الاستلقاء على فراشٍ قاسٍ
كان الصحفي القادم من ولاية كانساس رجلًا عمليًّا. فلم يُهدر الوقتَ في تعريف نفسه أو الكشف عن خطة حملتِه. قال: «اتبعني، يا سيدي، وسِرْ على خطاي دون أدنى انحراف. سيأتي الشرح لاحقًا. لا بد أن نعتنيَ بمسألةٍ مهمةٍ في المنزل اليوم.» فتَح الباب الصغير دون إصدار صوت تقريبًا، ونفَض طبقة الثلج عن حذائه الطويل، ثم سبقَني إلى ممرٍّ مظلمٍ كقبو. تأرجَح الباب وانغلق خلفنا بانسيابية، وبدا الهواء عطنًا، كأننا داخل خزانة، بعد أن كُنا في الهواء الطلق القارس.
مدَّ الصحفي يده إلى الخلف ليتأكد أنني أتبعه. بدا أننا نسير في ممرٍّ مبلَّط، أسفل الطابق الأول مباشرة. كنتُ أنزلق على البلاط، لأنني كنتُ أرتدي حذاءً ذا مسامير، فتشبَّثتُ بالجدار الحجري الخشن طلبًا للدعم. أما السيد دون فكان يتحرك بخفةٍ وثقة؛ إذ كان يرتدي حذاءً أنسبَ للمهمة، وظلَّ يمدُّ يده المُوجِّهة خلفَ ظهره ليتأكد من موقعي.
أتذكَّر أنه انتابني الشعور نفسه الذي انتابني ليلةَ استكشاف ذلك الفلق في كويلن في أمسيةٍ من أمسياتِ شهر أغسطس، شعور أن ثمَّة شيئًا سيحدث، ذلك المزيج من الاندفاع والسعادة. مشيتُ بخطواتٍ بطيئةٍ حذرة حتى وصلنا إلى منعطفٍ ناحية اليمين. قادنا سُلم ذو درجتَين إلى ممرٍّ آخرَ ثم ارتطمَت يداي المُتحسِّستان بحائطٍ مُصمت. كان الأمريكي سائرًا بجانبي، وكانت شفتاه قريبتَين من أذني.
همس: «يجب أن نزحف الآن. تقدَّم أنتَ، يا سيدي، فيما أنزِع معطفي. سنزحف ثمانيَ أقدامٍ ثم ننهضُ واقفَين.»
زحفت عَبْر نفقٍ عريضٍ بما يكفي لاستيعاب ثلاثة رجال جنبًا إلى جنب ومنخفضٍ لا يبلغ ارتفاعُه قدمَين. عند منتصف الطريق شعَرتُ بالاختناق؛ إذ طالما كرهتُ الأنفاق، وغشاني شك لحظي في الغاية من رحلتنا عَبر القبو. لكني سرعان ما استنشقت هواءً طلقًا وصار من الممكن أن أجثو على ركبتي.
جاء همسٌ من الخلف: «هل كل شيء على ما يُرام يا سيدي؟» بدا أن رفيقي كان ينتظر أن أخرج حتى يتبعَني.
أجبتُ: «أجل»، ثم بحذَرٍ شديدٍ وقفتُ على قدمي.
ثم حدث شيءٌ خلفي. أحسستُ بهزةٍ مفاجئةٍ متبوعةٍ بصوتِ ارتطام، كأن سقفَ النفقِ قد انهار. استدرتُ بحدةٍ وتلمَّستُ فتحتَه. ومدَدتُ ساقي عَبْرها فوجدتُه مسدودًا.
ناديتُ بصوتٍ مرتفعٍ بقَدْر ما تسمح به الظروف: «هل أصابك مكروهٌ يا دون؟ أين أنتَ؟»
لكن ما من مجيب.
في تلك اللحظة ظننتُ أن ما حدث مجرد حادث. ثمَّة خطأٌ حدث، وتُركتُ وحدي في قبو منزلِ عدوٍ، بعيدًا عن الرجل الذي يعرفُ الطريقَ ويحتفظ بالخطة في رأسه. لم أكن خائفًا بقَدْر ما كنتُ ساخطًا. ولَّيتُ ظهري لفتحة النفَق، وتلمَّستُ طريقي للأمام وسط الظلام. لا ضرر من استكشاف ذلك السجن الذي وقعتُ فيه.
