مغامرة قلعة بيكاردي
بحثتُ عن أوكور سانت آن على الخريطة، وكلما دقَّقتُ في موقعها، أثارت قلقي أكثر. كانت ملتقى الطرق الرئيسية المُفضية إلى جبهتنا في منطقة بيكاردي. لو نجح الألمان في اختراق دفاعاتنا، فستكون هي الهدف الأول للمشير هيندنبرج العجوز. فقواتُنا وقطاراتُ الشحن تمرُّ من تلك القرية الصغيرة العديمة الأهمية طيلةَ الوقت. ويتردَّد الجنرالات الرفيعو الشأن وضباط أركانهم على محيط القلعة بصفةٍ يومية. فهو محطةٌ مناسبةٌ للكتائب العائدة من أجل الراحة. وفي اعتقادي لو أراد أعداؤنا نقطةً محوريةً يوجِّهون فيها ضربةً لمعنويات الجيش البريطاني أو انضباطه أو سلامته، ما وجدوا ما هو أفضل من أوكور سانت آن. إنها المركز المثالي لممارسةِ أنشطةِ الجاسوسية. لكن عندما عبَّرتُ عن مخاوفي لأصدقائي في المخابرات بحذَر، لم يبدُوا قلقين بشأن هذه المنطقة.
منحَني أصدقائي تصريحًا بمخاطبة السلطات الفرنسية المحلية، وما إن خرجَت فرقتي من الجبهة، في نهاية شهر ديسمبر، حتى اتجهتُ لبلدة دوفركورت الريفية مباشرة. لحسن الحظ نزلَت الفرقة في مساكنَ عسكريةٍ بالجوار تقريبًا. أجريتُ لقاءً مع ضابط رفيع الشأن — ذي زيٍّ أسودَ وقفازَين أسْودَين من جلد الماعز — تلقَّاني ببشاشة ثم وضع محفوظاته وسجلاته في خدمتي. صرتُ أتحدث الفرنسية بطلاقةٍ نظرًا لمهارتي اللغوية الفطرية، لكني لم أفهم نصفَ كلامِ نائب حاكم المقاطعة الذي كان يتحدَّث بسرعة. في نهاية المطاف تركَني مع الأوراق وموظف، وشرعتُ في التنقيب في تاريخ القصر.
تعودُ القلعة إلى عائلة دي أوكور النبيلة منذ قبل معركة أجينكور بسنواتٍ طويلة، وتمثِّل العائلة الآن زوجةُ ماركيز، عجوزٌ تعيش في بلدة بياريتز. لم تسكن هذه المرأة في القلعة التي ظلَّت خاويةً على عُروشها حتى استأجرها رجلٌ أمريكيٌّ غنيٌّ ورمَّمها جزئيًّا منذ اثنتَي عشْرةَ سنة. لكنه سرعان ما ضجر منها — إذ تزوَّجَت ابنته بضابطٍ وغد من سلاح الفرسان الفرنسي، بينهما خلاف حسبما قال الموظف — ومنذ ذلك الوقت توالى العديد من المُستأجِرين على القلعة. تعجَّبتُ أن مثل هذه القلعة غير الجذابة عليها مثلُ هذا الإقبال من المستأجرين، لكن الموظَّف شرح لي أن السبب هو صيدُ طيور الحجل. فهي أفضلُ مكانٍ لصيد الحجل في فرنسا، وفي عام ١٩١٢ حُطِّمَت الأرقام القياسية في عدد الطيور المُصطادة.
كانت أمامي قائمةٌ بأسماء المستأجرين. وجدتُ أن أمريكيًّا آخر استأجر القلعة، ورجلًا إنجليزيًّا اسمه هالفورد، ومصرفيًّا يهوديًّا باريسيًّا، وأميرًا مصريًّا. لكن كانت خانة اسم المستأجر لعام ١٩١٣ خاوية، فسألتُ الموظف. أخبَرني أن صاحبَ مصنعِ صوفٍ من مدينة لِيل استأجرها في تلك الفترة، لكنه لم يصطَد طيور الحجل أبدًا، إنما كان يبيت في القلعة من حين لآخر. وقد استأجر القلعة لمدة خمس سنوات، ولا يزال يدفع إيجارها لزوجة الماركيز. استفسرتُ عن اسمه، لكنه كان قد نسيه. قال: «ستجده مُدرجًا في القائمة.»
قلتُ: «كلَّا، ليس مُدرجًا. لا بد أن شخصًا أسقَط اسمَه من القائمة. لا يُوجَد أي اسمٍ مسجَّل بعد سنة ١٩١٢.»
تفحَّص الموظف الصفحة في دهشة. قال: «لقد أسقطَه أحدهم سهوًا بلا ريب. لا بد أنه لويس الذي يخدم الآن في سلاح المدفعية في مقاطعة شامبانيا. لكنك ستجد اسم ذلك المستأجر في قائمة مسئول المؤن. إنه اسمٌ بدا لي فلمنكيًّا حسبما أذكر.»
خرج الموظف بخطًى متثاقلة، وعاد بعد خمس دقائق.
قال: «بوميرتس؛ اسمه جاك بوميرتس. كان شابًّا غير متزوج، لكنه ثري، ثريٌّ أيما ثراء.»
