سيد عويس: التاريخ الاجتماعي لمصر
كان أول تعرُّفي الى سيد عويس، عندما التقيتُ به في مكتبه بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية. استوقفَني قوله: أنا من الطبقة التحتانية. أثار في نفسي مشاعر التفهُّم والمشاركة والحميمية. ثم تكرَّرَت زياراتي لسيد عويس في مكتبه بالمركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية: غرفة كبيرة، يتوسَّطها طاولة، افترشَها أوراق وكتب. وعلى الجانبَين مكتبات حافلة بالمراجع التي يستعين بها الرجل في بحوثه، والعشرات من الطلاب يدخلون ويخرجون، يحاولون الإفادة من علمه الذي وصَفه بأنه وديعةٌ من الله، عليه أن يُسلِّمها إلى الأجيال التالية.
كان يحرصُ على أن يقدِّم لزواره قطعًا من الشيكولاتة والبونبوني، يتبعُها بالسؤال: ماذا تشرب؟
ولتأكيد صداقتنا، فاجأني سيد عويس بزياراتٍ طيبةٍ في مكتبي بجريدة «المساء». نتناقش فيما يفد إلى أذهاننا، وفي القضايا العامة.
وحين بدأتُ إعداد بطاقات كتابي «مصر في قصص كُتابها المعاصرين» كتب لي سيد عويس — بقلمه — استمارة بيانات لأوزِّعها على الأدباء الذين أزمعُ تناول أعمالهم، وقد تصدَّرَت الاستمارة كلمة «سري»، تلَتها بياناتٌ خاصة هي: تاريخ الميلاد، محل التنشئة، والنوع، والديانة، ومستوى التعليم، والحالة الاجتماعية، والعمل الحالي، ومحل الإقامة السابق. أما الأسئلة التالية، فكانت عن الانتماء الفكري: هل انتميتَ إلى حزب سياسي في الماضي؟ (الكتاب يشمل الفترة قبل ١٩٥٢م) وإذا كانت الإجابة بنعم، فإلى أيِّ الأحزاب: الوطني، الوفد، الأحرار الدستوريين، مصر الفتاة، الاشتراكي، الإخوان المسلمين، الفرق الشيوعية، اتحاد الطلبة والعمال عام ١٩٤٦م، حزب العمال، أي حزبٍ آخر … ثم وضع قائمة بأسماء، طلب ترتيبها حسب مدى إسهام أصحابها في خدمة القضية المصرية: سعد زغلول، عدلي يكن، عبد الخالق ثروت، حافظ رمضان، مصطفى النحاس، مكرم عبيد، محمد محمود، أحمد زيوار، إسماعيل صدقي، أحمد حسين، أحمد ماهر، حسني العرابي، علي ماهر، محمد حسين هيكل، محمود فهمي النقراشي، إبراهيم عبد الهادي، حسن الهضيبي، حسن البنا، عبد العزيز فهمي، هنري كورييل، حلمي عيسى، توفيق نسيم، وأسماء أخرى يرى الأديب إضافتها … وتلا ذلك سؤالٌ عن الانتماء الفكري: هل هو للحضارة الفرعونية، القبطية، الإسلامية، العربية، الأفريقية، الغربية، العالمية. ثم كتب سؤالًا عن القضايا الاجتماعية، ومدى اهتمام الأديب بها: قضية الفوارق الطبقية، قضية تحرير المرأة، قضية البيروقراطية، قضية الأخذ بالثأر، قضية تفشِّي الجريمة، قضية الجنس، قضية التعليم، قضايا أخرى. ثم سأل عن المؤرِّخين المعاصرين: أيهم أقرب إلى الموضوعية في تناوله لتاريخ الفترة من ١٩١٩م إلى ١٩٥٢م: عبد الرحمن الرافعي، محمد حسين هيكل، عباس العقاد، محمد عبد الرحيم مصطفى، محمد شفيق غربال، محمد أنيس؟ أما الأسئلة التالية فهي: هل تؤمن بالتزام الأديب أو الفنان؟ رتب حسب الأهمية الأحداثَ السياسية والاجتماعية في الفترة من ١٩١٩م إلى ١٩٥٢م. رتِّب — حسب الأهمية — نوعية قراءاتك. هل قضية فلسطين مصرية، أو عربية، أو إنسانية؟ وكان آخر ما كتبه في الاستمارة بيانات عن الإنتاج الأدبي لكل أديب: أسماء الأعمال، وتاريخ صدور كل عمل، والتحدث عن خمسة من هذه الأعمال، وظروف إنتاج كلٍّ منها والإشارة إلى المقالات، أو الأحاديث المنشورة بالصحف، والتي تتضمَّن توضيحًا لوجهة نظر الأديب الفنية، والإشارة — أيضًا — إلى المقالات النقدية التي تناولَت أعماله. وذِكْر أهم الطبقات أو الفئات التي تصوَّر أنها تقرأ إنتاجه. أما آخر الأسئلة، فهو: هل ترى أن القضية المصرية في المستقبل، ستُعالِج مشكلات المجتمع بصورةٍ أعمق، أو ستبتعدُ عنها إلى تناول قضايا أخرى؟
استمارةٌ مهمة كما ترى. لو أن الأدباء، سواء هؤلاء الذين أعدِّت لهم، أو أدباء الأجيال الحالية، أجابوا عنها — أو عن استماراتٍ مشابهةٍ تُراعي اختلاف الفترة الزمنية — فإن النقاد والدارسين سيحظَون بمادةٍ ثرية، تضيف إلى كتاباتهم بُعدًا توثيقيًّا.
ولعل في مقدمة ما أذكُره من تلمذتي على يد سيد عويس، وبُنوَّتي له، تلك اللحظات التي تصوَّرتُها نهاية علاقةٍ كنتُ حريصًا عليها، ومعتزًّا بها.
وعدَني بانتظاري في المركز، وذهبتُ في الموعد، فلم أجده.
وانتظرتُ وصوله حوالي نصف الساعة. ثم رأيتُه يصعَد درجات السُّلم. وأنا ممن يحترمون المواعيد، لا شأن لي بإهمال الآخرين لها. ما يهمُّني أن أحضر في الموعد المحدَّد. أعطي الفرصة لتأخُّر مُواعِدي عشرَ دقائق، أو خمسَ عشرةَ دقيقة، ثم أنصرف. هكذا عوَّدتُ نفسي، واعتاد أصدقائي. إذا تأخَّر صديقي عن الموعد الذي اتفقنا عليه ما يزيد على الربع ساعة، أدرك أنه لن يجدني في مكان اللقاء.
ويبدو أني عبَّرتُ عن عادتي أمام سيد عويس بمبالغة، بل إني عبَّرتُ بالفعل بمبالغة. فغضب الرجل، وقال كلامًا كثيرًا ملخَّصه أنه كان الأفضل لي — وله — أن أنصرف، بدلًا من إزعاجه بهذه العبارات السخيفة!
وقبل أن أميل الى السُّلم، كان الرجل قد استردَّ هدوءه، وملامحه الباسمة، ولهجته الأبوية: لقد عبَّر كلٌّ منا عن نفسه … فلماذا تغضب؟
ومد يده، فأمسَك بساعدي، وصحبَني إلى غرفة مكتبه، وقدَّم لي البنبوني والشاي بالنعناع، وشرَّقَت أحاديثنا وغرَّبَت، فلم يتطرق إلى «الواقعة» كأنها لم تحدث. وتواعَدْنا على لقاءاتٍ تالية، أشهد أن الرجل كان يحرص عليها.
وعندما تولَّيتُ تحرير «الوطن» العمانية، حرَصتُ على إرسال نسخ الجريدة إلى أصدقائي في القاهرة، وفي بعض المدن العربية. كان توزيع الجريدة مقصورًا على السلطنة. حاولتُ أن أجعلها جريدةً حقيقية، لها سَمتُها التحريري والفني، وتنتظم في الصدور … لكن صاحب الجريدة رأي في اقتصار توزيعها على مدن السلطنة، وإرسال نُسخٍ منها إلى مكاتب الإعلان في دبي، ما يكفي وزيادة. المهم أني حرَصتُ على إرسال أعداد الجريدة إلى أستاذنا سيد عويس، ضمن قوائمَ طويلةٍ للأصدقاء في مصر والوطن العربي. عُني البعض بإبلاغي أن الجريدة تصله، وزاد البعض فشكَرني، وأهمل البعض الآخر. ثم فوجئتُ — ذات صباح — برسالة كتب في أعلى غلافها الخارجي: سيد عويس. فضَضتُها، فطالعَتْني عباراتُ تحية وتشجيع لم أتوقَّعها، وفرحتُ — بالطبع — بها. وحاولتُ — في اللحظة التالية — أن أعبِّر عن امتناني بما أسعفَتني به الكلمات!