خطوتُ ثلاثَ خطواتٍ لا أكثر. ثم انزلقَت قدماي وارتفعَتا أمامي في الهواء. حدَث الأمر فجأة، ووجدتُ نفسي أرقد على ظهري على الأرض كالجثة، وارتطم رأسي بها بقوةٍ شديدةٍ أفقدَتْني الوعيَ لحظات. شعَرتُ بشيءٍ يسقُط عليَّ وأحسستُ بثقلٍ شديدٍ يجثُم على صدري. جاهدتُ لالتقاط أنفاسي، ووجدتُ ذراعيَّ وساقيَّ مُسمَّرة في الأرض، وجسدي بأكمله محصورًا فيما يشبه مِلزَمَةً خشبية. انتابني دُوارٌ شديد، ولم أستطع فعلَ شيءٍ سوى التقاط أنفاسي بصعوبة والتغلب على شعوري بالغثيان. نزَف الجرحُ في مؤخرة رأسي بغزارة، فساعدَني ذلك على تصفية ذهني، لكن استلقيتُ بضعَ لحظاتٍ لا أقدرُ على التفكير. أغلقتُ عينيَّ بإحكام، مثلما يفعل المرء في نضاله لئلا يفقد الوعي.
عندما فتحتُ عينَيَّ وجدتُ ضوءًا. من الناحية اليسرى من الغرفة، انبعثَ وهجٌ ساطعٌ من مصباحٍ كهربائيٍّ قوي. نظرتُ إليه ببلاهة، لكنه حثَّني على استجماع أفكاري. تذكَّرتُ أنني في النفق وأنني كنتُ بصحبة الصحفي الأمريكي. وخلف الضوء رأيتُ وجهًا أعادني إلى رشدي.
رأيتُ المعطف الأيرلندي الطويل والقبعة اللذَين قد ميَّزتُ هيئتَهما في الخارج وسط شجيرات الغار المعتمة، وإن كنتُ لم أتبيَّن تفاصيلهما. كان المعطف والقُبعة يعودان للصحفي، كلارنس دون، رسول بلنكيرون الأمين. لكني استطعتُ رؤيةَ وجهه الآن، وتبيَّن أنه الوجه الذي تفاخرتُ أمام بوليفانت أنني لن أخطئ صاحبه أبدًا. لم أخطِئه هذه المرة، وأتذكَّر شعوري بالبهجة في تلك اللحظة، لأنني وفيتُ بكلمتي. كما أني لم أخطِئه من قبلُ؛ لأنني لم أحظَ بفرصة النظر إليه إلا في اللحظة الراهنة. رأيتُ بوضوحٍ شديدٍ ذلك القاسمَ المشتركَ بين كل هذه الأقنعة — الشاب الألثغ في الفيلا المطلة على البحر، الرجل السخي القوي من بيجلزويك، المخلوق المذعور الضعيف من محطة مترو الأنفاق، ضابط الأركان الفرنسي الممشوق من قلعة بيكاردي … بل رأيتُ ما هو أكثر من ذلك؛ إذ رأيتُه عاريًا من كل الأقنعة. وجدتُ نفسي أنظر إلى فون شبابينج المنفي، الذي قدَّم لألمانيا ما لم يقدِّمه أي قائدٍ عسكري … تذكَّرتُ كلمات ماري «هو أخطرُ رجلٍ في العالم»، لكني لم أكن خائفًا أو محبطًا من الفشل أو غاضبًا، ليس بعدُ؛ لأني كنتُ أشعُر بدوارٍ شديدٍ وفي حالة ذهول. نظرتُ إليه كما ينظر المرء إلى كارثةٍ طبيعيةٍ ألحقَت الدمارَ بقارَّة.
كان الوجه يبتسم إليَّ.
قال: «سعيدٌ باستضافتك في نهاية المطاف.»
