لا تحزن على يوم انقضى!
بعد ثلاثة أيام من هذه الاجتماعات، كانت طائرة شركة الخطوط الجوية البريطانية من طراز «جامبو» الضخمة تُحلِّق في سماء «بوينس آيرس» عاصمة «الأرجنتين»، وكان الوقت قرب منتصف الليل … ومن النافذة المُجاورة نظرت «هدى» التي اختيرت في هذه المهمَّة لأنها تُجيد الحديث بالإسبانية، ورأت البرق والرعد يُمزق قطعان السحاب … وأخذت الطائرة تَجتاز السحاب هابطة، وعندما اخترقت السحاب الكثيف أخذت تهتز. وهزَّت «هدى» رأسها، فما زالت الطبيعة أقوى من الإنسان …
وتحت السحاب كان المطر الغزير يَهطل مِدْرارًا، وبُهِرَت «هدى» بقطرات الماء الثقيل، وهي تسقط على أجنحة الطائرة، ثم وهي تتفرَّق … وأخذت الطائرة تحوم فوق المطار المضاء ثمَّ انقضَت كطائر خرافي ضخم، ومسَّت عجلاتها الأرض المُبتلَّة، ثم مضت تحبو فوق الممر حتى توقَّفَت.
وقف الشياطين وأخذوا يَجمعون حاجياتهم، وسرعان ما كانوا يسيرون في الصف الطويل أمام موظفي الجمارك، وبعد نحو نصف ساعة من هبوط الطائرة، خرَجُوا إلى ليل «بوينس آيرس» الممطر العاصف، وركبوا سيارتين من سيارات التاكسي …
قالت «هدى» لسائق التاكسي: فندق بلازا من فضلك … ردَّد السائق: بلازا يا سنيوريتا!
هدى: نعم … بلازا!
وأعمل السائق العجوز يدَيه وقدمَيه في أجهزة السيارة «البويك» القديمة، فانطلَقَت بهم تحت المطر الغزير إلى قلب العاصمة … وانتهز «أحمد» الفرصة وأخذ يَتبادَل مع السائق حديثًا سريعًا قائلًا: كم تَبعد «باهيا بلانكا» من هنا؟
فكَّر السائق لحظات ثم قال: إنها مسافة بعيدة بالسيارة يا سنيور … من الأفضل أن تركب طائرة.
أحمد: ولكن الطائرات تَسْقُطُ كثيرًا في هذا الجو العاصف.
السائق: لا دخل للجوِّ في سقوط الطائرات يا سنيور.
أحمد: ولكن تلك الطائرة التي سقطت منذ أيام عند «فولك لاند»!
صمت السائق قليلًا وهرَش رأسه ثم قال: تقصد طائرة السنيور «مارتينز» …؟
أحمد: نعم، «مارتينز» … هل تعرفه؟
تنهَّد السائق طويلًا وقال: لقد عَمِلتُ عنده يا سنيور … ورأيته من بعيد عدة مرات.
أحمد: وما رأيك فيه؟
السائق: وما قيمة رأيي يا سنيور في هذا المليونير؟! إنَّك كمَن يسأل النملة عن رأيها في الفيل!
ضحك «أحمد»، وابتسم «عثمان»، وعاد السائق يتحدث: لقد سبقتنا السيارة التي تُقلُّ بقية أصدقائكم.
أحمد: هذا لا يُهم، فنحن لسنا على عجلة من أمرنا، وعلى كل حال هم سينزلون في فندق «بلازا» أيضًا … المهم أن تُكمل لنا حديثك عن «مارتينز» …
السائق: لا أستطيع أن أقول لك شيئًا كثيرًا عنه … وما يعرفه أيُّ أرجنتيني عن السنيور «مارتينز» أنه أكبر مربٍّ وتاجر ومصدر للماشية في الأرجنتين. وأنت تعرف أن اللحم المتجمِّد من أهم صادرات بلادنا.
وأشعل السائق سيجارة، ثمَّ لاذ بالصمت، كأنَّما الحديث عن «مارتينز» مادة مُحرَّمة عليه.