•••
حين عرفتُ أنه من مواليد ١٧ فبراير، أظهرتُ دهشتي وفرحي؛ فأنا من مواليد اليوم نفسه، وإن سبقَني في العمر والتجربة والمكانة. قال: لعلكَ وُلدتَ في ١٧ فبراير بالفعل. أما أنا فشهادة ميلادي تقول إنني وُلدتُ في ١٧ فبراير … لكنني لا أذكُر متى وُلدتُ على وجه التحديد. أيامَنَا، كانوا يتأخَّرون — أحيانًا — في تسجيل المواليد! … وقد عشتُ حربَين عالميتَين، وأربعَ حروبٍ مع إسرائيل. كما عشتُ ثورتَين كبيرتَين في ۱۹۱۹م و١٩٥٢م.
وكانت تسميته «سيد» لأن أباه وهبه إلى السيد البدوي ليحيا تحت رعايته. مات لأبوَيه — من قبلُ — أكثر من مولود، قبل أن يخرج إلى الحياة، أو بعد ولادته بفترةٍ قصيرة. وعرفَت الأم طريقها إلى السحرة والدجَّالين، ولجأَت إلى الوصفات الشعبية والأحجبة والطقوس والأدعية. ثم قرَّر الأب تنفيذ نصيحة زوجة عمِّه، فيُسمِّي وليده المرتقب على اسم السيد البدوي.
وأذكُر أني ناقشتُه — يومًا — في الظاهرة المُؤسِفة، التي نلحظُها في كتابات بعض المؤرِّخين، وهي حفاوتهُم بتسجيل سلبيات الشعب المصري، دون النظر إلى إيجابياته التي أتاحت له الاستمرار والبقاء والصمود، ضد كل الغزوات والحضارات.
ولم تكن قراءاتُ سيد عويس مقصورةً على علم الاجتماع. كان يقرأ كل ما يجده صالحًا لتوسيع مداركه — والتعبير له — وإثرائه بمعلوماتٍ جديدة. يقول لي: الفن بالذات أحبُّه جدًا، وأومن أنه إذا كان العلم يصل بنا إلى الحقيقة، فإن الفن الصادق يصل بنا إلى الحقيقة كذلك. أما الدين فهو عزاءٌ في كل الأحوال.
قاطعتُه: لماذا نجيب محفوظ؟
•••
كيف كانت البداية؟
بدأ بتسجيل انطباعاته عن النشاط الاجتماعي في يوغوسلافيا، في كتابه «مذكرات يوغوسلافية». وعرض لنا تجاربَ دولةٍ اشتراكية في مجالات كنا نرتادها بأقدام، تتقدَّم خطوة، وتؤخِّر أخرى. ثم بدأ الرجل دراساته النظرية والعملية معًا، لأبعاد الحياة في مجتمعنا المعاصر. وكان أول كُتبه عن ظاهرة إرسال الرسائل إلى ضريح الإمام الشافعي. ورغم قلة المقالات التي عرضَت لهذا الكتاب، فإنها أجمعَت على أنه من أهم الدراسات التي تواءم فيها المنهج النظري بالتطبيق العملي، مع تحفُّظ أبداه أستاذنا يحيى حقي الذي ناقش موضوعية الرسائل من حيث نوعية الكاتبين، وأن معظمهم — في الأغلب — من العرضحالجية، مما يُفقِد الرسائل الكثير من تلقائيتها … وموضوعيتها أيضا!