استجمعتُ أفكاري وحاولتُ التركيز أكثر على الرجل الواقف أمامي. لم تعُد العارضة ثقيلةً تجثم على صدري بقَدْر ما كانت، فصرتُ أستطيع التنفُّس بصورةٍ أفضل. لكن عندما حاولتُ الحديث، لم تخرج الكلمات من بين شفتَي.
تابع: «نحن صديقان قديمان. عرف أحدنا الآخر عن قربٍ لأربع سنواتٍ تقريبًا، وهي مدةٌ طويلةٌ في عمر الحرب. لقد أثرتَ اهتمامي، لذكائك الفطري، وأجبرتَني أن آخذك على محمل الجد. لو كنتَ أكثر ذكاءً لقدَّرتَ هذا المديح. لكنك كنتَ مغفلًا بما يكفي لتظن أن بوسعك هزيمتي؛ لذا لا بد من عقابك. لا تتباهَ؛ فأنتَ ما شكَّلت لي تهديدًا على الإطلاق. كنتَ مشاغبًا وقحًا مثل بعوضةٍ يصرفُها المرءُ عن كُمه هكذا.»
كان يستند إلى جانب الباب المغلق الصُّلب. أشعل سيجارًا من عُلبةٍ ذهبيةٍ صغيرةٍ تحتوي على الصوفان وحجر القدح، ونظر إليَّ نظرةَ استمتاع.
قال: «ستجد وقتًا كافيًا للاستيعاب؛ لذا أرى أن أُقدِّم لك بعض الشرح. أنتَ تُلاحِظ التفاصيل الصغيرة. أليس كذلك؟ هل راقبتَ القطة والفأر؟ يركضُ الفأرُ في الأنحاء ويختبئ، ويناور ويعتقد أن بيده قوانين اللعبة. لكن في أي لحظة، قد تمدُّ القطَّة مخلبها، وتفترسه. أنتَ الفأر، أيها الجنرال المسكين، وما أراك إلا واحدًا من الهواة المُضحِكين الذين يُلقِّبهم الإنجليز بالجنرالات. في أي لحظة، في الأشهر التسعة الأخيرة، كان بإمكاني قتلُكَ بإيماءة من رأسي.»
توقَّف الدُّوار وفهمتُ ما قاله، رغم أني لم أستعِد بعدُ قدرتي على الرد.
واصل: «سأشرح لك. شاهدتُك باستمتاع وأنتَ تلهو في بيجلزويك. وراقبتُك عندما ذهبت إلى كلايد، وتابعتُ تحركاتك الملتوية البلهاء في اسكتلندا. تركتُك تتصرف بحرية لأنني لم أرَك تشكل خطرًا، ولديَّ أمورٌ أهمُّ تطلَّبَت انتباهي. تركتُك تتسلى في جبهتك البريطانية بتحقيقاتك الصبيانية وتتظاهر بالحمق في باريس. لاحقتُك خطوةً خطوةً في سويسرا، وساعدت صديقك الأمريكي الغبي في أن ينصب فخًّا لي. ظننتَ أنك تُحيطني بشباكك، بينما الحقيقة هي أني كنتُ ألفُّ شباكي حولك. أؤكِّد لك أنني وجدتُ في ذلك راحةً ساحرةً من مهامي الخطيرة.»
علمتُ أنه يكذب. كان هناك جزءٌ من الحقيقة في كلامه؛ إذ ليس هناك شك في خداعه لبلنكيرون؛ لكن في الوقت نفسه لا أنسى فِراره السريع من بيجلزويك وأوكور سانت آن عندما انقلبَت الأمور ضده. لقد أوقعَني في قبضته، وهو الآن يستغل الفرصة لإشباع غروره. أنزله هذا السلوك من تلك المكانة الرفيعة التي وضعتُه فيها، وبدَّد ذلك الإجلال الذي أثاره في نفسي عندما رأيتُه للمرة الأولى.
