زكي نجيب محمود: الأصالة والمعاصرة
إذا كانت الحياة الثقافية المصرية المعاصرة، تدين بالريادة في المجال الأدبي للعقاد وطه حسين والحكيم وهيكل والزيات والمازني وشكري وحقي وغيرهم … والريادة في الفلسفة لعثمان أمين ويوسف كرم وعبد الرحمن بدوي وغيرهم … فإن الكاتب والفيلسوف الراحل زكي نجيب محمود يتفرَّد بإسهاماته المتميِّزة في الأدب، وفي الفلسفة وفي مجالات الثقافة عمومًا.
كتب زكي نجيب محمود عن ابن رشد والتوحيدي والفارابي والحلاج والغزالي، وكتب عن الجاحظ وابن جني ومحفوظ وإدريس وعبد الصبور والشرقاوي. ومن الصعب إغفال أنه هو كاتبُ البيان الذي أصدَرَته لجنة الشعر، بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية في ١٩٦٤م، برفض الشعر الجديد، أو شعر التفعيلة، لخروجه على عمود الشعر التقليدي، بالإضافة إلى استعانته بمفرداتٍ تنتسب إلى أديان غير الدين الإسلامي. وبرغم اختلافنا مع البيان في مجمله، فإن صياغة الرجل له — فضلًا عن مشاركته في عضوية لجنة الشعر — دلالة يصعب إغفالها.
مع ذلك، فإن الوضعية المنطقية التي كان يؤمن بها الرجل دعته، فدعا الآخرين، إلى وجوب الفصل بين قضايا العلم وقضايا الدين والأدب والشعر، والقضايا الأخرى التي تبتعد عن ذلك، فهي «تكون من باب اللغو والبحث فيما وراء الطبيعة أو الميتافيزيقا».
وكان زكي نجيب محمود معجبًا بالعقاد. وشارك — أحيانًا — في ندوة العقاد التي كان يقيمها صباح كل يوم جمعة، في بيته بمصر الجديدة. وقد أفاد من العقاد في موسوعية الثقافة، وفي الإيمان بالفردية، وفي تواصُل — أو تلاحُم — التراث بالمعاصرة.
•••
في ١٩٦٥م أصدر زكي نجيب محمود كتابه «قصة نفس»، وهو جزء أول من ثلاثية تحوي سيرته الذاتية. كتب لطفي السيد «قصة حياتي»، وكتب طه حسين «الأيام»، والحكيم «سجن العمر»، وسلامة موسى «تربية سلامة موسى». أما زكي نجيب محمود، فقد فضَّل — بالاسم الذي اختاره — أن يعبِّر عن الفيلسوف في داخله. ومع ذلك، فقد جاءت «قصة نفس» أقرب إلى العمل الروائي منها إلى السيرة الذاتية. ولعله يمكن القول إنها — على حد تعبير يوسف الشاروني — «رواية سيرة ذاتية».
راوي القصة هو الأستاذ حسام الدين محمود. يقدِّم نفسه، ويقدِّم — في الوقت نفسه — شخصيتَين أخريَين، هما: الأحدب رياض عطا، والشاب مصطفى مختار. يقول: «فكأننا — نحن الثلاثة — جوانب من نفسٍ واحدة، متعدِّدة الجوانب، التوى منها جانبٌ واحد هو الأحدب واستقام جانب، وهو أنا، وما يزال جانبٌ يغامر، وهو مصطفى. ويقول الأحدب للراوي: أنت أخلاقٌ وقواعد، ومصطفى عقلٌ ومنطق، وأنا عاطفةٌ وانفعال. ويقول الراوي: ظننتُ أن هذه الأنفس الثلاثة يُكمِل بعضها بعضًا في وحدةٍ ملتئمة، لو أقام أصحابها في منزلٍ واحد، فمنها نفسٌ أمَّارة، هي نفس صاحبنا الأحدب، ومنها نفسٌ لوَّامة، هي نفسي، والثالثة نفسٌ مطمئنة.
أما الراوي، ففي الخمسين من عمره. وأما الأحدب ففي الخامسة والأربعين، بينما الشاب مصطفى في الخامسة والعشرين.
