يحيى حقي: هذا التاريخ الأدبي!
أوه يحيى حقي!
الصَّيحة المعجبة، أطلقَها سيد قطب في كتابه المهم «كتب وشخصيات»، تعبيرًا عن إعجابه برواية حقي «قنديل أم هاشم». كان سيد قطب آنذاك (١٩٤٧م) مبدعًا وناقدًا، واقتصَرَت كتاباته — لسنوات — على هذَين المجالَين، لا يتجاوزهما. وكتب سيد قطب في كتابه عن «خان الخليلي» لنجيب محفوظ، و«همزات الشياطين» لعبد الحميد السحار، و«قنديل أم هاشم» ليحيى حقي، وغيرها.
وقد ظلت «القنديل» في حياة يحيى حقي — كما قال هو نفسه — أشبه ببيضة الديك. سُمي صاحب القنديل، واكتفت معظم الكتابات النقدية بتناول تلك القصة المطوَّلة، وإن جاوَرَت قصصًا أخرى في كتاب صغير الحجم. ومع أنه يُعَد من أغزر أدبائنا إنتاجًا — دليلنا أعماله الكاملة — فإن «القنديل» هي الواجهة الوحيدة لتاريخه الأدبي.
وبصرف النظر عن صواب ذلك الرأي أو خطئه، فمن المؤكد أن يحيى حقي قام في حياتنا الثقافية، بالدور نفسه الذي قام به جيل الروَّاد؛ فهو لم يعرف التخصص، كما فعل نجيب محفوظ والأجيال التالية، لكنه اجتهد في معظم المجالات الأدبية، وزاد عليها. وأذُكر قول أحمد عباس صالح، إن يحيى حقي أعد نفسه إعدادًا شاقًّا وصبورًا، لكي يكتُب بين كُتاب جيله من الكبار كتابةً متميزة، وليؤثِّر تأثيرًا عميقًا في قرائه، وفي الأجيال التالية له، في التذوُّق، وفي التعبير، وفي التأمل الهادئ العميق.
إن أول قصةٍ قصيرة نُشرَت ليحيى حقي في عام ١٩٢٥م؛ فهو يعتبر من جيل الروَّاد في كتابة القصة القصيرة. ومع أنه لم يلحَق إنشاء المدرسة الحديثة (١٩١٧م) والتي كانت تضم أحمد خيري سعيد وإبراهيم المصري وحسين فوزي ومحمود طاهر لاشين ومحمود عزي ومحمد تيمور وغيرهم، وجعلَت شعارًا لها: تحيا الأصالة … يحيا التجديد والإصلاح … فإن حقي ما لبث أن أصبح أبرز أساتذة المدرسة وقد كتب عن معظم أفرادها. وحين مات الناظر — أحمد خيري سعيد — نعاه بمقالٍ مؤثِّر، أَعتبِره من أعظم النثريات في أدبنا المعاصر.
كتب يحيى حقي القصة القصيرة، وأبدع فيها. أحدثَت مجموعته «قنديل أم هاشم» تأثيرًا إيجابيًّا في مسار القصة العربية لا تُخطئه العين؛ فهي تسبق عصرها، سواء في اختيار اللحظة القصصية، أو في اللغة، أو في التكنيك. وأزعم أن الكثير من أدباء الأجيال التالية يدينون ببداياتهم المثمرة إلى قراءة أعمال حقي، والتي تضُمها خمسُ مجموعاتٍ قصصية.
وقدَّم يحيى حقي في الرواية «صحِّ النوم». وهي عملٌ متفوق برغم أنها لم تحصل على ما تساويه من عنايةٍ نقدية؛ فقد صدَرَت الطبعة الأولى بكمياتٍ قليلة، وفي ورقٍ رخيص، وغلافٍ سيئ؛ لأن الفنَّان نشَرها على نفقته. ولعلي أذكُر هنا قول الناقد الصديق فاروق عبد القادر عن الرواية، وأنها «جوهرةٌ صقيلة، قطعةٌ فنيةٌ رائقة التعبير، رائعةُ اللفظ والعبارة والصورة. استجمع فيها يحيى حقي كل قدراته وولعه بالأناقة والدقة، فجاءت شهادةً لا يمكن نقضُها على عظمته ككاتبٍ متفرد، وعلى صدق كل ما نادَى به قبل كتابتها وبعدها، من حرارة التخلص من السجع اللفظي والترهُّل الفكري على السواء. إن كل شخصية فيها تصلح مادة روايةٍ كاملة عند هُواة الثرثرة والإطناب.»
كتب الخاطرة الأدبية، مثله في ذلك الأديب الكبر الراحل إبراهيم عبد القادر المازني؛ فهو قد استخدم نفس الأسلوب التحدثي، واللغة المكثَّفة الموحية، وغلبة الاستطرادات، والنبرة الساخرة سواء من الفنان ذاته، أو من الآخرين. وقد قدَّم يحيى حقي في هذا المجال عشرات المقالات التي يرقى بعضُها إلى أعلى مستويات النثر العربي إطلاقًا.
أصدر يحيى حقي العديد من الكتب النقدية؛ فجر القصة المصرية، عنتر وجولييت، خطوات في النقد، أنشودة البساطة. فضلًا عن المقالات التي ضمَّتها مجموعة أعماله الكاملة. ومع أن حقي قد حرص على التأكيد بأن اجتهاداته النقدية تدخل في إطار النقد الانطباعي أو التأثُّري، فإن كتابه المهم «فجر القصة المصرية» يُعَد اجتهادًا غير مسبوق في مجال نقد القصة المصرية … فقد أتاح له عمله — لأعوام — في دار الكتب، أن يقرأ ويراجع ويوازن ويغربل، ليتوصل الى البدايات الفعلية للقصة القصيرة، والرواية، في مصر، من خلال أسماء، بعضها فُوجئَت به الحركة الأدبية تمامًا، مثل عيسى عبيد وشحاتة عبيد وغيرهما، وإن حرصَت كل الدراسات والرسائل الجامعية، فيما بعدُ، على تأكيد دَور كل الأسماء التي قدَّمها حقي في كتابه الصغير الحجم، الممتاز القيمة. وأذكُر أني تناولتُ في كتابٍ لي، اجتهاد يحيى حقي بأن رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل هي أولى الروايات المصرية اقترابًا من فن الرواية. كان رأيي أن رواية «عذراء دنشواي» لمحمود طاهر حقي — عم الأديب الكبير — هي الأشد اقترابًا من فنية الرواية، وهي الأسبق — تاريخيًّا — من رواية هيكل. وقد نقل الصديق عبد العال الحمامصي وجهة نظري إلى يحيى حقي في حوارٍ صحفي. وبتواضُعه الشديد، وافَق حقي على اجتهادي، وتساءل في دهشة: كيف لم أتنبَّه إلى عذراء دنشواي؟ … إنها بالفعل بداية الرواية المصرية!
