الباب الضيِّق
قضيتُ الجزءَ الأول من رحلتي في قطار أنظر من نافذة مقصورة الدرجة الأولى، والجزءَ الثانيَ في سيارةٍ محليةٍ أشاهِد جدولًا تقطنه أسماك التروتة وهو يجري في وادٍ ضحل، والجزءَ الأخيرَ سائرًا على حافة أرضٍ مرتفعةٍ تكسوها أحراجُ زانٍ واسعةٌ إلى حيث سأبيتُ ليلتي. في الجزء الأول كان مزاجي سيئًا للغاية؛ وفي الجزء الثاني شعَرتُ بالقلق والارتباك؛ وفي الجزء الثالث هدَّأ الشفقُ العليلُ من رَوْعي وشَدَّ من أزري، فبلغتُ بواباتِ فندق «فوس مانر» بشهيةٍ مفتوحة ونفسٍ ساكنة.
أثناء اجتيازنا وادي التايمز، عَبر خط السكك الحديدية الغربية الكبرى الانسيابي، تأملتُ في حسرةٍ الأشواكَ التي تخلَّلَت مسيرتي المِهنية. فلم أنزع الزيَّ العسكريَّ منذ أكثر من عام، فيما عدا تلك الشهور التي أمضيتُها في المشفى. وتقلَّدتُ قيادةَ كتيبةٍ قبل معركة السوم، وخرجتُ من تلك المعركة الضارية، بعد شهرِ سبتمبرَ الحافل، بشرخٍ في الجمجمة ووسامِ الخدمة المتميزة. مُنحتُ وسامَ الحمَّام عرفانًا بجهودي في معركة أرضروم، وأوسمةً أخرى لجهودي في حربِ ماتابيلي ومعاركِ جنوبِ أفريقيا، بالإضافة إلى وسام جوقة الشرف، فصار صدري مكتظًّا بالأوسمة والنياشين مثل كاهنٍ أعظم. عُدتُ إلى الجيش في يناير، وتسلَّمتُ قيادةَ لواءٍ قُبيل معركة أراس. حقَّقنا فوزًا ساحقًا في المعركة، وأخذنا عددًا من الأسرى يضاهي عدد جنود المشاة الذين أرسلناهم إلى الجبهة. بعد ذلك مُنح اللواءُ استراحةً من القتال لمدة شهر لترتيب صفوفه، ثم أُعيد توزيعُنا فأرسِلنا إلى منطقةٍ ملتهبةٍ على نهر سكارب في فرنسا، مع التلميح إلى أننا سنُشارِك في هجومٍ عسكري واسع النطاق في المستقبل القريب. فجأة، كُلفتُ بالعودة إلى أرض الوطن لرفع التقارير لمكتب الحرب البريطاني، الذي أرسلَني بدوره إلى بوليفانت ورجالِه المرِحين. وها أنا ذا أجلس في عربة قطار، ببدلةٍ رماديةٍ من قماش التويد، وحقيبةِ سفرٍ نظيفة تحمل الحرفَين «ك. ب.». الحرفَين الأوَّلَين من اسم كورنيليس براند، وهو الاسم الذي سأحمله الفترة القادمة. وَجَّه رجلٌ عجوزٌ يجلس في الزاوية لي الأسئلة، وتعَجَّب من عدم اشتراكي في الحرب على نحوٍ مسموع، فيما نظر إليَّ بازدراء ملازمٌ ثانٍ مبتدئ يرتدي شارة الجرح.
كان الرجل مُولَعًا بالاستجواب، وبعدما استعار مني عُلبة أعواد الثقاب، كرَّس جهدَه لمعرفة كافة تفاصيل حياتي. تبيَّن أنه رجلٌ متعصِّب وكان متشائمًا بعضَ الشيءِ من تقدُّمنا البطيء في الغرب. أخبرتُه أنني قادمٌ من جنوب أفريقيا وأعمل مهندسَ تعدين.
سأل: «هل حاربتَ مع بُوِيتا؟»
أجبتُ: «لا. لستُ محاربًا.»
غضَّن المُلازم الثاني أنفَه ازدراءً.
سأل: «ألا يُوجَد تجنيدٌ إلزاميٌّ في جنوب أفريقيا؟»
أجبتُ: «لا، حمدًا للرب»، وألَحَّ الرجل في أن آذنَ له بسرد الكثير من القصص البغيضة. قابلتُ أمثالَه من قبلُ؛ لذا لم أُعِرْه اهتمامًا كبيرًا. لو كان أصغر من الخمسين، لادَّعى الإعاقة حتى يُعفى من الجيش، وها هو يتظاهر بالوطنية لأنه تخطَّى سنَّ التكليف. لكن لم تُعجِبني ابتسامةُ المُلازم الثاني العريضة؛ إذ بدا شابًّا مهذبًا. تظاهرتُ بالنظر من النافذة بقيةَ الرحلة، وتنفَّستُ الصُّعَداء عندما بلغتُ محطتي المنشودة.
حظيتُ بأغرب مقابلة مع بوليفانت وماكجليفري. سألاني في البداية ما إذا كنتُ أرغب في العودة إلى الاستخبارات، وأعربتُ عن موافقتي. شعَرتُ بمرارةٍ شديدة؛ إذ صار لي باعٌ طويلٌ في المجال العسكري وأحرزتُ الكثير من التقدم. فها أنا ذا، لواءُ حربٍ تحت سن الأربعين، فما بالك بالإنجازات التي كنتُ سأحقِّقها لو قُدِّر لي البقاءُ سنةً أخرى في الحرب. بدأتُ مسيرتي في الجيش بلا غايةٍ ولا هدف، سوى رؤية انتهاء الحرب. لكن أصبحتُ شغوفًا بالمجال بصورةٍ احترافية، وصار لديَّ لواءٌ من الجنود المُخضرَمين، وفهمتُ استراتيجيَّات الحرب الجديدة كما لو كنتُ خريجًا من أكاديمية ساندهيرست وكامبرلي العسكرية. وها هما الآن يطلُبان منِّي أن أضربَ بكلِّ ما تعلَّمتُه عُرضَ الحائط وأبدأ في وظيفةٍ جديدةٍ من الصفر. اضطُرِرتُ للموافقة؛ لأن الجندي لا يَسعُه سوى طاعة الأوامر، لكنَّني وددتُ لو أضرب رأسَيهما من شدة الغيظ.
وأسوأ ما في الأمر أنهما لم يُخبراني — أو بالأحرى لم يستطيعا إخباري — بطبيعة المهمة. تعمَّدا إخفاء الحقائق كالعادة. طلبا أن أضع ثِقتي بهما وأترك نفسي لهما دون قيدٍ أو شرط. قالا إنني سأحصُل على المعلومات اللازمة في وقتٍ لاحق.
سألتُهما إذا كانت المسألة مهمة.
ضيَّق بوليفانت عينَيه. قال: «لو لم تكن مهمة، برأيك هل كنَّا سنتكبد عناءَ طلبِ لواءٍ نشطٍ من مكتب الحرب البريطاني؟ فقد كان استدعاؤك من الوزارة مثل خلع ضرسٍ من مكانه على أي حال.»
سألتُ ثانيًا: «هل المهمة خطيرة؟»
أجاب: «خطيرة جدًّا على المدى البعيد.»
