صيحة الوطواط عند السور!
لمدة نصف ساعة كانت قاعة الاجتماعات هادئة، ولكن شيئًا فشيئًا بدأت الأصوات تَرتفِع … ولم تَمضِ ساعة حتى كان «أحمد» يسمع — رغم الباب السميك — بعض الكلمات من الداخل … كان أحدهم يقول: المشروع كله! لقد دفعتُ نصيب الأسد!
ثم يسمع صوتًا آخر: إنكم تَخدعونَني … سأقتلُكُم!
ثمَّ لاحظ «أحمد» أن الحراس المسلحين بدءوا يتقدَّمون من الباب، وعرف أن مذبحة قد تقع في أية لحظة، فوقف … ووضع يده على مسدَّسه. وتبادل مع أحد الحراس النظرات … كان شابًّا في الخامسة والعشرين تقريبًا، أشقر الشعر، قصير القامة مفتول العضلات، وكان يحمل مُسدسًا ضخمًا من طراز «كولت». أخذ يقترب في تصميم، ثم أشار إلى «أحمد» أن يفتح الباب …
قال له «أحمد» بهدوء: أرجوك … اتركهم يتناقشون.
ردَّ الشاب الأشقر: ولكن زعيمي طلَب منِّي التدخل إذا سمعت هذه الأصوات العالية!
أحمد: وزعيمي طلب مني ألا يدخل مخلوق من هذا الباب إلا بإذن منه!
ابتسم الشاب الأشقر ولوح بمسدسه … وأدرك «أحمد» أنه إذا لم يستطع منعه فسوف يقتحم الباب، ويُشجِّع الحراس الآخرين على اقتحامه … وكان مَنْع هذا الاقتحام هو مسئوليته. وهكذا في لحظة خاطفة، ودون أن يستخدم مسدسه، طار في الهواء، وأصابت قدمه الطائرة وجه الحارس في ضربة قاصمة أسقطته على الأرض ممدَّدًا على ظهره، غائبًا عن الوعي، بينما سقط مسدَّسُه من يده … فانقض عليه «أحمد» وأمسكه، ثم رفع رأسه إلى بقية الحراس الذين وقفوا صامتين بينما المناقشات في داخل الغرفة تَرتفع حرارتها!
لاحظ «أحمد» من طرف عينه أحد الحراس وهو يُحرِّك مسدسه تجاهه، فلم يتردد هذه المرة وضغط زناد «الكولت» الضخم، فانطلقت رصاصة داوية أصابت يد الحارس الذي ارتفعت صيحته كالحيوان، بينما طار مسدسه بعيدًا …
كانت الطلقة كافية لكي تتوقَّف المناقشات في الداخل فورًا … وفتح باب قاعة الاجتماعات وظهر وجه «مارتينز» المُحتقن، ووقع بصره على المشهد المثير … رجلان واقعان على الأرض، وبقية الرجال واقفين وقد امتلأت عيونهم بالدهشة، بينما «أحمد» يقف هادئًا، والمسدَّس في يده، وقد ملأت رائحة البارود الدهليز!
قال «مارتينز»: ماذا يحدث بحق الشيطان؟!
رد «أحمد» دون أن ينظر إليه: لا شيء يا سنيور «مارتينز» … إنهم فقط حاولوا دخول غرفة الاجتماعات دون إذن …
ابتسم «مارتينز» مُكشِّرًا عن أنيابه، وأطلق بضع لعنات في الفضاء … ثم قال ﻟ «أحمد»: أحسنت! … إنهم بالطبع لا يُمكن أن يدخلوا دون إذن!
أحمد: تأكَّدْ من ذلك يا سنيور.