إذا كان أدب السيرة الذاتية قد وجد ملامحه في العديد من كُتب جيل الرواد والأجيال التالية؛ طه حسين في «الأيام»، والحكيم في «سجن العمر»، والعقاد في «أنا»، وسلامة موسى في «تربية سلامة موسى»، وزكي نجيب محمود في «قصة نفس»، وهيكل في «مذكرات في السياسة المصرية»، وغيرهم، فإن «خليها على الله» ليحيى حقي تُعَد من أصدق كتب السيرة الذاتية، وأشدِّها تعبيرًا عن التطور النفسي والفني للفنان. فضلًا عن تصويرها الذكي للبيئات المختلفة التي عاش فيها الفنان، سواء في سني الطفولة بدرب الميضة، أو في كلية الحقوق، ثم عمله كمعاون إدارة في أبو حمص بالوجه البحري، وفي منفلوط في وسط الصعيد. وقد أضاف يحيى حقي — فيما بعدُ — إلى «خليها على الله» فصولًا أخرى من سيرته الذاتية، لعل أشهرها مقاله المطول «أشجان عضو منتسب».
لم يكتفِ يحيى حقي بالحرص على أن تكون كتاباته تعبيرًا عن جمال اللغة العربية، وثرائها، وغزارة مفرداتها، لكنه جعل من حرصه دعوةً إلى كُتاب العربية، فدعاهم الى التكثيف والاختزال والبساطة والبعد عن التقعُّر والألفاظ المهجورة والجهارة. يقول في حوار مع فؤاد دوارة: «منذ تناولتُ القلم في سنٍّ باكرة، وأنا ممتلئ ثورةً على الأساليب الزخرفية، متحمِّس أشد التحمُّس لاصطناع أسلوبٍ جديد، أسمِّيه الأسلوب العلمي، الذي يهيم أشد الهُيام بالدقة والعمق. وقد أرضى أن تُغفَل جميع قصصي، ولكن سيُحزنني أشد الحزن ألا يُلتفت لهذه الدعوة.» ويقول لعبد الوهاب الأسواني: «أعتقد أننا لن نصل إلى إنتاج أدبٍ نجد فيه أنفسنا أولًا، ثم يصلح ثانيًا للترجمة والنقل إلى الثقافة الدولية، إلا إذا تخلَّصنا من عيبَين كبيرَين؛ الميوعة والسطحية، لنعتنق بدلًا منهما التحديد والعمق. أما اشتراط صفة الصدق لهذا الأدب، فأمرٌ مسلَّم به.»
وإذا كان الرجل قد غاب عن عالمنا بعد أن قارب التسعين، فإن السؤال الحائر يفرض نفسه: لماذا لم ينضَم حقي إلى مجمع اللغة العربية، أو — في الأقل — لماذا لم يقرَّر ترشيحُه، كما حدث بالنسبة لكثيرين، هم — بالتأكيد — أقل حرصًا على لغتنا الجميلة من يحيى حقي؟!
من اكتفَوا بقراءة «القنديل»، أو اكتفَوا بالقراءة عنها، فلم يحرصوا على متابعة كتابات يحيى حقي، وبالذات كتابه المهم «حقيبة في يد مسافر»، ربما يفوتهم البعد الديني في اهتمامات حقي. إن له رأيه في المذاهب الدينية والاجتهاد والجهاد وخطبة الجمعة وعمل المرأة والحجاب. يقول عن متابعته الدءوب لهمومنا الدينية: «هذه مسألة أتتبعها منذ زمن، بل قد أسمح لنفسي أحيانًا بأن أفتي وأدلي بآراء. لستُ بعالم دين، ولا أعطي لنفسي أي حق في تفسير أو إفتاء. ولكن ماذا أفعل؟ … إنها إحدى «الحالات» التي تنتابني أحيانًا.»
والحق أني لم أرَ كاتبًا يعتز بعروبته وإسلامه، مثلما يعتز يحيى حقي. يتحدث عن أتاتورك، وما فعله في حياة الشعب التركي: «ظن أن الدين الإسلامي في ثوب هذا الشعب قملةٌ تُقصَع بظفر مخمور على رخامة بار، فإذا به ماسةٌ صلدة. يا لها من ماسة لا تحطِّمها كل معاوله! ليس أحمقَ من رجلٍ يهاجم في العصر الذي نعيش فيه دينَ رجلٍ آخر.. فما بالك بحماقة من يفعل هذا بأمة عن بكرة أبيها؟ لم يثُر الشعب التركي على مصطفى كمال، لا خوفًا من بطشه، بل إكرامًا له لأنه أنقذه من التمزُّق والعبودية، واستلاب الأجنبي لأرضه. اكتفى بأن رمى طوبته. تركه للزمن. نفَّذ له جميع أوامره على الرأس والعين، ولكن من وراء سد لا تراه العيون. هذا السد هو إيمانه بدينه، له أن يتحكَّم في تصرفاته لا في قلبه.»