ثم أصدر سيد عويس — على التوالي — كتبه: الخلود في حياة المصريين المعاصرين … هتاف الصامتين … محاولة في تفسير الشعور بالعداوة … حديث عن الثقافة: بعض الحقائق الثقافية المصرية المعاصرة … الخدمة الاجتماعية ودورها القيادي في مجتمعنا الاشتراكي … نشأة مهنة الخدمة الاجتماعية في مصر … حديث عن المرأة المصرية المعاصرة … تجربة في التنمية الحضرية المحلية … الإبداع الثقافي على الطريقة المصرية … الازدواجية في التراث الديني المصري … مطالعات في موسوعة المجتمع المصري … التاريخ الذي أحمله على ظهري … إلخ.
وثمة أبحاثٌ أخرى كتبها سيد عويس، أو بدأ في كتابتها، ثم تبيَّن له صعوبة نشرها. وعلى سبيل المثال، فقد أعد بطاقات دراسة عن العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، فواجهَته التقاليد، فضلًا عن ملاحظة أن الرجل — في هذه المسألة — يميل إلى التباهي، وربما إلى الكذب، بينما تُؤثِر المرأة الصمت؛ لأنه من العيب أن تتحدث في هذا الأمر باعتباره عيبًا!
مثلًا آخر: أعَد بحثًا عن الكتابات في دورات المياه. ما يكتبه الأولاد والبنات في أعمارهم المختلفة داخل دورات المياه، تعبيرًا مؤكدًا عن حالاتهم النفسية، بدءًا بالأزمات الجنسية، وانتهاءً بالميل إلى الانحراف. وبالطبع، فإنه آثر أن يحجُب هذا البحث، وإن أفاد منه — كما قال لي — في بحوثه الأخرى.
•••
وقد ركَّز سيد عويس في مؤلَّفاته على نظرة المصريين إلى الحياة الآخرة. وهي نظرة تبدأ منذ بدايات التاريخ المصري المكتوب إلى أيامنا الحالية. الموت والبعث والحساب والجنة والنار. إنه يُناقِش تلك النظرة في معظم كتبه. والحق أنها ليست نظرةً واحدة؛ فثمة المسلمون والمسيحيون، وثمَّة السنة والشيعة، وذوو الاجتهادات الدينية والشخصية المختلفة، وإن كان الرأي — فيما يشبه الإجماع — أن يوم الحساب عند المصريين، يومٌ آتٍ، لا شك فيه.
وفي كتابه المهم «الخلود في حياة المصريين المعاصرين»، أجرى سيد عويس استبيانًا علميًّا حول ظاهرة الموت. اتفقَت الاتجاهات العامة نحو الظاهرة — إلى حدٍّ كبير — مع تعاليم المسيحية أو الإسلام. ولم يكن ثمَّة فروقٌ جوهرية بين الذين نشِّئوا في المدينة والقرية والمركز، حول معاني ظاهرة الموت، ومدى اتفاقها — أو اختلافها — مع تعاليم الديانتَين، المسيحية والإسلامية، وإن وجد فرقٌ جوهري حول اتفاق هذه المعاني مع الديانتَين المذكورتَين، بين نسبتَي الذين نشِّئوا في المدينة، والذين نشِّئوا في القرية. وكانت إجابة ۸۲٫۱۲ من أفراد العينة، بأن الحياة بعد الموت موجودة. أما الذين أجابوا بعدم وجود حياة بعد الموت، فقد بلغت نسبتُهم ٤٫٧٪ وهي نسبةٌ ضئيلةٌ جدًّا، كما ترى. أما صورة الحياة بعد الموت، فقد تراوحَت بين الحياة بالروح، والحياة بالجسم والروح معًا، وبالروح وجسمٍ آخر، وبجسمٍ نوراني، وبصورٍ أخرى غير محدَّدة ولا معروفة. وقد أجاب ٥٦٫٩٪ من أفراد العينة، بوجود حياة في القبر. وكانت نسبة الذين أجابوا بعدم وجود حياة في القبر ٢٥٫٩٪ بينما ذكر الباقون أنهم لا يعرفون عن هذه الحياة شيئًا. ويأتي في مقدِّمة هؤلاء الأحياء في قبورهم الرسل والأنبياء، فالشهداء، فالأولياء والقديسون، فعلماء الدين