أعطيت الموظف ٢٥ فرنكًا استحقَّها عن جدارة. بعد ذلك عدتُ إلى الفرقة في ذهول. لقد ساقني قدَرٌ مدهش، بطرقٍ عجيبةٍ إلى تلك الزاوية المعزولة من العالم. كانت الحادثة الأولى هي رؤية هاميلتون لجريسون، والحادثة الثانية الليلة التي قضيتُها في محطة الإخلاء، والحادثة الثالثة ضياع طائرة آرشي في الطريق وسط الضباب. كما كانت لديَّ ثلاثة أسبابٍ تدعوني للشك؛ مرض جريسون المفاجئ، والشبَح الذي رآه الكندي، والعجوز البغيضة التي رأيتُها في الظلام. والآن صار لديَّ تلك الحقيقة التي لا ريب فيها. استأجر القلعة رجلٌ يُدعى بوميرتس، وهو أحد الاسمَين اللذَين همس بهما الغريب القادم من البحر في ذلك الفلق المنعزل في كويلن.
أي رجلٍ عاقلٍ كان سيتَّجه إلى مسئولي مكافحة التجسُّس مباشرة ويُخبرهم بما توصَّل إليه. لكن لم أستطع فعل ذلك؛ شعَرتُ أن هذا اكتشافي الخاص، وعزمتُ على التحقيق فيه بنفسي. كنتُ أنفق كل دقيقةٍ من وقت فراغي في التفكير في هذه المسألة. وذات صباحٍ قارسِ البرودة، حُمتُ حول القلعة على ظهر فرس، وتفقَّدتُ جميع مداخلها. كان المدخل الرئيسي هو الساحة الضخمة وراء البوابات المقفَلة. كان ذلك المدخل يؤدي إلى واجهة مبنى القصر مباشرةً حيث تمتد شرفتُه، أو بالأحرى إلى جانبه الخلفي إذ كان الباب الرئيسي للقصر في الجانب الآخر. على أي حال كان الممر يُفضي إلى حافة الساحة ثم يتفرع إلى فرعَين؛ أحدهما يؤدي إلى الإسطبلات مارًّا بالمباني الخارجية حيث رأيتُ العجوز، والآخر يلتفُّ حول القصر في محاذاة للخندق المائي ثم يلتحم مع الطريق الخلفي قبل الجسر. لو أنني اتجهتُ يمينًا لا يسارًا، أول مساءٍ قدمتُ فيه بصحبة آرشي، لاستطعت الدورانَ حول القصر دون أي عوائق.
بدا القصر في ضوء الصباح الصافي عاديًّا. كان بعضه قديمًا قِدَم نوحٍ، وكان أغلبه حديثًا ضعيفَ البنية، تنقُصه الأبهة المعمارية، عبارة عن قصرِ فرنسيةٍ سطحيةٍ تُولي اهتمامًا بالغًا للواجهة دون أي عنايةٍ بالتصميم الداخلي، تمُرُّ خلاله التياراتُ الهوائية ويمتلئ بالمداخن المُسودَّة من الدخان. كان بوسعي التسلل إلى الداخل ونهبه، لكني كنتُ أعلم أنني لن أجد شيئًا فيه. شعَرتُ أنه لن يُصبح مثيرًا للاهتمام إلا عندما يحلُّ المساء، وأني لا بد من أن أزوره في الليل مثل نيقوديموس. كما أن لديَّ حسابًا شخصيًّا مع ضميري أريد تسويته. لقد ارتعبتُ من المكان في الغسَق المتلحف بالضباب، وضميري لن يدع تلك المسألة تمُر مرور الكرام. فشجاعة المرء مثل حصانٍ يأبى اجتياز حاجز؛ لا بدَّ أن يُمسِك صاحبه بزمامه ويقوده إلى الحاجز مرةً أخرى. وإن لم يفعل، فسيهاب الحواجز أكثر في المرة القادمة. لم تكن لديَّ شجاعةٌ كافية لمجابهة خوفي، ورغم خوفي من أشياءَ كثيرةٍ إلا أنني ما خشيتُ شيئًا كخشيتي الجبن.
لم أحظَ بتلك الفرصة حتى عشية عيد الميلاد. في اليوم السابق تساقط الجليد لوقتٍ قصير، لكن ذلك اليوم حلَّت موجة الصقيع، واصطبغ الأفق بلونٍ أخضر وقتَ المغيب، فيما غطَّت الأرضَ طبقةٌ رقيقةٌ متشققة مثل جلد سمك القرش. تناولتُ الغَداء في وقتٍ مبكر، واصطحبتُ جوردي هاميلتون، الذي أضاف إلى مهاراته الكثيرة قيادة السيارات. كان هو الرجل الوحيد في قوات الحملة البريطانية الذي لدَيه أدنى فكرة عن المهمة التي أتعهَّدها وكنتُ أعلم أنه كتومٌ مثل القبر. ارتديتُ أقدَمَ قبعاتي الواقية، وسروالًا مريحًا، وحذاءً طويلًا قويَّ النعل عادةً ما أنتعِله في المساء. استقرَّ في جيبي مشعلٌ كهربائيٌّ مفيد، له لمبةٌ صغيرةٌ تُضاء بمفتاح تشغيل، ويمكن تعليقه في حزامي. منح ذلك ذراعيَّ حرية التصرُّف في حالة الطوارئ. كما ثبتُّ مسدَّسي في الحزام.
في تلك الليلة كانت حركة السيارات قليلةً في قرية أوكور سانت آن. كانت هناك سياراتٌ قليلةٌ في الطريق، وبدا أن وحدة المركبات الآلية منشغلةٌ في مهمةٍ خاصة بها من الضجة الصادرة عنها. كانت الساعة حوالي التاسعة عندما انعطفنا في طريقٍ جانبي، ورأيتُ في مدخله رجلًا قويَّ البنية في بدلةٍ عسكريةٍ يحرس دراجتَين هوائيتَين. شيءٌ ما في إيماءة الرجل وهو يُلقي التحية العسكرية بدا مألوفًا، لكن لم يكن لديَّ متسعٌ من الوقت للتنقيب في الذكريات العابرة. أوقفتُ السيارة على مسافةٍ ليست ببعيدةٍ عن الجسر، وسلكتُ الطريق المؤدي إلى الساحة في مقدمة القصر.