والواضح أن الشخصيات الثلاثة ليست إلا شخصيةً واحدة، وإن عبَّرَت كلٌّ منها عن بُعدٍ نفسي، وعن مرحلة من حياة الراوي الحقيقي … وهو المؤلف نفسه!
زكي نجيب محمود يعرض لنا سيرته الذاتية، من خلال تسلسلٍ تاريخي. وكما يقول الراوي، فإن أبطال الرواية، أو السيرة، ثلاثة رجالٍ يسيرون على طريق الحياة في تعاقُب العمر؛ ففي المقدمة أسير أنا، مستضيئًا بتقاليد الثقافة الموروثة، ولكن على مضَض؛ لأن أوتارها تضرب النغم لغير الرقصة التي كنتُ أتمنَّاها لنفسي … لكنني أسير، وبعدي يسير الأحدب متلعثم الخطى، فليس له هادٍ يهديه إلا فطرة الغريزة التي لا تعبأ بالأمن والعافية، ووراءه يسير مصطفى وقد أخمد جذوة القلب بثلوج العقل، واستراح. ثلاثةُ رجالٍ ظاهرُهم اختلاف، وأعماقُهم اتفاق، كأنهم ولدوا لأبٍ واحد وأمٍّ واحدة.
فماذا حدث للشخصيات الثلاثة في مراحل الحياة المختلفة؟
كانت القراءة شاغلًا للشاب مصطفى. وعندما كان طالبًا بمدرسة المعلمين العليا، حرص على قراءة كتاب «حرية الفكر» لسلامة موسى فور صدوره. وكانت القراءة أيضًا شاغلًا للأحدب وقد كوَّن مع زملاء له في الجامعة جماعةً أدبية، من بين أنشطتها إنشاء مكتبة. وكان أول كتابٍ تشتريه الجماعة لمكتبتها هو «المأمون» للدكتور فريد رفاعي.
وقد بدأَت الحياة العملية للشخصيات الثلاثة في التدريس، وهي الوظيفة التي ظلُّوا بها. وقد بدأ زكي نجيب محمود — كما تعلم — حياته الوظيفية في الجامعة، وأنهاها فيها. والانشغال بالموضوعات الفلسفية سمةٌ واضحة في فكر الشخصيات الثلاثة وتصرُّفاتهم. وكما يقول الأحدب في مذكراته: «وإن قلتُ للناس إنني أجعل من ذاتي وخبرتي أساسًا، أولًا وأخيرًا، في تقويم الأشخاص والأشياء. قيل لي: ففيمَ إذن دعواك التي قلَبتَ بها الأرض، وأوجعتَ بها الدماغ، في وجوب أن يكون معيار التقويم دائمًا، موضوعيًّا مستقلًّا عن الذات وأهوائها؟»
والمنطق الوضعي هو الدعوة التي أخلص لها زكي نجيب محمود معظم أعوام حياته العملية. وأصدَر في ذلك العديد من المؤلَّفات، وإن بلوَر نظريتَه — فيما بعدُ — في مقولة من كلمتَين: الأصالة والمعاصرة … وهو ما سنتناوله — تفصيلًا — في فقراتٍ تالية.
لقد آمن زكي نجيب محمود — مثلما آمن شخصيات «قصة نفس» — بالوضعية المنطقية. مصطفى يؤكِّد في رسائله من لندن، أن مهمة الفلسفة هي تحليل أقوال العلماء، وأن كل كلمةٍ في اللغة لا تُسمِّي شيئًا، ولا تشير إلى شيء، هي كلمةٌ زائدة، مهما طال بين الناس دورانُها، فهو يعبِّر عن مبدأَين مهمَّين في الوضعية المنطقية. يقول في كتابه «مجتمع جديد أو الكارثة»: «ليس الفكر ترفًا يلهو به أصحابه، كما يلهو بالكلمات المتقاطعة رجلٌ أراد أن يقتُل فراغه. بل إن الفكر مرتبطٌ بالمشكلات التي يحياها الناس، حياة يكتنفها العناء، فيريدون لها حلًّا حتى تصفُوَ لهم المشارب. وبمقدار ما نجد الفكرة على صلةٍ عضويةٍ وثيقة بإحدى تلك المشكلات، نقول إنها فكرة بمعنى الكلمة الصحيحة.» ويقول: «أنا مؤمن بالعلم، كافر بهذا اللغو الذي لا يُجدي على أصحابه ولا على الناس شيئًا. وعندي أن الأمة تأخذ بنصيب من المدنية بقَدْر ما تأخذ بنصيب من العلم ومنهجه.»
