وادي الاتضاع
جمعتُ بعضًا من أمتعتي وكومةً من الرسائل المُرسلة حديثًا من غرفتي في وستمنستر، قبل أن أستقل سيارةَ أجرة إلى شقتي في بارك لين. عادةً كنتُ أتنفَّس الصُّعَداء عندما أعود إلى شقتي القديمة، مثل تلميذٍ فرح بالرجوع من مدرسته، فراح يتجوَّل في غرفته في المنزل متفقدًا كنوزَه. كنتُ أستمتع برؤية غنائم الصيد تُزيِّن الجدار، وأحب الاسترخاء في مقاعدي المريحة. لكن الآن فقدَت هذه الأشياءُ بهجتَها في عيني. اغتسلتُ، واستبدلت ملابسَ ببزَّتي العسكرية، فشعَرتُ أنني استعدتُ روح القتال. لكن أثقلَت كاهلي قناعتي بالفشل التام، ولم أشارك ماكجليفري في تفاؤله. تجدَّدَت تلك الرهبةُ التي بثَّتْها عصابة «بلاك ستون» في قلبي منذ ثلاثِ سنواتٍ أضعافًا مضاعفة. كانت كبريائي المجروحة أهون مشكلاتي. فما يُضِج مضجعي هو شعوري أني في مواجهة خَصمٍ تفوق قوَّتُه وحنكتُه وقدراتُه العادة. شعَرتُ أنني على استعداد للاعتراف بالهزيمة وترك اللعبة.
من بين الخطابات غير المقروءة كان هناك خطابٌ من بيتر، فتحتُه لأجده خطابًا طويلًا جدًّا؛ لذا جلستُ لقراءته في تُؤَدة. شعَرتُ بالفضول؛ إذ كان هذا أطول خطابٍ أرسَله بيتر، وأدركتُ مدى شعوره بالوحدة من طوله. علمتُ أنه لا يزال في معسكر الاعتقال الألماني، وينتظر ذهابه إلى سويسرا كلَّ يوم. قال إنه يمكنه العودة إلى إنجلترا أو جنوب أفريقيا، متى شاء؛ لأنهم على يقينٍ من عدم قُدرته على القتال مرةً أخرى؛ لكنه يفضِّل الإقامة في سويسرا، لأنه لن يكون سعيدًا في إنجلترا وهو يرى جميعَ أصدقائه يقاتلون بينما هو عاجز. لم يشتكِ كما هي عادتُه، وبدا في غاية الرضا من الرحمات الصغيرة التي تنزلُ به. كان هناك طبيبٌ يُعامِله بلُطف، كما وجد بعض الرفاق الصالحين بين السجناء.
لكن تمحوَر خطاب بيتر حول تأمُّلاته بشكلٍ رئيسي. لطالما كان ينزع إلى الحكمة، والآن في عزلته أصبح ينغمِس في التفكير العميق، ويُفرغُ استنتاجاتِه على صفحاتٍ من الورق الرقيق، بخطِّه الرديء كي أقرأها. استشفَفتُ من خطابه أنه يخوض صراعًا عنيفًا مع نفسه. كان يحاول ألا يتخلى عن شجاعته أمام أقسى ابتلاءٍ يمكن للمرء مواجهته؛ وهَن الشيخوخة. لطالما كان واسعَ الاطلاع على الكتاب المقدَّس الذي شَكَّل مع رواية «سياحة المسيحي» خيرَ مُعينٍ له في تأملاته. كان يُصدِّق ما جاء فيهما حرفيًّا كأنهما تقاريرُ صحفية عن أحداثٍ جديدةٍ حقيقية.
ذكر أنه بعد تفكيرٍ طويلٍ خلصَ إلى أن أعظمَ ثلاثةِ رجالٍ سمع عنهم أو قابلهم هم شخصية «القوي للحق» من رواية «سياحة المسيحي»، والقديس بولس الرسول، ورجلٌ يُدعى بيلي سترينج رافقَه في منطقة ماشونالاند عام ١٨٩٢. كنتُ أعرف كل شيءٍ عن بيلي؛ كان بيتر يعتبره بَطَله، كما كان قائدَه حتى التهمه أسدٌ في بلوبرج. كان بيتر يُفضِّل «القوي للحق» على شخصية «كريم النفس»، أظن بسبب صرامته البالِغة، ولأن بيتر رقيقُ النفس فقد جذبَتْه تلك الشخصية الجريئة التي لا تخشى في الحق لومةَ لائم. وبعد ذلك انخرط في وصلةٍ من التأمُّل في ذاته. شعَر بالندم لأنه لا يرقى إلى أيٍّ من أولئك الثلاثة. فكَّر أنه ربما يُشبه شخصيةَ «الثابت»، مع بعض الحظ؛ لأنه لا يواجه مشكلةً كبيرةً في البقاء يقظًا، كما أنه «فقيرٌ مُعدم» على حدِّ تعبيره، ولا يعبأ بالنساء. كان جلُّ ما يأملُه هو أن يحظى بخاتمةٍ حسنةٍ مثله.