لقد كانت الحملة الفرنسية هي بداية التلامس بين الحضارة الغربية الوافدة، والحضارة المصرية التي تحاول اكتشاف مقوِّماتها بعد ضجعة مئات الأعوام في كهف الخلافة العثمانية، فتصل حلقات السلسلة منذ اكتشَف الإنسان المصري الزراعة. وظهرَت أقدمُ مدنية في التاريخ، وطرحَت معطيات الحملة في الحياة الثقافية المصرية، أسئلةً من نوع: من نحن؟ هل في استطاعتنا أن نتقدَّم؟ هل بالاستعارة، أو أن ينبعث من داخل حياة هذه الأمة نهضة، وتكون هذه النهضة مستندة إلى حضارتنا وقيمنا؟ وهل يمكن إجراء تقدُّمٍ ما، ونحن مقيَّدون بمذاهبَ أربعة، والسلفية باطشة، والعنقاء هي الإفتاء أو الإتيان بجديد؟
ورغم كل شيء، فقد فرض الاجتهاد نفسه. خيط الضوء تسلَّل من الباب المُوارب. ثم اقتحم الضوءُ حياتنا في اجتهادات محمد عبده — كما يذهب حقي — وإن تصوَّرتُ في ذلك إغفالًا لدور الطهطاوي العظيم، ومن قبله أستاذَيه؛ العطار والطويل. لكن أهم القضايا التي عاصَرَها يحيى حقي — وهو شابٌّ بعدُ — كانت الحملات التي دارت بين محمد عبده ومشايخ عصره. وحدَث تقارُبٌ بين المذاهب الأربعة، وبين السنة والشيعة (وهنا أتذكَّر رواية «السبب اليقين المانع لاتحاد المسلمين» التي كتبها محمد كاظم الميلاني، التاجر الإيراني المقيم بالإسكندرية في عام ١٩٠٣م، والتي أرجعَت التصدُّع في البناء الإسلامي إلى الخلاف بين الفرق الإسلامية المختلفة، وبين السنة والشيعة على وجه التحديد)، ثم أخلَت قضية الاجتهاد موقعها لقضيةٍ أخرى، هي الجهاد. يقول لي: الدين الإسلامي دينٌ ديناميكي. أريد ألا يشعُر المسلم بأنه يتلقى أوامرَ ونواهيَ يُنفِّذها في العبادات وإنما يتلقَّى رسالةً لا بد أن يناديَ بها، ويحرصَ عليها، فيكون شعور المجتمع الإسلامي أنه مكلَّفٌ بأداء رسالة، وأنه مكلَّفٌ بالجهاد. وسنجد جميعًا أن فضائل الشريعة الإسلامية ومزاياها، قد ظهرَت. وإذا توقَّف — أو قُفِل — الجهاد، فسنجد أن الشريعة الإسلامية طقوسٌ لا معنى لها.
فما هو المطلب؟
إنه — باختصارٍ شديد — تحريك هذه الأمة من حالة الجمود إلى حالة الحركة. إن في ضمير الأمة بعضَ الروابط، والفصحى هي الرابطة في ضمير الأمة العربية. وثمَّة أربعة مستوياتٍ للغة في حياتنا اليومية؛ لغة الشعر الجاهلي، لغة الفصحى، اللغة التي قد يتكلم بها المتعلمون، اللغة العامية. وقد أفاد الكتاب والصحيفة في تقريب اللغات المختلفة إلى اللغة الفصحى. فضلًا عن تطويع الفصحى استجابةً لمقتضيات عصرنا الحالي … وبالطبع، فإن ذلك لم ينشأ فجأةً ولا مصادفة، لكنه وليدٌ شرعيٌّ لمخاضٍ عنيفٍ ومعاناة، ولم يعُد بيننا الآن من ينادي بأن تكون العامية هي لغة الفكر، وإن كان ذلك لا ينسينا دعوات — ومحاولات — لطفي السيد ولويس عوض ومصطفى مشرفة … وبدر نشأت!
والذي حدث في اللغة العربية، حدث نقيضُه تمامًا في الخط العربي.
لقد غادرت الفصحى معاركها منتصرة، أو شبه منتصرة. أما الخط العربي، فقد كان هدفًا للحملات العنيفة التي أفلحَت — ولا تزال — في الإساءة إلى الخط العربي وتشويهه. ومنذ أبي الأسود الدؤلي عبَر الخط العربي مراحل، من بينها الدلالة على الحرف بالفتحة والضمة والسكون، والاختصار الشديد إلى حد إدماج الصفة في الاسم … إلخ … وشكلُ الكلمة في اللغة العربية ثابتٌ إذا ما حذفنا الحركة أو التشكيل. وثمَّة علماءُ متخصِّصون يُخطِئون في الشكل، وليس في النحو. ولعل هذا كان هو الباعث لأن يطرح عبد العزيز فهمي اقتراحه، بأن تُكتَب اللغة العربية بالأحرف اللاتينية! (إذا كان التحدي قد دفع الفصحى إلى التقدُّم والازدهار، فإن التحدي الذي واجهَه الخط العربي أصابه بنوعٍ من الخمول والشلَل، وانقطَع كل تفكير، أو كل محاولة للنظر في هذه القضية، ولم يعمل أحدٌ على حلِّها حتى الآن).
ما الحل؟
رغم قلة ما قدَّمه يحيى حقي في أدب الرحلات، فإنه خالَف الكتابات المألوفة. لم يقتصر على سرد المشاهَدة، وإنما جاوز ذلك إلى إبداء الملاحظات والتحليل والبحث عن نحن في الآخرين: «كان لا مفَر من أن ينتهي مطاف الرحلة، ومطاف هذه الفصول، إلى إثارة أسئلةٍ تُراوِد كل من سافر إلى أوروبا، وشاهَد — عن قرب — أهلَها، قمة الجنس الأبيض، إن كان في قلب هذا المسافر ذرةٌ من حب الوطن والأنَفَة له، والأرَق له. أي شيءٍ هي حضارتُه؟ على أي شيء أسَّسَها وأعلى من بنائها؟ لماذا يحتكرها الآن؟ ما سِرُّ تفوُّقه علينا؟ أين يكمُن فيه الفضل؟ وأين يكمُن فينا العيب؟ هل نستطيع أن نلحقَه، ثم نُماشيَه، وكيف؟»
أما أن يحيى حقي قد زاد على كل تلك الإسهامات، فلأنه قام بدور يتميز — بصورةٍ واضحة — عن غالبيةِ إسهاماتِ أدبائنا الكبار. لقد فتح بعضُهم صالونات البيوت لاستقبال أصدقائهم وتلاميذهم من الأدباء، وأسهموا في الندوات والمؤتمرات، وشاركوا الأدباء الشباب قعداتهم في القهاوي، وبذلوا النصيحة أحيانًا … لكن يحيى حقي تفرَّد بأستاذيةٍ فعلية — الأدق أنها أبوَّة — لكل أدباء الأجيال التالية. تحدَّد دوره في المتابعة والرعاية والتقديم، ويدين له جيل الستينيات — تحديدًا — بفضل تقديم أبرز مبدعيه. ركَّز على الإيجابيات، وأهمل السلبيات، واكتفى بالنصيحة في مكانٍ مغلق. لم يخُض المعارك العلنية — أو المستترة — مع الآخرين، ولم يهزأ بمحاولات التجريب. وفي حين قدَّم حافظ رجب، ونشَر له، وتبادَل معه الرسائل الشخصية، وأكَّد أنه أديبٌ سبق عصره! وكان حقي يُجري امتحاناتٍ في اللغة لمن يتعاملون معه، يعتذر بأنه قد نسي نظارته، ويطلب من الأديب الشاب أن يقرأ موضوعًا، أو رسالة، بالعربية، أو باللغة التي يزعم الأديب إجادتها، ويتعرَّف حقي — من خلال القراءة — إلى القدرات الحقيقية للأديب. وقد اكتشَف حقي أن مترجمًا من الإنجليزية إلى العربية، لا يعرف حرفًا في اللغة التي يترجم منها. طلَب منه قراءةَ رسالة، فتأتأ وثأثأ وتلعثم، ثم اعترف أنه لا يعرف الإنجليزية، وأن ترجماته لا تعدو صياغةً أخرى للترجمة العربية!
