أعود محاربًا
عُدتُ إلى فرنسا في الثالث عشر من شهر سبتمبر، وتقلَّدتُ مقاليد الأمور في كتيبتي في التاسع عشر من الشهر نفسه. أُرسِلنا إلى غابة بوليجون في السادس والعشرين، وبعد أربعة أيام، حَمِي الوطيس وأصيب من بيننا الكثيرون فصَدَرَت الأوامر بانسحابنا لإعادة تنظيم الصفوف. في السابع من شهر أكتوبر، فُوجئتُ بمَنحِي قيادةَ فرقةٍ كاملة، وكنتُ على أعتابِ معركة إيبر في الأيام الأولى من شهر نوفمبر. من تلك الجبهة، دُفِعنا في عُجالة إلى مدينة كامبريه لتقديم الدعم، لكننا ما وصلنا إلا في أثناء التداعِيات الأخيرة لتلك المعركة الفريدة. سيطرنا على جزءٍ صغيرٍ من قطاع سانت كونتين حتى قبل عيد الميلاد المجيد، حيث حصَلْنا على فترةِ راحةٍ مؤقتةٍ في سكن الجند، استمرَّت بالنسبة إليَّ حتى بداية شهر يناير، عندما أُرسِلتُ في مهمةٍ سأقصُّ تفاصيلها في الحال.
هذا موجزٌ قصير لإنجازاتي العسكرية في الأشهر الأخيرة من عام ١٩١٧. لن أُسهِب في الحديث عن القتال. ففيما عدا معركة غابة بوليجون، كان القتال غيرَ حامي الوطيس أو استثنائي، وتفاصيلُه مذكورة في كتب التاريخ. ما ينبغي أن أتعرض إليه هُنا هو مهمَّتي السرية؛ لأنني طيلة هذا الوقت عشتُ مُشتَّت الذهن. سواء أكنتُ أجُر قدميَّ في مُستنقعاتِ بلدةِ هانيبيك، أو أمكُث في خطوط الدعم الوحلة في بلدة زونبيك، أو أجتاز الهضاب المُتعرِّجة حول فليسكيير، وغيرها الكثير من الأماكن الغريبة، لم أتوقَّف عن القلق بشأن معضلتي السرية. هذه المعضلة سلبَتْني النوم في الليل من فَرْط التفكير بها، وأفقدَتْني توازُني فسقطتُ في حُفر القذائف، وجعلَت قدمي تزلُّ من فوق ألواح اجتياز الوحل، في كثيرٍ من الأحيان؛ إذ كانت عيناي تريان منظرًا آخر. في تلك الشهور الكئيبة التي قضيتُها في منطقتَي فلاندرز وبيكاردي كنتُ أحاوِل باستماتهٍ تجميعَ أطرافِ خيوطٍ واهية.
كان بداخلي شعورٌ أن الوضع جدُّ خطير، بل هو أخطرُ بكثيرٍ من المعركة التي أشهدُها. تدهورَت أوضاعُ روسيا بسرعةٍ كبيرة، وتلقَّت إيطاليا ضربةً مباشرةً قويةً لم تُفِق من أثَرها بعدُ، وتضاءلَت فرصُنا نحن في النصر. ازداد الألمان ثقةً بأنفسهم، وكان لهم كلُّ الحق في ذلك، وتوقَّعتُ أن نمُر بوقتٍ عصيبٍ حتى تنضَم أمريكا لصفوفنا في ساحة القتال. كانت فرصةً ذهبيةً بالنسبة إلى «الطيور البرية»، وكنتُ أستيقظ وأنا أتصبَّب عرقًا وأنا أحاوِل تخيُّل أي مكيدةٍ شريرةٍ يُدبِّرها لنا أفري. أظنُّ أنني أدَّيتُ وظيفتي الأساسية على أكملِ وجهه، لكنني صببتُ جُل تفكيري في مهمَّتي الأخرى. أتذكَّر أنني كنتُ أراجع أحداث كل لحظةٍ مرَّت عليَّ منذ تلك الليلة من شهر يونيو في كوتسوولدز وحتى لقائي الأخير ببوليفانت في لندن، أحاوِل العثور على معنًى جديد. ولولا أنني مُضطَر إلى قضاء أغلب أيامي ولياليَّ في معركةٍ ضاريةٍ مع الألمان الشديدي اليقظة، لأُصِبتُ بحُمى دماغية على الأغلب. حافَظ القتالُ على سلامة قُواي العقلية، بل أذهب إلى الاعتراف أنه شحذَها؛ لأنني في أثناء تلك الشهور كنتُ محظوظًا بالعثور على خيطٍ ما كان سيتوصَّل إليه بوليفانت وماكجليفراي وبلنكيرون مع تسخير كل نفوذهم في مكاتبهم في لندن.
سأسردُ الأحداثَ العديدةَ المرتبطةَ بمهمَّتي الخاصة حسب ترتيبها الزمني. الحادثة الأولى هي لقائي بجوردي هاميلتون. حدث ذلك بعد عودتي إلى اللواء مباشرة؛ حيث ذهبتُ لتفقُّد كتيبة البنادق الاسكتلندية. كان لواؤنا العتيق قد مرَّ بتجربةٍ قاسيةٍ في ٣١ يوليو، واضطُر للحصول على كثيرٍ من التعزيزات كي يظلَّ متماسكًا. كان أغلبُ أفراد كتيبة البنادق الاسكتلندية جُدُدًا؛ فقد تكوَّنَت من انضمام ما تبقَّى من أفراد كتيبتنا لما تبقَّى من كتيبةٍ في تشكيلٍ آخر، بالإضافة إلى ما يقرُب من اثنَي عشر ضابطًا جُلِبوا من وحدة التدريب في أرض الوطن.
تفحَّصتُ الجنودَ ووقعَت عيناي على وجهٍ مألوف. سألتُ عن اسمه، فحصل عليه العقيدُ من الرقيب الأول. عرفتُ أنه الجندي الأول جورج هاميلتون.
كنتُ بحاجةٍ إلى تعيين جنديِّ مرسالٍ جديد، فقرَّرتُ توظيف عدُوِّي القديم في الحال. ذاك المساء جاءني ليتسلَّم وظيفتَه في مقَر اللواء. وفيما كنتُ أنظر إليه بجسده المتين ذي الساقَين المُتقوستَين، وهو يقف في وضعية الانتباه مثل لافتةِ متجرِ تبغ، ووجهه القبيح المنحوت من خشب السنديان البُني، وفمه المُتجهم الصادق، وعينَيه المُحدِّقتَين في الفراغ، أدركتُ أنني عثَرتُ على رَجُلي المنشود.