ما إن التففتُ حول زاوية القصر ورأيتُ واجهتَه المرتفعةَ الشاحبةَ في ضوء القمر الأبيض، حتى اهتزَّت ثقتي. راعَني الغموض الذي يكتنف المكان. ففي تلك الأجواء الساكنة التي يكسوها الجليد، بدت القلعة شامخةً وغامضة، بصفوفِ نوافذِها المُحطمة، تُحيط كل واحدةٍ منها تلك الهالةُ المألوفةُ للمنازلِ الفارغة، التي توحي أنها تُخفي في جعبتها قصةً مثيرة. تمنَّيتُ لو أن معي بيتر؛ إذ إنه الرفيق المناسب لمثل هذه المغامرات. سمعتُ أنه نُقل إلى سويسرا، وتخيَّلتُه يسكن في قريةٍ جبليةٍ تغطي أراضيَها طبقاتٌ سميكةٌ من الثلج. كنتُ على استعدادٍ لدفع أي شيءٍ مقابل أن أحظى بصحبة بيتر وهو سليم الساق.
وطئتُ الشرفة وأرهفتُ السمع. لم يكن هناك أدنى صوت، ولا حتى قرقعة عجلات العربات المارَّة البعيدة. أطلَّت القلعة بمهابة مثل الضريح، وأدركتُ أن السطو على منزلٍ فارغٍ يتطلب شجاعةً كبيرة. أن تقتحم مسكنًا عامرًا بسكَّانه وتسرق أدواتِ المائدة في أثناء تناولهم الغداء لهو تحدٍّ مُثير، لكن السطو على مكان يسكُنه الفراغ يعني أن يُواجِه المرء مخاوفَ روحِه. والأسوأ من ذلك في حالتي هو أنه لا تُوجد غنائمُ أتطلَّع إليها. إنما ما أردتُ الدخول إلا لتهدئة ضميري فحسب.
لم أشُكَّ كثيرًا في أني سأجد منفذًا إلى الداخل؛ فثلاثُ سنواتٍ من الحرب وكثرةُ ترداد قيادة أركان الجيش المُهملين على منازل بيكاردي فكَّكَت مفصلاتِ أغلبها. فلن تعدم نافذةً لا تُقفل بمزلاج أو بابًا لا يُوصَد جيدًا. لكني جرَّبتُ فتحَ نوافذِ الشرفةِ واحدةً تلو الأخرى دون جدوى. كانت جميعُها مغلقة بمصارعَ سميكةٍ خضراء تمنع من دخول أشعة الشمس، وعندما كسرتُ مفصلاتِ أحدِها، وجدتُ لوحًا طويلًا يُثبِّته في مكانه في الطرف الآخر. كنتُ قد بدأتُ أُفكِّر في تسلُّق أنابيبِ الأمطار ومحاولةِ اختراق الطابق الثاني، عندما انفتحَ فجأة مصراعٌ كنتُ أُمسِكه بيدي. كان هذا المصراع قد تُرك غيرَ مغلَق بمزلاج، فدخلتُ الغرفة بعدما نفضتُ حذائي من الجليد العالِق به.
تبِعَني شعاعٌ خافتٌ من ضوء القمر إلى الداخل، ووجدتُ نفسي في غرفةِ استقبالٍ ضخمة، أرضيَّتُها خشبيةٌ مصقولة، وجنباتُها مفروشةٌ بأثاثٍ داكنٍ ملفوفٍ بشراشف. شغَّلتُ المصباح المعلَّق في حزامي، فكشفَت دائرةُ ضوئه الصغيرةُ عن مكانٍ مهجورٍ منذ سنوات. في أقصى الغُرفة لاحظتُ وجودَ بابٍ آخر، فسِرتُ إليه على أطرافِ قدمي، لكنَّ شيئًا ما على الأرضية الخشبية جذَب انتباهي. تبيَّن أنها كتلةٌ حديثةٌ من الجليد تبدو كأنما كانت عالقةً في كعبِ حذاء. لستُ أنا من جلَبَها إلى هذا المكان. لا بد أن زائرًا آخر مرَّ من هذا الطريق قبل وصولي بفترةٍ وجيزة.
فتحتُ باب الغرفة بهدوءٍ شديد، وانسلَلتُ للداخل. وجدتُ أمامي كومةً من الأثاث شكَّلَت ما يُشبه حاجزًا، فوقفتُ خلفها واسترقتُ السمع. كان يُوجَد شخصٌ آخرُ في الغرفة. سمعتُ صوتَ أنفاسِه وحركاتِه الهادئة؛ ذلك الرجل، أيًّا من كان، يقف في الطرفِ المقابلِ البعيد، لكن لم أستطع رؤيةَ ما يفعلُه على الرغم من ضوء القمر الخافت المتسرِّب من مصراعٍ مكسور. حينئذٍ بدأتُ أشعُر بالاستمتاع. فأنا أُدرِك وجودَه، في حين أنه غافلٌ عن وجودي، وتلك هي متعة المطاردة.