سألتُ: «ألا يُمكنكما تزويدي بمعلوماتٍ إضافية؟»
أجاب: «ليست هناك معلوماتٌ في الوقت الحالي. سنزوِّدك بالتعليمات في القريب العاجل. أنتَ تعرفنا جيدًا يا هاناي؛ وتعلَم أنَّنا لن نُهدر وقتك الثمين في حماقة. سنطلب منك خدمةً تستدعي حبك للوطن. ستكون مهمةً صعبةً ومُرهِقة، وربما تصير قاتمةً للغاية قبل أن تصل إلى نهايتها، لكننا نثِق في قُدرتك على تنفيذها بنجاح، وأنْ لا أحد سواك يستطيع ذلك … أنتَ تعرفنا جيدًا. فهل سمحتَ لنا بتقرير ما هو أفضل لك؟»
نظرتُ إلى وجه بوليفانت العجوز الذي بدَت عليه أماراتُ الذكاء والعطف، وإلى نظرة ماكجليفري الثابتة.
قلتُ: «حسنًا. مُوافِق. ما الخطوة الأولى؟»
ردَّ: «اخلع بدلتَك العسكرية وانسَ خلفيتَك العسكرية تمامًا. غيِّر اسمك. لا بأس باستخدام اسمك القديم «كورنيليس برانديت»، لكن يُستحسَن أن تستبدل «برانديت» ﺑ «براند». تذكَّر أنك مهندسٌ عاد حديثًا من جنوب أفريقيا، وأنك لا تكترث البتةَ بشأن الحرب. تظاهر أنك لا تستطيعُ استيعابَ سبب قتال أولئك الحمقى، وأنك تعتقد أنه من الممكن تحقيق السلام من خلالِ محادثةِ عملٍ ودية. لا داعي لأن تكون داعمًا للألمان، بل اجلِدهم بسياطِ لسانِك إن شئت. لكن لا بد أن تُبدي حماسًا صادقًا تجاه توقيعِ اتفاقيةِ سلامٍ سريعة.»
أظنُّ أنني أرخيتُ زاويتَي فمي في امتعاض؛ إذ سرعان ما انفجَر بوليفانت ضاحكًا.
قال: «هيَّا يا رجل، ليست بالمهمة العسيرة. عندما تتوعَّك معدتي، أنا نفسي أشعر في بعض الأحيان أني أنزعُ إلى محاباة السلام. لن تكون في مِثل صعوبةِ مهمتِك السابقة، وهي التجوُّل في ألمانيا منتقصًا من بريطانيا.»
قلتُ: «أنا رهن إشارتك. لكن أريد أن أنجز أمرًا بمفردي أولًا. أحد رجالي قابعٌ في وحدة الصدمات النفسية في منطقة كوتسوولدز وأريد زيارتَه. في قرية تُدعى «أيشم».»
تبادل بوليفانت وماكجليفري النظرات. قال بوليفانت: «يبدو أن القدَر قد لعب لُعبته. يمكنك الذهاب إلى «أيشم» بالتأكيد. فالمكان الذي ستبدأ فيه مهمتك على بُعد بضعةِ أميالٍ قليلةٍ من القرية. أريدك أن تقضي ليلة الخميس في ضيافة سيدتَين عزباوَين من آل ويندام في نُزل «فوس مانر». ستذهب إلى هناك بصفتك عزبًا قادمًا من جنوب أفريقيا لزيارة صديقه المريض. إنهما سيدتان مضيافتان تعاملان الغرباء بحفاوةٍ بالغة.»
سألتُ: «هل سأتلقى الأوامر هناك؟»
قال: «ستتلقى الأوامر، وأنت ملزمٌ بها.» وابتسم هو وماكجليفري.
انشغل تفكيري بالمحادثة الغريبة مع بوليفانت، فيما حملَتني سيارة فورد صغيرة — أرسلتُ في طلبها إلى النُّزُل — بعيدًا عن ضواحي المقاطعة، واتجهَت إلى أرضِ التلالِ المنحدرة والمروجِ الخضراء التي تتخلَّلها قنواتُ ري. كانت الأجواء خلَّابة في فترة الظهيرة، وازدانت جميعُ الأشجار بأزهار أول يونيو. لم أكن مُهتمًّا بالمنظر الطبيعي أو بمظاهرِ فصلِ الصيف؛ إذ كان ذهني مشغولًا بتقريع بوليفانت وسبِّ قدَري العجيب. مقتُّ دوري الجديد وما سيحمله إليَّ من خزيٍ مُبين. إن ادِّعاء الرغبة في السلم أمرٌ شاقٌّ على النفس بوجهٍ عام، وفي غايةِ الخزيِ بشكلٍ خاصٍّ بالنسبة إلى رجلٍ قويٍّ مثل الثور، مسفوعٍ بالشمس مثل الغجَر، لا تظهر عليه سنواتُه الأربعون. كان الذهاب إلى ألمانيا بصفتي جنوبَ أفريقيٍّ مُعاديًا لبريطانيا مغامرةً شجاعة، لكن التسكُّع في بريطانيا والتفوُّه بالترَّهات عن الوطن أمرٌ في غاية الاختلاف. شعَرتُ بالغثيان بمجرد التفكير في الأمر، لذا قرَّرتُ إرسالَ برقيةٍ إلى بوليفانت والانسحاب. فبعض الأمور لا يحقُّ طلبها من رجلٍ أبيضَ أيًّا كان.
بلغت «أيشم»، وقابلتُ صديقي العجوز المسكين بلايكي، فزادني ذلك غمًّا إلى غمِّي. صادقتُ بلايكي في رودسيا، وقد عاد إلى الوطن بعد انتهاء استعمار ألمانيا لجنوب غرب أفريقيا لينضمَّ إلى فوج البنادق الاسكتلندي، تحت لوائي في معركة أراس. دُفن صديقي في الأرض بسبب انفجارٍ كبيرٍ حدث قبل أن نسيطر على هدفنا الثاني بفترةٍ وجيزة، وأُخرج سليمَ الجسد لكن ذاهبَ العقل. سمعتُ أنه تحسَّن بعضَ الشيءِ في المشفى، ووعدتُ عائلتَه بزيارته في أقربِ وقتٍ ممكن. وجدتُه جالسًا على مقعدٍ في الحديقة، يُحملِق في الفراغ بثبات، كأنه جالسٌ أمام البحر. تعرَّف عليَّ وعلا السرور وجهَه بضعَ ثوانٍ، قبل أن يعود إلى نظراته الفارغة وإلى حديثه البطيء غير المُتسلسل كرجلٍ غطَّت الخمرُ عقلَه. وبينما نحن جالسان، طار طائرٌ من شجيرة في الجوار، وإذا به يجاهد لئلَّا يصرُخ بأعلى صوته. لم أجد ما أفعله سوى أن أضعَ يدي على كتفِه وأُربِّتَ عليه مثلما يُربِّت المرء على حصانٍ مفزوع. عندما نظرتُ إلى الثمنِ الباهظِ الذي دفَعه صديقي العزيز نفرتُ من فكرة السلام.
تحدَّثنا عن إخوتنا من الجنود وعن جنوب أفريقيا؛ إذ أردتُ إبعادَ ذهنِه عن الحرب، لكنه ظَل يعود إليها.
