أخيرًا … مارتينز!
كانت ساحة الاختبار مساحة خضراء من المرعى، مُستطيلة في مساحة ملعب كرة القدم، وكان المتقدمون نحو عشرين رجلًا تتراوح أعمارهم بين الثلاثين والخمسين، كلٌّ منهم يَحمل بندقيته، وكانت لجنة التحكيم مكوَّنة من ثلاثة أشخاص جلسوا في استرخاء على مقاعد وثيرة وقد وضعت أمامهم أدوات القهوة، أما لوحات الأهداف فكانت موزَّعة على مسافات مُختلفة، تَتراوح بين ثلاثين مترًا إلى مائة متر …
قال الفارس متحدِّثًا إلى أكبر الرجال الثلاثة سنًّا وكان يجلس في الوسط: إن هؤلاء الشبان يُريدون الالتحاق بالعمل يا سنيور «كاردوفا»!
رفع «كاردوفا» وجهه إلى الشبان الثلاثة، كان وجهًا نحيلًا يشبه وجه الفأر، شديد الاحمرار، بارز الأنف، أسود الشعر، أخضر العينين، طويل القامة، شديد الأناقة … لم يردَّ «كاردوفا»، واكتفى بهز رأسه موافقًا، ثم أشار باستمرار التجربة، وانطلقَ الرصاص من مسدس رجل قوي البنية، وكانت الطلقات مُوجَّهة إلى لوحة تُمثل رجلًا متحركًا، وأصابت طلقتان من خمس طلقات الهدف … وهزَّ «كاردوفا» رأسه، فَكَفَّ الرجل عن إطلاق النار، ووقف جانبًا ينظف مسدسه من أثر البارود.
تقدم رجل في الخمسين من عمره وبيده بندقية طويلة الماسورة وضعها في كتفه ثم وقف … وأشار أحد الرجال فخرجت لوحة لحصان عليه راكب على بُعد مائة متر، وأطلق الرجل خمس رصاصات سريعة، هزت ثلاثة منها اللوحة، وأحنى «كاردوفا» رأسه … ومضى الاختبار حتى حان دور «عثمان» الذي تقدم ببندقية الصيد الصغيرة، ولكن «كاردوفا» أشار له أنها لا تَصْلُح، وتقدم أحد الواقفين وأعطى ﻟ «عثمان» بندقية قوية تُشبه المدفع، فأمسكها «عثمان» والعيون مُسلَّطَة عليه، لقد كانوا جميعًا يتوقعون أن يرتبك الشاب الأسمر أمام البندقية الضخمة … ولكنه أمسكها بِيَدٍ خبيرة، ووزنها بين يديه، وفتحها وأغلقها في ثانية، ثم وضعها في كتفه استعدادًا لبدء الاختبار، وسرعان ما ظهر الحصان المتحرِّك، وانطلقت خمس رصاصات متتالية أصابت جميعها الهدف! …
وارتفعت صيحات الاستِحسان من كل الموجودين، وابتسم «كاردوفا» لأول مرة، وانحنى أعضاء اللجنة الثلاثة وتهامسوا، ثم أشاروا إلى «عثمان» أن يبقى جانبًا، وناول «عثمان» البندقية إلى «قيس» الذي أخذ وضع الاستعداد، وخرج من أحد الجوانب تمثال خشبي لرجل يَجرى، وانطلقت الرصاصات الخمس، وتمزق كتف الرجل وجزءٌ من ظهره وتناثرت قطع الخشب … وانطلقت صيحات الإعجاب مرةً أخرى.
ومرةً أخرى ابتسم «كاردوفا» وأشار ﻟ «قيس».
وجاء دور «أحمد» وتقدم ببساطة وأمسك البندقية، وأشار «كاردوفا» بيده لبدء الاختبار، وسرعان ما كان «أحمد» يطلق الرصاص في نصف دائرة بلغت من دقة تصويبها أن قسمت النموذج الخشبي إلى نصفين … وقبل أن ترتفع كلمات الاستحسان، كان «كاردوفا» يقف ثم يَقذف «لأحمد» بمسدس ضخم، ثم يشير بيده فتنطلق عليه من علب عصير الفواكه الفارغة في الفضاء، وبطلقة واحدة كان «أحمد» يمزق العلبة ويسقطها … ثم علبة أخرى بعدها، واستدار «أحمد» وأطلق رصاصة بزاوية معينة جعلت الصفيحة تدور كالنحلة ثم تسقط تحت قدمَيه.
تقدم «كاردوفا» من «أحمد» وقال: إنك ستَعمل معي … بقية الناجحين سيعملون في المزارع.