تلا ذلك بعض تعليقات بيتر عن الشجاعة، شعَرتُ وأنا أقرؤها في غرفتي في لندن كأني أسمعها بصوته. لم أعرف شخصًا يتمتع بمثل شجاعته الفطرية، أو شخصًا يكره كراهيةً عمياءَ أن ينعتَه أحد بهذه الصفة بقَدْره. كان سماعه أحدًا يمدحُه بذلك الوصف هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يُثير غضبه. ظل بيتر يتحدى الموتَ طيلةَ حياته، وكانت المخاطرة بالنسبة إليه أمرًا طبيعيًّا مثل الاستيقاظ من النوم في الصباح وتناول وجبة الفطور. لكنه بدأ يتأمل في تلك الصفة التي كان فيما مضى يعتبرها من المسلَّمات، وها هو مقتطفٌ من استنتاجاته. سأعيد صياغةَ عباراته لأن فيها الكثيرَ من الأخطاء النحوية.
«من السهل كثيرًا أن يتحلى الإنسان بالشجاعة إن كان معافى الجسد ملآن البطن. كما أنها ليست صعبة على الجوعان المُنهك؛ إذ يجد ذلك في نفسه ميلًا للمجازفة. أعني بالشجاعة أن تلتزم بقواعد اللعبة دون أن تخشى احتمالية الهزيمة، وإن كان واردًا جدًّا. ذلك أذكى طريقٍ للنجاة. فلن يُجديَ التفكيرُ في الموت وأنت تُواجِه أسدًا هائجًا أو تُحاوِل خداعَ جماعةٍ من الرعاع. إن فكَّرتَ في الموت فسيأتيك؛ وإن لم تفكِّر فيه فستنجو منه على الأرجح. ينبُع هذا النوعُ من الشجاعة من هدوء الأعصاب وتراكُم الخبرة … في الحقيقة الشجاعة هي نتاجُ الخبراتِ السابقة. فأكثر الناس يخافون الأشياء التي لم يختبروها …
أنتَ بحاجة لأن يقوى قلبك لمواجهة الأخطار التي تخرج للبحث عنها، أخطارٌ لن تواجهها في أي مهنةٍ عادية. وهذا أيضًا يتأتى بالطريقة نفسها؛ برباطة الجأش وقوة البدن ونزوعٍ فطريٍّ للمواجهة. كما ترى يا ديك، لُعبتُنا تلك فيها الكثير من المُتعة. فالمرء يشعر بالإثارة والاستمتاع عندما يوظِّف فيها ذكاءه ومهارته، كما أنه يُدرك أن العقبات التي يواجهها فيها ستنقضي لا محالة. عندما أرسلني أركول إلى زريبة ماكابان، لم ترُقْني المهمة على الإطلاق، لكني استمتعتُ بثُلثِها على أقل تقدير، واجتاحتني حماسة عارمة، حتى إنني لم أفكِّر في المخاطر حتى نهايتها …
لكن الشجاعة الحقيقية تتَّسم بالثبات، فلا تتزعزع بفقدان الشغف أو الضعف، أو تتذبذب إذا لم تجنِ أي نوع من المرح أو الربح من ورائها، أو تهتز بمعرفتك أن هذه الظروف العصيبة لن تنقضي خلال ساعة أو ساعتَين، بل ستدوم شهورًا وسنين. سمعتُ أحد الرجال هُنا يتحدَّث عن هذا النوع وأسماه «الجَلَد». أعتقد أن الجَلَد هو أشرفُ صفةٍ يمكن أن يتحلى بها المرء؛ أن يُواصِل المقاومة عندما لا يتبقى فيه أي ذرة من الشجاعة أو الإرادة. اتَّسَم بيلي بهذه الصفة إذ مشى مسافةً طويلةً على قدمَيه من جرانجوز إلى ليمبوبو، وهو مصابٌ بالحُمى وذراعه مكسورة، ليُظهِر للبرتغاليين أنهم لن يهزموه تحت أي ظرف. لكن زعيم أهل هذه الصفة هو بولس الرسول …»
كان بيتر يكتب لمواساة نفسه، لأن «الجَلَد» هو كل ما تبقَّى له الآن. لكن كلماته بلغَت من نفسي مبلغها، فقرأتُها مرارًا وتكرارًا؛ لأنني كنت بحاجة لاستيعاب العظة التي تضمَّنَتها. ها أنا ذا خائر الهمة فقط لأنني أخفقتُ في الجولة الأولى وتعرَّضَت كبريائي لضربةٍ كبيرة. خجلتُ من نفسي كثيرًا، وأصابني ذلك بسعادةٍ عارمة. ليس هناك مجال لترك المهمة مهما كانت تحدياتها. راودَني اعتقادٌ غريب أن قدَري متشابك مع قدَر أفري، ولا سبيل لافتراقهما مهما أردتُ. لقد واجهتُه قبل الحرب وفُزت، وواجهتُه مرةً أخرى وخسِرتُ، وفي المرة الثالثة أو العشرين سنحسم ذلك النضال للأبد. بدت المسألة كلها إلى هذا الحين غيرَ حقيقية بطريقةٍ ما، أو على الأقل هكذا بدت لي علاقتي بها. كنتُ أتبع الأوامر الواردة لي بإذعان، لكن نفسي الحقيقية ظلَّت واقفةً على الحياد تُراقِب أفعالي دون تدخُّل. لكن تلك الساعة في محطة قطار الأنفاق دفعَتْني للنزول إلى أرض الملعب، ولم أعُد أرى المسألة تخُص بوليفانت أو حتى بلنكيرون، بل صارت تخصُّني شخصيًّا. في السابق كنتُ أتلهف للعودة إلى الجبهة، أما الآن فأتوق لاقتفاءِ أثر أفري، وإن اضطُرِرتُ إلى دخول الجحيم. كان بيتر محقًّا؛ على المرء أن يتحلى بالجلَد إذا أراد النجاة بروحه.