سأل: «إلى متى ستستمر هذه الحرب اللعينة؟»
كذبتُ مبتهجًا: «أوه، انتهت الحرب تقريبًا. لن تُحارب المزيد، وأنا أيضًا أوشكتُ على الانتهاء من عملي. لقد أُنهِك الألمان … ما عليك، يا عزيزي، سوى أن تنام أربعَ عشرةَ ساعةً من الأربع والعشرين ساعة، وتقضي ما تبقَّى من الوقت في صيد سمك التروتة. سنصطاد الطيهوج معًا في الخريف، وسندعو أصدقاءنا القُدامى للانضمام إلينا.»
وُضعَت صينيةُ شاي على الطاولة بجوارنا، ورفعتُ رأسي لأجد نفسي أمام أجمل فتاةٍ وقعَت عليها عيناي. بدَت صبيةً غادرَت الطفولةَ لتوِّها، وكانت ستُصنَّف شابةً يانعةً قبل الحرب. كانت ترتدي فستانًا أزرقَ نظيفًا، ومئزر المُمرِّضات المتطوِّعات، وقبعةً بيضاءَ على شعرها الذي يُشبه الخيوط الذهبية. ابتسمَت بحياءٍ وهي تُنسِّق أكواب الشاي والسُّكرية، وكانت هذه أولَ مرةٍ أرى فيها عينَين يمتزج فيهما المرح والجدية في آنٍ واحد. اتبعتُها بناظري، وهي تسير في الحديقة، وأتذكَّر أنني لاحظتُ تحرُّكَها برشاقةٍ مثل فتًى رياضي.
سألتُ بلايكي: «مَن هذه بحق السماء؟»
أجاب بلا اكتراث: «تلك؟ إنها إحدى الأخوات. تأتي مُمرضاتٌ كُثر إلى المشفى. ويعجز المرء عن تمييز إحداهن من الأخرى.»
لم أدرك فداحةَ مرضِ صديقي حتى رأيتُ عدمَ اكتراثِه بالفتاة النضرة المرحة. انقضى الوقتُ بسرعة وتعيَّن رحيلي، وفي أثناء مُغادرتي استدرتُ ونظرتُ إلى صديقي، وإذا هو يغوصُ في مقعده مرةً أخرى محملقًا في الفراغ فيما قبضَت يداه على رُكبتَيه بشدة.
كلما فكرَّتُ في صديقي اغتمَمْت. ها أنا محكومٌ عليَّ بأداء مهمةٍ ساذجةٍ بغيضةٍ في مناخٍ آمنٍ مُخزٍ، فيما يدفع خيرُ جنود الأرض مِثل بلايكي ثمنًا باهظًا. حملَتْني أفكاري إلى صديقي العزيز بيتر بينار، فجلستُ على سورٍ بجانب الطريق، وقرأتُ آخِر رسالةٍ أرسلَها إليَّ. تمالكت دموعي بصعوبة. يجب أن تعلم أن بيتر حلَق لحيته، وانضَم إلى الفيلق الجوي الملكي في فصل الصيف السابق، فور عودتنا من مهمة «ذو العباءة الخضراء». كان هذا المنصبُ الجائزةَ الوحيدةَ التي اشرأَبَّت إليها عنقُه، وأذعنَت السلطات لرغباته رغم أنه تخطَّى سن التكليف. فقد وجدتُ أن من الحكمة عدمَ رفضِ طلبِه بسبب القوانين؛ إذ كان حادَّ البصر شديدَ البأس مثل أي شابٍّ في العشرين من عمره. لم أشُك في مهارته قط، لكن لم أتوقع أن يُحقِّق مثل هذا النجاح الساحق. لقد حصل على شهادة طيَّار في وقتٍ قياسي ثم ذهب إلى فرنسا، وسرعان ما بدأنا نسمع عن إنجازاته، في أثناء انشغالنا بتغيير موقعنا قبل معركة السوم، ونحن نُحارب في البر. لقد أصبح بارعًا في القتال الجوي. قد يكون هناك مئاتُ الطيارين البارِعين، ومئاتُ الخبراءِ في قوانينِ هذه اللعبة، لكن لا أحد في مثل مهارة بيتر في المعارك الجوية. فجعبتُه مليئةٌ بالمناورات، عندما يُحلِّق في الجو بضعةَ أميال، مثلما كان يفعل بين صخور جبال جنوب أفريقيا. وكان يختبئ بمهارة في الهواء دون ساتر كما كان يفعل بين الأعشاب الطويلة في أراضي ليمبوبو المنبسطة. بدأَت قواتُ المشاة تداوُلَ حكاياتٍ مُثيرة عن ذلك الطيار الجديد، الذي اختبأ تحت طائرة من سرب طائرات العدو، فيما انشغل بقية السرب في البحث عنه. أذكُر أنني تحدَّثتُ عنه مع مجموعةٍ من أفارقة الجنوب نزلنا بجوارهم لنستريح من عناء معركة دلفيل وود الدموية. في اليوم السابق كنا قد شَهِدنا معركةً ضارية بين السُّحب نجَم عنها تحطُّم طائرةٍ ألمانية، وقَدِم ضابطٌ مدفعي من مدينة ترانسفال وأبلغَنا أن الطيار البريطاني هو بيتر بينار. هتف الجندي: «كم هو رائع ذلك الغجريُّ العجوز!» وبدأ يسردُ القصص عن طرائقِ بيتر. كان لبيتر نظريتُه الخاصة، فيما يبدو، وهي أن لكل طيَّارٍ منطقةً عمياء، وهو يعلم كيفية العثور عليها في الجو. كان بيتر مقتنعًا أن أفضل غطاءٍ ليس بين السُّحب أو وسط ستار الضباب الرقيق، وإنما في الرقعة غير المرئية للعدو. وقد أدركتُ صحةَ نظريتِه تلك. كانت صحيحةً بقَدْر نظريتِه عن «التماهي مع البيئة المحيطة» و«الخدعة المزدوجة» وغيرها مما تفتَّق عنه ذهنُه الغريبُ بسبب حياته الصاخبة.
في نهاية أغسطس من العام نفسه، صار بيتر أشهر طيَّار في الفيلق الجوي تقريبًا. ولولا أن التقارير لا تتعرَّض إلى أسماء الطيَّارين، لتوَّجَهُ الشعب بطلًا وطنيًا، لكنه اشتهر ﺑ «الملازم ص»، ولم يكن بوسع الجرائد التي أسهبَت في الحديث عن إنجازاته إلا الثناءُ على الفيلق إجمالًا لا تفصيلًا. وفي هذا من الحكمة ما فيه؛ إذ إن جزءًا من جاذبية فيلقنا الجوي تكمُن في عدم سعيه إلى الترويج لنفسه إعلانيًّا. لكن بيتر لم يكن مجهولًا في أوساط الجيش البريطاني ولا بين جنود الخنادق الذين تداولوا أخباره بشغفٍ كما لو كان لاعبَ كرة قدم محترفًا. في ذلك الوقت اشتهر طيَّارٌ ألماني يُدعى لينش — أحد طياري طائرات «ألباتروس» الشجعان — أعلن في نهاية شهر أغسطس عن تحطيمه لاثنتَين وثلاثين طائرةً من طائرات الحلفاء. آنذاك لم يكن بسجِل إنجازات بيتر سوى سبعَ عشرةَ طائرةً ألمانية، لكن أخذ هذا العدد في الارتفاع بسرعة. كان لينش ذا بأسٍ ومنافسًا محنَّكًا وله أسلوبُه الخاص. كان يتميز بسرعةٍ مذهلةٍ في المناورة بطائرته أثناء المعارك، أما بيتر فكان يتميز بقدرته على إجبار خَصمِه على اللعب وفقًا لأسلوبه. كان لينش، إن جاز الوصف، بارعًا في الجانب التكتيكي، وبيتر في الجانب الاستراتيجي. على أي حالٍ عزَم كلٌّ من هذَين الغريمَين على هزيمة الآخر. ورأى الكثيرون أن هذا النضال بين لينش وبيتر لا بين ألمانيا وبريطانيا.