إن أستاذية يحيى حقي للعشرات من أدباء الأجيال التالية، من أخطر أدواره إطلاقًا، وهي أستاذية تبدأ بنجيب محفوظ. وكم يذكر له محفوظ — بكل التقدير — سني عمله تحت إدارة حقي في مصلحة الفنون، وحرصه على أن يكون أخًا أكبر لنجيب، يتابع فنه بأكثر من أن يتابع عمله الوظيفي. وقد كتب حقي في «عطر الأحباب» عن تلك الفترة: كيف تختفي علاقة الرئيس والمرءوس، لتحل بدلًا منها علاقة المبدع والمبدع.
وإذا كان يحيى حقي قد أسرف على نفسه، وعلينا، في تقديمه لبعض من تسلَّلوا إلى الحياة الأدبية، باعتبارهم أدباءَ حقيقيين، ولهم محاولاتهم التي يجب تقديمها، بل إنه زاد، فقدَّم أحد الأدعياء — لا أجد صفةً أخرى! — على أنه هو الأمل في تقديم روايةٍ مصريةٍ عالمية! … إذا كان حقي قد جانبه التوفيق في تلك التقديمات، وقد صارحناه بذلك، واكتفى — دون تعليق — بابتسامته المؤدَّبة الشهيرة، فإنه قد قدَّم العديد من الأصوات التي احتلَّت مواضع تستحقُّها بالفعل في حياتنا الأدبية: مجموعة «عيش وملح»: محمد حافظ رجب والدسوقي فهمي وعز الدين نجيب وسيد خميس ومحمد جاد وعباس محمد عباس، وأيضًا محمد إبراهيم مبروك وصبري حافظ وإبراهيم أصلان ونوال السعداوي وغيرهم، ممن كتب مقدماتٍ لمجموعاتهم القصصية ورواياتهم، أو ساعدهم على نشر محاولاتهم في مجلة «المجلة» عندما كان يتولى رئاسة تحريرها. تحدَّث أمامي — ذات يوم — مع صديقي الكبير عبد الفتاح الجمل، عن أمله في تقديم «المجلة» للأصوات الشابة. قال الجمل: وهل تفعل غير ذلك؟ قال: كل من قدَّمتُهم، اتجهوا — لظروف اقتصادية — إلى «الثقافة» و«الرسالة». وكانت وزارة الثقافة قد أعادت إصدارهما أسبوعيًّا، برئاسة تحرير محمد فريد أبو حديد ﻟ «الثقافة»، وأحمد حسن الزيات ﻟ «الرسالة»، ووجد الأدباء الشبان — في ظل ظروف اقتصادية سيئة — أن الأسهل تقديمُ ما يكتبون إلى مجلتَين أسبوعيتَين تحتاجان إلى إبداعاتٍ كثيرة، بدلًا من انتظار فرصة النشر في مجلة شهرية!
وإذا كنتُ — شخصيًّا — أدينُ للصديقَين يوسف الشاروني وسيد النسَّاج، بفضل تقدُّمي بكتابي «مصر في قصص كتابها المعاصرين» إلى جائزة الدولة التشجيعية، فإني أدينُ بفضل حصولي على الجائزة ليحيى حقي. لم أشارك — يومًا — في أية مسابقة، ولا حاولتُ النشر في الصحف بواسطة طابع البريد، لا لثقةٍ بقيمة ما أكتبه، وإنما لخشيةٍ من أن أواجه الرفض. وأصَر الشاروني والنسَّاج أن أتقدَّم بالكتاب إلى جائزة الدولة، وأكَّدا — بما لهما من تجربة أتاحتها لهما عضويتُهما في لجان المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب — أن فرصة فوزي بالجائزة كبيرة، إن لم تكن مؤكَّدة. وبلغ تردُّدي في التقدُّم للمسابقة، حد تكليف الشاروني للصديق الناقد نبيل فرج بأن يملأ استمارة التقديم قبل الموعد النهائي بحوالي الساعة والنصف! ربما دفعَني الفضول في البداية، إلى تبيُّن أسماء المتقدِّمين للجائزة. وكانت أسماءً كبيرةً ولامعة. وتناسيتُ الأمر تمامًا حتى نسيته. ثم فوجئتُ — ذات أصيل — بيحيى حقي يقف على باب صالة «المساء»، بيده علبة «بونبوني»، وهو يقول بتلقائيته الرائعة: مبروك يا جبريل. أخدت جائزة الدولة! لم أكن قد تقدَّمتُ إلى مسابقةٍ من قبلُ، ولم أحصُل بالتالي على جائزة من أي نوع. وعرفتُ أن يحيى حقي حسَم الخلاف الذي كان قد نشأ بين أعضاء اللجنة حول العمل الأجدَر بالجائزة. قال: هذه جائزةٌ تشجيعية … والمفروض أن ينالها أديبٌ شاب … أما الأدباء الكبار، فإن من حقهم أن يتطلعوا إلى الجائزة التقديرية! كان رأي أغلبية أعضاء اللجنة أن كتابي هو الأحق بالجائزة، فلما أعلَن حقي رأيه بهذه الحيثية، المُقنِعة، تحوَّلَت الأغلبية إلى إجماع!