قلتُ: «لقد تقابلنا من قبلُ يا هاميلتون.»
أجاب بنبرةٍ مُتحيرة: «سيدي؟»
قلتُ: «انظر إليَّ يا رجل وأخبِرني إن كنتَ لا تعرفني.»
حرَّك عينَيه حركةً خفيفة، وتفقَّدني باحترام.
قال: «لا أعرفك يا سيدي.»
قلتُ: «حسنًا، سأُنعِش ذاكرتك. أتذكُر تلك القاعة في شارع نيوميلنز واللقاء الذي أُجري هناك؟ خُضتَ شجارًا مع رجلٍ خارجها، وخرَرتَ صريعًا على الأرض.»
لم يُجب، لكن تغيَّر لونُ وجهه.
أكملتُ: «وبعد تلك الحادثة بأسبوعَين، التقيت الرجل نفسه في حانة في مويرتاون، وطاردته مطاردةً عنيفة.»
لاحظتُه يُطبِق شفتَيه بشدة؛ إذ لا بد أن العقوبات التي فرضَتها اللوائح الملكية على جريمة التعرُّض لضابط بالضرب لاحت أمام وجهه. لكنه لم يتزَحزَح من مكانه.
قلتُ: «انظر إلى عينيَّ مباشرةً يا رجل. هل تذكُرني الآن؟»
فعَل ما أمرتُه به.
أجاب: «أذكُركَ يا سيدي.»
سألتُ: «ألديك ما تضيفه؟»
ابتلع ريقَه. وقال: «لم أعلم أنني أضربُ ضابطًا يا سيدي.»
قلتُ: «لم تعرف بالطبع. لم تخطئ في تصرُّفك، ولو وضعَت الحرب أوزارها، وصرنا رجالًا أحرارًا، لتركتُكَ تأخُذ بثأرك على الفور. لكن لا مفَر من تأجيل ذلك لوقتٍ لاحق. عندما رأيتَني آخر مرة، كنتُ أخدمُ دولتي، لكنك لم تعلم ذلك. والآن سنخدمُ الدولة معًا، ولا بد أن تأخذ بثأرك من الألمان. سأجعلُك خادمي؛ إذ بيننا رابطةٌ قوية. ما رأيك؟»
نظر إلى عينيَّ مباشرةً هذه المرة. وقيَّمَتْني عيناه المضطربتان، فنِلتُ استحسانه. قال: «أنا فخورٌ بخدمتك يا سيدي. ثم انبعثَت قهقهةٌ مكبوتةٌ من صدره ناسيًّا قواعد الانضباط. واصَل: «يا لك من شابٍّ عظيم!» ثم استعاد رصانتَه على الفور، وأدَّى التحية العسكرية، وانصرف بخطواتٍ ثابتة.
وقعَت الحادثةُ الثانيةُ في أثناء استراحتنا القصيرة بعد معركة غابة بوليجون، عندما سافرتُ بمحاذاة خط الجبهة على ظهر خيلٍ، لأزورَ أحد أصدقائي في كتيبة المدفعية الثقيلة. وبينما كنتُ عائدًا مساءً تحت الأمطار الخفيفة، تُصلصِل حوافرُ خيلي في الطريق المعبَّد بين أشجار الحور الحزينة، التقيتُ برفقةٍ من العمال يُعالجون التخريبَ الذي أحدثَتْه قنابل الألمان ذلك الصباح. لم أكن متأكدًا من الطريق، فسألتُ أحد العمال. اعتدَل في وقفته، وحيَّاني، ورأيتُ من تحت القُبعة البالية ملامحَ الرجل الذي كان معي في ذلك التجويف في تلال كويلن.
تبادلتُ بضع كلماتٍ مع الرقيب المسئول، الذي أذن له بالمغادرة، فسار معي لمسافةٍ قصيرة.
سألتُ: «ويك، أيها الاسكتلندي العظيم، ما الذي أحضَركَ إلى هُنا بحق السماء؟»
أجاب: «الشيء نفسه الذي أحضَرك. هذه الحربُ الكريهة.»
كنتُ قد نزلتُ عن حصاني وبدأتُ السير بجواره، ولاحظتُ أن وجهَه النحيل قد ذهب عنه شحوبُه وعينَيه أقلُّ حُمرةً مما كانتا عليه في السابق.
حِرتُ فيما أقولُه، فعلَّقت: «يبدو أن الحرب جعلَتك أحسن حالًا.» غشِيَتني موجةٌ من الخجل على حين غرة. كنت أعلم أن ويك قد خاضَ صراعاتٍ نفسيةً عنيفة بلا شك قبل أن يتخذ هذا القرار. أدرك ويك ما كان يدور بخلَدي، فضحك بطريقته الساخرة اللاذعة.
قال: «لا تغتَر بنفسك لأنك أقنعتَني بتغيير موقفي. لا تزال أفكاري كما هي. لكني توصَّلتُ في النهاية أنه إذا كان القدَر قد جعلني موظفًا حكوميًّا، فلا مانع من تأدية واجبي في مكانٍ أقل راحةً من مقعد في وزارة الداخلية … كلا، لم تكن مسألةَ تغيير مبادئ. فالأعمال كلها على القَدْر نفسه من القيمة، كما أنني ماهرٌ في الأعمال الإدارية أكثر من أعمال الحفر. كان الأمر معي عبارةً عن انغماسٍ في الملذَّات؛ أردتُ أن أستنشِق هواءً منعشًا وأمارس نشاطًا بدنيًّا.»
نظرتُ إليه وإذا هو مُغطًّى بالوحل إلى خصره، ويداه مليئتان بالقُرَح والجروح نتيجة العمل اليدوي الذي لا تألفانه. أدركتُ قَدْر زملائه عنده، وكيف سيتفهَّم تعنيفَ ضباطِ الصف له.
قلتُ: «يا لك من أحمقَ فاشل. لماذا لم تذهب إلى هيئة تدريب الضباط وخرجتَ برُتبة ضابطٍ مُكلَّف؟ من السهل جدًّا الحصول على هذه الرتبة.»
قال بمرارة: «أنتَ أخطأتَ في فهم موقفي. أنا لم أقتنع بعدالة الحرب فجأة. لا أزال أقف في المكان نفسه الذي وقفتُ فيه دائمًا. لستُ جنديًّا، وأردتُ تغيير العمل المدني … لا، لم تُرسلني محكمةٌ غبية إلى هُنا. أتيت بإرادتي الحرة، وأستمتع بوقتي غاية الاستمتاع.»
قلتُ: «هذه مهنةٌ قاسيةٌ لرجل مثلك.»