أتى الخامسَ عشرَ من شهر سبتمبر وأُصبتُ إصابةً شديدةً نُقلتُ على أثرها إلى المشفى. تحسَّنَت صحتي، وصرتُ قادرًا على قراءة الصُّحف والرسائل، وهالَني نبأ سقوطِ طائرة بيتر. حدثَت هذه الواقعة في نهاية أكتوبر عندما أعاقت عاصفةٌ جنوبيةٌ غربية تحرُّكاتِ قواتنا الجوية. فبعدَما دكَّت طائراتُنا بعضَ المراكز أو أنهت مهامَّها الاستكشافية خلف صفوف العدو، بدلًا من أن تعود إلى قواعدها بسلاسة، اضطُرَّت إلى شَقِّ طريقها ببطءٍ عَبْر رياحٍ عكسية ألقَت بها في مرمى قذائفِ مضاداتِ الطائرات والطائرات الألمانية. وفي شرق مدينة بابوم، في رحلة العودة إلى الوطن، التقى بيتر بلينش، أو هكذا تزعُم الصحافة الألمانية لتنسبَ الفضل إلى لينش. أُصيب خزَّان وقودِ طائرةِ بيتر واستحال إلى أشلاء، وأجبِر على الهبوط في غابةٍ بالقرب من بلدية مورتشيس الفرنسية. هكذا «وقَع الطيَّار البريطاني المشهور في الأسر» وفقًا للإذاعة الألمانية الرسمية.
لم أتلقَّ أي رسائل من بيتر، حتى مطلع العام الجديد، عندما كنتُ أتهيأ للعودة إلى فرنسا. فاض خطابُه بالفرح والسرور. فهمتُ من كلامه أنه يتلقى معاملةً ممتازةً من سجَّانيه، وإن كانت معاييرُه متواضعةً دائمًا فيما ينتظرُه من الآخرين بشأن وسائل الراحة. استنتجتُ أن سجَّانيه لم يُدركوا أن ذلك الطيَّار البارع هو نفسه المجرم الألماني الذي هرب من سجونهم في العام الماضي. اكتشف بيتر، خلال فترة إقامته في السجن، متعةَ القراءة وأتقَنها بعدما كان يُمارسها بفتورٍ من قبلُ. كما حصَل بشكلٍ ما أو آخر على نسخة من رواية «سياحة المسيحي» لجون بنيان، ونهل منها متعةً كبيرة، حسبما يبدو. لكنه ذكَر في نهاية الخطاب، بشكلٍ عرَضي إلى حدٍّ ما، إصابتَه بجرحٍ بليغ، وأن ساقه اليسرى صارت معطوبةً للأبد.
توالت الرسائل بعد ذلك، وكتبتُ له أسبوعيًّا، وأرسلتُ إليه كل الطرود الممكنة. كانت رسائلُه تُولِّد داخلي مزيجًا من الخزي والسعادة. كنتُ أراهِن على بيتر دائمًا، وها هو يتصرف مثل شهداء المسيحيين الأوائل، دون أن يتذمَّر ولو بكلمة، بل كان مبتهجًا كأننا في صباحٍ شتويٍّ نستعدُّ لصيد الظبي السموري من فوق ظهور الخيل على هضبة هايفيلد. لم يَخفَ عليَّ شعورُه حيال فقدانه لساقه اليسرى، خاصةً مع اعتزازه بلياقتِه البدنية. ولا بد أن سنواتِ عمرِه المتبقية قد تكشَّفَت أمامه كئيبةً باهتة. لكنه كتب إليَّ كما لو أنه في أوْجِ لياقته، وواصَل مواساتي على ما أواجهه من صعوبات في وظيفتي. إن رؤية صديقي العزيز الطيب المريض، يقفز على ساقٍ واحدةٍ في أرجاء المُجمَّع العسكري ويُحاوِل فكَّ غموضِ رواية «سياحة المسيحي»، وقد صار معاقًا للأبد بعد خمسة أشهر من المجد الأخَّاذ، كفيلة ببث الشجاعة في أجبن النفوس.
تأثَّرتُ برسالته الأخيرة غايةَ التأثر؛ إذ جاء موسم الصيف وذكَّرَتْهُ رائحة الغابات خلف قضبان السجن بمكانٍ في غابة وودبوش، فجاءت كل جملةٍ من جُملِه تفيض بآلام المنفى. جلستُ على الجدار الحجري أتأمل حقارةَ ما أُواجِهه من تحدياتٍ مقارنةً بما كابده بيتر وبلايكي. تذكَّرتُ ساندي في بلاد الرافدَين، وبلنكيرون في القارة الأمريكية المُصاب بعُسر في الهضم، وتأمَّلتُ كيف يؤديان وظيفتَهما بلا شكوى. وكانت النتيجة أن استعدتُ رشدي. بعدما نهضتُ على قدميَّ لمتابعة رحلتي. قرَّرتُ ألا أخزي أصدقائي أو أنتقي مهمَّتي كما يحلو لي. سأضع نفسي في كنفِ العنايةِ الإلهية وسترشدني إلى الصواب، كما كان يقول بلنكيرون دائمًا، إذا ما سلَّمتُ لها.
لم أستمدَّ الثباتَ والطمأنينةَ من خطاب بيتر فحسب. رأيتُ قرية «أيشم» تقف بشموخ بين ثنايا التلال بعيدًا عن الوادي الرئيسي، وحملَني الطريقُ الذي سلكتُه إلى الحافة الجبلية، ثم أعادني إلى الطريق المحاذي للجدول. صعدَت السيارة بين غابةٍ واسعةٍ من أشجار الزان، بدت في ضَوء الشفق مثل منطقةٍ خضراءَ قابعةٍ في أعماقِ البحر، ثم سارت في مرعًى جبليٍّ صغيرٍ قبل أن تبلغ حافة الوادي. وجدتُ نفسي مُحاطًا بحقولٍ صغيرةٍ مُسوَّرة بجدرانٍ من الأحجار الرمادية ومليئة بالأغنام الشاحبة. وبالأسفل طوَّقَت الغابات المُعتمة ما خمَّنتُ أنه نُزل «فوس مانر»؛ إذ كان طريقُ فوس الروماني العظيم المُستقيم كالسهم يمُر من فوق التلال ناحيةَ الجنوب محاذيًا أراضيه. رأيتُ الجدول يسيل بين المروج التي تتخلَّلها قنواتُ ري وسمعتُ صوت ارتطام الماء بالسد. كانت قريةً صغيرةً تستقر عند عطفة التل، ودقَّت أجراسُ برجِ كنيستها معلنةً تمام السابعة بصوتٍ عذبٍ ساحر. خيَّم الصمت على المكان، باستثناء زقزقة العصافير وعُواء رياح الليل بين قِمَم أشجار الزان.