انقضَت الساعاتُ دون أن تحمل أي أنباءٍ من ماكجليفراي كما توقَّعتُ. طلبتُ إحضارَ وجبةِ عَشاءٍ في السابعة، وعندما اقتربَت الساعة من الثامنة بدأتُ أفكر في البحث عن بلنكيرون. في تلك اللحظة وردَني اتصالٌ هاتفي يأمُرني بالتوجُّه مباشرة إلى منزل السير والتر بوليفانت في شارع كوين آنز جيت.
في غضون عشرِ دقائقَ كنتُ أدقُّ جرسَ منزلِ السير والتر، وفتح لي الباب رئيس الخدم الخالي من المشاعر نفسه، الذي أدخلني إلى المنزل في تلك الليلة الحافلة منذ ثلاث سنوات. لم يتغيَّر شيءٌ في البهو المُبهِج المكسُوَّة جدرانُه بالألواح الخشبية الخضراء، وكانت الكوَّة، التي راقبتُ من خلالها رحيل الرجل الذي يُسمِّي نفسه الآن «أفري»، على حالها، كما كان دليلُ الهاتف قابعًا في المكان نفسه الذي انتشلتُه منه للاتصال برئيس الأركان البحرية. وفي الغرفة الخلفية، حيث اجتمع خمسةُ مسئولين قلقين في تلك الليلة، وجدتُ السير والتر جالسًا مع السيد بلنكيرون.
ارتسَم القلق على وجه الاثنَين، وكان الأمريكي في غاية الاضطراب. فقد كان يذرع سجادة الموقد جيئةً وذهابًا، فيما يمصُّ سيجارًا أسود غير مشتعِل.
قال: «اسمع يا ديك، نحن في موقف حرج. هذا ليس خطأك. لقد أبليتَ بلاءً حسنًا. ومن رفع راية الاستسلام هو أنا والسير والتر والسيد ماكجليفراي.»
سألتُ: «هل هناك أيُّ أخبار؟»
ردَّ سير والتر: «حتى الآن لم ترِدْنا أي معلومات من مُراقبينا. من سوء الحظ أن صديقنا رآك اليوم. هل أنت واثقٌ أنه أدرك تعرُّفك عليه؟»
قلتُ: «مائة بالمائة. لقد تكرَّر ما حدث منذ ثلاثِ سنواتٍ عندما لاحظ أنني تعرفتُ عليه في بهو منزلك فيما كان يمشي مختالًا منتحلًا شخصية اللورد ألوا.»
قال بلنكيرون في بؤس: «لا، ذلك الإحساس اللحظي الذي ينتابك عندما تتعرَّف على شخصٍ ما هو الشيء الوحيد الذي لا يحتمل الخطأ. تبًّا! ليت السيد ماكجليفراي هنا.»
دقَّ الجرس، وفُتح الباب، لكن القادم لم يكن السيد ماكجليفراي. كانت شابةً صغيرةً ترتدي فستانَ سهرة أبيضَ مزدانًا بعنقودٍ من أزهار القنطريون العنبري عند منطقة الصدر. عندما رآها السير والتر هبَّ واقفًا من مقعده فقلب فنجان القهوة الخاص به.
قال: «كيف وصلتِ مُبكرًا يا عزيزتي ماري؟ لم أتوقَّع قدومَكِ إلا في قطارٍ متأخر.»
أجابت: «كنتُ في لندن، كما تعلم، عندما أبلغوني بما جاء في برقيتك عَبْر الهاتف. أمكُث مع عمتي دوريا، وقرَّرتُ أن أتغيَّب عن حفلتها المسرحية. إنها تظن أنني في حفلة شاندويك الراقصة؛ لذا لن أحتاج إلى العودة حتى الصباح … عِمتَ مساءً يا جنرال هاناي. أراك تجاوزتَ «جبل الصعوبة».»
قلتُ: «والمرحلة الثانية هي «وادي الاتضاع».»
قالت بجدية: «يبدو كذلك»، وجلسَت على حافة مقعد السير والتر بهدوءٍ شديد، ووضعَت يدها الهادئة الصغيرة على يده.
