنا. ننقرضُ كما انقرضَ من قبلنا الهنود الحمر، ومن قبل قبلنا قوم عاد وثمود.»
٣٨
ويبين الشاروني عن تفاؤله بحتمية التقدُّم في قوله إننا يجب ألا نحتجَّ باستمرار
وجود
النماذج الرديئة، مُبرهِنين على عدم حدوث التقدُّم؛ فالنماذج الرديئة أو المكررة لما
سبقها،
نجدها في كل زمان. ولعلها هي دائمًا القاعدة العريضة السفليَّة، لكننا حين نتحدث عن
التقدم،
فإننا نضع نُصْب أعيننا تلك النماذج المتميزة والفريدة، باعتبارها علاماتٍ على الطريق؛
لأن
مجرد ظهورها دلالةٌ على ما حدث من نُمو — وربما من طفرة — استفاد مما سبقه، وأضاف
إليه.
٣٩
•••
أخيرًا، فإذا كان قد أُعلِن منذ مئات الأعوام أن «الأشياء العظيمة تتعرَّض الآن للخطر»،
فإن الشاروني يؤكِّد — في بساطة وحسم — أنه ما دامت البشرية لم تتوقَّف عن محاولات
التوصُّل
إلى حلولٍ أفضل لمشكلاتها، فهناك أمل.
هوامش