في تلك اللحظة بعينها تكشَّف أمامي كل شيء. رأيتُ السبب الذي حاربتُ، بل حاربنا جميعًا، من أجله. كان هو السلام … سلامًا عميقًا مقدسًا قديمًا … سلامًا أقدمَ من أقدمِ الحروب … سلامًا دائمًا ما دامت أسلحتُنا معاولَ للبناء لا الهدم. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ ففي تلك الساعة أخذَت إنجلترا بمجامعِ قلبي لأول مرة. قبلُ دولتي كانت جنوب أفريقيا، وكنتُ كلما أحنُّ لوطني، أحنُّ للفراغات الواسعة المغمورة بأشعة الشمس في الوادي أو الرائحة العبقة المنبعثة من وادٍ صغير في الجبال. لكني أدركتُ الآن أن لديَّ وطنًا جديدًا. أدركتُ قدْرَ إنجلترا، واستشعرتُ قدمها وحنوَّها وشفقتها، وأيقنت أنها تستحق النضال من أجلها. آمنت أن دماء أفضل رجالنا لهو ثمن زهيد في مقابل فدانٍ واحد من أراضيها. اختبرت ما يختبره الشعراء وإن كنت لا أستطيع نظمَ بيتٍ واحد من الشعر مهما بذلتُ من جهد. في تلك الساعة، رأيت المشهد كاملًا وكأي أنظر إليه من فوق تل، فأدركت ضآلة معوقات الطريق الحالية. لم أرَ النصر بعد الحرب فحسب، بل رأيتُ عالمًا جديدًا سعيدًا بعد النصر، أرث فيه بعضًا من سلام إنجلترا وأتلحَّف به إلى نهاية أيامي.
هبطت التلة بتواضعٍ جمٍّ وهدوءٍ تام، كأنني أسير في كاتدرائية، إلى أن بلغت نُزُل «فوس مانر»، ووقفتُ أمام بابٍ واجهتُه قديمة، من الطوب الأحمر تُغطِّيها شجرة ماغنوليا لها رائحة تُشبه الليمون الساخن وقتَ الغسَق في شهر يونيو. أرسلت سيارة النُزُل حقيبة سفري، وسرعان ما كنتُ أبدل ثيابي في غرفة تطل على حديقة مائية. ولأول مرة منذ أكثر من عام، ارتديتُ قميصًا مكويًّا وبدلةَ سهرة، وكدت أُغني في أثناء ذلك من فَرْط شعوري براحة البال. كنتُ مقبلًا على مهمةٍ شاقة، وأنتظر الأوامر التي ستأتي إلى هذا المكان في ساعة من المساء. سيأتي أحدٌ — ربما بوليفانت — ويحلُّ الأحجية. لكن مهما كانت طبيعة المهمة، أنا مستعدٌ لتنفيذها؛ إذ استحوذَت عليَّ غايةٌ جديدة. يضيق أفقُ المرء لا محالة بالعيش في الخنادق، فتجده لا يُبصِر سوى مقدمة الأسلاك الشائكة للعدو من جانب، وأقرب ثكناتِ الراحة من الجانب الآخر. لكنني بتُّ أرى دولةً سعيدةً وراء هذه الحرب.
فيما نزلتُ درجات السُّلَّم العريضة، استقبلَت أذني أصواتٌ حادة لا تتناغم مع الجدران المكسوة بالألواح الخشبية ولا الصور الشخصية الصارمة لأفراد العائلة؛ وعندما وجدتُ المضيفتَين في الردهة ورأيتُ مظهرهما أحسستُ بذلك التناقُض بصورةٍ أكبر. بدَت المرأتان فوق سنِّ الأربعين، لكنهما ترتديان ملابسَ الشابات. كانت دوريا ويندام طويلةَ القامة، نحيفةَ الجسم، ذاتَ شعرٍ باهتٍ عادي تعقدُه بعصابةٍ مخمليةٍ سوداء. وكانت الأخرى، كلير ويندام، قصيرةَ القامة، مُمتلئةَ الجسم، قد بذلَت ما في وسعها بالمساحيق التجميلية غير المناسبة لتبدو مثل امرأةٍ أجنبيةٍ مشبوهة. سلَّمَت المرأتان عليَّ، بصورةٍ غير مُتكلَّفةٍ ودية، وهي الطريقة الإنجليزية الصحيحة للترحيب بالضيوف، حسبما اكتشفتُ منذ فترةٍ طويلة؛ سلَّمتا عليَّ كأنني تمشَّيتُ داخل النُّزل وطلبتُ الإقامةَ دونَ سابق إنذار، وهما سعيدتان جدًّا بلقائي، لكنهما لن تزعجا أنفسهما بأمري. في اللحظة التالية كانت السيدتان تهدلان مثل الحمام، حول صورة يحمِلها شابٌّ، تحت ضوء المصباح.
كان الشابُّ طويلَ القامة، نحيفَ الجسم، في الثلاثين من عمره تقريبًا، يرتدي سروالًا رماديًّا وحذاءً مُغبَّرًا من السير في طُرق القرية. كان وجهُه النحيفُ شاحبًا كما لو كان يعيش بين الجدران بكثرة، وشعرُه كثيفًا مقارنةً بأغلبيتنا. في ضوء المصباح، بدت ملامحُه شديدةَ الوضوح، وتفحَّصتُها بإمعان؛ إذ تذكَّر أني أتوقع أن تبلُغني الأوامر من شخصٍ غريب. كان له ذقنٌ طويلٌ قوي، وفمٌ عنيدٌ ذو خطوطٍ عند زاويته، تحمل أماراتِ استيائه. كان أكثر ما يميِّزه عيناه. وأفضل ما يُمكنني وصفُهما به هي أنهما حمراوان، لا من قسوة أو غضب، بل من القلق، حتى كأنهما تتألَّمان حقيقةً وبحاجةٍ إلى كماداتٍ باردة.
أنهت السيدتان حديثَهما حول الصورة، الذي صِيغ بمفرداتٍ مُتخصصة لم أفهم مفردةً منها، ثم استدارت الآنسة داريا ناحيتي والشاب.
قالت: «هذا هو ابنُ عمي لانسلوت ويك يا سيد براند.»
تبادلنا التحية بتحفُّظ، فيما ارتفعَت يدُ وِيك إلى شعره، ومسَّده في خجل.
سألَت إحداهما: «هل أعلن برنارد أن العَشاءَ جاهز؟ أين ماري بالمناسبة؟»
أجابت الآنسة كلير: «لقد وصلَت منذ خمس دقائق وأمرتُها بتبديل ملابسها. لن أدعَها تُفسِد أجواء المساء بذلك الزي البغيض. بوسعها أن تتنكَّر به، لكن في الخارج؛ لأن هذا المنزل للمُتحضِّرين فحسب.»
ظهر رئيس الخدَم وتمتَم بكلماتٍ غيرِ مفهومة. هتفَت الآنسة دوريا: «هيَّا، لا بد أنك تتضوَّر جوعًا يا سيد براند. كما سار لانسلوت بالدراجة عشرةَ أميال.»