وقد امتدَّت تلك الأستاذية، أو الأبوة، لتشمل أدباء الأجيال التالية، بل إنه عندما أسرف غالي شكري في نقده لإبداعات الكبار، في مجموعة «قصص قصيرة» التي أصدرتها سلسلة «كتابات معاصرة»، كتب يحيى حقي مقالًا يعيب على السلسلة أنها شتمَت الأدباء بفلوسهم، فقد صدرَت المجموعة بإسهاماتٍ ماديةٍ من الأدباء الذين شاركوا فيها. واللافت أن حقي ناله — في نقد غالي شكري — أعظم التقدير … لكن الرجل أغضبَتْه القسوة التي طالت إبداعاتِ أدباءَ من جيله، أو من الجيل التالي!
إن معظم أدبائنا تسبقهم صفة الإبداع الذي تفوَّقوا فيه، وقدَّموا أبرز معطياتهم. ثمَّة الشاعر والروائي وكاتب القصة القصيرة والمسرحية والناقد … إلخ. حتى نجيب محفوظ، قد تسبق اسمَه عبارة «الروائي الكبير». أما يحيى حقي، فهو قد أجاد التفوُّق في كل معطياته، فاسمُه يأتي غير مسبوق بصفة. إنه يحيى حقي بلا صفة تسبقه، أو تتبعه.
في إبداعات يحيى حقي — رغم قلتها، نسبيًّا — رائحة اليود على شاطئ الأنفوشي، صفائح الحجارة في حواري الجمالية، مآذن القاهرة، عادات وتقاليد ناس الصعيد، بساطة الحياة في الوجه البحري، السماء الصافية والنخيل والسواقي والجسور والكباري والأرابيسك والمشربيات والكتاتيب والقلل القناوي وعربات الكارو والباعة السريحة والطواقي والطرابيش واللبد والجلابيب والملاءات اللف والزحام والنكتة اللمَّاحة والشجن والمأساة والصبر والأمل والثأر … لحظات مصرية خالصة. عناق مذهل لتراث سبعة آلاف سنة من حياة شعبنا. السخرية المشفقة، والاتكال على الله، والإيمان بحتمية القضاء والقدر، والعزف على ربابة الوجدان … جزء من اللحظات المصرية المتواصلة، والممتدة.
أما الفنان نفسه، فإني أضيفه إلى المشاعل، الذين تبدو صورة مصر من خلال إبداعاتهم رائقةً مشمسة؛ النديم والتونسي ومختار وسيد درويش والحكيم وجاذبية سري ولاشين ومحفوظ وعبد الصبور وإدريس وإنجي أفلاطون وغيرهم. متحمِّس دومًا، منفعل غالبًا، وإن توارى التحمس والانفعال في نبرةٍ هادئة، لا تعلو على الهمس. أتصوَّر نظرته التي يمتزج فيها الذكاء والطيبة، وكلماته المتسائلة، تتخللها تلك الكلمة «أفندم» المستمدة من أصلٍ تركي، ذاب تمامًا في الحياة المصرية: النبع حروفٌ ثلاثة … م … ص … مصر … أليس كذلك؟
•••
عاش يحيى حقي حياته الوظيفية دون أن يستثمر أموالًا ولا أرضًا ولا أسهمًا ولا أي شيء. المعاش هو كل ما غادر به الوظيفة. ومع أن الكتابة يمكن أن تشكِّل — بالنسبة لأديب في مستواه — موردًا طيبًا، فقد اختار حقي أن يكتب في «المساء» مقابل عشرين جنيهًا للمقال الواحد. كنتُ أمُر عليه — أحيانًا — صباح الأحد، في طريقي إلى الجريدة. أتسلَّم مقاله. اعتدتُ رؤية قسمات التعب في وجهه. يبادرني بعَفْويته الطيبة وهو يدفع لي بكوب الشاي: «بدأتُ الكتابة قبل منتصف الليل، فلم أتمَّه إلا الآن!» وكنتُ أعرف أن الرجل يبذل جهدًا في الكتابة، لا يفرق بين نصٍّ إبداعي أو دراسةٍ نقدية أو خاطرة، لا ثرثرة ولا نتوءات، لا يضيف إلا ما يستحق ذلك بالفعل، والعكس — بالطبع — صحيح. واللغة عنده ليست مجرد أداة تعبير، أو أداة توصيل. إنها جزءٌ متمم لعملية الكتابة في كل الأجناس الأدبية. وعندما أعلن يحيى حقي توقُّفه عن الكتابة، فلأن صحته لم تعُد تحتمل جهد الإبداع.
سألتُه: توقَّفتَ عن الكتابة الإبداعية، فلماذا تتوقف عن كتابة أشياءَ من قبيل الذكريات، أو مقالات الرأي؟
قال: جهد الكتابة واحد. لا فارق عندي في المعاناة بين نوعٍ من الكتابة ونوعٍ آخر.
ثم قرأتُ له — فيما بعدُ — قوله: «يصعب على الأديب أو الفنان أن يعرف متى ينزل الستار!»
لقد وافق حقي على الاتهام الذي وجِّه إليه — يومًا — بأنه مُقِل في إنتاجه الأدبي. فلما توالت الكتب التي تضُم مقالاته وصوره الأدبية، ثبت أنه لم يكن مقلًّا ولا يحزنون؛ فهو من أغزر أدبائنا إنتاجًا. ساعدَه على ذلك — ربما دون أن يدري! — أنه انتظَم في الكتابة الأسبوعية. كتابة ذكية وواعية ليست «كلشنكان»، ولا تستهدف قارئ الجريمة، أو الخبر الصحفي، لكنها تحرص على اللغة والفنية العالية. وكما قلتُ، فقد اعتزل الرجل كتابة المقال بعد أعوامٍ قليلة من اعتزاله كتابة القصة والرواية؛ لأنه كان يبذل الجهد نفسه في كل كتاباته!
الغريب أن حقي رفض عروضًا مغرية من صحفٍ كبرى. أراد — كما قال في أكثر من حديث صحفي — أن يمارس هواية الأدب في الظل. وبالمناسبة، فإن ليحيى حقي كتابًا اسمه «ناس في الظل» … وكم كان يحب ذلك النوع من البشر!