أدَّت حركةٌ غيرُ حذرةٍ من يدي إلى انبعاثِ صريرٍ من الحاجز. على الفور، تجمَّد الرجلُ في مكانه، وأطبقَ الصمتُ المُطلَق على المكان. حبستُ أنفاسي، ومرَّت بضعُ ثوانٍ قبل أن أسمع الأصواتَ الخافتةَ من جديد. نبَّأني حَدْسي، وإن عجزَت عيناي عن تأكيده، أن الرجلَ الواقفَ أمامي منهمكٌ في فعلِ شيءٍ ما، وأنه يستخدِم مشعلًا مظلَّلًا صغيرًا جدًّا. فقد رأيتُ وميضًا متحركًا شديدَ الخفوت على الجدار في الخلف، وإن كان من الوارد أن يكون مصدره ضوء القمر المتسلِّل من الشق.
كان يبدو أنه استعاد اطمئنانه؛ إذ ازدادت حركاتُه وضوحًا. سمعتُ صوتَ صريرٍ كأن طاولة حُرِّكَت من مكانها. ثم حلَّ الصمتُ مرةً أخرى، ولم يَخترِقه سوى صوتِ أنفاسِ الرجل. أمتاز بحاسةِ سمعٍ ممتازة، وتبيَّن مما سمعتُه أن الرجل يشعُر بالارتباك. فقد كانت أنفاسُه متسارعةً متوترة.
فجأةً تغيَّرَت النغمة واستحالت إلى ما يُشبه صفيرًا؛ ذلك الصوت الذي يُحدثه المرء بشفتَيه وأسنانه دون إصدارِ نغمةِ صفيرٍ حادة. جميعُنا يُحدِث هذا الصوت أثناء انهماكنا بعملٍ ما مثل الحلاقة أو كتابة الخطابات أو قراءة الجرائد. لكن لا أظن أن الرجل المنشود كان منشغلًا بعملٍ بعينِه. كان يُصفِّر لتهدئةِ نفسِه المضطربة.
ثم ميَّزتُ النغمة. إنها نغمةُ أغنية «كرز لذيذ».
في غضون لحظة، صِرتُ أشعر بالتوتُّر بعدما كنتُ في غاية الاطمئنان. كنتُ ألعبُ لعبةَ الاختباء مع المجهول، وانقلب السحرُ على الساحر. دقَّ قلبي بين أضلُعي مثل المطرقة. جرَرتُ قدمي من التوتُّر، فحلَّ الصمت على المكان من جديد.
قلتُ: «ماري» وانفجَرَت الكلمةُ وسط السكون مثل القنبلة. كرَّرتُ: «ماري! إنه أنا، ديك هاناي.»
لم أتلقَّ أيَّ إجابةٍ عدا صوت بكاءٍ وخطوة حذرة.
خطوتُ أربعَ خطواتٍ واسعةٍ في الظلام، ثم احتُضِنتُ بين ذراعَي الفتاة المرتجِفة …
في تلك الشهور الأخيرة، كثيرًا ما كنتُ أتصوَّر ذلك المشهد الذي سيُمثِّل ذروةَ حياتي. تخيَّلتُ أنه عندما ينتهي عملنا، وتُصبِح الحرب في طي النسيان، في مكانٍ ما — ربما في أحد مروج كوتسوولد أو إحدى غرف قصرٍ ريفيٍّ قديم — سأتجاذب أطراف الحديث مع ماري. بحلول ذلك الوقت ستكونُ توطَّدَت علاقتُنا وذهب عني الخجل. سأحاول أن أحدِّثها عن حُبي لها، لكني كلما فكَّرتُ فيما يجبُ أن أقوله يعتريني الخوف، لأنني أعرفُ أنني سأجعلُ من نفسي أضحوكة. فليس بوُسع مَن عاش مثلما عشتُ — في صحبةِ الرجالِ فحسب لمدة أربعين سنة — أن يتودَّد للنساء. أعلم أنني سأتلعثم وأتفوَّه بالحماقات، فكنتُ من يأسي أختلقُ مواقفَ مستحيلة، أصرِّح فيها بحُبي من خلال تضحياتٍ ميلودراميةٍ تُغنيني عن استخدام الكلمات.
لكن الأقدار الطيبة جنَّبَتني هذا العَناء. فَهِم أحدنا الآخر تمامًا، دون التلفُّظ بمقطعٍ لفظيٍّ واحد فيما عدا اسمَينا، نُطِقا في تلعثم وسط الظلام المخيف. لا بد أن الجنيَّات أدَّت عملَها في الخفاء، وبدأَت مشاعر كلٍّ منَّا تتحرك ناحيةَ الآخر، حتى نبت حبُّنا مثل بذرة في الظلام. مرَّرتُ يدي على شعرها، وهي بين ذراعيَّ، ثم همستُ بكلمات، بدت كأنها انبثقَت من ذكرى متوارثة. ليس هناك أدنى شك في أن لساني لم يتلفظ بها من قبلُ، كما لم تخطر ببالي … على الفور وضعَت ذراعَيها حول عنقي، والتصقَت بي بقوة، وانبعث منها ما يُشبه البكاء. كانت لا تزال ترتجف من الخوف.
قالت: «ديك»، وخرج اسمي من بين شفتَيها لحنًا عذبًا لم أسمع مثلَه على الإطلاق. أضافت: «أهذا أنتَ يا ديك؟ لستُ أحلُم، أليس كذلك؟»
أجبتُ: «إنه أنا، بالتأكيد، عزيزتي ماري. بعد أن وجدتُك، لن أُفلتَكِ أبدًا. لكن يا فتاتي العزيزة، كيف جئتِ إلى هنا بحق السماء؟»
تراجعَت للوراء وسلَّطَت مشعلَها الكهربائي لتفحص ملابسي الرثة.
قالت: «تبدو محاربًا مُخيفًا يا ديك. لم أرَكَ بمثل هذه الملابس من قبلُ. كنتُ في «قلعة الشك» أخاف بشدة أن ينال مني «جبار اليأس» حتى أتيتَ.»