والإيمان بالفردية يتضح في «قصة نفس» تعبيرًا عن موقف الكاتب من قضية الفرد؛ فالأحدب — على سبيل المثال — لا يفنَى في الزحام، ولا يذوب في الناس. إنه فيهم كملعقة الزيت صُبَّت في قدح من الماء، تحرِّكها من أعلى وأسفل، وإلى يمين وشمال … فما تزال شيئًا متميزًا من الماء الذي حولها. إنه في أمواج الناس على طول الشارع، إلى أن يفقد معالمه. ويتحدث عن الأحدب بأن الفردية هي طابعه، وأنه لا يطمئن نفسًا إلا إذا تفرَّد واختلف عن غيره قليلًا أو كثيرًا. وُيعلِن الأحدبُ نفسُه انه يؤمن بالفردية وبالتفرُّد. وعندما يقدِّم مصطفى استقالته، ليسافر إلى الدراسة في الخارج، يقول صراحة: إن الفرد منا قويٌّ متين. وأما المواطن فينا، فهو منسحبٌ ضعيف، وأعني بالمواطنة خروج الفرد من نطاق فرديته ليشارك سواه. ويردُّ عليه الأحدب بالقول: أظنك أصبتَ الفكرة، وأحسنتَ التعبير عنها … لكن الحضارة مرهونةٌ في ترقيتها بهؤلاء الأفراد، الذين تطغى فيهم الفردية على المواطنة؛ لأن تغيير القديم يتطلَّب الخروج على التجانس المألوف.
ويعود مصطفى من رحلته الدراسية، ويبدأ في تأليف الكتب التي تُعلي من قيمة الفرد، والمقالات التي يصيح بها في الناس: الأفراد … الأفراد.
وفي الكتابَين التاليَين لقصة نفس، واللذَين يُعدَّان امتدادًا لسيرة زكي نجيب محمود الذاتية «قصة عقل» و«حصاد السنين»، تأكيدًا على المعاني والآراء والمبادئ التي أنطَق بها شخصياته الثلاثة، مثل الإيمان بالفردية، ورفض الأفكار الميتافيزيقية، وعدم الحفاوة بالتراث إلى حد الانقطاع عن العالم الذي نحيا فيه.
وكان إيمان زكي نجيب محمود بالفردية، هو الذي أملى عليه ترجمة كتاب «آثرتُ الحرية»، الذي يتضمَّن قصة كرافتشنكو، عميل المخابرات المركزية الأمريكية في بلاده — الاتحاد السوفييتي السابق — وكيف تحيَّن الفرصة، فأفلَت بنفسه من السور الحديدي، وهو التعبير الذي وُصفَت به الحياة في الاتحاد السوفييتي أثناء الحقبة الستالينية.
الكتاب يختلف عن كل اجتهادات زكي نجيب محمود؛ فهو ليس كتابًا في الفلسفة، وليس كتابًا في التراث، ولا في الثقافة العربية كما تبدَّى في كتبه الأخيرة، لكنه كتابٌ مترجم عن سيرةٍ شخصيةٍ لأحد المواطنين السوفييت. وبصرف النظر عن الاتهام الذي وجِّه إلى زكي نجيب محمود، بأنه ترجَم الكتاب بتكليفٍ من إحدى المؤسسات الأمريكية، فإن إقدامَه على ترجمة الكتاب، يعكس إيمانه بالفردية، وأنه لا شيء يعادل قيمة الحرية في حياة الإنسان.
والواقع أن زكي نجيب محمود بدَّد الكثير من جهده ووقته في تناول قضايا تحوطُها الظلال والمحاذير، ولا شأن له بها كأستاذ فلسفةٍ كبير، وكمثقَّفٍ مصريٍّ مهموم بمشكلات بلاده، يعنيه أن تنفُض عنها غبار التخلف، وتمضي إلى ملاحقة العصر. موقف زكي نجيب محمود الحقيقي — وهو ما يشغلني في هذه الكلمات — يتحدَّد في مناصرته للقضايا المصرية، وللقضية الأهم — في تقديري — وهي أن نُواجِه العصرية، من خلال تُراثنا الذي أفادت منه البشرية قرونًا متتالية، وسطع بنور الشرق على الغرب — على حد تعبير المستشرقة الألمانية زيجفريد هونيكة — من خلال وصل ذلك التراث بمنجَزات العصر، وبإضافاته المؤكَّدة إلى التقدُّم الإنساني … وهو ما لخصه الرجل في تعبيره الشهير: الأصالة والمعاصرة.