قال: «تعلم أنني لا أُضمر الضغينة لأحد. في مهنتنا، يُعَد الغضب ضربًا من الحمق، لأنه إهدار لطاقتك. لكني لا أتسامح مع الإهانة يا عزيزي الجنرال. ومن عادة دولتي أن تنتقم من أعدائها. ربما يُهمك معرفة أن النهاية ليست ببعيدة. لقد واجهَت ألمانيا العالم الغَيور الذي تكاتَف ضدها، وتوشك أن تجني ثمار شجاعتها العظيمة. وفكَّكَت تنظيم خصومها المهلهل شيئًا فشيئًا. أين هي روسيا التي كانت تتوعدنا بقوتها الساحقة؟ بل أين رومانيا المغفَّلة المسكينة؟ أين ذهبَت قوة إيطاليا التي كانت تفعل الأعاجيب في سبيل ما تُسمِّيه بالحرية؟ انهارت هذه الدول كلها. لقد أدَّيتُ دوري في هذه المهمة، ولم تعُد هناك حاجةٌ إليَّ. وتستعد الآن دولتي للإجهاز على السفَلة المسلَّحين في الغرب، ودفعِهم إلى المحيط الأطلسي. وستتعامل بعد ذلك مع فلول الجيش الفرنسي المُنهَكة وتلك الحفنة الصاخبة من الأمريكيين. وبحلول منتصف الصيف ستفرض ألمانيا المنتصرة السلام.»
وجدتُ صوتي أخيرًا: «لن يحدث هذا أبدا!»
قال مبتهجًا: «بل سيحدث! ذلك ما تُسمُّونه باليقين الرياضي. ولا شك أنك ستموتُ بشجاعة مثل القبائل المتوحِّشة التي استعمَرت إمبراطوريتُك أرضها. لكننا أكثر تنظيمًا وأقوى عزيمة وأكثر دهاء. يلقى الغباء جزاءه في النهاية، وأنتم أمةٌ غبية. لا تحسب أن أقرباءك في الناحية الأخرى من المحيط الأطلسي سينقذونك. هم تجار ولا يثقون في قدراتهم البتة. بعدما يتبجَّحون قليلًا، سيستعيدون رشدهم وسيحتالون للحفاظ على ماء وجههم. سيُلقي رئيسُهم المضحكُ خطابًا أو اثنين، وسيكتب خطابًا رصينًا، سنرد عليه بتلك اللهجة البليغة الجادة التي يُحبها، ثم سنتصالح ونصير أصدقاء. تعلم في قرارة نفسك أن الأمور ستجري على هذا النحو.»
غمرني شعور عميق بعدم الاكتراث. لم يستفزَّني تباهيه، بل لم أعد أرغب في معارضته. توقَّف عقلي عن العمل، ربما من أثرِ السقوط. وسمعتُ صوته مثلما يسمع المرء تكتكة عقارب الساعة بلا تركيز.
كان يقول: «سأطلعك على المزيد. نحن الآن في ليلة الثامن عشر من شهر مارس. يتوقع الجنرالات الفرنسيون حدوث هجوم، لكنهم لا يدرون مكانه تحديدًا. يظن البعض أنه سيقع على مقاطعة شامبانيا أو أن، وفريق ثانٍ يظن وقوعه على إيبر، وفريقٌ ثالثٌ يظن وقوعَه على سانت كونتين. حسنًا، أيها الجنرال العزيز، سأفضي إليكَ بالسر. في صباح الحادي والعشرين؛ أي بعد ثلاثة أيام من الآن، سنُهاجم الجناح الأيمن من الجيش البريطاني. في غضون يومَين سنكون في إميان. وفي الثالث والعشرين، سنُحدِث شقًّا في صفوفكم يصل إلى البحر. وفي خلال أسبوع أو أسبوعَين، سنكون قد طوقنا جيشك من اليمين، وسرعان ما سنبلغ بولون وكاليه. بعد ذلك ستسقط فرنسا وسنفرض السلام.»
لم أعلق على كلامه. ذكَّرَتني إميان بماري، وحاولتُ أن أستدعيَ ذكرى ذلك اليوم من شهر يناير، عندما اتجهنا بالسيارة جنوبًا من تلك المدينة الجميلة.