كانت غرفةُ الطعام تختلف تمام الاختلاف عن الردهة. فقد أزيلَت منها الألواحُ الخشبية، واكتسى سقفُها وجدرانُها بورقٍ لامعٍ أسودَ قاتم، عُلِّقَت عليه لوحاتٌ غاية في القبح داخل إطاراتٍ ذهبيةٍ باهتةٍ ضخمة. لم أتمكَّن من رؤية اللوحات بوضوح، لكنها بدَت مثل خليطٍ عشوائيٍّ من الألوان القبيحة. أومأ الشابُّ برأسه ناحية الرسومات. وقال: «أراكما علَّقتما لوحات ديجوس أخيرًا.»
هتفَت الآنسة كلير: «كم هي رائعة! إنها دقيقةٌ وعفويةٌ وشجاعة! أنا ودوريا نستدفئ بلهيبها.»
كانت الغرفة قد بُخرَت بخشبٍ عطريٍّ من نوعٍ ما، فخلَّف رائحةً غريبةً مثيرةً للغثيان. بدا كلُّ شيءٍ في المكان مُتكلفًا، غيرَ مريح، وغيرَ طبيعي؛ الشمعة على المائدة، وكومة الفاكهة الخزفية الصناعية في الطبق الرئيسي، والجداريات الصارخة الألوان، والجدران البشعة. لكن كان الطعام رائعًا. في الحقيقة كانت أفضلَ وجبةِ عشاءٍ تناولتُها منذ ١٩١٤.
قالت الآنسة دوريا، وهي تسند وجهها الأبيض الطويل على يدِها المليئة بالخواتم: «أخبرني يا سيد براند. هل أنتَ واحدٌ منَّا؟ أأنتَ من الرافضين لهذه الحرب المجنونة؟»
قلتُ، وأنا أتذكَّر الدَّور الذي أُمثِّله: «بالطبع. أرى أن بعض المنطق سيحلُّ هذا النزاعَ مباشرة.»
قال السيد ويك: «لو كان الطرفان يتحلَّيان ببعض المنطق ما نشبَت الحربُ في الأساس.»
قالت الآنسة دوريا: «إن لانسلوت ويك «م.» كما تعلم.»
لم أكن أعرف أنه مقدم إذ لا يبدو جنديًّا بأي شكلٍ من الأشكال … كدتُ أن أسأله عن الكتيبة التي يقودُها عندما تذكَّرتُ أن هذا اختصارٌ أيضًا يُطلَق على مُعارضي أداء الخدمة العسكرية لدواعٍ دينية أو أخلاقية، فأوقفتُ نفسي في الوقتِ المناسب.
في تلك اللحظة تسلَّل شخصٌ إلى المقعد الشاغر عن يميني. استدرتُ ورأيتُ الممرضة المتطوعة التي أحضرَت صينية الشاي لبلايكي وقتَ الظهيرة في المشفى.
واصلَت السيدة: «أُعفي من الخدمة العسكرية من قِبل شُعبتِه لأنه موظفٌ مدني؛ لذا لم يحظَ أبدًا بفرصة الشهادة في المحكمة، لكنه خدم قضيتَنا بطريقةٍ لم يَسبقه إليها أحد. إنه أحد أعضاء مجلس «رابطة الديمقراطيين المُعارضين للعدوان»، وتحوم الأسئلة حوله في مجلس العموم البريطاني.»
بدا الرجل غير مرتاح لعرض سيرته الذاتية. ونظر إليَّ بتوتُّر، وكاد أن يُقدِّم ما يُشبه التفسير، لولا أن قاطعَته الآنسة دوريا. قالت: «تذكَّر قاعدتَنا يا لانسلوت. لا يُسمح بجدالات الحرب الرنَّانة داخل هذه الجدران الأربعة.»
وافقتُها في كلامها. تبدو الحرب وثيقةَ الصِّلة بمظاهر الصيف لما تحملُه في طيَّاتها من سلام، وبِغُرف «فوس مانر» القديمة الفاخرة. لكن في غرفة الطعام العصرية الصارخة الألوان لم يكن الموضوع لائقًا بأي شكلٍ من الأشكال.
تحدثوا عن أشياءَ أخرى. دار أغلبُ الحديث حول اللوحات أو الأصدقاء المُشتركين، ولم يتعرَّضوا إلى الكُتب إلا قليلًا. لم يُعِرني أحدٌ اهتمامه، وهذا من حُسن حظي؛ لأنني لا أفقَهُ شيئًا في هذه الأمور ولا أفهم نصف المفردات التي يستخدمونها. لكن ذاتَ مرةٍ حاولَت الآنسة دوريا أن تجذبني إلى النقاش. كانوا يتناقشون في روايةٍ روسية — اسمها «الأرواح المجذومة» تقريبًا — وسألَتني إذا كنتُ قد قرأتُها من قبلُ. بمحض الصدفة كنتُ قرأتُ هذه الرواية. كانت هذه الرواية قد وصلَت إلى خنادقنا على نهر سكارب بطريقةٍ ما، وبعد أن علَقْنا في قراءة الفصل الثاني، اختفَت في الوحل، وهو المكان الذي تنتمي إليه بطبيعة الحال. أثنت السيدة على مشاعر «الحزن الشديد» و«الجمال الرصين» في الرواية. وافقتُها، وهنَّأتُ نفسي على نجاحي في الهرب منها للمرة الثانية؛ إذ لو كانت سألَتني عن رأيي في الرواية، لوصفتُها أنها هُراءٌ لا معنى له.
التفتُّ إلى الفتاة، فابتسمَت إليَّ مرحبةً. بدا جمالُها عاديًّا في زي الممرِّضات المتطوِّعات، لكنه استحال استثنائيًّا بفستانها الأسود الشفَّاف وشعرها المكشوف. ولاحظتُ شيئًا آخر. كان هناك ما هو أكثر من الجاذبية في وجهها اليافع. كانت جبهتُها العريضة وعيناها الضاحكتان يشعَّان ذكاءً على نحوٍ غيرِ معهود. كما اتسمَت بقدرةٍ خارقةٍ تُحيل عينيها إلى الجدية والعُمق دون سابق إنذارٍ مثل نهرٍ متلألئ يضيق ويستحيل إلى بِركةٍ.
قالت: «لن يُعرِّفنا أحد لذا اسمح لي بأن أعرِّفك بنفسي. اسمي ماري لامنتون وهاتان السيدتان خالتاي … هل أعجبَتْك رواية «الأرواح المجذومة» حقًا؟»
لم أجد صعوبةً في التحدُّث إليها. وللغرابة أزال وجودُها ضيقَ الصدر الذي شعَرتُ به في الغرفة. هذا لأنها تنتمي إلى العالم الخارجي، إلى القصر القديم، إلى العالم بوجهٍ عام. كانت تنتمي إلى الحرب، إلى العالم السعيد بعد الحرب، العالم الذي لا بد من نَيْله بخوضِ النضالِ لا الهروبِ منه، مثلما تفعل هاتان السيدتان الساذجتان.
رأيتُ عينا وِيك تتجولان إلى الفتاة كثيرًا وهو يُرعِد ويُطنطِن والسيدتان تُثرثِران. سرعان ما بدأَت المحادثة تنحرفُ عن مسارات الفن المُنمَّقة وتحوم حول الموضوعات المحرَّمة. وبدأ ويك يسبُّ جنرالاتنا المُنخرطين في القتال. لم أجد خيارًا سوى الإنصاتِ إليه. قوَّسَت الآنسة لامنتون حاجبَيها قليلًا، كأنها تستنكِر ما يقوله، وبدأتُ أفقد صوابي.