قال: «ليست في قسوة ما يتعرَّض له الزملاء في الخنادق. شاهدتُ كتيبةً عائدةً من الخنادق اليوم، وبدا الجُند مثل أشباحٍ قضت سنواتٍ من أعمارها في قبورٍ موحِلة. كانت وجوهُهم شاحبة، وأعينُهم زائغة، وأقدامُهم ثقيلة في حركتها. مهنتي يسيرة. ويزداد حُبي لها عندما يسوء الجو. إنها تبعث فيَّ شعورًا كاذبًا أنني أؤدي واجبي.»
أشرتُ برأسي إلى حفرةِ قذيفةٍ حديثة. وسألتُ: «هل يحدُث هذا كثيرًا؟»
أجاب: «من وقتٍ لآخر. تعرَّضنا لقصفٍ شديدٍ هذا الصباح. لا يُمكنني القول إنني استمتعتُ به وقتَ حدوثه، لكني أحب أن أتأمَّل فيه بعد انقضائه. أرى في ذلك مُسكِّنًا أخلاقيًّا من نوعٍ ما.»
سألتُ: «أتساءل كيف يراك بقية زملائك؟»
أجاب: «ليس لديهم انطباعٌ بعينه. لا أُحب الاختلاط بالآخرين. إنهم يرَونَني مزعجًا، وهذه هي حقيقتي. فأنا لا يروقني الحديثُ عن الخمر والنساء، أو الاستماع إلى الجراموفون، أو التذمُّر بشأن وجبتي الأخيرة. لكني في غاية الرضا. في بعض الأحيان، أجد بقعةً هادئةً في خيمة جمعية الشبان المسيحيين، فأجلس ومعي بضعةُ كتب. ابتلائي الرئيسي هو قسيس الكتيبة. كان يدرُس في جامعة كيبل عندما كنتُ أدرُس هناك، وكما يصف أحد زملائي، فإنه يريد أن يكون «ذا فائدةٍ كبيرة» … ماذا تفعل يا هاناي؟ أرى أنك جنرالٌ نوعًا ما. يُوجَد الكثير من الجنرالات في هذه الأنحاء.»
قلتُ: «أنا جنرالٌ من نوعٍ ما. إن حياة المرابطين على الثغور ليست بالهيِّنة، لكن لا أعتقدُ أنها شاقةٌ بقَدْر ما هي الحياة التي تحياها الآن بالنسبة لك. أتدري، يا ويك، ليتك كنتَ في لوائي. أنتَ جنديٌّ مقدامٌ جريء سواء تلقَّيتَ التدريباتِ اللازمةَ أم لا.»
كانت ضحكتُه أقلَّ حدةً من ضحكته المألوفة. قال: «كدتَ تقنعني أن أصير جنديًّا محاربًا. لا، شكرًا لك. لا أتحلى بالشجاعة المطلوبة، بالإضافة إلى أن مبادئي الراسخة تتعارض مع ذلك. على أي حال، أُحب أن أكون قريبًا منك. أنتَ رجلٌ صالح، وتشرَّفتُ بالمساعدة في تثقيفك … يجب أن أعود وإلا ظنَّ الرقيب أنني فرَرتُ من الخدمة.»
تصافحنا، وكان آخر ما رأيتُه منه وهو يُلقي التحية برصانة، في الغسَق المُمطر.
كانت الحادثة الثالثة تافهةً جدًّا، لكن كانت نتائجُها في غاية الأهمية. قبل أن أتولى زمام أمور الفرقة الجديدة أصبتُ بالملاريا لفترةٍ قصيرة. كنَّا نُقدِّم الدعم على الثغر، في خنادقَ غير مريحةٍ تمامًا خلف قرية ويلتشا، وقضيتُ ثلاثة أيام مُستلقيًا على ظهري في أحد المخابئ. في الخارج، هبَّت عاصفةٌ مُمطرة، وكانت المياه تسيل من وقتٍ لآخر من فوق الدرَج عَبْر ستار الغاز لتسقرَّ في صورة بركٍ صغيرةٍ عند قاعدة الفِراش. لم يكن أفضلَ مكانٍ لأستردَّ فيه عافيتي، لكني قاومتُ بشدة، وبحلول اليوم الثالث استعدتُ القدرة على الجلوس وبدأتُ أشعر بالسأم.
قرأتُ جميعَ الصحفِ الإنجليزية التي كانت بحوزتي مرتَين، بالإضافة إلى كَومةٍ كبيرةٍ من الجرائد الألمانية التي كنتُ أتلقَّاها من صديقٍ يعمل في جهاز مخابرات القيادة العامة؛ إذ كان على علمٍ بمحبتي لمتابعة الأخبار الألمانية. فيما أنا أتناوَب بين النوم والصحو، كعادة من يتعافى من الحُمَّى، جذب انتباهي إعلانٌ كبيرٌ في الصحافة البريطانية. كان إعلانًا لما أُطلق عليه «نظام جوسيتير للتنفُّس العميق»، وهو بحسب زعم صاحب الإعلان علاجٌ لجميع الأمراض العقلية والأخلاقية والجسدية التي يمكن أن تُصيب المرء. أدلى السياسيون والجنرالات والأدميرالات والموسيقيون بشهاداتهم عن الحياة الجديدة التي منحَها لهم. أتذكَّر أنني تساءلتُ عما حصَل عليه هؤلاء الذين يتمتعون بالروح المرحة لقاء شهادتهم، وفكَّرتُ في أن أكتب بنفسي رسالةً ساخرةً للعجوز جوسيتير.
بعد ذلك التقطتُ الصحف الألمانية، ووقعَت عيناي فجأةً على إعلانٍ من النوع نفسه في صحيفة «فرنكفورتر». لم يكن اسم صاحبه جوسيتير هذه المرة، بل وايزمان، لكن كانت لُعبتُه متطابقة، وهي «التنفُّس العميق». كانت الصياغة الألمانية تختلف عن البريطانية؛ إذ كانت تدور حول إلهة الصحة، وحوريات الجبال، واحتوَت اقتباسَين عن الشاعر والمؤلف الألماني شيلر. لكن كان المبدأ نفسه لم يختلف.
دفعَني ذلك إلى التأمُّل في الأمر، وتصفَّحتُ مجموعة الصحف كلها بحرص. وجدتُ الإعلان في جريدة «فرنكفورتر» وفي جريدتَين أخريَين مغمورتَين، وهما «فولكسشتيما» و«فولكستسايتونج». كما عثَرتُ عليه في «دير جروس كريج»، وهي الصحيفة المصوَّرة الرسمية الدعائية في ألمانيا. تشابَه الإعلانُ في جميعها عدا صحيفة واحدة، كان الاختلاف فيه صريحًا؛ إذ احتوى على أربعِ جُمَلٍ مُستخدمةٍ في الإعلان الإنجليزي.