كثيرًا ما تخيَّلتُها فتاةً صغيرةً مشرقة، راقصة، رائعة. لكني الآن راجعتُ تلك الصورة. هي وإن كانت لا تزال تمتلك نضارةَ الشباب النقية، إلا أنها تشعُّ نضجًا، وقد لاحظتُ ذلك الآن. كانت رقَّتُها الخالصة وقوة شخصيتها ما جذبني إليها. حتى إنني لم أفكر في جمالها، مثلما لا يفكِّر الرجل في حُسن ملامح صديقه العزيز.
انتظرنا دون أن ينطق أيُّنا بكلمة تقريبًا حتى حضر ماكجليفراي. كانت النظرة الأولى لوجهه كافيةً لمعرفة ما جاء به من أخبار.
سأل بلنكيرون بحدة: «هرب؟» بدا أن هدوءَ الرجل اللامبالي قد تخلَّى عنه تمامًا.
كرَّر الوافد الجديد: «هرب. كنا قد حدَّدنا موقعه للتو. لكنه أفلَح في الفرار ببراعة. لم نُلاحِظ أي حركةٍ غير عادية في أيٍّ من مَخابئه. طلَب عَشاءَه في بيجلزويك، ودُعي العديد من الأشخاص إلى الإقامة معه في عطلة نهاية الأسبوع، أحدهم مسئولٌ حكومي. كما نُظم لقاءان كي يُلقي خطابًا فيهما الأسبوع القادم. وفي وقتٍ مبكر بعد الظهيرة، حلَّق إلى فرنسا على متن إحدى الطائرات الجديدة. لقد كوَّن صِلاتٍ مع مسئولي هيئة الطيران منذ عدة شهور — بالطبع بصفته رجلًا آخَر بوجهٍ آخر. اكتشفَت الآنسة لامنتون هذا الأمر بعد فواتِ الأوان. خرجَت الطائرة عن مسارِها وهبطَت في نورماندي. آنذاك كان رجلُنا في باريس أو خارجها.»
خلَع السير والتر نظارته الكبيرة المرقَّشة كدرع السلحفاة ووضَعها على الطاولة بحرص.
قال: «اطوِ خريطة أوروبا. نحن بصدَد معركةٍ حاسمة. أشعُر، يا عزيزتي ماري، أنني عجوزٌ طاعنٌ في السن.»
بدا وجه ماكجليفراي مكفهرًّا من شدَّة شعوره بالخيبة. واحمَرَّ وجه بلنكيرون كثيرًا، وكان واضحًا أنه يتلفَّظ بكلماتٍ نابيةٍ بصوتٍ خافت. كانت عينا ماري هادئتَين وجادَّتَين. وواصلتُ التربيت على يد السير والتر. خيَّم عليَّ شعور بأن ثمَّة كارثةً وشيكة، وفي محاولةٍ لدفعه عني استفسرتُ عن التفاصيل.
سألتُ: «أخبِرني عن مدى الضرر الحاصل. لقد فشلَت خطَّتنا المُتقنة لخداع الألمان. وهذا سيئ. كما هرب جاسوسٌ خطير من بين أيدينا. وهذا أسوأ. أخبِرني، هل وقع ما هو أسوأ من هذَين الأمرَين؟ ما حدُّ الضرر الذي يمكن أن يُوقِعه؟»
نهض السير والتر من مقعده وانضمَّ إلى بلنكيرون على سجادة الموقد. كان حاجباه معقودَين وشفتاه مزمومتَين كأنه يشعُر بالألم.
قال: «لا يُوجَد حدٌّ للضرر الذي يمكن أن يوقعه. إلا أن تشملنا رحمة الرب. لقد عرَّفتُ الرجل بشخصية أفري، كما عرَّفتُه بشخصية الرجل الآخر الذي كنتَ تعتقد أنه قُتل ذات صباحٍ صيفي ودُفن تحت التراب. وقد هِبتَ الرجل الثاني، وإن لم تهَبْه، فأنا أهابه بشدة على أقل تقدير. وقد أدركتَ إلى أي مدًى نخشى أفري، وعرفتَ عنه ما يكفي لأن ترى براعتَه الوحشية بنفسك. وها قد اجتمعا الآن في رجلٍ واحد. أفري هو أدهى خَصمٍ جابهتُه أنا وماكجليفراي، وأمكرُهم وأبعدُهم نظرًا وأصبرُهم على تحقيق مراده. فما بالك إذا كان هو نفسه الرجل الآخر، ذلك الحرباء المُتلوِّنة، الذي يستطيع التماهي مع أي بيئة، وتقمُّص أي شخصيةٍ على وجه البسيطة. هل اتضحَت لك صورة الخَصْم الذي نحاربه؟
قلتُ: «أُقِر بأننا إزاء خَصمٍ خطير. لكن في النهاية ما مقدارُ الضرر الذي يمكن أن يُحدِثه؟ ثمَّة حدودٌ للتأثير لا يمكن أن يتجاوزَها حتى أمكر الجواسيس.»