تابع: «لمَ أخبرك بهذه الأمور؟ أنت على قَدْر من الذكاء يمكِّنُك من الإجابة على ذلك السؤال. السبب هو أن حياتك قد انتهت. وما تبقى هو الصمت، كما يقول كاتبكم شكسبير … لا، لن أقتلك. فهذا فعل همجي، وأنا أكره الهمجية. سأذهب في رحلةٍ قصيرة، وعندما أعود في غضون ٢٤ ساعة، ستكون رفيقي. ستزور ألمانيا أيها الجنرال العزيز.»
أعادني ذلك إلى كامل انتباهي، ولاحظ هو ذلك؛ إذ واصل كلامه بحماسة.
قال: «أسمعتَ عن «قطار الأنفاق»؟ لا؟ وتتفاخرون بالمخابرات البريطانية! لكن جهلك هذا تشاركك فيه الأركان العامة بأكملها. هذا تنظيمٌ صغيرٌ تحت إمرتي. من خلاله ننقل الأشخاص الخطيرين بغير إرادتهم إلى جبهتنا، ليتسنَّى لنا التعامُل معهم كما نريد. نقلنا البعض من إنجلترا والكثير من فرنسا. أظن أن أولئك الأشخاص اعتبروا رسميًا في عداد المفقودين، غير أنهم لم يُفقَدوا في ساحة القتال. بل اختطفوا من بيوتهم أو مكاتبهم أو الفنادق التي ينزلون بها أو من وسط الشوارع المكتظة بالمارة. ولا أخفي عليك أن حركة قطار الأنفاق القادم من فرنسا وإنجلترا غيرُ منتظمة كثيرًا. لكن حركة القطار القادم من سويسرا منتظمة للغاية. إذ تُوجَد مواقعُ غير مُراقَبة عند الحدود ولا نجد صعوبةً بشأن التصاريح. إنها وسيلةٌ جميلة، وستحظى بميزة مشاهدتها وهي تؤدي عملها عن كثَب … في ألمانيا، لا أعدُك أنك ستحظى بالراحة، لكن لا أظن أن حياتك ستكون مُملة.»
وما إن تفوه بهذه الكلمات حتى استحالت ابتسامتُه المهذبة إلى أخرى خبيثة شيطانية. وشعَرتُ بحقده، رغم حالة الخدَر التي كنتُ أعاني منها، فاقشعرَّ بدني.
اكتسب صوتُه تلك النبرةَ المعسولةَ مرةً أخرى وقال: «عندما أعود، سيكون معي شخصٌ آخر. هناك سيدةٌ جميلة استُخدمَت طُعمًا لإغوائي بالذهاب إلى إيطاليا. أليس كذلك؟ حسنًا، لقد سقطتُ في الفخ. ورتَّبت أن تُقابلَني هذه الليلة في فندقٍ جبليٍّ في الجانب الإيطالي. كما نسَّقت أن تأتي إليَّ وحدَها. إنها فتاةٌ بريئةٌ ولا أراها أكثر من آلة في أيادي أصدقائك الخرقاء. ستأتي معي إن طلبتُ منها ذلك، وسنكونُ رفقةً سعيدةً في قطار الأنفاق السريع.»
ذهبَت عني اللامبالاة ودبَّت الدماء في عروقي بسماع هذه الكلمات.
هتفتُ: «يا وغد! إنها لا تطيق رؤيتك. ولن تريد التعامل معك على الإطلاق.»
نفض غبار سيجاره. وقال: «أنتَ مخطئ في ذلك. أستطيع إقناعها ولا أُحب استخدام الإكراه مع النساء. لكنها ستأتي معي شاءت أم أبت. لقد عملتُ بجد، وأستحق المُتعة، كما أنني عقدتُ العزمَ على الحصول على السيدة الصغيرة.»
حملَت نبرة صوته مزيجًا من الفظاظة والشهوانية والثقة والاحتقار جعل الدم يغلي في عروقي. لقد أثار حفيظتي، وشعَرتُ بالمطرقة تدقُّ بجنون في جبيني. كدتُ أبكي من سَورة الغضب فاحتشدَت كل قواي كي أظلَّ صامتًا. لكني كنتُ عازمًا ألا أعزِّز شعورَه بالانتصار.»