قلتُ: «بل أُفضِّل أن أسميها «بيت المُفسِّر».»
واصلَت: «إنه بيتُ شخصٍ نعرفه. يُسمِّي نفسه «بوميرتس» في هذه الأنحاء. وهو أحد الاسمَين اللذَين ذكرتُهما لنا آخِر مرة تَقابَلنا كما تذكُر. رأيتُه منذ ذلك الحين في باريس. إنها قصةٌ طويلة، سأقصها عليكَ عما قريب. علمتُ بتردُّده على هذا المكان من وقتٍ لآخر، فاتبعتُه إلى هُنا. مارستُ التمريض في الأسبوعَين الآخرَين في مشفى مدينة دوفركورت، وهي على بُعد أربعة أميالٍ فحسب من القلعة.»
سألتُ: «لكن ما الذي أتى بكِ وحدكِ في الليل؟»
ردَّت: «الجنونُ على ما أظن. والغرورُ أيضًا. جمعتُ قدْرًا كبيرًا من المعلومات، كما ترى، وأردتُ أن أكتشف معلومةً مهمةً حيَّرَت السيد بلنكيرون. حاولتُ أن أثنيَ نفسي عن هذا التصرُّف الأحمق لكن فشِلتُ. ثم خذلَتْني شجاعتي، وقبل أن تأتي كان صوتُ فأرٍ كفيلًا لأن أصرخَ بأعلى حنجرتي. ولولا الصفير لأجهشتُ في البكاء.»
سألتُ: «لكن لمَ قدمتِ وحدَك، وفي هذه الساعة؟»
أجابت: «لم أستطع المجيء في النهار. ومن الأسلم أن آتي بمفردي. فهو مُغرمٌ بي، كما تعلم، وعندما عرف بقدومي إلى دوفركورت، نَسِي حذره، وعرض أن يلتقي بي هُنا. أخبرَني أنه سيذهب في رحلةٍ طويلة، ويريد أن يُودِّعني. لو وجدَني وحدي فسيودِّعني. ولو كان وجد شخصًا آخر بصحبتي، فسينتابه الشك، ويجب ألا أُثير شكوكه. قال السيد بلنكيرون إن ذلك سيُصيب خطَّتَه في مقتل. هو يعتقد أنني أتبع آراء خالتيَّ، وأراه رسول السلام الذي يعمل بطرائقه الخاصة لمكافحة غباء الحكومات وشرورها. إنه يتحدث بالسوء عن ألمانيا أكثر من بريطانيا. أخبرَني من قبلُ عن اضطراره إلى إخفاء هُويتِه وانتحال الكثير من الشخصيات في مهمته، وبالطبع صفَّقتُ له. آه، لقد كان موسم الخريف عصيبًا.»
هتفتُ: «أخبريني أنكِ تكرهينه يا ماري.»
قالت بهدوء: «كلَّا. أنا لا أكرهه. سأفعل ذلك لاحقًا. أما الآن فإنني أهابُه بشدة. عندما نقضي عليه تمامًا، سأكرهُه، وسأُزيل كل ذرة إعجابٍ له من ذاكرتي مثل الوسخ. لكن حتى ذلك الحين، لن أُهدِر طاقتي في الكُره. نريد أن نحشد كل ذرة من طاقتنا لهزيمته.»
كانت قد استعادت هدوءها، وشغَّلتُ مشعلي لأتأمَّل ملامحها. رأيتُها ترتدي زيَّ الممرضات الخارجي، وبدت عيناها مرهقتَين. أنستني هذه المنحة الثمينة التي نزلَت بي فجأة كل ما يتعلق بمهمتي الشخصية. فلم أرَ أفري إلا كحبيبِ ماري المُستقبلي، ونسيتُ أمر صاحب المصنع القادم من مدينة ليل الذي استأجر ذلك البيت لصيد طيور الحجل. سألَت: «وأنتَ، يا ديك، هل من مهام الجنرالات زيارة المنازل الفارغة في الليل؟»
قلتُ: «أتيتُ لأبحث عن أي أثَر لبوميرتس. أنا أيضًا اقتفيتُ أثَره لكن من زاويةٍ أخرى، سأقصُّ عليك هذه الحكاية لاحقًا.»
سألَت: «هل لاحظتَ مجيئَه إلى هُنا اليوم؟»
أشارت إلى رمادِ سيجارةٍ متناثرٍ على حافة الطاولة، وإلى بقعةٍ خاليةٍ من الغُبار على سطحها. وقالت: «في مثل هذا المكان، سيحلُّ الغبار في غضونِ ساعاتٍ قليلة، وهذه البقعة في غاية النظافة. أرى أنه كان هنا بعد الغَداء.»
هتفتُ: «يا إلهي! أفلَت بأعجوبة! أشعر في هذه اللحظة بالرغبة في قتله بمجرد رؤيته. تقولين إنِكِ التقيتِ به في باريس وتعرفين مَخبأه. لا بد أنكِ تملكين دليلًا كافيًا للقبض عليه.»
هزَّت رأسَها نافية. قالت: «السيد بلنكيرون أيضًا في باريس، وقد رفض هذه الفكرة. يقول إنه لم يصل إلى حلِّ اللغز بعدُ. توصَّلنا إلى بوميرتس، لكننا لا نعرف شيئًا عن كيليوس.»