لقد أتى بكل أنواع النقد الغبي من عدم الكفاءة والجُبن والفساد. ولا أدري من أين أتى بهذه الترَّهات، حتى تومي الكثير التذمُّر لم يأتِ بهذا الهُراء عند إيقاف استراحته. والأسوأ من ذلك أنه كان يستحثُّني لِمُوافقته في الرأي.
حاولتُ السيطرةَ على أعصابي بكل ما أملكُه من قوة. وأجبتُ: «ليست لديَّ معلوماتٌ كافيةٌ في هذا الشأن، لكن سمعتُ في جنوب أفريقيا أن القيادة البريطانية هي الحلقةُ الضعيفة. لذا أظن أن كلامَك يحمل الكثير من الصواب.»
همسَت الفتاة بجواري: «أحسَنت!» أو ربما خُيِّل لي أنها فعلَت.
لم نُطِلْ في الكلام، وسرعان ما انضمَمْنا إلى السيدات؛ تعمَّدتُ ألا أُسهِب في الحديث معه؛ إذ خشيتُ كثيرًا أن أفقد صوابي وأُفسِد كل شيء. وقفتُ أُدخِّن لأطولِ فترةٍ مُمكنة، مُسندًا ظهري على رفِّ المدفأة، وتركتُ ويك يسردُ الحكايات كما يحلو له، دون أن أحيدَ بناظري عن وجهه. آنذاك، تيقنتُ أن ويك ليس الشخص المنشود الذي سينقل لي تعليماتِ المهمة. لم يكن يتظاهر في كلامه. كان شخصًا غريب الأطوار يتحدَّث صادقًا أيما صدق، غير أنه لم يكن مُتعصبًا؛ إذ كانت تُعوِزه الثقةُ بالنفس. لقد فقد احترامَه لنفسه بطريقةٍ ما، ويُحاوِل استعادته بأي طريقةٍ مُمكنة. لم يكن غبيًّا على الإطلاق؛ فالأسبابُ التي ذكرها بشأن اختلافه مع غالبية أبناء وطنه كانت منطقيةً نوعًا ما. ما كنتُ سأكترث بمواجهته في مناظرةٍ علنية. ولو أخبَرْتني منذ أسبوع مضى عن هذا الشاب لشعَرتُ بالغثيان بمجرد التفكير به. لكنني لا أكرهه الآن. شعَرتُ تجاهَه بمزيجٍ من الضجر والشفقة. كان مُضطربًا على نحوٍ لا يخفى على أحد.
عُدنا إلى الردهة، وأعلن الشابُّ عن اضطراره للرحيل، وأجبر الآنسة لامنتون على مساعدته في العثور على دراجته. بدا أنه ينزل لعدة أيام بفندق يبعُد بضعة أميال، من أجل صيد السمك، ما جعلَني أُحبه بشكلٍ ما. سرعان ما ذهبَت السيدتان للفِراش، لتنعما بأحلامٍ وردية، وتُركتُ وشأني.
جلستُ في الردهة، لبعض الوقت، أُدخِّن وأتساءل عن موعد وصول الرسول. كان الوقتُ متأخرًا، ولم تكن هناك تحضيراتٌ في المنزل لاستقبال ضيفٍ جديد. قَدِم رئيس الخدم بصينيةِ مشروباتٍ وسألتُه ما إذا كان ينتظر قدومَ ضيفٍ آخرَ الليلة.
أجاب: «لم تَرِدني أخبارٌ بذلك يا سيدي. لم يَرِد تليجراف، على حسب علمي، ولم أتلقَّ تعليماتٍ في هذا الشأن.»
أَشعلتُ غَلْيوني، وجلستُ أقرأ جريدةً أسبوعيةً مدَّة عشرين دقيقة. بعد ذلك، نهضتُ من مكاني، ورُحتُ أتأمَّل صور العائلة. دعَتْني أشعة القمر المُتسللة من بين فراغات النافذة إلى الخروج لتهدئة قلقي. كانت الساعة قد تجاوزَت الحادية عشرة، ولم أتلقَّ أي تعليماتٍ بعدُ بخصوص خطوتي القادمة. كان الأمر مُثيرًا للجنون؛ أن يَقلقَ المرء بسبب مهمةٍ بغيضة، ناهيك عن أن يتسبَّب شيءٌ في تعطيل هذه المهمة اللعينة.
خارج المنزل وخلف الشرفة الأمامية المُبلَّطة، انحدرَت الحديقةُ التي كساها ضوءُ القمر بالأبيض إلى حافة الجدول، الذي اتسع في تلك الرقعة مشكلًا بُحيرةً صغيرة. عند حافة الماء، قبعَت حديقةٌ منسَّقة، مسوَّرة بأحجارٍ رمادية، راحت تتلألأ مثل أحجار المرمر الداكنة. وهبَّت نسائمُ عطريةٌ قويةٌ منها؛ إذ لم يَنتهِ موسمُ زهورِ الليلك بعدُ، وكانت أزهارُ الزعرور في أوْجِ ازدهارِها. وفجأةً انبعث من ناحية الظل صوتٌ يُشبه العندليب.
كان الصوتُ يغني «كرز لذيذ»، وهي أغنيةٌ شهيرة قد سمعتُها من الأرغن اليدوي بشكلٍ أساسي. لكن عندما سمعتُها، في ضوء القمر والنسمات العطرية، بدا أنها تحمِل معها ذاك السحر الدائم لإنجلترا القديمة وهذه القرية المقدَّسة. اجتزتُ حدودَ الحديقة ورأيتُ رأسَ الفتاة ماري.
انتبهَت ماري لوجودي؛ إذ استدارت ناحيتي.
قالت: «كنتُ سأبحثُ عنك بعدما أوى الجميع إلى الفِراش. فلديَّ ما أُخبِركَ به، أيها الجنرال هاناي.»
كانت تعلم اسمي، إذن هي من جماعتنا، بشكلٍ ما. سحرَتْني هذه الفكرة.
هتَفْت: «حمدًا لله، يُمكنني أن أتحدث إليكِ بحُرية. مَن أنتِ وكيف تعيشين في هذا القصر بصحبة أولئك الأشخاص؟»
ضحكَت برقَّة، وقالت: «خالتاي الطيبتان! تتحدثان كثيرًا عن الأمور الروحية العميقة لكنهما تقصدان مَخاوفَهما البسيطة في حقيقة الأمر. إنهما تُمثلان ما تُسمِّيه بالتمويه، بل هما تمويهٌ مثالي جدًّا.»
سألتُ: «ماذا عن الشابِّ المُنافقِ الشاحِب؟»
أجابت: «لانسلوت المسكين! أجل هو الآخر تمويه، وربما أكثر من ذلك. لا تحكُم عليه بهذه القسوة.»
أجبتُ: «لكن … لكن …» حِرتُ في الكلمات وتلعثمتُ من فَرْط الحماسة. قلتُ: «كيف أتأكد أنكِ الشخص المعني بالتحدُّث إليه؟ أنا لديَّ تعليمات، كما ترَين، ولم تَرِدني أي معلومةٍ بخصوصك.»