وتبادل «أحمد» و«عثمان» و«قيس» نظرات صامتة … ومشى «كاردوفا» وخلفه «أحمد»، وكان ثمة سياج كثيف من الشجر به باب يقفُ عليه أحد الحراس الذي لم يَكَدْ يرى «كاردوفا» حتى فتحه له … ومشى «أحمد» خلفه، وكانت مفاجأة أن يرى خلف هذا السياج حديقة من أجمل الحدائق التي رآها في حياته، تَندفِع خلالها نافورات الماء، وتَنتشِر فيها مجموعات من أندر أنواع الزهور، وبها أقفاص تضمُّ مجموعة نادرة من الطيور والعَصافير … وفجأةً سمع صوت رذاذ ماء، ونظر بجانبه فوجَدَ مجرًى مائيًّا من الرخام اللامع قد رقَدَ فيه تمساح من النوع «الأمريكي» الشَّرِس.
أدرك «أحمد» أن «مارتينز» أقوى مما تصوَّر بكثير … وما كادت الحديقة تَنتهي حتى ظهر بناء قصر ضخم لا حدود لأطرافه، قد أحيط بمجموعة من قنوات الماء والأشجار، وكانت أبوابُه كلُّها من الزجاج الملوَّن، ومُحاطة بإطارات من الصلب، وعندما دخلوا القصر أشار «كاردوفا» ﻟ «أحمد» بالجلوس في الصالة الواسعة، وسرعان ما أقبل خادم يَرتدي ملابس أنيقة وانحنى أمام «أحمد» وهو يقدم له صينية عليها مجموعة كبيرة من المشروبات، اختار «أحمد» منها زجاجة من عصير الأناناس …
غاب «كاردوفا» نحو عشر دقائق، وذهنُ «أحمد» يعمل سريعًا في حساب الموقف … لقد كانوا يتمنَّون أن يجدوا وسيلة للاقتراب من «مارتينز» وها هم قد أصبَحُوا على بُعدِ سنتيمترات منه، بل يعملون في خدمته … كان «أحمد» يتمنى في هذه اللحظات أن يقوم بجولة سريعة في «القصر» يَعرف خلالها بعض أسراره، ولكن أي خطأ يُمكن أن يقع فيه قد يحطم هذا النجاح السريع في مقابلة «مارتينز» …
ظهر «كاردوفا» من خلف أحد الأبواب، وأشار ﻟ «أحمد»، فقام «أحمد» بهدوء حتى وصل إليه. فابتسم «كاردوفا» وقال له: إن السنيور «مارتينز» يسرُّه أن يراك.
واستدار «كاردوفا»، وتبعه «أحمد»، وفتح «كاردوفا» بابًا ضخمًا ودخل «أحمد» أولًا. ووجد نفسه في قاعة مكتب واسعة يغلب عليها اللون الأزرق، وقد عُلِّقَت على جدرانها بجوار صفوف الكتب مجموعة نادرة من الأسلحة لم يسبق ﻟ «أحمد» أن رأى مثلها … وفى نهاية القاعة مكتب ضخم من خشب «الماهوجني» المذَهب الحواف، جلس خلفه رجل قصير القامة، يَضع نظارات مذهبة، وله لحية قصيرة حمراء قد خطها الشيب، ويلبس بدلة شديدة الأناقة من القطيفة الزرقاء، وقال «كاردوفا» وهو يَنحني: اسمح لي يا سيدي أن أقدم لك الشاب الذي حدثتك عنه.
تقدم «أحمد» بينما وقف السنيور «مارتينز»، وهو يمدُّ يده مُصافِحًا …
وأشار إلى أحد المقاعد فجلس «أحمد» وقال «مارتينز»: لقد حدَّثني «كاردوفا» عن براعتك الفائقة في إطلاق النار.
لم يُعقِّب «أحمد» على حديث «مارتينز» الذي استمر قائلًا: إننا نبحث عن شباب مثلك يتولون العمل عندنا … ونحن نَدفَع مرتبات مجزية.
قال «أحمد»: شكرًا لك يا سيدي، إنني بالطبع يسرُّني أن أعمل معكم.
مارتينز: عظيم … ولكنِّي فهمت أنكم لن تبقوا هنا طويلًا.
أحمد: بضعة أسابيع يا سيدي.
مارتينز: ولماذا لا تبقى معنا؟! إنك ستَحصُل على مرتب طيب، وبمرور الوقت قد تملك قطعة أرض، وبعض الماشية.
أحمد: إنك غمرتني بكرمك يا سيدي … وربما عندما أعمل قد تَطيب لي الإقامة في «الأرجنتين» …
ابتسم «مارتينز» لأول مرة ثم قال: عظيم، عظيم … إنك ستعمل هنا في حرسي الخاص، فأنت تُجيد استعمال المسدس والبندقية معًا … أما زميلاك فسوف يعملان في المراعي.
أحمد: نعم … كما أجيد استعمال الأسلحة البيضاء أيضًا.
مارتينز: عظيم، عظيم.
وَصَمَتَ لحظات ثم قال: فهمتُ أنكم عرب؟!
أحمد: نعم يا سيدي، ونحن نقضي إجازة صيد في هذه الأنحاء.