قال: «أتفق. لكن هذا الرجل ليس جاسوسًا يشتري بالمال بضعةَ أتباعٍ حُقراءَ ويسرقُ بضعَ رسائلَ خاصة. بل هو داهية، ظل يعيش بيننا كواحدٍ منا. ولا يُوجَد شيءٌ في حياتنا إلا واطَّلع عليه. لقد كوَّن صداقاتٍ وطيدةً مع سياسيين شتَّى. هذا أمرٌ نعرفه يقينًا. وقد فعل ذلك بصفته أفري. وقد نجح في استمالتهم إليه؛ إذ كان ذكيًّا يُغدِق عليهم بالثناء والمدح، فكانوا يُسِرُّون إليه ببعض الأمور. لكن الله وحده يعلم مقدار ما اطَّلع عليه وحصدَه من معلوماتٍ مُتنكرًا في شخصياتٍ أخرى. فلا أستبعد أن يكون قد تناوَل إفطاره في مكتب رئيس الوزراء حاملًا خطابَ تعريفٍ من الرئيس ويسلون، أو زار الأسطول البريطاني بصفته سياسيًّا مُحايدًا مرموقًا. ثم لا تنسَ النساء وثرثرتَهم. مجتمعنا هو الأكثر إفشاءً للأسرار على وجه الأرض فيما بين أفراده، ونحن نحمي أنفسَنا بعدم السماح للأشخاص الخطرين بالولوج إليه. نحن نحتمي بدِفاعاتنا الخارجية. لكن لو نجح شخصٌ في التسلل من خلالها فستُتاح له فرَصٌ لا حصر لها. ولا تنسَ أن رجُلنا هذا من طرازٍ فريد، رجل لا يغفُلُ عقلُه لحظة، ولا تفوتُه شاردة، ولديه القدرةُ على ترتيب معلوماتٍ متفرقةٍ سمِعها في جلساتِ نميمةٍ ليكوِّن منها الصورةَ الكاملة للمشهد. الأمر يُشبه … يُشبه أن ينشَق رئيس مخابراتنا ويأخذ صف العدو … الجاسوس العادي يعرف بضعَ حقائقَ غير مترابطة. أما هذا الرجل فيعرف أسلوب حياتنا وطريقة تفكيرنا وكل شيءٍ عنا.»
قلتُ: «صحيح، لكن أطروحةً عن أسلوب حياة الإنجليز في وقت الحرب لن تفيد الألمان كثيرًا.»
هزَّ السير والتر رأسه. وقال: «ألا ترى ما على المحك من معلوماتٍ خطيرة؟ أفري يعرف ما يكفي لأن يجعل ألمانيا تخدعنا بأن تدعُوَنا للسلام ثم تضربنا في مقتل؛ تُوجِّه لنا ضربةً لا تُشبه محاولاتها البائسة التي تقوم بها حتى الآن، بل تستهدف نقاط ضعفنا بدقة. هو يعرف ما يكفي من المعلومات لإفشال تحركاتنا العسكرية. والأدهى أننا لا نعرف مقدارَ ما يملك من معلوماتٍ ولا الغاية التي يسعى إليها. هذه حربُ مفاجئات. كِلا الجانبَين يسعى لأن يتفوَّق على خصمه ولو قيدَ أنملة، يسعى لأن يكتسب ولو ذرةً من المعرفة تمنحه الأفضلية في معركةٍ يتساوى طرفاها.»
قلت بحماس: «إذن علينا أن ننهضَ ونُطاردَه.»
سأل ماكجليفراي: «وماذا ستفعل؟ إذا كنا نُحاوِل هزيمةَ منظمةٍ فذلك سهل، فالمنظمة كيانٌ ملموس. لكننا نُحاوِل هزيمة ذلك الرجل بعينه، وهو مراوغ كالذئبق. كيف ستعثُر عليه؟ الأمر يُشبه محاولةَ إيجادِ إبرةٍ في كَومة قش، وليتَها إبرةٌ عادية! بل هي إبرةٌ قادرةٌ على أن تتخذ شكل قشَّةٍ أو مسمارٍ إذا شاءت.»
قلتُ متذكرًا درسَ بيتر العجوز عن الجَلَد وإن لم يستشعره قلبي: «ولو، علينا أن نجده.»
تهالكَ السير والتر في مقعدٍ ذي مسندَين. وقال: «ليتني أرى أملًا في هذا الموقف، لكن يبدو أن علينا الإقرار بهزيمتنا. أعمل في هذه المهنة منذ عشرين سنة، وتعرَّضتُ لهزائمَ في كثيرٍ من الأحيان، إلا أنني دائمًا ما كنتُ أُمسِك ببعض الأوراق الرابحة. لكن ليس هذه المرة. أظن أننا وصلنا إلى طريقٍ مسدودٍ يا هاناي. لا جدوى من خداع أنفسنا. نحن ناضجون بما يكفي لمواجهة الحقائق والاعتراف بها. لا أرى أي بارقةِ أمل في هذه المهمة. أخطأنا هدفَنا بمقدار شعرة، ولا فارقَ بين هذا وبين إخطائه بمقدار أميال؛ إذ إن النتيجة واحدة.»