•••
يقول زكي نجيب محمود: لم أكن سياسيًّا في أي يوم … ولكن هل يمكن لأي مواطنٍ أن يبتعد عما جرى، ويجري، في أرض الوطن؟
والحق أن الرجل جاوز في كتاباته مناقشةَ قضايانا الثقافية، إلى مناقشة الأوضاع السياسية الراهنة، بربط الحدث بمسبَّباته، واستقراء التاريخ، توصُّلًا إلى اللحظة الراهنة، وإعمال العقل في الآراء والتصرفات بما يعكس نظرةً سياسيةً بانوراميةً محدَّدة؛ فدعوته إلى الحرية تعادي بالضرورة أي تواجُد للاحتلال في الأرض العربية، وتجد في انتزاع الشعب الفلسطيني من أرضه، وإحلال الشعب الصهيوني مكانه، جريمةً ضد العصر الذي نحياه.
وقد كتب زكي نجيب محمود في نقد القصة والرواية، وكتب في نقد الشعر. ولم تكن كتاباته تأثُّرية، لكنها التزمَت منهجًا علميًّا يذهب إلى أن قيمة القصة أو الرواية، في قدرتها على تفسير الأحداث، وفي إحكام البناء الذي يؤطِّر لهذه الأحداث في كيانٍ واحد. أما الشعر، فإنه تصويرٌ للقطات من العالم الحسي، تتميَّز بقدرتها على نقلنا إلى مطلَق لا محدود. إن ما يؤدِّيه الشعر هو «حقيقة خالدة، ندركها عن طريق موقفٍ جزئي» فألفاظ القصيدة لا تُستخدَم للدلالة على معانيها مباشرة، بل إن المتلقي يقف عندها، يتملَّى الصورة الفريدة التي تُقيمها أمام بصيرته، فيستمتع بها ما شاء، وما شاءت له، ثم يتركها، فإذا هي قد خلَّفَت وراءه صدًى، هو صدى هذه الخبرة التي استقرَّت في نفسه عن حقائق الوجود.»
وفي سيرته الذاتية «حصاد السنين» يقول الكاتب إنه — وقد بلغ الخامسة والثمانين من عمره، وانتابته عوامل الضعف والمرض — أحَسَّ أن سيرتَه الثقافية قد اقتربَت من ختامها، مما أوحى إليه أن يكتب هذا الكتاب، ليقدِّم به إلى قارئه صورًا للحياة الثقافية، كما عاشها أخذًا وعطاء. وهو يصف نفسه بأنه «مصري عربي في آنٍ واحد، ولمصريتي مميزاتٌ أنفرد بها دون سائر العرب. ولعروبتي خصائص أشترك فيها مع سائر العرب. على أن مصريتي وعروبتي كلتَيهما ترتدُّ آخر الأمر إلى نسيجٍ ثقافيٍّ بعينه. وقولي إنني مصري عربي، معناه هو أنني أعيش ثقافة، دائرتها الداخلية هي المميزات المصرية الخاصة، ودائرتها الأوسع هي الخصائص المشتركة بين العرب أجمعين.»
وكما قلت، فإن أهم إسهامات زكي نجيب محمود في حياتنا الثقافية — في تقديري — هي عكوفه على تراثنا العربي القديم، يقلِّبه ويُغربِله، ويناقش ما ينبغي — وما لا ينبغي — الأخذ به، سعيًا لتحقيق الديناميكية في ثقافتنا المعاصرة، وليس فرض الاستاتيكية والجمود. وهو ما تبدَّى — تحديدًا — في كتابَيه المهمَّين «المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري»، و«تجديد الفكر العربي».