مارتينز: إنني أسمع أن العرب قوم مخلصون … وما يهمني حقًّا هو أن تكون مخلصًا لي، إن هذا الإخلاص لا يقلُّ أهمية عن قدرتك على استخدام السلاح.
أحسَّ «أحمد» بقلق غامض … إن كلمة الوعد بالإخلاص تعني الكثير بالنسبة له … وهو لا يستطيع أن يكذب ولا أن يَعِدَ ولا يفي … ولحُسنِ الحظ أنقذه رنين التليفون، وعندما رفع «مارتينز» السماعة ليتحدث لاحظ «أحمد» على الفور أنه أشار إلى «كاردوفا» إشارة غامضة، وسرعان ما كان «كاردوفا» يشير إلى «أحمد» بالخروج، وخرجا معًا …
سارا في دهليز طويل، حتى وصلا إلى غرفةٍ قرب نهايته، دفع «كاردوفا» بابها قائلًا: هذه هي غرفتك … سأعود إليك بعد دقائق.
دخل «أحمد» الغرفة، كانت شيئًا رائعًا باتساعها وأثاثها الأنيق، وكانت دورة المياه تقع بعد دهليز قصير عند الطرف الأيسر للغرفة، ولم يكن ينقص الغرفة شيء يمكن أن يتمناه الإنسان …
جلس «أحمد» على أحد المقاعد، واستغرق في تفكير عميق … لقد تَحقَّق لهم بسرعة ما تمنَّوه من لقاء مع «مارتينز» … أكثر من هذا أنه أصبح أحد حراس المليونير. يَعيش داخل قصره، ويستطيع أن يرى كل شيء … ومعنى ذلك أن عليه أن يتصرَّف بحذر، فالفرصة لن تتكرَّر … وفى نفس الوقت إذا حدث وانكشفَ أمره فلن يخرج حيًّا من هذا المكان.
ظل «أحمد» مُستغرقًا في تفكيره، ثم سمع فجأةً صوتًا يتحدَّث إليه … التفت حوله فلم يرَ شيئًا، ثم تبين على الفور أن الصوت يأتي من ميكروفون موجود في ركن الغرفة، وعرف على الفور أن صاحب الصوت هو «مارتينز»، الذي كان يقول له: تعالَ إلى مكتبي فورًا.
أسرع «أحمد» عائدًا من نفس الدهليز حتى وقف أمام باب الحجرة الكبيرة … ومدَّ يده فدق الباب بهدوء، ثم دخل … كان «مارتينز» يقف في وسط الغرفة وكم كانت دهشة «أحمد» أن وجد بجواره فهدًا أليفًا يَلعق أصابعه … توقف «أحمد» مكانه مبهورًا فقال «مارتينز» ضاحكًا: لا تخف من «شوجار» … إنه لا يؤذي إلا أعدائي.
تقدَّم «أحمد» ووقف أمام الرجل، بينما أخذ «شوجار» يحوم حوله وهو يزوم في وحشية، وقال «مارتينز»: ستَبقى معنا من اليوم.
ردَّ «أحمد» على الفور: فليَسمَح لي السنيور أن آتيَ غدًا صباحًا … إنَّ هناك بعض الأعمال التي يجب أن أقوم بها الليلة.
مارتينز: عظيم، عظيم … تعالَ غدًا؛ فسوف يكون عندي اجتماع هامٌّ هنا … ويُهمني جدًّا أن تحرس باب مكتبي ولا تسمح لمخلوق بالاقتراب …
وتقدم «مارتينز» بنشاط من مكتبه وفتح أحد أدراجه، ثم أمسك برِزمة من النقود ومدَّ يده بها إلى «أحمد» قائلًا: خذ … ستَحتاج إلى بعض النفقات …
تردَّد «أحمد» لحظات، ثم مدَّ يده. فلو أنه رفض النقود فقد يُثير هذا في نفس المليونير بعض الشكوك، وهو الذي اعتاد أن يَشتري الناس بالمال …
أخذ «أحمد» رِزْمة «النقود» فدسَّها في جيبه، ثم انحني مُحييًا «المليونير» الذي قال له: ستمر على «كاردوفا» في الغرفة الثانية إلى اليسار. خذ منه شارة الحراس حتى تتمكَّن من الدخول غدًا …
خرج «أحمد» من غرفة المليونير وقد ازدحمت في رأسه عشرات الأفكار … لقد أصبح فعلًا أحد أعوان «مارتينز» … فماذا تُخبئ له الأيام؟! ووصل إلى غرفة «كاردوفا» ووجد الرجل في انتظاره وقد أَعدَّ الشارة … كانت من النحاس اللامع، تشبه مخلب النسر وفى وسطه فص من الزجاج الأحمر … وقال «كاردوفا» وهو يودعه: إنَّ السنيور سعيد جدًّا بأنك انضممت إلى رجاله!