بدا لي ذلك مريبًا، فشرعتُ في كتابة خطاب إلى ماكجليفراي، مشيرًا إلى ذلك الأمر الذي بدا لي تداولًا لمعلوماتٍ مع العدو، ونصحتُه بتتبُّع مصادر أموال السيد جوسيتير. فكَّرتُ أنه قد يجد أنه مموَّلٌ من نقابةٍ ألمانيةٍ ما. ثم ما لبث أن خطرَت لي فكرةٌ أخرى جعلَتْني أعيد كتابة خطابي.
تصفَّحتُ الجرائد مرةً أخرى. كانت الصحف البريطانية التي احتوت على الإعلان أبواقًا داعمة للحرب، راسخةً في موقفها، لا تشوبُها شائبة؛ إنها من النوع الذي لن تعترض أيُّ جهةٍ رقابيةٍ على تصديره خارج البلاد. كانت أمامي حزمةٌ صغيرةٌ من الصحف المناصرة للسلام، ولم تشتمل أيٌّ منها على الإعلان. قد يكون ذلك بسبب ضعف مبيعاتها وقد يكون لا. أما الصحف الألمانية فقد كانت راديكاليةً أو اشتراكية، على عكس الصحف البريطانية، باستثناء «دير جروس كريج». نحن الآن لدَينا صحافةٌ حرة، أما الصحافة الألمانية، بدقيق العبارة، فلا تتمتَّع بأي حرية. وكل الحماقات التي تنشُرها صحافتُها مُراقَبة بعناية. لذا فإن الألمان لا يعترضون على وصول جرائدهم المُبتذَلة إلى دول الأعداء. بل إنهم يريدون ذلك. إنهم يُحبون أن تُقتبس جرائدهم في الأعمدة البريطانية، تحت عنوان من قبيل «من منظور الألمان»، وكانوا يجعلون نصوصَ مقالاتهم تُظهِرهم في صورة الديمقراطيين الصالِحين.
انشغلتُ بالتفكير بهذا الموضوع حتى بدأَت تتشكل في عقلي استنتاجاتٌ محددة. بدا أن الجمل الأربع المتطابقة تُلمِّح إلى أن «التنفُّس العميق» شيءٌ له صلة بالألمان. نحن إزاء فرصة للتواصُل مع العدو بطريقةٍ تتحدى السادة اليقظين الذين يفحصون بريد الصحف. فما الذي قد يمنع السيد «س» في بريطانيا من كتابة إعلان يتضمَّن رسالةً مكتوبةً بشفرةٍ مُحكَمة، ومن وصول الجريدة التي تحتوي تلك الرسالة إلى ألمانيا، من خلال هولندا في غضون ثلاثة أيام؟ بعد ذلك يردُّ عليها السيد «ص» في جريدة «فرنكفورتر»، وبعد بضعة أيام، يقرأ رسالتَه المحرِّرون المحنَّكون وضباط المخابرات الثاقبو النظر والسيد «س» في لندن، لكن وحده السيد «س» من يفهَم مغزاها الحقيقي.
بدت فكرةً عبقرية، بل لن تَلفِتَ انتباه الأذكياء من شدة بساطتها، ولن تَرِد على خاطر الألمان في الأغلب. لو لم أكن في وسط معركة، لرغبتُ في محاولة فك الشفرة بنفسي. كتبتُ رسالةً طويلةً إلى ماكجليفراي، طرحتُ فيها ما توصَّلتُ إليه، ثم خلَدتُ إلى النوم. عندما استيقظت أحسستُ أن حُجتي واهية، ورغبتُ في التراجُع عن إرسال الخطاب، لكنه كان قد أُرسِل بالفعل مع مجموعة المؤن في الصباح الباكر.
بعد ذلك بدأَت الأحداث تتوالى بوتيرةٍ بطيئةٍ جدًّا. كانت الحادثة الأولى عندما ذهب هاميلتون إلى مدينة بولوني لجلب بعض المؤن الغذائية وعاد بأخبارٍ مثيرةٍ للدهشة، وهي رؤيته لجريسون. لم يكن قد سمع باسمه من قبلُ، لكنه وصفه وصفًا دقيقًا بأنه «ذلك الشيطان ذو الرأس الصغير الأحمر، يا سيدي، الذي ركَل إيكي بروكي في ركبته يوم تلك الواقعة في جلاسكو.» فتعَّرفتُ عليه من أوصافه.
خرج جريسون في نزهة بالعربة. كانت في رفقته مجموعةٌ من ممثلي حزب العمال، والتقَوا جميعًا بضابطَين أقلَّاهم في عربتهما الطويلة. أبلغَني هاميلتون بعدما استفسَر من أصدقائه أن أولئك الزوَّار يأتون أسبوعيًّا. رأيتُ ذلك إجراءً منطقيًّا جدًّا من جانب الحكومة، لكني شعَرتُ بالفضول حول كيفية اختيار جريسون. كنتُ قد تمنَّيتُ لو أن ماكجليفراي استخدم نفوذَه وقبض عليه في الأسابيع الماضية. ربما لم يمتلكوا أدلةً كافيةً لشنقِه، لكن أصابع الاتهام تُشير إليه بقوة؛ لذا كان من الأحرى اعتقاله.
بعد مرور أسبوع، اضطُررتُ إلى الذهاب إلى مقَر القيادة العامة، في شأنٍ يرتبط بفرقتي الجديدة. أذِن لي أصدقائي في جهاز المخابرات باستخدام خط الاتصال المباشر بلندن واتصلتُ بماكجليفراي. ولمدة عشرِ دقائقَ خُضنا محادثةً شائقة؛ إذ لم تصِلني أيُّ أخبارٍ من تلك المجموعة منذ رحيلي عن إنجلترا. سمعتُ أن اليهودي البرتغالي تمكَّن من الإفلات من قبضتهم؛ فعندما ذهبوا لإلقاء القبض عليه في مسقط رأسه كان قد اختفى. توصَّلوا إلى هويته الحقيقية، وتبيَّن أنه أستاذٌ جامعيٌّ ألمانيٌّ مُتخصص في اللغات الغيلية، وكان يتقلد كرسيًّا في جامعةٍ ويلزية؛ وأنه شخصٌ خطير؛ إذ كان مُتعصبًا عنيفًا، شديدَ التمسُّك بمبادئه. لم تكن لديهم أيُّ أدلةٍ تدين جريسون، لكنهم قرَّروا وضعَه تحت المراقبة المُشدَّدة. عندما استفسرتُ عن زيارته إلى فرنسا، أجاب ماكجليفراي أن هذا جزءٌ من خطَّتهم. سألتُه إذا كانت زيارتُه منحَتْهم أيَّ خيوط، لكن لم أتلقَّ جوابًا؛ إذ كان من الضروري قطعُ الاتصال على الفور للاتصال بوزارة الدفاع.