•••
لعل محمود طاهر لاشين أوَّل من تنبَّه إلى خاصية الدعابة عند يحيى حقي؛ فقد كتب في ۱۹۲۷م يُثني على روح الدعابة الجذابة الواضحة في معظم قصص حقي. وإذا كان المازني قد داعب نفسَه أحيانًا إلى حد السخرية من تكوينه الجسمي، ومن ساقه المهيضة، فإن حقي يصف تكوينَه الجسدي بأن الأصدقاء يسلكونه بين الطوال تكرمًا منهم، وبسبب الألفة والعادة، لا النظرة. أما عند بقية الناس، فالحياد يُمسِكهم إلا أن يقولوا إن الأقزام أقصر منه! … وعندما التقينا في الطريق بابن عم له، قدَّمه لي قائلًا: سالم حقي … ابن عمي.
وأردف ببساطة: أقصر مني!
مع ذلك، فإنه كان يرفض «الاستظراف». يقابله بما يُلجِم التصرف الأحمق، أو يبتر الجملة السخيفة. وأذكر أنه كان يجلس مع الأدباء الشباب، يسألونه ويجيب، وتُشرِّق الأحاديث وتغرِّب. وخطر لأحدهم أن يقدِّم علبةً صغيرةً مغلقة، هدية ليحيى حقي. وفتح حقي العلبة ليُفاجَأ بانتطار لعبةٍ ذات سوستةٍ ملتصقة بأسفل اللعبة. وأشهد أن يحيى حقي لم يُظهِر غضبًا، ولا أي مشاعر تُخالِف اللحظة. لم يبدُ أنه حتى قد فتح العلبة، ورأى السخف المتقافز فيها. قذفها ببساطة، دون أن يلتفت إلى «المتظارف»، وأكمل حديثه! … تصرُّف أملَته طبيعته الدمثة، المترفِّعة، وسنو العمل في الحياة الديبلوماسية.
وعندما كتب توفيق الحكيم في «الأهرام» يهنئ يحيى حقي بعيد ميلاده السبعين، صارحَني الرجل باستيائه من كلمات الحكيم. كانت الكلمات محبةً ومداعبة، لكنها أسرفَت في التأكيد على أنهما — الحكيم وحقي — قد بلغا ما يُسمَّى بأرذل العمر. وأشار إلى وفاة سعد زغلول وهو في حوالي الستين، فاعتبَره الناس — آنذاك — شيخًا قد استنفَد حياته. تأثَّروا لرحيله، وجزعوا، وأحسُّوا باليتم لرحيل الأب والزعيم، لكن أعماقهم كانت مطمئنةً إلى أن الرجل قد مات في سن الشيخوخة!
وقال لي الرجل بتأثُّرٍ واضح: هل يُهنِّئني الرجل بعيد ميلادي أو يعجب لعدم وفائي؟!
قلت: لقد تحدَّث عن نفسه أيضًا؛ فهو يكبرك في السن.
قال: ولو! … التهنئة لا تكون بالتذكير بتقدُّم العمر، ولا بالموت الوشيك!
ورغم هذا، فقد استقبل حقي تقدُّم أعوام عمره بفضول الفنان، ودهشته أيضًا. قال لي وأنا أزوره في بيته بعد أن جاوز السبعين: يؤكِّد الأطباء إن المرء تطرأ على تفكيره — وربما تصرُّفاته — تغيراتٌ بعد أن يتقدَّم في العمر!
أردَف في ضحكةٍ بريئة: أنا الآن مشغول بمتابعة «الحالة». نعم، أعتبر نفسي حالةً لتقدم السن. من المفيد أن أتابع تطوراتها العضوية والنفسية … هل أُصاب بالخرف مثلًا؟!
لكن الرجل ظل — إلى أخريات أيامه — يقظًا، واعيًا، متابعًا. يتصل بالأصدقاء والتلاميذ، حتى لو لم يتصلوا به، ويقرأ ويسمع — وكانت عيناه قد أجهدَتْهما قراءاتُ الأعوام الثمانين — ويحيا الواقع الأدبي ما وسعه. بل إنه كان يهمل مرضه، في مقابل اهتمامه المُلِح بما يواجهه تلاميذه من ظروفٍ صحية أو غيرها (أذكِّرك بوقفته إلى جانب الصديق روميش)، وكانت آخر مرة اتصل بي فيها يحيى حقي عندما كان الصحفي الشاب إبراهيم عبد العزيز يزورني. وبدا على صوت الرجل إشفاق، وهو يسألني عن ابراهيم عبد العزيز: أبلغَني أنه سيزورني قبل الثانية ظهرًا بعد أن يمر عليك! … وكان ذلك هو شعور يحيى حقي نحو كل من اتصل به، بصرف النظر عن تفوُّق مواهبهم أو ضعفها. وقد اكتفَى بابتسامته الديبلوماسية وهو يُنصِت إلى الملاحظات المستغربة للكلمات التي قدَّم بها أعمالًا يصعُب أن ترقى إلى مستوى النقد، فضلًا عن مستوى إعجاب «الناقد» يحبى حقي. كانت إنسانية حقي ترضَخ أحيانًا لأنصاف الموهوبين! … وهو ما كان يناقض — للعجب — آراءه الناقدة لمحاولات الأدباء الذين يستقبلهم في بيته. كان يخصُّهم بآرائه دون ميل للاستعراض، أو التهوين من شأنهم أمام الآخرين، إنما كانت الجلسة تقتصر عليه، والأديب الشاب ينصت جيدًا، ثم يبدي وجهة نظره بكلماتٍ مهذَّبة، لكنها تذكُر الحقيقة! وأعترف أني سعدتُ شخصيًّا بهذه الجلسة التي أفدتُ فيها كثيرًا من آراء يحيى حقي ونصائحه وتوجيهاته!