مارتينز: عظيم، عظيم! …
ثم أغلق الباب بعنف، وعاد الاجتماع إلى الانعقاد دون أن تَرتفع الأصوات … وفي الحادية عشرة تمامًا، فتح الباب ووقف «مارتينز» وخلفه زعماء العصابات وهو يقول: سنتناول طعام العشاء، ويمكن استكمال الحديث على المائدة …
انزوى «أحمد» بعيدًا عن الضوء … كان يخشى أن يراه زعيم «الورلد ماسترز»، وفعلًا، انصرف الزعماء دون أن يحدث شيء … وأشار «مارتينز» إلى «أحمد» بعلامة الرضا، بينما انسحب الحراس إلى أماكنهم في الحديقة …
وانتهز «أحمد» الفرصة، ودخل مُسرعًا إلى قاعة الاجتماع، وتظاهر بأنه يتأكَّد أن كل شيء على ما يرام … ثم مد يده أسفل مقعد «مارتينز» ومن التجويف أخرج جهاز التسجيل الثمين ثم وضعه في جيبه وخرج …
تجول «أحمد» في الدهليز نحو ساعة، ثم ذهب إلى غرفته فاغتسل بسرعة، ثم عاد مرة أخرى إلى مكانه أمام غرفة الاجتماع، وبعد فترة بدأ الزعماء يعودون إلى أماكنهم … وانزوى «أحمد» في الجانب المُظلِم حتى لا يراه أحد. وظل مكانه حتى عادوا جميعًا إلى قاعة الاجتماعات وهم يتصايحون ويضجُّون. ثم أشار له «مارتينز» فأغلق الباب، وجلس على كرسيه …
استمر الاجتماع حتى الثالثة بعد منتصف الليل. ثم سمع «أحمد» حركة المقاعد وهي تُجَرُّ هنا وهناك، فعرف أنهم سيَخرجون … ومرة أخرى انزوى في الظل وخرجوا جميعًا، والمدهش أنهم كانوا يضحكون ويمرحون … لقد انتهت الأزمات إذن، وعادوا إلى الاتفاق، ونزلوا جميعًا إلى الحديقة … وسمع «أحمد» صوت «مارتينز» يناديه، فأسرع إليه، وكان الزعماء وحولهم حراسهم يستعدون لركوب العربات، فقال «مارتينز» وهو يشير إلى «أحمد»: هذا هو الحارس الشاب الذي حدثتكم عنه.
قال أحد الزعماء من ذوي الكروش: إنه طفل صغير … كيف استطاع أن يَضرِب «بوكا» فيسلمه إلى نوم عميق؟!
ضحك «مارتينز» ضحكة عالية … بينما كانت أعصاب «أحمد» كلها متوتِّرة ففي هذه اللحظة برز زعيم «الورلد ماسترز». وتقدم من «أحمد» ولوى عنقه إلى الخلف قائلًا: ألم أرك أيها الشاب من قبل؟!
ردَّ «أحمد» بهدوء: لم يَسبِق لي هذا الشرف يا سيدي!
قال الزعيم وهو يعود ليركب سيارته: لا بأس يا بني … ربما هو السن الذي أضعف ذاكرتي!
وأخذت أبواب السيارات تَصطفق، وفجأة تقدَّم أحد الحراس من «أحمد»، كان حارسًا ضخمًا يشبه الغوريلا ومدَّ ذراعه الطويلة فأمسك بكتف «أحمد» يهزُّه قائلًا: سأعلمك يومًا ألَّا تمد يدك على أسيادك!
توتَّر الجو … ووقف الجميع يتفرجون على المشهد … كانوا جميعًا من رجال العصابات العتاة الذين لا تَعرف قلوبهم الرحمة، ويتلذَّذون بالوحشية والقسوة، وكانوا يعرفون أن هذا الغوريلا هو أقوى حارس في عصابات أمريكا الجنوبية … وتمنوا في قلوبهم أن يشهدوا صراعًا بين الغوريلا وهذا الشاب الوسيم المفتول العضلات …
بحركة مباغتة أمسك «أحمد» بمِعصَم الغوريلا ثم لوى ذراعه … وصاح الغوريلا كالوحش، ثم هوى بيده في لكمة ساحقة على وجه «أحمد» … ولكن الشيطان الصغير لوى رقبته جانبًا، وطاشت الضربة، واختلَّ توازن الغوريلا. وانتهز «أحمد» الفرصة فطوح قدمه في ضربة موجعة أصابت ساق الغوريلا فسقط على وجه، وتدحرج على سلالم الشرفة الواسعة … وارتفعت الضحكات وأصوات الاستحسان! … وارتكز الغوريلا على ركبته وأخرج مسدسه. ولكن أحد الزعماء صاح به: انتهى الأمر أيها الغوريلا القبيح … لا تُحاول اللجوء إلى هذه الألعاب!
ابتسم «مارتينز» وهو يُربِّت على كتف «أحمد» قائلًا: سأعطيك علاوة ضخمة. عظيم، عظيم.
وهزَّ زعيم «الورلد ماسترز» رأسه وهو يقول: لقد رأيتُك من قبل! إنني متأكِّد!
ثم مضى صامتًا فركب سيارته … وسرعان ما كانت السيارات الفاخرة تقل زعماء العصابات وحراسهم تجتاز باب حديقة القصر الواسعة. وقال «مارتينز»: سيبقى أحدهم معنا، إنه أهم رجل فيهم، وقد قدم في الطائرة من بعيد.
وسكت لحظات ثم قال: لقد قمتَ بدورك الليلة كأفضل ما يكون … اذهب الآن لتنام، سأراك غدًا.