فتَّشتُ عن المسئول عن زيارات مُمثلي حزب العمال وصادقتُه. أخبرَني أن جريسون هو أكثر ضيفٍ شكور، خلوق، رزين. لقد ذرف الدموع عند حافة فيمي ريدج، وألقى خطابًا — مُعارضًا الأوامر بصورةٍ صريحة — أمام مجموعةٍ من الجنود التقى بهم في الطريق إلى آراس، أكَّد فيه على دعاء حزب العمال البريطاني للجيش وكدحهم لصناعة الأسلحة. لكنه في اليوم الأخير، نزل به مكروه؛ إذ اعتلَّت صحتُه بشدة في الطريق — فقد عانى من مرضٍ في الكُلى جعلَه لا يتحمَّل ارتجاج العربة — واضطُرت جماعته إلى تركه في قريةٍ ثم حملِه معها في طريق عودتها. وجدوا أن صحتَه قد تحسَّنَت كثيرًا لكن كان لا يزال واهنًا. استجوبتُ الضابط المسئول عن تلك الواقعة، وعلمتُ أن جريسون تُرك وحدَه في كوخ لأحد الفلاحين؛ إذ قال إنه بحاجةٍ إلى الاستلقاء فحسب. كان ذلك في قرية «أوكور سانت آن».
ظلَّ ذلك الاسم ملتصقًا بذاكرتي عدة أسابيع. كان له وقعٌ لطيف جذَّاب على الأذن، وتساءلتُ عما فعله جريسون في تلك الساعات. بحثتُ عن تلك البقعة في الخريطة، ووعدتُ نفسي بزيارتها في الاستراحة القادمة. ثم نسيتُ الاسم حتى ذُكر أمامي مرةً أخرى.
في الثالث والعشرين من شهر أكتوبر تعثَّر حظي، في أثناء تفقُّد خنادق خط الجبهة، وأُصبتُ بشظيةٍ صغيرةٍ من قذيفة في رأسي. كان الجو خانقًا ضبابيًّا، وكنتُ قد نزعتُ خُوذتي الفولاذية لأمسح جبيني، عندما حدث ذلك. خلَّفَت الشظية جرحًا طويلًا سطحيًّا في فروة الرأس، ليست به خطورة، لكنه تسبَّب في نزيفٍ شديد، ولأننا لم نكن نستعد لأي تحركٍ كبير، أرسلني المسئول الطبي إلى محطة الإخلاء لتلقِّي العناية اللازمة. قضيتُ ثلاثة أيام في ذلك المكان في صحةٍ وافرة، وحظيتُ بفرصة تفقُّد الأرجاء من حولي والتفكُّر فيما يحدث؛ لذا أتذكَّر ذلك الوقت بأنه استراحةٌ هادئةٌ غريبةٌ وسط جلبة الحرب اللعينة. لكني أتذكَّر كيف هبَّت رياحٌ شديدة، في ليلتي الأخيرة، رجَّت المصابيح وهزَّتها، وأحالت جدران الخيم الخضراء المائلة للرمادي إلى كومةٍ من الظلال المُتبقِّعة. أما الأرضيات المكسُوَّة بالقماش فكانت موحلةً من خُطى العامِلين، فيما يُدخِلون المُصابين القادمين في تقاطرٍ مُستمرٍّ من الجبهة. لم تكن هناك إصاباتٌ حرجةٌ في خيمتي حينئذٍ، باستثناء فتًى فقد نصفَ كتفِه بقذيفةٍ صغيرةِ العيار، وكان يستلقي تحت تأثير المُخدِّر في زاويةٍ بعيدة. كانت أغلب الحالات مصابةً بالإنفلونزا، والالتهاب الشُّعَبي الحاد، وحُمَّى الخنادق في انتظار نقلها إلى القاعدة أو هي تتماثل للشفاء وعلى وشك العودة إلى وحداتها العسكرية.
تناولَت مجموعتُنا الصغيرةُ طعام العَشاء المكوَّن من الفراخ المعلَّبة والفواكه المطهية على البخار والجبن التمويني، حول موقدٍ ينبعث منه الدخان، فيما شكَّل حاجزان مصنوعان من صناديق التعبئة بعضَ الحماية من تياراتٍ هوائية اجتاحت الخيمة مثل الزوابع القوية. كان هناك رجلٌ واحدٌ يقرأ كتابًا بعنوان «قصص مُرعبة يَرويها جامعُ تُحَف»، وتحوَّل الحديث إلى المواقف غير القابلة للتفسير التي يُقابلها المرء في حياته مرةً أو مرتَين. أسهمتُ بقصة عن رجالٍ ذهبوا للبحث عن كنز كروجر في بوشفيلد (السافانا المُشجَّرة في جنوب أفريقيا) وأرعَبهم ظبيٌ أفريقيٌّ أخضرُ اللون. إنها حكايةٌ مُثيرةٌ سأكتُب عنها في يومٍ من الأيام. وحكى رجلٌ طويلٌ من سكان المرتفعات الاسكتلندية — يلبس نعلَين في قدمَيه ويضعهما فوق الموقد، وتتكوَّن ملابسُه من تنورةٍ اسكتلنديةٍ ورداء الأطباء البريطانيين الرمادي الدفئ وأربعة جوارب — قصةً عن فوج المشاة الاسكتلندي في معركة إيبر الأولى، وعن ضابطٍ من المُنخفضات لا يعرف اللغة الغيلية لكنه فجأةً وجد نفسه يُشجِّع رجاله بالحكايات القديمة الساذجة لسكَّان المرتفعات. كان الرجل المسكين يُعاني من سُعالٍ شُعبيٍّ شديد، مما يُشير إلى أن دولتَه قد تستخدمُه في ميادين قتالٍ أكثر دفئًا من مقاطعة فلاندرز. بدا دارسًا من نوعٍ ما؛ إذ شرح مسألة فوج المشاة الاسكتلندي مُستخدمًا الكثير من المصطلحات الطويلة.
أتذكَّر كيف تشعَّبَت الأحاديثُ كما هو معهود في حالة الفراغ والتفكير بشأن المستقبل. لم أُعِرْهُم الكثير من الاهتمام؛ لأنني كنتُ أفكِّر طويلًا في تعديلٍ نَويتُ إجراءه على قيادات الكتائب تحت إمرتي، عندما قطع الحديثَ صوتٌ جديد. كان هذا صوتَ نقيبٍ كندي من مدينة وينيبيج، كان رجلًا كثير الصمت يُدخِّن تبغًا من نوعٍ قوي.