مضت السيارة و«هدى» و«أحمد» و«عثمان» صامتون، وأخذت السيارة تَقترب من المدينة الضخمة وبدأت الشوارع المضاءة تبهر العيون، وكان المطر قد انقطع ولم يَبقَ إلا آثار المياه على الأرض، ولم يكن هناك إلا عدد قليل من البشر يسير في هذه الساعة المتأخِّرة من الليل …
وصلت السيارة أخيرًا إلى فندق «بلازا» الفخم، ودفع «أحمد» للسائق العجوز نقوده، ثم أضاف بقشيشًا سخيًّا … وكم كانت دهشته عندما نظر إليه السائق، ثم نظر حوله وقال: اسمع أيها السنيور الشاب، كن على حذر من «مارتينز»، إنه ثعبانٌ كبيرٌ!
وقبل أن يُعلِّق «أحمد» على هذه الجملة، كان السائق قد أغلق باب السيارة وانطلق بها مسرعًا، فاستدار «أحمد» إلى «هدى» و«عثمان»، ثمَّ قال في صوت هامس: إنَّ صديقنا السائق العجوز يُحذِّرنا من «مارتينز»!
وأسرع الحمَّالون إلى حقائب الأصدقاء، ودخلت «هدى» مع «عثمان»، بينما بقي «أحمد» عند مدخل الفندق الفخم، فلم يكن «قيس» و«إلهام» قد وصَلا بعد، رغم أنَّ سيارتهما كانت تسبق سيارة السائق العجوز، وكان الاتفاق، أن من يصل أولًا إلى الفندق، عليه أن ينتظر الباقين.
مرَّت فترة دون أن تظهر السيارة التي تُقِلُّ «قيس» و«إلهام»، وبدأ القلق يتسرَّب إلى قلب «أحمد»، وأخذ يُفكِّر … هل استطاعت عصابة الاختطاف المَجهولة أن تَعرف بقدومهم، ثم تبدأ على الفور الصراع معهم؟ إنَّ الأوراق الرابحة كلها معهم، فالشياطين بعيدون جدًّا عن منطقة عملهم العادية في العالم العربي، ومحاولة الحصول على مساعدة من رقم «صفر» ستتأخَّر … والمنطقة مجهولة بالنسبة لهم … وهناك مليونير غامض ربما كان شريكًا في عملية خطف العلماء … و…
ولكن قبل أن يستمر «أحمد» في أسئلته وصلت السيارة، ونزلت «هدى» ثم «قيس»، وقالت «هدى» عندما شاهدت علامات القلق على وجه «أحمد»: كل شيء على ما يرام … لقد انفجر إطار السيارة الأمامي، وانزلقت بنا السيارة فاصطدمت بأحد أعمدة النور، وقد استغرق إصلاحها بعض الوقت.
نزلت «هدى» و«إلهام» في غرفة واحدة، و«قيس» و«عثمان» في غرفة … واختار «أحمد» غرفة في أول الدهليز … وكانوا قد تناولوا عشاءهم في الطائرة، وهكذا اغتسلوا، ثم اتفقوا على عقد اجتماع في الصباح، واستسلمُوا للنوم …
استيقظت «بوينس آيرس» على يوم مشمس جميل، وتلاشت من الشوارع سريعًا آثار أمطار الأمس الغزيرة، وخرج الشياطين الخمسة يتناولون إفطارهم في شرفة فندق «بلازا» الفاخر، ويتحدَّثون وهم ينظرون إلى نهر «لابلانا» وهو ينساب أمام الفندق …
قال «عثمان»: أعتقدُ أننا يجب أن نذهب إلى «باهيا بلانكا» بالسيارات، فنحن في حاجة للتعرف على هذه المنطقة من «العالم» …
أحمد: أوافقك.
عثمان: في هذه الحالة سأنزل مع «قيس» لاستئجار سيارتين.
أحمد: من الأفضل أن تكونا سيارتين كبيرتَين، فالسيارات الصغيرة لا تصلح لقطع المسافات الطويلة.
عثمان: بالطبع وسأختار سيارتَين من الطراز الأمريكي القوي.
إلهام: وسنقوم نحن بإعداد الأشياء التي سنأخُذُها معنا.
أحمد: فليكن موعدنا بعد ساعة أمام باب الفندق.