لقد اتخذ الرجل من التراث موقفًا انتقائيًّا؛ فهو يشدِّد على قيمة ما في هذا التراث من عناصر تفيد حياتنا الراهنة، وما عداه يندرج تحت عنوان التسلية؛ لأنه بلا قيمةٍ فعلية. والدعوة التي لا يُخطِئها في كل اجتهاداته هي وجوب المزاوجة بين الأصالة والمعاصرة، بين الُهوية العربية الإسلامية بكل زخمها الثقافي المتفوق، والسمة العلمية التقنية التي تتوضَّح في عصرنا الحديث. فإذا امتلَكْنا هذَين السببَين، فإنهما السبيل المؤكَّد الى الحرية التي تؤكِّد قيمة الفرد.
في كتابه «تجديد الفكر العربي» يطرح زكي نجيب محمود القضية على هذا النحو: كيف نوائم بين ذلك الفكر الوافد الذي بغيره يُفلِت منا عصرنا، أو نُفلِت منه، وبين تُراثنا الذي بغيره تُفلِت منا عروبتُنا، أو نُفلِت منها؟ … إنه لمُحالٌ أن يكون الطريق إلى هذه المواءمة هو أن نضع المنقول والأصل في تجاوُر، بحيث نُشير بأصابعنا إلى رفوفنا فنقول: هذا شيكسبيرٌ قائم إلى جوار أبي العلاء، فكيف إذن يكون الطريق؟ كيف السبيل إلى ثقافةٍ موحَّدة متسقة يعيشها مثقفٌ حيٌّ في عصرنا هذا، بحيث يندمج فيها المنقول والأصيل في نظرةٍ واحدة؟
وقد أفاض الرجل في مناقشة هذا الطرح، في العديد من المؤلفات التي توالى صدورها منذ بداية الستينيات، مثل: الشرق الفنان، تجديد الفكر العربي، المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري، ثقافتنا في مواجهة العصر، مجتمع جديد أو الكارثة، هذا العصر وثقافته، قيمٌ من التراث، رؤية إسلامية، في تحديث الثقافة العربية، عربي بين ثقافتَين، نافذة على فلسفة العصر … إلخ.
الرأي الذي يُلِح عليه زكي نجيب محمود ويؤكِّده، في هذه المؤلَّفات، وغيرها، يمكن تلخيصُه بما كتبه الرجل نفسه: «إني لمن المؤمنين إيمانًا لا تهزُّه العواصف العاتية، بأن دخولَنا حضارةَ عصرنا ليس له إلا معنًى واحد، وهو أن نسكُب تلك الحضارة في لغتنا العربية. وبقَدْر ما سكبنا نكون قد ساهمنا في حضارة العصر وعشناها. هذا ما فعله آباؤنا بالنسبة للحضارات الأخرى، وهذا ما يجب علينا فعلُه. ولن أسمح لأذني أن تسمع إلى الهُراء الذي يقوله نفرٌ منا، بأن بعض «العلوم» يستعصي على النقل إلى العربية، وهو هُراء، مردُّه إلى العجز. هذا هو موقفي» (الأهرام ۱۷ / ۳ / ۱۹۷۷م). ويقول لسائل: «إن عقيدة أسلافنا لم تنقُص مثقال ذرة، حين اخترقوا الآفاق ليعبُّوا من حضارة الهند، ومن حضارة اليونان، ومن غيرهما … فلماذا يسبق إلى ظنك أن عقيدتي لا بد أن يُصيبَها الضعف إذا شربتُ حضارةَ عصري، كما شرب أسلافي المسلمون حضارةَ عصرهم؟» … «فكما جمعَت تلك الثقافة — العربية — في تاريخها الماضي، ما عند الشعوب التي إلى يمينها — الثقافة الشرق أقصوية — والتي إلى يسارها — الثقافة اليونانية — على حدٍّ سواء، تستطيع أن تفعل ذلك اليوم، وإلا فما الفرق بين أن يأخذ العرب الأولون عن اليونان علومَهم وفلسفتَهم ليهضموها، ثم ليُنشِئوا بعد ذلك نتاجًا جديدًا يقدِّمونه إلى العالم، وبين أن ننقل نحن اليوم ما عند أوروبا وأمريكا من علوم وفلسفات لنهضمها، ثم نُنشئ مبدعاتٍ في ميادينها، نُسهِم بها مع سائر العالم المتقدِّم في بناء الصرح الحضاري والثقافي؟»
الأصالة والمعاصرة — بأبسط تعبير — هي وجوب اقتحام المنهج العلمي للحضارة العربية، والتغلغُل داخل تربتها، بما لا يغيِّر من طبيعة التربة، ولا خصوصيتها الثقافية، وإن أعطى ثمار التقدم، ثمار المعاصرة.» … «إن في هذا الانفصام العجيب، المعيب، بين العلم ومنهجه، يكمُن الداء الذي تولَّدَت منه ضروبٌ من الأورام الخبيثة في حياتنا العقلية، أو قل اللاعقلية.»