أتذكَّر أنه نظر إلى ماري كأنه يتطلع إلى تأييدها لكلامه، لكنها لم تبتسِم إليه أو تومئ برأسها علامة الموافقة. بدا وجهها في غاية الجدية، وعيناها شديدتا الثبات، وهما تنظران إليه. ثم تحركت عيناها والتقت بعينيَّ، وتراءى لي أنهما تُعطياني أوامر بالتحرك.
قلتُ: «منذ ثلاث سنوات، يا سير والتر، جلستُ أنا وأنتَ في هذه الغرفة بعينها. كنا نرى أن أمرنا انتهى كما هو حالنا الآن. في ذلك الحين كان لدينا خيطٌ ضئيلٌ بائسٌ لنتشبَّث به، وهو بضع كلماتٍ كتبها رجلٌ ميت في دفتره بخطٍّ سيئ. ظننتُني مجنونًا عندما طلبتُ منك دفتر سكادر، لكننا بذلنا غاية وسعنا، وفي غضون أربع وعشرين ساعةً نجحنا في مهمَّتنا. هلَّا تتذكر عندما كنا في سباقٍ مع الزمن. أما الآن فلدينا متسع من الوقت. حينها لم يكن لدينا إلا جملةٌ غير مفهومة. أما الآن فإننا نملك قدْرًا كبيرًا من المعلومات فقد كان بلنكيرون يتتبع تحركاته عن كثَب. لدينا أساسٌ قوي نستند إليه. أتريد أن تُخبرني أنك تريد الاستسلام وأنت تُدرك خطورةَ ما هو على المحك؟»
رفع ماكجليفراي رأسه. وقال: «نعلم الكثير عن أفري، لكن أفري ميت الآن. ولا ندري شيئًا عن الرجل الذي عاد إلى الحياة منتصرًا هذا المساء في نورماندي.»
قلتُ: «بل نعرف الكثير من المعلومات عنه. لهذا الرجل وجوهٌ كثيرة، لكن لدَيه عقلٌ واحد، وأنتَ تعلم الكثير عن هذا العقل.»
قال سير والتر: «كيف للمرء أن يعرف عقلًا لا يُميزه سوى أنه فائقٌ مطلق القدرة؟ معرفتنا بقدراته العقلية لن تمنحنا أي دليل. إنما نريد أن نعرف خصائصَ الشخصية التي تستتِر خلف هذه الوجوه. والأهم من ذلك نحن بحاجةٍ إلى معرفة نقاط ضعفها. لو أننا نعرف أي معلومةٍ ولو ضئيلةً عن نقاط ضعفه، لربما استطعْنا وضع خطة.»
كلَّما طال ذلك الجدال كان حماسي يزداد، فهتفتُ: «حسنًا، لنُسجِّل كل ما نعرفه عن أفري». وأخبرتُهم ببعض الإسهاب عن تلك الليلة في تلال كويلن، وعما سمعتُه من محادثة الرجلَين.
هناك اسمان كيليوس وبوميرتس. ذكرَهما الرجل في جملةٍ واحدة مع كلمة ألفينباين التي تعني العاج بالألمانية؛ لذا لا بد أن لهما صلةً بعصابة أفري. يجب أن تُكلف جهاز مخابرات الحلفاء بمحاولة التوصُّل إلى معنى هذَين الاسمَين. ستصل إلى شيءٍ ما بالتأكيد! تذكَّر أنهما لا يتعلقان بشخصية أفري في حدِّ ذاتها، بل باللعبة الكبيرة التي تُدار من خلف كل هذه الأقنعة … كما سمعتُ ذلك الحديث عن الطيور البرية وطيور الأقفاص. ليست لديَّ أدنى فكرة عن معنى هاتَين العبارتَين. لكنهما تُشيران إلى عصابةٍ لعينةٍ ما، ولا بد أنك ستجد بين أكوام السجلات الخاصة بك خيطًا يُجلِّي ذلك الغموض. أوكِل هذه المهمة لمُخابراتِ دول الحلفاء. لديك الموارد اللازمة، وأؤكد لك من خبرتي أنه لو عزَم رجلٌ وحيد على حلِّ معضلةٍ ما، فسيصل إلى نتيجةٍ ما حتمًا.»
بدأَت حماستي تُوقِد عزيمة ماكجليفراي. ظهرَت علاماتُ الاستغراق في التفكير على وجهه بعدما كان يغشاه اليأس.
قال: «ثمَّة احتمالٌ أن تُوصلَنا هذه المعلومات إلى شيءٍ ما، لكنه احتمالٌ ضئيل.»
قلتُ: «بالطبع هو احتمالٌ ضئيل، وهذا أقصى ما نتوقَّع من أفري. لكننا استغلَلْنا فرصةً ضئيلةً من قبل فأدَّت بنا إلى الفوز … كما أنه لديك كل ما تعرفه عن أفري. فتِّش ملفَّه بدقة، وأراهنك أنك ستجد خيطًا يمكنك اتباعه. أنتَ يا بلنكيرون رجلٌ راجح العقل. اعترِف أن لدينا فرصةً معقولةً في الفوز.»