قال: «هناك الكثير من الأشباح في هذا البلد اللعين.»
وبدأ يحكي ما حلَّ به عندما نزلَت فرقتُه للاستراحة في سكن الجُند في المرة الأخيرة. كان قد عُيِّن ضابطَ ركنٍ للفرقة، واضطُر للإقامة مع قادتها في قلعةٍ فرنسيةٍ قديمة. أقاموا في جزءٍ صغيرٍ من القلعة، فيما كانت بقية الأجزاء مُغلقة، لكن كان من الصعب أن يجد المرء طريقه في الممرات، حتى إنه كان كثيرًا ما يتوه فيجد نفسه في تلك الأجزاء المُغلَقة من القصر. وفي ليلة من الليالي — وفقًا لحكايته — استيقظ من النوم من شدة العطش، ولأنه لا يريد الإصابة بالكوليرا من شُرب ماء الصنبور في غرفة نومه، اتجه صوب الغرفة التي تناولوا فيها الطعام سابقًا، على أمل أن يجد بعض الويسكي أو الصودا. لكنه لم يجد الغرفة على الرغم من معرفته الطريقَ المؤديَ إليها عن ظهر قلب. أقرَّ باحتمالية اتخاذه المنعطف الخطأ، لكنه كان يراها احتماليةً بعيدة. على أي حال، دخل ممرًّا لم يرَه من قبلُ، ولأنه لم يكن معه شمعة، حاول العودة من حيثُ أتى. ومرةً أخرى أخطأ في الطريق، وتلمَّس طريقه حتى رأى شعاعَ ضوءٍ خفيفًا، فكَّر أنه منبعِث من غرفة رئيس الأركان، وهو شخصُ صالح، تجمعه به صداقةٌ وطيدة. لذا دخل الغرفة، فوجد صالةً كبيرةً معتمة — فيها شخصان بينهما شمعةٌ مشتعلة — تفوح في جنباتها رائحةٌ كريهةٌ غريبة. تقدَّم خطوةً للأمام، فرأى أن هذَين الشخصَين لا وجه لهما. فارتعدَت أوصاله، وانطلقَت من حنجرته صرخةٌ مُدوية. ركض أحدهما ناحيته، وانطفأ المصباح، واختنق حلقُه بتلك الرائحة البغيضة فجأة. ولا يعرف ما حدث بعد ذلك حتى استيقظ في فراشه في صباح اليوم التالي بصُداعٍ حاد. قال إنه حصل على إذنٍ من الجنرال وتفقَّد جميع الأجزاء المغلقة من القلعة، لكنه لم يعثُر على الغرفة. كان الغبار الكثيف يُغَطِّي كل شيء، ولم يجد أي آثارٍ بشريةٍ حديثة.
هذه هي القصة كما حكاها بنبرته البطيئة. قال: «أرى أن ما حدث قصةٌ حقيقيةٌ عن الأشباح. لا تُصدِّقونني وتظنون أنني كنتُ ثملًا، أليس كذلك؟ لم أكن ثملًا. لم يُصنع بعدُ شرابٌ كحوليٌّ يُفقِدني الوعي لهذه الدرجة. لقد عثرتُ على شَقٍّ في الستار بيننا وبين العالم الآخر واسترقتُ النظر خلاله. ربما يحدُث هذا لكم يا شباب في يومٍ من الأيام.»
بدأ جنديُّ المُرتفعات يتجادل معه، ولم أعُد مهتمًّا بالمحادثة. لكنَّ عبارةً واحدةً بعينها جذبَت انتباهي. قال: «سأُخبرك باسم المكان اللعين، وعندما تذهبُ إلى هناك في المرة القادمة، تحقَّق من ذلك بنفسك. هذا المكان يُسمَّى قلعة أوكور سانت آن، وهي على بُعد حوالي سبعةِ كيلومتراتٍ من دوفركورت. لو كنتُ سأشتري عقارًا في تلك الدولة، أظن أنني سأتجنَّب هذا الموقع تمامًا.»
بعد ذلك، مررتُ بشهرٍ عصيبٍ بسبب ختام معركة إيبر الثالثة والتحرك السريع ناحية مدينة كامبريه. بحلول منتصف شهر ديسمبر، استقرَّت أوضاع فرقتنا نسبيًّا، لكن الجبهة التي نزلنا بها لم تكن من اختيارنا، وكان لازمًا علينا مراقبةُ تحركات الألمان بحرص. كانت مهمةً مرهقة، ولم يكن لديَّ مُتسع من الوقت للتفكير في أي شيءٍ ما عدا المعلومات الاستخباراتية ذات الشأن العسكري مثل جمع معلومات عن الوحدات العسكرية الألمانية من استجواب الأسرى، وتنظيم غاراتٍ صغيرة النطاق، وإشغال الفيلق الجوي الملكي. كنتُ مولَعًا بالأمر الأخير، وقمتُ بالعديد من الرحلات فوق خطوط العدو بصحبة آرشي رويلانس الذي تحقَّق له ما أراد، وحملَه حظُّه السعيد إلى السِّرب العسكري المُتمركز خلف فرقتي. لا أتحدَّث كثيرًا في هذا الشأن؛ لأن القيادة العامة لم تكن تُشجِّع جنرالاتِ الفرق على ممارسة مثل هذه الطرائق، على الرغم من أن قائدًا عسكريًّا ذائع الصيت اتخذَها هوايةً له. في إحدى هذه الرحلات، وقعَت حادثةٌ أنهت فترة الانتظار، وأعادتني إلى المهمة الكبرى.
ذات يومٍ مملٍّ في شهر ديسمبر، بعد الغَداء، انطلقتُ وآرشي في رحلةٍ استطلاعية. تعرفون كيف أن الضباب في بيكاردي ينبعث فجأةً من الأرض ويلفُّ المنحدرات كالوشاح. كان هذا ما حدث تلك المرة. كنا قد عبَرنا الجبهة، وحلَّقنا على ارتفاعٍ عالٍ، وتلقَّينا التحيةَ المعهودةَ من مضادات الطائرات الألمانية. بعد مِيلٍ أو مِيلَين، بدا كأن الأرض تصعد إلينا دون أن ننزل إليها، وسرعان ما وجدنا أنفسنا وسط ضبابٍ بارد. غُصنا في الضباب اللعين لآلاف الأقدام، لكنه ما برح يزداد كثافة، حتى لم نستطع رؤية مَعْلم من أي نوع حولنا. فكَّرتُ لو أننا واصلنا على هذه النحو، فسنرتطم بشجرة أو برج كنيسةٍ ونصير هدفًا سهلًا للعدو.