حياهُ «أحمد» ثم اتجه إلى غرفته وجلس على فراشه دون أن يخلع ثيابه … كان يُهمه أن يعرف فورًا ماذا على شريط التسجيل. ولكن لم يكن من العقل أن يسمعه في هذه الغرفة داخل القصر … وهكذا أمسك بجهاز «الشفرة» الصغير، وأخذ يرسل رسالة إلى «عثمان». وقد كان النظام يقضي أن يبقى أحد الزميلين متيقظًا، «عثمان» أو «قيس» … كانت رسالته من بضع كلمات: قابلني عند السور على بُعد مائة متر من يمين الباب الرئيسي، بعد ربع ساعة.
أطفأ «أحمد» النور وجلس في «الظلام» … كان كل شيء هادئًا في القصر الكبير بعد الحفلة الصاخبة … ومن المؤكد أنه حتى الخدم قد تركوا عملية التنظيف إلى الصباح، كما أن الحراس قد اطمأنُّوا إلى أنَّ كل شيء قد انتهى فآووا إلى مضاجعهم …
بعد خمس دقائق بالضبط فتَح الباب ونظر هنا وهناك، لم يكن هناك أحد، فتحرك سريعًا في خفة القط حتى وصل إلى نهاية الدهليز، ثم نزل السلالم الرخامية، وسرعان ما غاص في ظلام الحديقة …
أخذ «أحمد» يتنقل بين الأشجار حتى وصل إلى السور الخارجي، وسار بجواره … كان يعرف أن حراس الباب لا ينامون. لهذا قام بدورة واسعة ليصل إلى المكان المحدَّد، وعندما نظر في ساعته وجد أنه وصل قبل الموعد بثلاث دقائق. وأخذ ينظر بعيدًا، تحت ضوء قمر ضعيف. كانت المراعي تمتد بعيدًا، بعيدًا حتى الأفق … وأضواء معسكرات العمال والحراس والنيران المشتعلة للتدفئة، وخوار آلاف الأبقار التي تجمع لإرسالها للذبح … كان مشهدًا رائعًا ومهيبًا … وفجأة سمع «أحمد» صوت أقدام تقترب، فهبط إلى أسفل السور وأرهف أذنيه، وارتفع صوت الوطواط بالعلامة المُتفَق عليها بين الشياطين، وأرهف «أحمد» أذنيه حتى تبين مصدر الصوت وأسرع إليه. وفي الظلام شاهد شبحًا يتحرَّك بجوار شجرة فأطلق هو أيضًا صوت الوطواط وسرعان ما كان هو و«عثمان» يتبادلان التحيات الحارة …
قال «أحمد»: سأُعطيك شريطًا مسجلًا لنصف اجتماع زعماء العصابات الذي تمَّ الليلة في القصر … اذهب به إلى «إلهام» في كوخ العم «فيجو». واطلب منها أن تقوم بتفريغ الشريط سريعًا … إنني متأكد أن به معلومات في غاية الأهمية …
عثمان: سأذهب إليها فورًا … إنني أختار أن تكون فترة حراستي للماشية ليلًا حتى أتلقى رسائلك بعيدًا عن العيون.
أحمد: عظيم … خذ حذرك. لقد تعرَّضتُ اليوم لموقف خطير … ولكن كل شيء الآن على ما يرام.
عثمان: إنني و«قيس» نعمل في القسم الشمالي … إن «مارتينز» رجل خطير جدًّا … هكذا سمعت من كل الرجال الذين أعمل معهم!
أحمد: أعتقد أن مهمَّتنا في هذه المرحلة ستكون إثبات علاقة «مارتينز» بحادث الطائرة وخطف العلماء. فليست معنا القوة اللازمة لمهاجمته، ثم إنه مُواطن مُحترَم في بلاده، وأي كلام سنقوله لن يكون له قيمة.
عثمان: حتى ولو كان على الشريط ما يدينه؟!
فكر «أحمد» لحظات ثم قال: لا أدري … يجب أن نعرض معلوماتنا على رقم «صفر» … وسوف نعقد اجتماعًا في الفندق في المساء … حتى نَسمع الشريط ثم نُقرِّر ما نفعله بعد ذلك.
عثمان: إذن إلى اللقاء. فإنني …
قبل أن يكمل «عثمان» جملته سَمِعَا وقع خطوات في الظلام وصوتًا يقول: مَن هناك؟ أدركا أن أحد حراس السور يقوم بجولته قريبًا منهما … وعلى الفور ابتعدا … واقترب الرجل. وأخرج بطاريته ثم أطلق شعاعها في اتجاههما … وفي هذه اللحظة تَصرَّف «عثمان» التصرف الوحيد الممكن في هذه الحالة … كالبرق أخرج كرتَه العزيزة، وأطلقها كالصاروخ، فطارت واصطدمت برأس الحارس الواضحة في ضوء البطارية وسقط الرجل على الأرض … أسرع «عثمان» يَستعيد الكرة، ثم تبادلا صيحة الوطواط وانطلق كلٌّ منهما في طريقه! …