قال: «بالتأكيد يا ديك. لقد عقَّد الأمور؛ لذا سنقابل عقباتٍ في طريقنا، لكننا سنزيلها بطريقةٍ ما. أما أنا فليس لي سوى هدفٍ واحدٍ في هذا العالم، وهو اقتفاءُ أثَر ذلك الجبانِ ومحوُه من على وجه الأرض. لقد أهانني مراتٍ عديدةً وأنا أريد أن أثأر لنفسي منه. كنتُ هدفًا سهلًا وقد استغل ذلك. أنا معك يا ديك.»
هتفتُ: «اتفَقنا إذن. حسنًا، أيها السادة، سأترك لكم ترتيب المرحلة الأولى. أمامكم كثيرٌ من العمل المكتبي كي تتوصَّلوا إلى أثَرِ أفري.»
سأل سير والتر: «وماذا عنك؟»
أجبتُ: «سأعود إلى لوائي. أريد أن أنال قسطًا من الراحة وأُغيِّر الأجواء قليلًا. كما أن المرحلة الأولى عبارةٌ عن أعمالٍ مكتبيةٍ وأنا لا أُجيدها. لكني سأكون في انتظار استدعائي وسأعود بسرعة البرق ما إن تستدعونني. لديَّ حدْسٌ بشأن تلك المهمة. أعلم أن لها نهايةً وأنني سأتورَّط فيها، كما أشعُر أنها ستكون دمويةً وبائسة.»
وجدتُ عينَي ماري مثبتتَين عليَّ، وقرأتُ فيهما الشيء نفسه. لم تنطق كلمةً واحدة، لكنها كانت قد جلَسَت على حافة المقعد، تؤرجِح إحدى قدمَيها بذهنٍ شارد، فيما عبثَت يدُها بمروحةٍ مصنوعةٍ من العاج. لقد أعطَتني أوامري القديمة وتطلَّعَت إليَّ تؤيدني في خطتي الجديدة.
سألتُ: «أنتِ الأكثر حنكةً بيننا يا آنسة ماري. ما رأيك في هذا الكلام؟»
ابتسمَت ابتسامتها الودودة الخجولة التي ظلِلتُ أرسمُها في خيالي عَبْر رحلاتي طيلة الشهر الماضي.
قالت: «أراك مُحقًّا فيما تقوله. أمامنا طريقٌ طويل؛ لأن «وادي الاتضاع» يقع في منتصف طريق «سياحة المسيحي» تقريبًا. المرحلة التالية هي «سوق الأباطيل». قد أكون ذا نفعٍ في تلك المرحلة، ألا توافِقني الرأي؟»
أتذكَّر الطريقةَ التي ضحكَت بها وألقت برأسها للخلف مثل فتًى مرح.
قالت: «الخطأ الذي قد ارتكبناه جميعًا هو افتقار طرائقنا للإبداع. نحن نُجابِه شاعرًا، لكنه ليس شاعرًا عاديًّا بل شاعرًا عظيمًا، ولا بد من أن نُوسِّع حدود خيالنا كي نقدر على مُسايرته. تكمُن قوة عدوِّنا في قُدرته على الإتيان بما هو غير متوقَّع كما تعلمون؛ لذا لن نغلبه بالطرق المألوفة. أرى أن أكثر مسارٍ يبتعِد عن المنطق هو أنجحُ مسارٍ لأنه في الغالب سيتقاطع مع … مَن يتسم بالشاعرية بيننا؟»
قلتُ: «بيتر. لكنه لا يستطيع الحركة بسبب عرجٍ في ساقِه في ألمانيا. مع ذلك علينا إشراكه معنا.»
آنذاك كنَّا نشعر بالبهجة جميعًا؛ فقد لاحت لنا إمكانيةُ فعل شيء، ولذلك تأثيرٌ تحفيزيٌّ عظيم. أحضَر رئيس الخدم الشاي؛ إذ كانت عادة بوليفانت شربَ الشاي بعد تناوُل العشاء. بالنسبة إليَّ بدا المشهد خياليًّا؛ مشهد الفتاة الضئيلة وهي تصُب الشاي لموظفَين أشيبَين مرموقَين من موظفي الدولة وجنديٍّ مُنهَك — مثل عائلةٍ مهذبةٍ ينشرح لها القلب — لا سيما عند تخيُّل أن هؤلاء الأربعة منخرطون في مهمةٍ شديدة الأهمية تتضاءل أمامها حيواتُ الرجال.