قلتُ: «آه، كيليوس! أجل، أفهمك. يجبُ أن نعثر على كل الأجوبة قبل توجيه ضربتنا. هل حالف العجوزَ بلنكيرون الحظُّ بأي حال؟»
أجابت: «كان تخمينُك بشأن إعلان «التنفُّس العميق» في غاية البراعة يا ديك. تبيَّن صحتُه، وربما يقودنا إلى كيليوس. سأترك التفاصيل ليُخبِرك بها السيد بلنكيرون. لكن المشكلة كالتالي. نعلم شيئًا عن أنشطة شخصٍ قد يكون كيليوس، لكننا لا نستطيعُ الربطَ بينَه وبين أفري. نعلم أن أفري وبوميرتس شخصٌ واحد، ونأمل في أن نعثُر على رابط بين بوميرتس وكيليوس. لهذا السبب أتيتُ إلى هُنا. كنتُ أحاول السطو على هذا المكتبِ الصغيِر بطريقةِ الهُواة. إنه تقليدٌ سيئ الجودة للطراز الإمبراطوري، ويستحق التحطيم.»
أدركتُ أن ماري متحمسةٌ لإعادة تركيزي إلى مهمَّتنا، وتمكَّنتُ بشيءٍ من الصعوبة من الهبوط من المرتفعات المُثيرة التي أخذَتني إليها مشاعري. لم أكن قد أفقتُ بعدُ من ثمالة الموقف؛ تلك الليلة الشتوية، ودائرة الضوء في الغرفة الكئيبة، واجتماع روحَين جاءا من أقاصي الأرض دون ميعاد، وتحقيق آمالي الجامحة، والمستقبل الواعد البرَّاق. لكن ماري دائمًا ما كانت الأكثر حكمةً بيننا، بالإضافة إلى أننا وسط مهمةٍ لا تحتمِل الاستغراقَ في أحلام اليقظة. وهكذا، أوليتُ المكتب اهتمامي.
كان المكتبُ عبارةً عن منضدةِ كتابةٍ مُسطَّحةٍ ذاتِ أدراج، وتشكَّل الجزء الخلفي منه على هيئةِ نصفِ دائرةٍ من الأدراج في وسطها خزانة. أمَلتُه فانزلقَت غالبيةُ الأدراج إلى الخارج، ووجدتُها فارغةً إلا من الغبار. فتحتُ درجَين عَنوةً بسكيني، فما كشفا عن شيءٍ سوى عُلبِ سجائرَ فارغة. لم تتبقَّ أمامنا إلا الخزانة، وكانت مقفلة. أخرجتُ مفتاحًا من جيبي ووضعتُه في الثقب، لكن القفل لم يتزحزح من مكانه.
قلتُ: «لا جدوى من فتحها. لن يترك أي شيءٍ ذا قيمةٍ في مكانٍ كهذا. ذلك الرجل لا يغامر. إذا أراد إخفاء شيء هنا فثمَّة مئاتُ الشقوق في ذلك القصر يستعصي على أنبه المحقِّقين إيجادها.»
سألتُ: «ألا يمكنكِ فتحُها؟ أشعر أننا سنجدُ داخلها شيئًا. كان الرجل يجلس إلى هذه المنضدة في فترة الظهيرة، وقد يعود إلى هُنا.»
حللتُ المشكلة بإمالة المكتب وكسر باب الخزانة بركبتي. وتدحرجَت منها حقيبةُ يدٍ جلديةٌ خضراءُ داكنة.
سألَت ماري: «يزداد الأمر جدية. هل الحقيبة مغلقة؟»
كانت مغلقة، لكني تناولتُ السكين وانتزعتُ قفلها، ثم سكبتُ محتوياتها على المنضدة. كانت هناك بعض الأوراق، وجريدةٌ أو اثنتان، وكيسٌ صغيرٌ مربوطٌ بشريطٍ أسود. فتحتُ الأخير، فيما راقبَتْني ماري من فوق كتفي. وجدتُ في الكيس مسحوقًا ناعمًا لونه مائل للصفرة.
قلتُ بخشونة: «ابتعدي. ابتعدي واحبسي أنفاسَكِ بحق الرب.»
أعدتُ ربط الكيس، ولفَفتُه بجريدة، ثم حشرتُه في جيبي بأصابعَ مرتجفة. تذكَّرتُ ذلك اليوم بالقرب من مدينة بيرون عندما حلَّقَت طائرةٌ ألمانية في السماء وألقَت بأكياسٍ مثل هذا الكيس. لحُسن الحظ جُمعَت هذه الأكياسُ كلها، وكان الرجال الذين جمَعوها على قدْرٍ من الفطنة، فأخذوها إلى أقربِ مختبَر. وتبيَّن أنها مليئةٌ بميكروبٍ مسبِّب لمرض الجمرة الخبيثة …
تذكَّرتُ أن أوكور سانت آن هي ملتقى اثنَي عشر شارعًا، ويمُر بها الجند طيلة الوقت في أثناء ذهابهم وإيابهم من الجبهة. من هذا الموقع المثالي يستطيع العدو تدمير صحة جيشٍ كامل …
تذكَّرتُ المرأة التي رأيتُها في فناء القلعة في وقت الغسَق الملبَّد بالغيوم، وأدركتُ سببَ ارتدائها لقناع الغاز.
أحدث هذا الاكتشاف هزةً عنيفةً داخلي. وأنزلني من السماوات التي كنتُ أُحلِّق فيها بمشاعري الجياشة إلى واقعٍ شيطانيٍّ دنيءٍ بضربةٍ قوية. كنتُ قد ألِفتُ قذارة الألمان جيدًا، لكن بدا هذا عملًا في غاية التدني الأخلاقي. وددتُ لو أطبقُ على عنق أفري، وأحشُر هذه المادة في فمه، وأشاهدُه يواجه ببطء هذا المصيرَ الشنيع الذي دبَّره للرجال النزهاء.