العاملون، فالزعماء الوطنيون، فالذين يدافعون عن أعراضهم وأموالهم. وكانت نسبة من ذكَر من الأعضاء بياناتٍ عن نوع الحياة في القبر نحو ٤٢٫٥٪ فقط، تختلف من حياةٍ مؤقتة، إلى حياةٍ أبدية، إلى حياةٍ غير محدَّدة النوع. وقد أجابت نسبةٌ كبيرة من أفراد العينة (٪۸۳) بوجود حياة في الآخرة، بينما قلَّت نسبة الذين أجابوا أنهم لا يخافون الموت ٥٧٫٥٪. أما الذين أعلنوا خوفهم من الموت، فقد بلغَت نسبتُهم ٪۳۲٫۷. وكانت أسباب عدم الخوف من الموت، هي أن الموت حق، ثم الرغبة في جوار الرفيق الأعلى ثم أسباب أخرى، منها «لأنه ينقلني لحياة أفضل» … «لأعرف ما بعد الموت» … «لأنه راحة من تعب الحياة» … «لأنه موطني الأصلي» … «لأنني مستعد للحياة الآخرة» … أما أسباب الخوف من الموت، فكان في مقدمتها حب التمتع بالحياة. ثم يأتي في مرتبةٍ تالية الخوف من الحساب، والخوف من المجهول … ثم أسبابٌ أخرى «لأنه يفرِّق بيني وبين أعزائي» … «لأنه يهدِّدني بالفناء» … «لأنه يسبِّب الحزن لأسرتي» … إلخ.
ومن محصلة تلك الأجوبة — وأجوبةٍ أخرى كثيرة — ردًّا على استمارة الاستبيان التي حفلَت بعشرات الأسئلة، خرج الباحث بنتائجَ محدَّدة، لعل أخطرها أن نظرة المصريين المعاصرين لظاهرة الموت لم تتغيَّر، إلا في بعض التفاصيل، عن نظرة المصريين القدماء … كان المصريون القدماء يرَون أن معنى الموت هو انفصال العنصر الجسماني عن العنصر الروحاني، وكانوا يعتقدون في وجود حياةٍ أخرى بعد الموت، ويعتقدون أيضًا في وجود حياةٍ أخرى في القبر، وأنها حياةٌ أبدية أحيانًا، مؤقتةٌ أحيانًا أخرى. وكانوا يعتقدون أيضًا بالمسئولية الخلقية في الحياة الآخرة، حين يمثُل المتوفَّى إمام إلَه الشمس ليُحاسبه، إذا كان قد أخطأ في حق الآخرين. وكانت كراهية الموت خاصيةً أصيلة في الطبيعة المصرية، بدليل الكلمات المنقوشة على الكثير من شواهد قبور المملكة المتوسِّطة، والأغنيات التي تبيِّن عن تعلُّق بالحياة، لكنهم — في الوقت نفسه — كانوا يمجِّدون الموت، لا عن شك وإلحاد، وإنما عن تقوى. كانوا يكرهون الموت لأنه يفرِّق بينهم وبين الأعزَّاء، وكانوا لا يخافونه لأنه حق، وانتقالٌ من حياة إلى حياة. ولعلي أذكر هنا، أن الندَّابات المحترفات، اللائي كن يُستأجرن في المآتم المصرية قديمًا، يقابلهن المهرِّجون المحترفون الذين كانوا يُستأجَرون لأداء رقصاتٍ هزلية، ويقلِّدون مشيِّعي الجنازة، كمحاولةٍ للتسرية عن الأسرة، التي فقدَت أحد أفرادها. لاحظ الباحث أيضًا، أن الأغلبية من أفراد العينة ذكروا أن عليهم واجباتٍ حيال أقاربهم المتوفَّين، تبدأ بالإحساس بالحزن والأسى، وبتفاهة الحياة … مثل تغسيل الميت، وتكفينه، وتشييع جنازته، ودفنه، وتوزيع الرحمة عليه، وزيارته في المناسبات والأعياد، والدعاء له، وتذكُّره بالخير، والإشادة بمآثره … أما بالنسبة للموتى من الأولياء والقديسين، وهم بطبيعة الحال من غير الأقارب، فإن علينا لهم واجبات، تتمثَّل في الزيارة والصلاة والدعاء وإعطاء النذور وإحياء الموالد … والطريف أن أكثر من خُمس أفراد العيِّنة، أكَّدوا ظهور الأشباح لمن ماتوا ميتةً غير طبيعية. وزاد بعضهم، فأكَّد أن هذه الأشباح قد ظهَرَت له فعلًا!