أخذت «إلهام» و«هدى» في إعداد ما يَكفي من الملابس والأسلحة للرحلة … وفي الموعد المُحدَّد ظهر «عثمان» يقود سيارة ضخمة من طراز «كاديلاك»، وخلفه «قيس» يقود سيارة من طراز «بونتياك»، ووقفت السيارتان أمام الفندق، وسرعان ما ركب «أحمد» و«إلهام» في السيارة «الكاديلاك»، وركب الشياطين الثلاثة الآخرون السيارة «البونتياك»، ثم تحرَّكت السيارتان، وكان «أحمد» قد حصل على خريطة واضحة للطرق الرئيسية بين العاصمة «بوينس آيرس»، ومدينة «باهيا بلانكا» … وقد كان الطريق بينهما يشبه نصف قوس يبدأ من العاصمة، ويدور جنوبًا حتى «باهيا بلانكا»، وكلتا المدينتين تقع على المحيط الأطلسي وعلى مصب نهر.
كانت حركة المواصلات داخل المدينة مُزدحمة ولكن منظمة، والشوارع واسعة، والسيارات من جميع الأنواع تندفع في مختلف الاتجاهات … وقضَوا نحو نصف ساعة في سير هادئ حتى غادروا الشوارع المُزدحمة … وأدار «أحمد» عجلة قيادة السيارة «الكاديلاك» الخضراء لينحرف يسارًا ثم يصعد إلى الطريق الواسع، ونظر في مرآة السيارة فرأى «البونتياك» السوداء آتية خلفه، فأطلق لسيارته العنان ثم ضغط على جهاز الراديو فانطلقت أغنية لاتينية لطيفة كانت كلماتها تقول:
كان «أحمد» يستمتع بجمال اللحن وعيناه مُثبَّتتانِ على الطريق؛ فقد كان عداد السرعة يشير إلى ١٢٠ كيلومترًا.
كان المُحيط يبدو من بعيد كأنه سحابة رمادية قد هبطت على الأرض، وعلى اليسار كانت ألوف من الأفدنة مملوءة بالمراعي ترعى فيها عشرات الألوان من قطعان الماشية، فقالت «إلهام» معلقة: ليس غريبًا أن تكون «الأرجنتين» من أكبر الدول المصدِّرة للحوم المحفوظة …
قال «أحمد»: إنَّ صديقنا «مارتينز» يملك مجموعة من أكبر المزارع في «الأرجنتين»، وسوف نرى هذا المشهد في كل مكان …
عاد الصمت بعد هذا الحديث، ومضت السيارة تشق طريقها بقوة على الأرض الناعمة، والموسيقى الهادئة تتردَّد في جنبات العربة، بينما كانت «إلهام» تفكر في سؤال مُلِحٍّ: ما هو مصير هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر بعيدًا عن الأرض العربية بألوف الأميال؟ وهل يُقدَّر للشياطين أن يعودوا منها سالِمين، أم تكون هذه هي النهاية؟
وكأنما كان «أحمد» يقرأ أفكارها، فقد قال وهو ما زال مستمرًّا في مراقبة الطريق: لعلها أبعد مغامرة قامت بها مجموعة من الشياطين اﻟ «١٣»!
ردَّت «إلهام»: نعم … أبعد مغامرة كانت في قلب أفريقيا.
أحمد: يبدو أن رقم «صفر» ليس له أعوان في هذه المنطقة.
إلهام: هذا واضح، وإلا لأعطانا رقمًا نتصل به، أو اسمًا نبحث عنه.
أحمد: إنني لا أدري كيف سيتمُّ اتصالنا ﺑ «مارتينز»!
إلهام: سوف نجد وسيلة للالتقاء به … وقد فكَّرتُ أنه من الممكن أن نبحث عن فيلَّا قريبة من مزارعه لنَستأجرها، فربما نراه مرة وهو يتجول، وربما وجدنا سببًا للحديث معه.
أحمد: فكَّرتُ في نفس الشيء … ولكن من الأفضل أن نبدأ بجمع أكبر كمية من المعلومات عنه.
ساد الصمت مرةً أخرى … ومضت السيارة «الكاديلاك» تهدر على الطريق، ومرَّ من الوقت ثلاث ساعات تقريبًا، ثم بدأت الأسهم واللافتات في الطريق تُشير إلى مدينة «باهيا بلانكا» … وأخذت السيارتان تخفضان من سرعتهما؛ فقد عادتا إلى دخول الزحام مرة أخرى …