قلتُ: «لنخرُج من هذا المكان الشيطاني.»
لكن ماري لم تكُن تُنصِت إليَّ. كانت قد تناولَت إحدى الجريدتَين وتتفحَّصها بإمعان. نظرتُ فإذا هي تتأمَّل إعلان وايزمان عن نظام «التنفُّس العميق».
هتفَت لاهثة: «يا إلهي، انظر يا ديك.»
لاحظتُ أن كلماتٍ بعينِها في نَص الإعلان موضوعةٌ تحتها نقاطٌ صغيرةٌ حمراء.
همسَت: «إنها هي. إنها الشفرة — أكاد أجزم أنها الشفرة!»
قلتُ: «حسنًا، لو أن هناك مَن يعرفها فسيكون هو على الأرجح.»
قالت: «لكن ألا ترى أنها الشفرة التي يستخدِمها كيليوس؛ ذلك الرجل في سويسرا؟ لا يمكنني الشرح الآن؛ لأنها قصةٌ طويلة، لكن أظن … أظن أنني عثَرتُ على ما كنا نبحث عنه. كيليوس …»
سألتُ: «ششش! أسمعتِ؟»
كان هناك صوتٌ غريبُ قادمٌ من الخارج كأنَّ رياحًا مفاجئةً اخترقَت سكونَ الليل.
قالت ماري: «إنها ليست إلا سيارةً تمُر في الطريق الرئيسي.»
سألتُ: «كيف دخلتِ إلى هُنا؟»
«من النافذة المكسورة في الغرفة المجاورة. قدِمتُ إلى هُنا بالدراجة في الصباح، وتجوَّلتُ في المكان، حتى عثَرتُ على المزلاج المكسور.»
قلتُ: «ربما تُركَت مفتوحةً عن عمدٍ. قد تكون هذه هي الطريقة التي يزور بها بوميرتس منزله الريفي … لنُغادر، يا ماري، فهذا المكان ملعون. إنه يستحق أن ينزلَ عليه غضبُ الرب.»
دسَستُ محتوياتِ الحقيبةِ في جيوبي بسرعة. وقلتُ: «سأوصلكِ إلى المكان الذي تريدينه. لديَّ سيارةٌ بالخارج.»
قالت: «إذن يجب أن تأخذ معنا درَّاجتي وخادمي أيضًا. إنه أحدُ أصدقائك القدامى، أندرو آيموس.»
هتفتُ: «كيف وصل أندرو إلى هُنا بحق السماء؟»
قالت ماري ضاحكةً إذ رأت علاماتِ الدهشةِ على وجهي: «هو واحدٌ منَّا. إنه عضوٌ فعَّالٌ في جماعتنا، وفي هذه الأيام ينتحِل شخصيةَ ممرضٍ في مشفى «ليدي مانرووتر» في دوفركورت. إنه يتعلم الفرنسية و…»
همستُ: «هشش! هناك شخصٌ ما في الغرفةِ المجاورة.»
سحبتُها وخبَّأتُها خلف كَومةٍ من قِطَع الأثاث، فيما التصقَت عيناي بشعاعِ الضوءِ المتسرِّب من أسفل الباب. أُديرَ مقبضُ الباب وتسابقَت الظلالُ أمام مصباحٍ كهربائيٍّ كبيرٍ من النوع المستخدم في الإسطبلات. لم أستطع رؤيةَ حامل المصباح، لكن خمَّنتُ أنها العجوزُ الشمطاء.
كان هناك رجلٌ خلفها. سمعتُ وقع خطواته السريعة على الأرضية الخشبية قبل أن يتخطى المرأة. رأيتُه يرتدي زيَّ الضباط الفرنسيين الأزرقَ السماوي، كان يبدو أنيقًا بحذائه الفرنسي ذي الرقبة الطويلة الذي يُبرِز رشاقةَ ساقَيه، ومعطفه المبطَّن بالفرو. للوهلة الأولى يظن المرءُ أنه شابٌّ لا يتجاوز الخامسة والثلاثين. كان وجهه داكنًا حليقًا، وعيناه لامعتَين ذكيتَين … لكنه لم يقدر على خداعي. لم أُبالغ عندما تفاخرتُ أمام سير والتر أن هناك رجلًا واحدًا على قيد الحياة سأعرفه أيًّا كان تنكُّره.
كانت يدي مستقرةً على مسدَّسي، فيما أشرتُ إلى ماري أن تتراجعَ إلى البقعةِ المظلمة. خطر لي للحظةٍ أن أسحب الزناد. كان هدفي في مرمى البصر وأستطيع وضع طلقة في رأسه بدقةٍ تامة. أظن أنني لو كنتُ وحدي لربما أطلقتُ النار. وربما لا. على أي حال، لا أستطيع فعلَ ذلك الآن. فذلك بمثابة قنصِ أرنبٍ مشلول. رغم أنه ألدُّ أعدائي، كان يتحتم عليَّ منحُه فرصةً عادلة، وإن كان عقلي يرى ذلك حماقة.
دخلتُ في دائرة الضوء.
قلتُ: «مرحبًا يا سيد أفري. يا له من مكانٍ غريبٍ للقاء مرةً أخرى!»
تراجَع أفري خطوةً من المفاجأة، فيما تفرَّسَت عيناه ملامحي. ليس هناك أدنى شكٍّ في أنه عرفَني. رأيتُ في وجهه شيئًا رأيتُه من قبلُ، وهو الخوف. فجأةً انطفأ المصباح، ووثَبَ ناحيةَ الباب.