بالإضافة إلى ذلك، فقد كانت الظاهرة الواضحة والمتشابهة بين واجبات الأحياء إزاء الموتى في مصر القديمة، وواجبات الأحياء إزاء الموتى في أيامنا الحالية، انها واحدةٌ أو تكاد، ولعل فكرة احترام الموتى من أولياء الله والقديسين عند المصريين المعاصرين، وتمجيدهم، والاعتراف بالواجبات نحوهم، والحرص على أدائها، امتدادٌ للفكرة المصرية القديمة، واستمرارٌ لها … على الرغم من أن الدين الإسلامي، دين الأغلبية المعاصرة، يُناهِض هذه الفكرة، ولا يُقرُّها.
أخيرًا، فإن الدراسة تؤكِّد عن يقين — والتعبير للباحث — بقاء العناصر الثقافية المتعلقة بمظاهر الموت، وبفكرة الخلود، والنظرة نحو الموتى، واستمرارها في المجتمع المصري، منذ آلاف السنين، حتى الآن.
ولعل التعبير الأوضح في تقديري أننا، كشعب، نحب الدعابة، ونتقن صناعتها … نحب الغناء والطرب … لكننا مع ذلك نبكي إذا أحسَسْنا بالحزن، ونبكي إذا أحسَسْنا بالفرح أيضًا … وإذا ما بدا أن فرحنا زاد عن الحد، غمغَمنا قائلين: اللهم اجعله خيرًا! … ونحن نضحك بصوتٍ عالٍ … لكننا قليلًا ما نغضب … فإذا غضبنا، ملأَت العواطف الجيَّاشة صدورنا، وشلَّت تفكيرنا الموضوعي تمامًا … ثم ما يلبث الغضب أن يتبدَّد، ويعود الصفاء. وحُزن الإنسان المصري يبدو صارخًا عند مواجهة الموت، منذ فجر الحضارة المصرية. والإنسان المصري يعُد الموت مناسبةً مهمة، وذات مدلولاتٍ خطيرةٍ أقرب إلى القداسة … وقد نظَّمنا الطقوس والعادات والتقاليد المتصلة بالموت … ولعل ظاهرةَ نشر أخبار الوفَيات ونشر التعازي في الصحف، تكاد تقتصر على المجتمع المصري، مما يعكس اهتمام المصريين بظاهرة الموت، بل إن الكاتب يعتبرها امتدادًا متطورًا لبعض الشعائر الجنائزية التقليدية، التي تبين بدَورها عن مدى اهتمام المصريين المعاصرين بظاهرة الموت، وبالموتى.
أما استعانة الكاتب بالمثل القائل: «امشي في جنازة ولا تمشي في جوازة.» تعبيرًا عن حرص المصريين على تشييع الجنازات، باعتبارها واجبًا من الأحياء حيال الموتى … فلعلي أخالف الكاتب في إشارة المثل لهذا المعنى بالتحديد … برغم أهمية تشييع الجنازة عند الإنسان المصري، كواجبٍ يحرص عليه، ويلتزم به … إن للمثل مناسبةً أخرى، هي أن السعي في التوفيق بالزواج، قد يستتبع من المشكلات ما يجعل السير وراء الجنازات أمرًا أكثر يسرًا، وأكثر ابتعاثًا للثواب والجزاء الطيب.
•••
إن سائقي السيارات — في تقدير سيد عويس — يُحاوِلون أن يُسمِعوا أصواتهم، دون أن يراهم أحد؛ أي إنهم يحاولون — بمحض إرادتهم — أن يهتفوا!