لا بد أن الفكرة نفسَها خطرت لآرشي؛ لأنه ارتفع بالطائرة مرةً أخرى. دخلنا في منطقةٍ شديدة البرودة، لكن لم يصفُ الجوُّ من الضباب على الإطلاق. وعليه، قرَّر آرشي العودة، وطلب مني أن أُحدد المسار على الخريطة وفقًا للبوصلة. لم تكن مهمةً سهلةً كما بدت، لكن كانت لديَّ فكرةٌ تقريبيةٌ حول السرعة التي حلَّقَت بها الطائرة منذ عبورنا الجبهة، كما كنتُ أعلم المسار الأصلي، فبذلتُ أفضلَ ما بوسعي بهذه المعلومات. واصلنا التحليق قليلًا، ثم بدأ الشك يتسلل داخلي. وشاركَني آرشي الشعور نفسه. حلقنا على ارتفاعٍ منخفض، لكننا لم نسمع تلك الجلبة التي دائمًا ما تُسمَع على بُعد ميل على جانبَي الجبهة. كانت الأجواء غريبةً وهادئةً تمامًا إلى درجة أنني وآرشي كنا نستطيع التحدُّث عَبْر أنبوب التخاطب.
صاح: «فقدنا مسار هذه المعركة اللعينة.»
قلتُ: «أظن أن بوصلتك القديمة التالفة ضلَّلَتْنا.»
قررنا أنه لا فائدة من تغيير اتجاهنا، لذا واصلنا التقدم في مسارنا. شعَرتُ بتوتُّرٍ بالِغ، على الأرجح بسبب الهدوء السائد. فهذا ليس مألوفًا بالمرة وسط ميدان القتال … تفقَّدتُ البوصلة بحرص ورأيتُ أنها معطَّلة حقًّا. لا بد أن آرشي أتلفَها في رحلةٍ سابقةٍ ونسي تغييرها.
أشرتُ إلى هذه الحقيقة، فارتسمَت ملامحُ الرعب على وجهه.
قال بصوتٍ مبحوحٍ من البرد الشديد: «يا إلهي! إما أننا في أطراف مدينة كاليه أو بالقُرب من باريس أو أوغلنا خلف خطوط العدو. ماذا نفعل بحقِّ الجحيم؟»
لزيادة الطين بِلَّة، عطِبَ محرِّك الطائرة. تكرَّرَت حادثة مروج يوركشاير نفسها، وكأن تلك من سمات طائرات «شارك جلاداس». لكن أتت النهايةُ بسرعةٍ هذه المرة. هَوَينا بسرعةٍ بالغة، ولاحظتُ من تشبُّث آرشي بمقبض التحكُّم أنه سيُواجه مشقةً كبيرةً لإنقاذ رُوحَينا. وقد فعل، لكننا كنا قابَ قوسَين أو أدنى من الموت؛ إذ هوَينا إلى حافة حقلٍ محروثٍ بعدما ارتطمنا عدة مراتٍ ما أدى إلى اصطكاكِ أسناني بقوة في فكِّي. كان الضباب لا يزال كثيفًا محملًا بالرذاذ، فزحَفنا خارج الطائرة القديمة، وركَضْنا باحثَين عن مخبأ مثل أرنبَين مذعورَين.
احتمَيْنا بمنطقةٍ شجريةٍ صغيرةٍ محجوبةٍ عن الرياح.
قال آرشي بجدية: «أرى أننا في أطراف بلدة كاتو الفرنسية. تُرك تيم ويلبراهام هُنا في أثناء الانسحاب، واستغرق تسعة شهور للوصول إلى الجبهة الألمانية. وهذا احتمالٌ مريعٌ يا سيدي.»
خرجتُ من مخبئي لاستطلاع المكان. وجدتُ طريقًا سريعًا في الجانب الآخر من الغابة، وكان الضباب يحجُب كل الأصوات، ما جعل من المُستحيل الانتباه لوجود المارة حتى رؤية وجوهم … وكان أول مَن رأيتُه جعلَني أنبطح أرضًا في المخبأ … لأنه كان جنديًّا ألمانيًّا، يرتدي زيًّا عسكريًّا رماديًّا، وطاقية، وشريطةً حمراءَ وغيرها من علامات الزي الألماني، كما يحمل مِعولًا صغيرًا على كتفه.
بعد أن فكَّرتُ في الأمر مرةً ثانية، أدركتُ أن ما رأيتُه ليس دليلًا قاطعًا. فقد يكون الرجل أحد أسرانا. لكن ليس هناك مجالٌ للمخاطرة. عُدت إلى آرشي، ثم عبَرْنا معًا الحقلَ المحروث، وبلغنا الطريقَ القابع خلفه. هناك رأينا عربةَ مزارع تركبها امرأةٌ وطفل. بدَوَا فرنسيَّين، لكن كان على وجههما مَسْحةُ الحزن المعهودة في سكان المناطق الريفية الواقعة تحت احتلال العدو.
ثم وصلنا إلى سورِ حديقةِ منزلٍ كبير، ورأينا كوخًا غيرَ واضح المعالم. هُنا، عاجلًا أو آجلًا، سنعلَم موقعنا على وجه اليقين؛ لذا تكوَّمنا وارتجفنا بين أشجار الحور المحاذية للطريق. لا يبدو أن أحدًا خارج بيته في فترة ما بعد الظهيرة ذلك اليوم. ظلَّت المنطقة ساكنةً كالقبر لمدة رُبع ساعة. ثم سمعنا صوتَ صفيرٍ وخطواتٍ مكتومة.
قال آرشي مبتهجًا: «هذا رجلٌ إنجليزي. لا يُحدِث ألمانيٌّ مثل هذه الضوضاء القبيحة.»
كان مُحقًّا في كلامه. فقد انبثق من وسط الضباب جنديٌّ من فيلق خدمة الجيش الملكي، كانت على مؤخرة رأسه قبعةٌ مائلة، وكان يمشي مشية رجلٍ حُر واضعًا يدَيه في جيبَيه. ما رأيتُ من قبلُ منظرًا يسُر العين أكثر من منظر تاجر المُربَّى ذاك.
وقفنا وألقينا التحية على الرجل. صحتُ سائلًا: «ما هذا المكان؟»
رفع يدًا متسخةً إلى ناصيته.
قال: «أوكور سانت آن يا سيدي. عذرًا، يا سيدي، لكن هل أنت مصاب؟»
بعد عشرِ دقائق، كنتُ أتناول الشاي في غرفة طعام ورشةٍ لصيانة المركبات الآلية تعُمها الفوضى، فيما ذهب آرشي إلى مركز الاتصالات لطلب سيارة وإعطاء تعليماته بشأن طائرته الحبيبة. كان الظلام قد حلَّ على المكان تقريبًا، لكني تجرَّعتُ الشاي بسرعة، وخرجتُ مسرعًا إلى الغسَق الضبابي. إذ أردتُ تفقُّد القلعة.