بعد ذلك، ذهبنا إلى الطابق العلوي، إلى غرفةِ جلوسٍ فاخرةٍ على الطراز الجورجي، حيث عزفَت لنا ماري على البيانو. لا أعبأ على الإطلاق بالموسيقى الصادرة عن الآلات الموسيقية، إلا لو كانت مزاميرَ القربة أو الفرق العسكرية، لكني مولَع بالصوت البشري. لكنها لم تكن ستغني؛ لأن الغناء بالنسبة إليها، حسبما أتخيل، أمرٌ لا يحدثُ بمحض إرادتها، بل ينساب من فمها مثلما تنساب الزقزقة العذبة من العصافير عندما تشعُر بالطرب. أنا أيضًا لم أرغب في أن تُغَني. قنعتُ بأن تكون «كرز لذيذ» الأغنية الوحيدة التي ترتبط بها في ذاكرتي.
كان ماكجليفراي مَن أعادنا إلى موضوعنا.
قال «أتمنى لو أن هناك نمط تفكير معينًا يُمكننا إسناده إليه دون سواه.» (في تلك اللحظة كان الضمير في «إليه» يحمل معنًى واحدًا بالنسبة لنا جميعًا.)
تحدَّث بلنكيرون ببطء: «لا يمكنك مجابهة عقله. فلا يمكنك أن تفك رُبُط الجبار، كما يقول الكتاب المقدس، أو أن تصطاد اللوياثان بشص. خيِّل إليَّ أنني أستطيع، ودرستُ أساليبه عن قرب. لكن اللعين لم يثبُت في مكانه. اعتقدتُ أنني حاصرتُه بحيلةٍ مزدوجة، لكنه خدعَني بحيلةٍ ثلاثية. لن تنجح تلك الاستراتيجية معه.»
عاودَتْني ذكرى من ذكريات بيتر.
سألتُ: «ماذا عن استراتيجية البقعة العمياء؟» وأخبرتُهم بنظرية بيتر المُفضَّلة. قلتُ: «كل مخلوق لدَيه نقطةُ ضعفٍ ما أو عيبٌ في الشخصية يترك رقعةً عمياءَ في عقله. يجبُ أن نعثر على ذلك العيب، وأرى أنني اتخذتُ الخطوة الأولى في هذا الصدد.»
سألني ماكجليفراي عن مقصدي بنبرةٍ حادة.
قلتُ: «إنه يخاف … يخاف من شيءٍ ما. لا أقصد أنه جبان. فرجلٌ في مِثل مهنته يحتاج إلى شجاعة أسدٍ. هو يتفوَّق علينا جميعًا في شجاعته. ما أقصدُه هو أنه ليس مطلَق الشجاعة. هناك خوفٌ ما بداخله … لقد فكَّرتُ كثيرًا في مسألة الشجاعة هذه؛ لأنني نفسي لا أتحلى بقَدْرٍ كبيرٍ منها. أعني أنني لستُ شجاعًا بقَدْر بيتر. لديَّ الكثير من مواطن الضعف. فأنا أخاف الموت غرقًا، أو أن أخسر عينيَّ بطلقةٍ نارية. بالنسبة إلى أفري، فإنه يخاف أن يتعرَّض للقصف بالقنابل في مدينةٍ كبيرة. ذات مرةٍ قرأتُ كتابًا يتحدَّث عما يُسمى بالأجروفوبيا أو رُهاب الأماكن المكشوفة. ربما هذه هي نقطة ضعفه … إذا أدركنا نقطة الضعف هذه، فستُساعدنا في بحثنا. فهناك بعض الأماكن التي لن يذهب إليها، كما أن هناك بعض الأشياء التي لا يستطيع القيام بها؛ أو لا يُحسنها على أية حال. أظن أن هذه المعلومات ستفيدنا.»
قال ماكجليفراي: «أجل، ربما لن تكون واضحةً وضوح الشمس.»
تابعتُ: «يُوجَد صدعٌ آخر في درعِه. فهناك شخصٌ واحد في العالم لا يُمكنه التنكُّر أمامه، هذا الشخص هو أنا. سأكشفه دائمًا، ولو تنكَّر في شخصية السير دوجلاس هيج. لا أدري السبب، لكني أعرفُه بحَدْسي. لم أتعرَّف عليه من قبلُ؛ لأنني خِلتُه ميتًا، وذلك الحَدْس الداخلي الذي كان من المُفترَض أن يُنبِّهَني إليه كان مُتعطلًا. لكني في كامل اليقظة الآن، وصار حَدْسي يعمل بكامل قوَّته. أينما وحيثما وكيفما تقابلنا من جديدٍ على سطح البسيطة، فسأتعرَّف عليه على الفور.»
قال ماكجليفراي: «هذا أفضل. لو حالفنا الحظ يا هاناي، فلن نستغرق وقتًا طويلًا قبل أن نستدعِيَك من قُوات جلالته.»
نهضَت ماري من مقعدها أمام البيانو، وجثمَت على مسند مقعد السير والتر مثلما فعلَت من قبلُ.
قالت: «هناك منطقةٌ عمياءُ أخرى لم تتعرَّض إلى ذكرها.» كان المساءُ مُعتدلَ البرودة، لكني لاحظتُ حُمرةً دبَّت في خدَّيها فجأة.
قالت: «لقد عرض السيد أفري عليَّ الزواج الأسبوع الماضي.»