وكان لي عند صدور «هُتاف الصامتين» رأي، مهَّدتُ له — فيما أذكر — بالقول: إذا كان من حق أستاذنا سيد عويس أن يعيب على الأقلام الكاتبة ما يتصوَّره إهمالًا لدراساته، ودراسات أبنائه وتلاميذه من خريجي أقسام الاجتماع بجامعاتنا، ومعاهد الخدمة الاجتماعية والعاملين بمركز البحوث الجنائية والاجتماعية، فإن المقابل الذي تملكُه الأفلام الكاتبة — بعد كل التقدير للمجهودات المخلصة، والمثابرة — أن نُناقِش في تحرُّر، وفي موضوعية.
لقد بدأ سيد عويس بمقدمةٍ طويلة، روى فيها ذكرياته التي تبدأ — في قراءاته — بكلمات الوزير بتاح حتب، وتبدأ — في ذاكرته الواعية — بطفولته وصباه. ودفعَه شريط الذكريات إلى مناقشة ظاهرة مواجهة المصريين للمجهول، ثم مفاجأته — على حد تعبيره — بوجود ظاهرةٍ اجتماعيةٍ فريدة في مجتمعنا … وهي تلك العباراتُ التي يكتُبها أصحابُ وقائدو العبارات على هياكل السيارات واللوريات والعربات، من كلمات وعبارات. لقد «كان يسير في الشوارع، وفي كل ركن من أركان المدينة، ليلًا أو نهارًا، وشتاءً وصيفًا. يذهب إلى أماكنِ تجمُّعات هذه المَركَبات في الموالد، وفي الأعياد، وفي الحواري، وغيرها، ينقل من على الهياكل كل ما هو مكتوبٌ من كلماتٍ وعبارات.» ثم يصل الباحث — ختامًا — إلى أنه لا يدَّعي أنه وحده قد مارس قراءة ما يُكتَب على هياكل السيارات واللوريات والعربات من كلماتٍ وعبارات، أو أن هذه الظاهرة لا تُوجد بشكلٍ أو بآخَر في المجتمعات الأخرى، لكنه يدَّعي — والتعبير للباحث — أنه وحده قد اكتشَف أهمية دراسة هذه الظاهرة، وضرورة القيام بإجرائها في مجتمعنا.
وصف سيد عويس الظاهرة، بأنها تُعَد إحدى وسائل التعبير عند الصامتين من أعضاء هذا المجتمع، وأنها — من حيث الشكل — جهازٌ إعلاميٌّ ثقافيٌّ شعبي، يتحرك على امتداد هذا المجتمع وقُراه، ويكون مضمونها الثقافي جزءًا من المُناخ الاجتماعي والثقافي لهذا المجتمع.
الدراسة ممتازة. وقد تناولَت موضوعًا غاية في الصعوبة، ولولا هذا الصبر الدءوب، الذي كان صفةً أصيلة في سيد عويس، لما أقدم على دراسة تلك الظاهرة. لكن التحفُّظ الوحيد الذي أشرتُ إليه — في تأدُّب — هو أنه ليس في الأمر هتافٌ للصامتين ولا يحزنون، فقد قرأتُ بنفسي عشراتِ العباراتِ التي كتبها القليوبي الخطاط، الذي تخصَّص في هذا العمل عشرات الأعوام. المسألة توارُد خواطر، ومجاملة، وأي كلام. ربما قال القليوبي كلمة، أو عبارة، تُعجِب صاحب العربة، فيقبَلها. وربما اقترح صاحب العربة كلمة، فيشير القليوبي بكلمةٍ أخرى، والمسألة — أولًا وأخيرًا — سبَهْلَلة، وغير متعمَّدة الدلالات. وأغلَب الظن أنه لو عرف أصحاب العربات أن باحثًا مخلصًا سيُعنَى بدراسة كلماتهم وتحليلها، والخروج منها بنتائجَ محدَّدة، فلعلهم كانوا سيكتبون كلماتٍ أخرى، مغايرة لتلك الكلمات التافهة، والساذجة، من نوع: سهام أخت دلال … أبو سمرة الأصيل … ادلَّع يا رشيدي على وش الميَّه … اشرب العصير المنعش … أروح لمين … البطل الروماني … آخر جنان … إلخ.