قالت: «سأعطيك الدليل. منذ ثلاثة أيام، أمرك السيد وولتر بوليفانت وماكجليفري بالقدوم إلى هُنا الليلة، وانتظار مزيدٍ من التعليمات. حدَث هذا اللقاءُ في غرفة التدخين في الجزء الخلفي من نادي روتا. وطُلب منك استخدامُ الاسم المستعار «كورنيليس براند» والتحوُّل من الجنرال الناجح إلى مهندسٍ مناصرٍ للسلام قادمٍ من جنوب أفريقيا. أليس هذا صحيحًا؟»
أجبتُ: «تمامًا.»
واصلَت: «لقد قضيتَ الأمسية كاملةً في قلقٍ تترقبُ وصول رسولٍ يُبلغك بالتعليمات. أرِح عقلَك. فلن يأتِي أيُّ رسول. ستتلقى أوامركَ منِّي مباشرة.»
قلتُ: «ما كنتُ لأتمنى أن أتلقَّاها من غيركِ.»
واصلَت: «أُهنِّئك على لباقتك. إذا كنتَ بحاجةٍ إلى المزيد من الإثباتات، فيُمكنني أن أسردَ لك تحركاتكَ في السنوات الثلاث الأخيرة. بوسعي أن أشرح لكَ — وأنتَ لستَ بحاجة إلى الشرح — جميع خطواتِ مهمَّة «بلاك ستون». يُمكنني أن أرسمَ لك خريطةً دقيقةً لرحلتك إلى مدينة أرضروم التركية. ولديكَ خطاب من بيتر بينار في جيبكَ الآن ويُمكنني أن أقصَّ عليك مضمونه. هل أنتَ على استعداد للثقة بي؟»
قلتُ: «بكل قلبي.»
قالت: «ممتاز. ستختبر تعليماتي الأولى قوَّتك. ليست لديَّ أوامرُ أُعطيها لكَ سوى أن تذهب وتنخرط في نمطِ حياةٍ بعينِه. ستكون مهمَّتك الأولى هي استطلاع «الأجواء» على حدِّ تعبير صديقك بيتر. سأُخبرك أين تذهب وكيف تتصرف. لكن لا يُمكنني أن أطلب منكَ فعل أيِّ شيء، ما عليكَ سوى أن تتسكَّع بعينَين وأُذنَين مفتوحتَين حتى تستوعب «طبيعة» الموقف.»
سكتَت ووضعَت يدَها على ذراعي.
تابعَت: «لن تجدَ الأمر سهلًا. لو فُرضَت عليَّ هذه المهمَّة لفقدتُ عقلي، وأنا مَن أنا؛ لذا ستكونُ أشدَّ وطأةً على رجلٍ مثلك. لا بد أن تنغمسَ في حياة الحمقى، الذين لم تمسَّهم الحرب أو لم تَطَلْهم بالقَدْر الكافي، الذين ينشغلون بسفاسفِ الأمورِ طيلةَ اليوم، ويستغرقون فيما نُسمِّيه أنا وأنتَ بالصيحات التافهة المتمركزة حول الذات. أجل. هم أناسٌ يشبهون خالتيَّ ولانسلوت إلا أنهم ينتمون إلى طبقةٍ اجتماعيةٍ أخرى في الغالب. لن تعيش في قصرٍ قديمٍ مثل هذا، بل في منازلَ صغيرةٍ مُبهرَجة «مُتصنعة». ستسمع معتقداتكِ يُستهزأ بها ويُنتقص منها، وسترى كلَّ الحماقات المُثيرة للغثيان يُشار إليها بالبنان، لكن لا بد أن تُمسِك عليك لسانكَ وتسايرهم. لن تفعل أي شيءٍ سوى أن تدَعَ نفسك تتشرَّب هذه الحياة، وتُبقيَ عينَيك وأُذنَيك مفتوحتَين كما ذكرتُ لك.»
عقَّبتُ: «هل تُعطينني بعضَ الإشارات إلى ما يجبُ أن أبحث عنه؟»
أجابت: «تنصُّ الأوامر على ألا أُعطيَك أي معلومات. يريد رؤسائي ورؤساؤك أن تمضي في مهمتك بلا أي تصوراتٍ مُسبقة. ولا تنسَ أننا لا نزال في مرحلة جمع الاستخبارات. لم يَحِن الوقت بعْدُ لوضعِ خطةِ هجومٍ فضلًا عن القيام بأي تحرُّكات.»
قلتُ: «أخبريني بأمرٍ واحدٍ فحسب. هل ما نسعى وراءه أمرٌ عظيم؟»
أجابت ببطء وجديةٍ شديدة: «إنه أمرٌ عظيمٌ حقًّا. نلاحِق أنا وأنت وغيرنا المئات أخطرَ رجلٍ في العالم. وحتى ننجح في هذا الأمر ستظلُّ بريطانيا مشلولةً في حركتها. إذا أخفقنا في مهمَّتنا أو نجحنا بعد فوات الأوان، فلن يُحقِّق الحلفاءُ النصر الذي يستحقونه. سأخبركَ بأمرٍ على سبيل التشجيع. هذه المهمة هي سباقٌ مع الزمن بطريقةٍ ما، لذا لن تتعذب لفترةٍ طويلة.»
لم يكن بوسعي الاعتراض، وهي تعلم ذلك؛ إذِ اعتبرَت موافقتي أمرًا مفروغًا منه.
أخرجَت صندوقًا دقيقًا، من حقيبةِ كتفٍ ذهبيةٍ صغيرة، وفتحته واستخرجَت منه ما يُشبه رقاقةً أرجوانية عليها صليبُ القديس أندرو الأبيض.
سألَت: «ما نوع الساعة التي ترتديها؟ آه، ساعة جيب. حسنًا، ألصِق تلك الرقاقة داخل غطائها. ذات يوم سيُطلَب منك إظهارها … هناك شيءٌ آخر. اشترِ نسخةً من «سياحة المسيحي» واحفَظها عن ظهر قلب. ستتلقى خطاباتٍ ورسائل في يوم من الأيام، وأصدقاؤنا يَميلون لاستخدام ما يشبه أسلوب جون بنيان … ستجد السيارة عند الباب غدًا، لتركب في قطار العاشرة والنصف صباحًا، وسأُزوِّدك بعنوان الغُرَف المُستأجرة من أجلك … ليس لديَّ شيءٌ آخرُ أخبرك به، غير أنني أتوسَّل إليكَ أن تُمثِّل دوركَ جيدًا وتُحاوِل السيطرة على أعصابك. لقد أحسنتَ التصرف على العَشاء.»
سألتُ سؤالًا أخيرًا فيما تمنى أحدنا للآخر ليلةً سعيدةً في الردهة. قلتُ: «هل سنلتقي مرةً أخرى؟»
أجابتْ: «سنلتقي قريبًا وكثيرًا. لا تنسَ أننا زميلان.»
شعَرتُ براحةٍ كبيرة، وأنا أصعد للطابق العلوي. أعلم أنه ينتظرني وقتٌ عصيبٌ للغاية، لكن عَظُمَتِ المهمة في عيني وتزيَّنت بالتفكير في الفتاة التي غنَّت «كرز لذيذ» في الحديقة. مدحتُ بصيرة الداهية العجوز بوليفانت في انتقائه لها وسيطةً دون غيرها؛ إذ لو تلقيتُ الأوامر من شخصٍ آخرَ ما نفَّذتُ المهمة.