•••
عانَى يحيى حقي في أعوامه الأخيرة من الشائعات. لم يكن يدري — ولا نحن — مصدرها، وإن كنا — وأظنه كذلك — نفترض فيها حسن النية … فقد عاش الرجل حياته بلا أعداء، سواء على المستوى الشخصي أو المهني ككاتب، أو الوظيفي، حتى أحيل إلى المعاش. ولما كتبَت جريدةٌ يومية، أن حقي باع مكتبته لسداد ديونه، أثار الخبر إشفاق الجميع واستياءهم: هل ينتهي الأمر بالأستاذ الفعلي للعديد من الأجيال الأدبية إلى بيع مكتبته، وتلاميذُه لاهُون؟! وكتب رجاء النقاش مقالًا مطولًا يعيب فيه على الدولة هذه المأساة القاسية: هل نترك صاحب «القنديل» يبيع مكتبته ليسد احتياجات أيامه الباقية؟ … وكان المقال مؤثِّرًا للغاية، أكَّد فيه النقاش على دور حقي في حياتنا الثقافية، وأنه لم يكن دور المبدع ولا الناقد فحسب، وإنما هو دور الأستاذ لمئات التلاميذ الذين أفادوا من حقي بالمعرفة الشخصية، أو بقراءة أعماله. ومع أن يحيى حقي أهمل عشرات الشائعات التي تناولَت حياته إلى حد إنهائها! … بمعنى أنها ادَّعَت وفاته في الوقت الذي كان الرجل يشارك — بقَدْر ما تواتيه ظروفه الصحية — في حياتنا الثقافية، يستمع إلى مواد البرنامج الثاني بالإذاعة، وإلى ما يقرؤه عليه تلاميذه مما تنشُره الصحف، ويبدي رأيه في الأعمال التي تُعرَض عليه، لا يضيق بسذاجة بعض المحاولات، وأنها كانت دون مستوى المناقشة. وربما تحدَّث إلى برنامجٍ ثقافي في الإذاعة أو التليفزيون أو إلى إحدى الصحف. مع أن حقي أهمل كل الشائعات، لأنه مشغول — بظروفه الصحية — عن الأخطاء البريئة والمتعمدة، فإنه قد غضِب لخبر بيع مكتبته. خبر مطول وحافل بالتفصيلات، كأنه قد حدث بالفعل. وكان غضبه بالغًا، واتصلَت ابنتُه السيدة نهى بالجريدة، تكذِّب الخبر الذي وضع أباها في موضع الإهانة. عاش الرجل حياته وهو يعطي، لا يأخذ إلا ما هو حقُّه. لم يُعرَف عنه أنه عمل لحساب جهةٍ ما عربية أو أجنبية، أو كان صديقًا لأحد الأنظمة، أو حتى أحد الأثرياء، لكنه كان منتميًا إلى مصر وحدها، وإلى فنه ورسالته فحسب، وهي رسالة — كما أوضحتُ — لم تكن مقصورةً على الإبداع، لكنها شملَت كل ما يجب أن يُعنَى به المثقف، ويعتبره رسالته. وأكَّد حقي للجميع أن حياته مستورة — تعبير مصري، وكانت التعبيرات المصرية، والعادات المصرية، والتقاليد المصرية، والحياة المصرية عمومًا عشقه الدائم — وأنه في غير حاجة إلى بيع مكتبته (كان قد أهداها إلى جامعة المنيا) ولا بيع أي شيءٍ مما يمتلكه؛ فمعاشه — وكان ضئيلًا للغاية — يكفيه! … ورغم نشر الصحف تكذيب الخبر الشائعة، فإن بعض محبي يحيى حقي وتلاميذه قرءوا الخبر ولم يقرءوا التكذيب، ووقفَت الشاعرة وفاء وجدي في لقاء الرئيس مبارك والمثقفين المصريين في أول أيام معرض القاهرة الدولي للكتاب، تدعو الدولة إلى مساعدة حقي في مواجهة ظروفه المادية. وعلا صوتُ نهى حقي من بين الصفوف، ينفي حكاية بيع الشقة، وينفي حاجة حقي للمساعدة أصلًا. ونقل الرئيس نظرته بين وفاء ونهى، وابتسم، وانتهَى الأمر!
وكما قلت، فقد امتدَّت الشائعات إلى حياة حقي، لتلغيها، لتنفيها. أعلنَت وفاة الرجل في حياته. صمَت عن الإبداع، فتصوَّروا أنه صمَت عن الحياة أيضًا. واستمَع إلى اسمه، مسبوقًا بكلمة «المرحوم» في برنامجٍ تليفزيوني، وقرأ اسمه مسبوقا بكلمة «الراحل» في مقال بصحيفة … لكن الرجل — كعادته — أخذ المسألة ببساطة: ما دمتُ أحيا، فلا شأنَ لي بمن ادَّعَوا موتي! … بل إنه حوَّل الشائعة إلى نكتة. يتصل به صديق، فيقول له من خلال التليفون: كيف تتصل بي وأنا ميت؟!
•••
ولعل مما أعتز به، أني اتصلت بالعديد من أصدقاء حقي، أنبههم إلى ضرورة أن تكون جائزة فيصل — في العام الذي حصل عليها فيه — من نصيب يحيى حقي. كان يشاركه التقدم للجائزة أسماء يرتقي أصحابها — بالكاد — إلى مستوى تلاميذه. وحين أفلحَت الحملة — كانت حملة بكل المقاييس — كنتُ أسعَد الناس بذلك، لعدة اعتبارات؛ أولها أن الرجل قيمةٌ أدبيةٌ عربيةٌ كبيرة بالفعل. وكان تعليق نجيب محفوظ العَفْوي على فوزه بجائزة نوبل: كنتُ أتمنى لو أن الفائز بها هو يحيى حقي. وثاني الاعتبارات، أن حقي كان قد اختتم تاريخه الأدبي بالفعل. كانت «الفراش الشاغر» آخر إبداعاته القصصية، اكتفَى بعدها بكتابة المقالات التي نشَرَت «المساء» غالبيتها، وأُجري معه العديد من الحوارات واللقاءات الإعلامية. ثم بدأ في الانسحاب من الحياة العامة تمامًا، حتى إنه اعتذر عن حضور المؤتمرات أو المهرجانات التي عُنيَت بتكريمه. وكما قلت، فقد تصوَّر البعض وفاة الرجل. وكان لا بد أن نكرِّمه بكل السبل، أن نؤكِّد شكرنا له، وتقديرنا لأستاذيته ولإبداعاته، وإسهاماته الخلَّاقة عمومًا في حياتنا الثقافية على مدى ما يزيد على النصف القرن. أما ثالث تلك الاعتبارات، فهو أن يحيى حقي فاز بجائزة الدولة، وهي جائزة نالها كثيرون، بعضهم يعاني غربة في الحياة الأدبية، فأولى به جائزةٌ في مجال تخصُّصه، وبعضهم تقصُر قامتُه إلى جوار العقاد والحكيم وطه حسين ومحفوظ وحقي، وبعضهم نال مع الشهادة شهادةً غير معلَنة بوفاة قيمة الجائزة! … وكانت تلك هي الجائزة الكبرى الوحيدة التي نالها الرجل، فيما عدا جائزة الدولة، ودرجة الدكتوراه الفخرية من جامعة المنيا.