هُتاف الصامتين تسجيلٌ بارع لظاهرةٍ مهمة في مجتمعنا، بعيدًا عن حكاية الهُتاف الصامت، فلا أقبلها!
•••
•••
أخطر الظواهر في قضية المرأة، هو اقتصار دَورها على الناحية البيولوجية، دون اهتمامٍ بالنواحي الاجتماعية الأخرى كأم، ومديرةٍ لشئون البيت، وزميلةٍ للزوج، وعاملةٍ في الكثير من المجالات، ومقاسمته — ماديًا — في رعاية الأسرة، أو انفرادها بالإنفاق على الأسرة إذا كانت مطلَّقة أو أرملة. هزَّتني الكلمات: «إن نساء مصر في ذلك الوقت، وحتى الوقت الحاضر، قد جئن إلى العالم لا ليعترضن، ولكن ليرضَخن.»
ويروي سيد عويس أن أحد زملاء دراسته في الولايات المتحدة، قال له يومًا: حدث أمرٌ خطير لزوجتي؛ فقد بكت أمامي أنها مريضةٌ نفسيًّا، فهل نأخذها معًا إلى طبيب، في مستشفى بوسطن النفسي؟ وكان الزميل يتحدث الإنجليزية، فصرخ سيد عويس بالعربية: يا عيني عليكي يا امه! … تذكَّر أمه التي لم يرَها — طيلة حياتها — إلا وهي باكية، أو على وشك البكاء، فلم يفكِّر في إرسالها إلى طبيب نفسي. وكما يقول، فإن «نساء مصر يبكين دائمًا وبخاصة عندما يواجهن المواقف القاسية في علاقاتهن، مع الأزواج، أو مع الآباء، أو مع الإخوة الكبار. وعند الموت، وبعد الموت، نرى بكاءهن هو المنفذ الوحيد للتنفيس عن توتُّراتهن التي تأتي بها الأحزان أو الأكدار، لا يعرفن وسيلةً مثل قراءة الكتب، أو الذهاب إلى دور السينما، أو إلى المسرح، أو سماع الموسيقا، أو غيرها من وسائل تيسِّر هذا التنفيس بأسلوبٍ حضاري … فالبكاء ظاهرةٌ في محيط المرأة المصرية، ويكاد يكون جزءًا من الثقافة السائدة.»
روَى لي أنه كان يُحاضِر مجموعةً من القيادات العمالية في قضايا المجتمع. وامتدَّ الحديث إلى وضع المرأة، وبالذات في الأسر الفقيرة وغير المتعلمة. وطلب سيد عويس رأي العمال في المرأة، فقالوا كلامًا معيبًا ومستخفًّا ويطفح بالإدانة. وفاجأ سيد عويس واحدًا منهم بالسؤال: ما رأيك في أمك؟
قال العامل في تأكيد: لا تترك سجادة الصلاة!
– وزوجتك؟
– لا تجرؤ على النظر من الشباك.
– وأختك؟
– نُشِّئَت على التقوى والصلاح.
وعاود سيد عويس إلقاء أسئلته على كل الدارسين، فلم تخرج إجاباتهم عن الإشادة بالأمهات والزوجات والأخوات.
وهتف الرجل في حَيْرة: فأيةُ امرأةٍ تلك التي تتهمونها بالعيب؟!
•••
قلت لسيد عويس: هل تصدُر محاولاتُك عن اتجاهٍ خاص؟
وأذكُر أني قلتُ لسيد عويس، قبل أن يُصدِر سيرتَه الذاتية: هذه الحياة الخصبة، ألم تحاول تسجيلها؟
قال: كان محمد سالم قد كتب عملًا كبيرًا، يتناول تجربة الحياة في المؤسَّسة. وأعجبَني العمل حين قرأه لي. لكن: أين العمل؟ وأين محمد سالم؟
ويبقى أن يُفرِج مسعد عويس — ابن أستاذنا الراحل — عن الجزء الرابع من مذكرات سيد عويس، وهو الجزء الذي أوصى بتأجيل نشره إلى ما بعد وفاته، لنتعرَّف إلى المزيد من سيرةٍ رائعة، وما صادفه صاحبُها من لؤم الصغار، ومؤامراتهم … حتى مات منفيًّا عن بيته!