وجدتُ مدخلًا كبيرًا مُزينًا بأعمدةٍ حجريةٍ شاهقة الارتفاع، لكن كانت البوابات الحديدية مغلقة، وبدت كأنها لم تُفتح منذ أمدٍ بعيد. ولأنني على درايةٍ بمثل هذه الأماكن، بحثتُ عن ممَرٍّ جانبي، وعثَرتُ على طريقٍ موحلٍ يُفضي إلى الجزء الخلفي للقلعة. كان من الواضح أن المدخل الأمامي يؤدي إلى ما يُشبه الحديقة، وأما الجزء الخلفي فاستقرَّت فيه مجموعةٌ من المباني الفرعية، وخندقٌ مائي، بدا شديدَ العُمق والسواد في غسَق تلك الليلة الشتوية. كما كان هناك جسرٌ حجريٌّ يعبُر الخندق المائي وينتهي عند بابٍ.
كان واضحًا أن القلعة غيرُ مُستخدَمة في إيواء الجند. فلم تكن هناك أي علامةٍ على وجود جنودٍ بريطانيين؛ أو وجود بشرٍ على الإطلاق. تسلَّلتُ عَبْر الضباب بهدوءٍ شديدٍ كأنني أسير على قماشٍ مخملي، حتى إنني لم أسمع وَقْع خطواتي على الأرض. تذكَّرتُ قصة الأشباح التي حكاها الكندي وتوصَّلتُ إلى أنني سأتخيل مثل هذه الأشياء لو عشتُ في هذه القلعة.
كان الباب موصدًا بمزلاجٍ وقفلٍ. فالتففتُ حول الخندق المائي، على أمَل أن أصل إلى مقدمة القلعة، التي على الأرجح لها تصميمٌ عصري ومدخلٌ حضاري. لا بد أن شخصًا موجودٌ في القصر بداخلها؛ إذ انبعث دخانٌ من إحدى مداخنه. وسرعان ما انحسر الخندق، ليفسح المجال لطريقٍ مُعبَّدٍ حجَري، لكن سد طريقي جدارٌ يتقاطع مع القصر بزاويةٍ قائمة. خطر لي لوهلةٍ أن أعود أدراجي وأطرُق الباب، لكن عدلتُ عن ذلك لأن جنرالات الفرق لا يزورون القلاع المهجورة بلا حُجةٍ معقولة. سأبدو أحمقَ بلا شك في نظر البوَّاب العجوز. كان ضوء النهار قد خبا تقريبًا، ولم أرغب في أن أتلمَّس طريقي في أرجاء القصر على ضوء شمعة.
لكني تلهفتُ لرؤية ما خلف الجدار؛ تملَّكَتني إحدى تلك النزوات التي تتغلب على الرجال المتَّصفين برجاحة العقل. دحرجتُ برميلَ ماء بالٍ إلى أسفل الجدار، وحاولتُ الوقوف على أضلاعه المتعفِّنة في توازنٍ حَذِر. مكَّنَني ذلك من التشبُّث بقمة الجدار المستوية القرميدية، فرفعتُ جسدي للأعلى.
نظرتُ إلى فناءٍ صغيرٍ له جدارٌ آخرُ يحجُب الحديقة تمامًا. على يمين الفِناء قبَع القصر، وعلى يساره المزيد من الأبنية الخارجية؛ لم تَزِد مساحةُ المكان عن عشرين ياردةً في كلا الجانبَين. كنتُ أوشك أن أعود من حيث أتيت — إذ كان الجو باردًا على نحوٍ غيرِ معهودٍ في مكمني المرتفع على الرغم من معطف الفِراء الذي كنتُ أرتديه — عندما سمعتُ صوت دورانِ مفتاحٍ في قفل باب جدار القلعة، أسفلي مباشرة.
سطع ضوءٌ باهتٌ لمصباحٍ وسط الظلام الضبابي. لاحظتُ أن حامل المصباح امرأةٌ عجوزٌ حدباءُ الظهر مثل غالبية فلاحي فرنسا. كانت المرأة تُمسِك حقيبةً جلديةً في يدها، وتتحرك بهدوءٍ شديد، فرجَّحتُ أنها ترتدي حذاءً مطاطيًّا. كان المصباح على ارتفاع رأسها نفسه، فأضاء صفحةَ وجهها. هالَني وجهُها من شدة قبحه؛ إذ كانت هناك ندبةٌ كبيرةٌ شوَّهَت الجبهة وشدَّت الحاجبَين إلى الأعلى، فبدا مثل قناع صيني شيطاني.
قطعَت المرأة الفِناء بخطواتٍ خفيفةٍ بطيئة، تحمل الحقيبة بحذَرٍ شديدٍ كأنها تحمل رضيعَها. في النهاية وقفَت عند باب أحد الأبنية الخارجية، وأنزلَت المصباح وحمولتَها الثقيلةَ على الأرض. ومن وِزرتها أخرجَت ما يُشبه قناع غاز، ووضعَتْه على رأسها. كما ارتدَت قفازَين واقيَين. بعد ذلك فتحت الباب، وتناولت المصباح، واختفَت بالداخل. سمعتُ المفتاح يدور في القفل خلفها.
سرت قُشَعريرة في جسدي وأنا رابضٌ على ذلك السور. فمنذ لحظةٍ رأيتُ لمحةً للشبح الذي تحدث عنه الكابتن الكندي. منظر هذه العجوز الشمطاء، التي تُشبه بغطاء رأسِها أفعى سامة، أصابني بالغثيان. فقفزتُ من فوق الجدار، وركضتُ — أجل، ركضتُ حتى بلغت الطريق السريع، ورأيتُ المصابيح الأمامية المبهجة لعربة نقل، وسمعتُ حديثَ الجندي البريطاني. أعادني ذلك إلى رشدي، وبعث فيَّ شعورًا بالحماقة.
في أثناء عودتي إلى الجبهة مع آرشي، شعَرتُ بالخزي من الجبن الذي انتابني. حدَّثتُ نفسي أنني ما رأيتُ إلا امرأةً قرويةً عجوزًا في طريقها إلى إطعام فراخها. أقنعتُ عقلي، لكن ما أفلحتُ في إقناع حَدْسي. ظل رُعبي اللامعقول من ذلك المكان يُلازمني، ولا سبيل لاستعادة احترامي لذاتي إلا بالعزم على العودة وتفتيش كل زاويةٍ من زواياه.