أطلقتُ النار في الظلام، لكن لا بد أن الرصاصة أخطأَته ومرَّت من فوقه. ففي اللحظة نفسها سمعتُ انزلاقَه على الأرض الخشبية الناعمة وصوتَ ارتجاج الزجاج الناتج عن فتحه النافذة المكسورة المزلاج. فكَّرتُ بسرعة أنه ترك سيارتَه حتمًا عند جانب الشرفة المشرف على الخندق، وكي يصل إليها لا بد من مروره أمام هذه الغرفة تحديدًا. أمسكتُ المكتبَ التالفَ واستخدمتُه، وضربتُ به أقربَ نافذة. انخلعَت الألواح والمصارع بضربةٍ مدوية؛ إذ انخلعَت النافذةُ من إطارها المتهالك. في اللحظة التالية كنتُ أقف على طبقات الثلج تحت ضوء القمر.
أطلقتُ النار عليه وهو يتجه ناحيةَ الشرفة، وأخطأتُ الهدف مرةً أخرى. لم أبرع في استخدام المسدس أبدًا. مع ذلك ظننتُ أنني تمكَّنتُ منه؛ لأن السيارة التي تنتظره عند نهاية الشرفة لا بد أن تمُر من أمام الخندق في طريق عودتها لبلوغ الطريق الرئيسي. لكني نسيتُ كل ما يتعلق ببوابات الحديقة الضخمة المُغلَقة. فقد فُتحَت حتمًا بطريقةٍ أو أخرى؛ إذ فور أن أدارت السيارةُ محركها اتجهَت مباشرةً نحو الساحة الضخمة. أطلقتُ طلقتَين بعيدتَي المدى في أعقابها، لا بد أن إحداهما أصابت إما أفري أو سائقه؛ إذ سمعتُ صرخةَ ألم.
استدرتُ في مرارة لأجد ماري واقفة بجواري. كانت مستغرقةً في نوبة من الضحك.
سألَت: «هل مثَّلتَ في السينما من قبلُ يا ديك؟ قدَّمتَ أداءً ممتازًا في الدقيقتَين الأخيرتَين. «مع ماري لامنتون». أليس ذلك هو التعبير المستخدم؟»
قلتُ في أسف: «كان يمكن أن أقتلَه فور دخوله.»
قالت بنبرةٍ جادة: «أعلم. إلا أنكَ لم تتمكن من ذلك بالطبع … إلى جانب أن السيد بلنكيرون لا يريد قتلَه … حتى الآن.»
وضعَت يدَها على ذراعي. وقالت: «لا تقلق. ليس مقدرًا لك أن تتخلَّص منه بتلك الطريقة. إذ لكان ذلك سهلًا للغاية. لا تزال أمامنا رحلةٌ طويلةٌ قبل أن نقُص أجنحةَ الطيورِ البرية.»
هتفتُ: «انظري، إنه غضب السماء!»
ارتفعَت ألسنة النيران من المباني الخارجية في الطرف البعيد؛ حيث رأيتُ المرأة العجوز للمرة الأولى. لا بد أن خطةً مُتفقًا عليها مُسبقًا نُفذَت، وأن أفري يُدمر كل الأدلة التي تُشير إلى المسحوق الأصفر المُخزي. في هذه اللحظة، لا بد أن العجوز المسئولة عن حراسة القلعة تتسلل خارجة، باتجاه مخبأ في القرية، تحمل معها ممتلكاتها المتنوِّعة.
في الليلة الساكنة الجافة، احتدمَت النيران؛ إذ لا بد أن المكان هُيئ كي يحترقَ بسرعة. وفيما كنتُ أدفع ماري حول الخندق، أدركتُ أن ذلك الجزء من المبنى الرئيسي قد نشبَت فيه النيران. أيقظ الحريقُ سكانَ القرية، وقبل انعطافنا إلى الطريق السريع، كان الجنود البريطانيون الناعسون يندفعون ناحيةَ الموقع، ورئيسُ البلدة يحشدُ فرقة الإطفاء. أعلم أن أفري وضع خُططه بصورةٍ محكمة، ولن يستطيع أحدٌ السيطرةَ على النيران — إذ قبل الفجر بفترةٍ طويلةٍ ستصير قلعة أوكور سانت آن كومةً من الرماد، وفي غضون يومٍ أو اثنَين سيتنازع محامو زوجة الماركيز العجوز القاطنة في بياريتز مع شركة التأمين.
في الزاوية، وقف آيموس بجوار الدراجتَين، جامدًا مثل صنمٍ منحوت. وحيَّاني بابتسامةٍ عريضةٍ كاشفة عن أسنانه المفقودة.
قال: «إنها ليلةٌ باردة، أيها الجنرال، لكن النيران لا تزال مُستعرة. لم أرَ مثل هذه النيرانِ المُمتعةِ منذ ذلك الحريق في مصنع ديكسون في جاولي.»
حزمنا الأمتعة، الدرَّاجات وما شابه، في سيارتي؛ حيث انحشر آيموس في المقعد الضيق بجوار هاميلتون. بعد أن أدرك آيموس أن هاميلتون من أبناء جلدته، عَبَّر عن شكره للجنرال، باللهجة الدورية، لنقله في سيارته. قال: «لأنني لستُ متمرسًا في ركوب الدرجات الهوائية، كما أن قدميَّ تخدَّرتا من الوقوف وسط الثلج.»
انطوت الأميالُ المؤديةُ إلى دوفركورت بسرعة مثل لحظةٍ سعيدة. لفَفتُ ماري بوشاحٍ من الفرو، وبعد ذلك لم نتبادل كلمةً واحدة. لقد وقع في حوزتي فجأة كنزٌ ثمينٌ وكنتُ في غاية السرور به.