•••
متى يعتزل الأديب؟
ذلك هو السؤال الذي يواجهه كل الأدباء في لحظةٍ ما، وبالذات هؤلاء الذين يطيل الله في أعمارهم.
إن للإبداع فترةَ خصوبة، تختلف بين مبدع وآخر، وإن أجمعَت كل الاجتهادات على أنه لا بد من ذروة، يبدأ بعدها الانحدار! أتصوَّر أن أزمة يوسف إدريس الحقيقية، كانت هي نضوب الإبداع. لم يكن يستطيع الخوض في مشروعه الفني، بنفس البساطة التي كتب بها أعماله منذ «أرخص ليالي» إلى «بيت من لحم». وانشغل إدريس — أو تشاغل — بكتابة المقالات، فلما سُئل عن إنتاجه الإبداعي الجديد، أسعفَه ذكاؤه بالقول، إن ما يكتُبه من مقالاتٍ صحفية، إنما هو كتاباتٌ قصصية، وإن غاب ذلك عن فطنة المتلقي! وعندما وضع همنجواي فوَّهة مسدَّسه في حلقه، وأطلَق الرصاص، فلأنه أدرك أنه لم يعُد لديه ما يقوله أو يكتبه. مات المبدع في داخله، فقرَّر أن يقضي على حياة بلا جدوى!
وبالطبع، فإن لكل قاعدةٍ استثناءاتها. والاستثناء في الأدب العالمي تجده — مثلًا — في سرفانتس الذي أبدع رائعته «دون كيخوتة» بعد أن جاوز السبعين … ونجده — في أدبنا المعاصر — في «الأستاذ» نجيب محفوظ، الذي استمرَّت خصوبة إبداعه حتى فوزه بنوبل، ليصبح من بعدها — حسب تعبيره — موظفًا عند الجائزة؛ فهي تطالبه — كل يوم — بالعديد من اللقاءات والأحاديث لصحف ومحطات، وتليفزيون، من كل أنحاء العالم.
أما يحيى حقي، فقد كان له رأيه الواضح — والمعلَن — في اللحظة التي يجدُر بالمبدع أن ينزل فيها الستار. ربما يصمُت البعض دون إعلان، والأمثلة كثيرة … وقد «يقاوح» البعض، فيحاول إيهام نفسه، وإيهام الآخرين، بأن ما يكتبه هو إبداعات، مع أنها لا تعدو مقالاتٍ صحفية، يصعُب أن نضعَها في إطار الوهج الفني!
كانت «الفِراش الشاغر» هي آخر ما كتب يحيى حقي من أعمالٍ إبداعية، ثم انصرف إلى كتابة المقالات التي كانت بالنسبة لحقي، جهدًا لا يقل عن جهد الإبداع … فهو يختار الموقف والتعبير والجملة والكلمة والحرف، يبدِّل ويُضيف ويحذف، فلا يدفع بالمقال إلى المطبعة إلا بعد أن يكون قد استهلَكَه تمامًا. وأصارحك بأني لم أفاجأ — فيما بعدُ — باعتزال حقي الكتابة في إطلاقها، ما عدا بعض المقالات القصيرة المتباعدة، يكتبها لبعض المجلات المتخصصة!
وأذكُر في بداية عام ١٩٧٣م، عندما اطمأن يحيى حقي إلى أنه لم يعُد لديه ما يكتُبه، وأنه قد اكتملَت عمارة أعماله الأدبية … كان محمود الشنيطي — أهم من تولَّوا قيادة دار الكتب، وهيئة الكتاب — يُشرِف على إنشاء المبنى الجديد للهيئة، ويُعِد — في الوقت نفسه — لتحقيق دفعة في نشاطها … وطلَب مني الشنيطي أن أعرض على يحيى حقي فكرة إصدار الهيئة لأعماله الكاملة. وتحمَّستُ للفكرة، وحملتها إلى يحيى حقي، فوافق.
كان مجموع المبلغ الذي عرضه الشنيطي سبعمائة جنيه. وعدَل حقي عن موافقته، وأتاني صوته في التليفون حزينًا: هذه هي العمارة التي بنيتُها في حياتي، وأبيعها الآن … فهل هذا هو الثمن؟!
وابتعدتُ عن الوساطة آسفًا ومشفقًا. ثم تم الاتفاق — بعد ذلك — بين حقي والشنيطي. أضاف الشنيطي بضع عشراتٍ من الجنيهات، وإن كانت موافقة حقي — كما أكَّد لي — لأنه كان يريد أن تصدُر أعماله الكاملة في حياته، فيُضيف إليها بنفسه ما لم يسبق نشره! وبالفعل، استطاع فؤاد دوارة أن يُضيف إلى أعمال يحيى حقي ضعف ما كان أصدره من قبلُ. وقرأنا كتبًا جديدة، أحسَن دوارة تصنيف مادتها، في حين اختار لها حقي أسماءها.
الطريف أن هذه الكتب جعلَت من المقولة التي أكَّدَت قلة كتابات يحيى حقي، بالقياس إلى شهرته، مقولةً خاطئة، وغير صحيحة؛ فالرجل من أغزر أدبائنا بالفعل، ربما دون أن يَفطِن هو نفسه، بدليل أنه لم يحاول مناقشة تلك المقولة التي ظلت ثابتة، ولا اعترض عليها. كان حقي يكتب مقالًا كل أسبوع، في إحدى الصحف، كتابات تنتسب إلى الإبداع في مجالاته المختلفة، بصورةٍ صحيحة.
أخيرًا، فقد ظل يحيى حقي حريصًا على أن يكون مثلًا وقدوة، حتى في موته … فهو لم يشأ أن ينشُر — مثل بقية الناس — نعي الأسرة — وله أسرتُه وعائلتُه المتشابكة الفروع — ولا رضي بأن يشُق على محبيه في السعي وراء جثمانه، وإنما أوصَى بأن يُدفَن بواسطة أسرته وأصدقائه القريبين، وأن يُنشَر نبأ وفاته مقرونًا بجملةٍ واحدة، هي: «من يقرأ هذا النعي، فليقرأ الفاتحة.»