لقد تشكَّك زكي نجيب محمود في مسايرتنا لروح العصر، رغم أننا نحيا تقدُّمه العلمي، ونفيد منه. وعلى حد تعبيره، فإن ذلك كله «قشرة على السطح، نقلناها، ولم تمسَّ منا حتى النخاع»، بمعنى أنها لم تصبح جزءًا عضويًّا منا، نسيجًا في شخصيتنا القومية … يذكِّرني الرجل بسيد عويس في إيمانه بالمنهج العلمي، ويذكِّرني سيد عويس بزكي نجيب محمود في إيمانه بهذا المنهج. كلاهما وجد في المنهج العلمي انطلاقًا للأفق المتمدِّن — الحضارة قائمة! — الذي نتطلع إليه.
لقد عاش الرجل معظم حياته بعيدًا عن المجتمعات، يكاد لا يغادر بيته إلا لإلقاء المحاضرات؛ فهو مشغول بالقراءة والمتابعة والغربلة والتحليل، ومحاولة إفادة المجتمع بآرائه التي كان شاغلها الأساسي اتصال الثقافة العربية بالمجدي من تراثها، واتصالها — في الوقت نفسه — بالثقافة العالمية المعاصرة بكل زخَمها العلمي والتقني.
أذكُر أني كتبتُ — يومًا — أدعو إلى وجوب أن تقرِّر وزارات التربية والتعليم في أقطارنا العربية مؤلفات زكي نجيب محمود التي يناقش فيها تُراثَنا العربي، على طلاب المدارس الثانوية، بما يضع الأجيال الطالعة في قلب التحدي الحقيقي الذي تُواجِهه أمتنا العربية، وهو المزاوجة بين الموروث والمعاصر، واستشراف المستقبل بنظرةٍ علمية.
وقال لي زكي نجيب محمود: أنا لا أطمع إلا أن يقرأ المثقَّفون ما أكتب، ويُخضِعوه للمناقشة والتحليل، والتثبُّت من أنه يستهدف تطوير واقعنا المعاصر بالفعل … فإذا كان ذلك كذلك، فإن عليهم أن يجعلوا من دعوتي دعوةً عامة، أو مشروعًا ثقافيًّا عربيًّا. أما أن يدرس طلَّاب المرحلة الثانوية مؤلَّفاتي، في ظل أوضاعنا العربية الحالية، فلعلي أعتبر ذلك من الأحلام الوردية البعيدة المنال!
•••
سُئل الناقد الكبير محمود أمين العالم: ما سِر تقديرك وإكبارك لزكي نجيب محمود ولدعوته، رغم اختلافك مع أسسه الفلسفية؟
أجاب: في الجهد الذي تبذله عقلانية زكى مجيب محمود — برغم اختلافي معها — في التصدي لطوفان السلفية اللاعقلانية المتزمِّتة، ولاستشراء السطحية والخرافة في كثيرٍ من جوانب حياتنا العربية المعاصرة.
أما أخلص تلاميذ زكي نجيب محمود — عاطف العراقي — فهو يعتبره هرمنا الثقافي. يمثِّل المنارة الفكرية التي يجب أن يهتدي بها كل مثقَّف في هذا الزمان. لقد بذل جهدًا من النادر أن نجد إنسانًا عربيًّا قام به. لقد ترك بين أيدينا رسالةً موجَّهة إلى جميع الناس. وكل سطرٍ كتبه مفكِّرنا العملاق في أيِّ كتابٍ من كتبه — التحفظ وارد! — إنما يصلُح تمامًا لأن يكون دستورًا فكريًّا لنا نحن العرب، وإن كان أكثرهم لا يعلمون» (الأهرام ۲ / ۸ / ۱۹۹۳م).