نظر إلى ساعته. وقال: «الوقت يمرُّ. يجب أن أرحل من أجل اللقاء الموعود. سأحمل سلامك إلى السيدة. اعذرني على عدم اتخاذ أي تدابير لأجل راحتك إلى حين عودتي. إن بنية جسمك قوية ولن يضرها صيام يوم. كي أريح عقلك أؤكد لك أن الهرب من هُنا مستحيل. لقد أثبت هذا النظام فاعليته الكثير من المرات، ولو أفلحتَ في التحرُّر منه، فسيتصرف معك الخدم. لكن يقع على عاتقي تحذيرك. إذا عبثتَ به أو جاهدتَ للتحرُّر منه بقوة فسيكون ردُّ فعله مثيرًا للاهتمام. تُغطي الأرضية بئرًا يفضي إلى البحيرة بالأسفل. إذا عبثتَ بأي مسمارٍ فستسقط في البحيرة المُغطاة بالثلج بسرعة الصاروخ، وسيتعفَّن جسدُك هناك حتى موسم الربيع … هذا، بالطبع، مخرجٌ بديلٌ إن كنتَ لا تحب أن تنتظر عودتي.»
أشعل سيجارًا جديدًا ولوَّح بيده، قبل أن يختفي عَبْر مدخل الباب. وتبدَّد صوتُ وقعِ أقدامِه فور انغلاق الباب خلفه. لا بد أن الجدران في سماكة جدران السجون.
كنتُ في تلك الحالة التي يُسمِّيها كُتَّاب الروايات «الذهول». كان الشرح في الدقائق القليلة الماضية صادمًا فعجز عقلي عن استيعابه. أذكُر بوضوحٍ شديدٍ أنني لم أفكِّر في فشل مخطَّطنا الذريع، ولا في المخططات الألمانية التي كُشفَت لي في غطرسة باعتباري في حكم الميت. إنما سيطرَت على ذهني صورةٌ واحدة؛ فندق في وادٍ جليدي (تخيَّلتُه مكانًا صغيرًا في حجم كوخ بيتر)، وفتاةٌ وحيدة، وذلك الشيطان المبتسِم الذي تركني للتو، والرعب المجهول الذي ينتظرنا في قطار الأنفاق. لوهلة خانتني الشجاعة، وبكيتُ من فَرْط شعوري بالوهن والغضب. لم يعُد جبيني ينبض؛ إذ لا يحدث ذلك إلا حين يعتريني الغضَب وأنا أملك التصرُّف في أمري. أما الآن وأنا أرقد عاجزًا عن الحركة، فقد غادرتني شجاعتي، ولو أن أفري ظلَّ عند مدخل الباب لتوسَّلتُ إليه طلبًا للرحمة. كنتُ سأزوِّده بكل المعلومات التي بحوزتي لقاء أن يتعهد أن يترك ماري وشأنها.
لحسن الحظ أنه غادر، فلم يشهد أحدٌ على جُبني. ولحُسنِ الحظ أيضًا أن الجُبن كالشجاعة، يصعُب أن يتملك المرء لفترةٍ طويلة. تذكَّرتُ عبارة بلنكيرون بشأن ماري «إنها شجاعةٌ عفيفة» فعُدتُ إلى رشدي. لا، وبحق السماء، لن تخاف. فأنا أثق في امرأتي أكثر مما أثق في نفسي. كان قلقي عليها لا يزال ينهشني، إلا أنني بدأتُ أستعيد رباطة جأشي. قد يكون قد انتهى أمري لكن لن أترك أفري يذوقُ لذة الانتصار برؤيتي منكسرًا. إما أن أذهب تحت الجليد أو أن أحظى بطلقةٍ في رأسي قبل عبوري الحدود. وإن لم أجد خيارًا آخر فسأُعانق الموت بشجاعة … في تلك اللحظة، ضحكتُ وأدركتُ أن الجزء الأسوأ قد مرَّ. ما جعلني أضحك هو التفكير في بيتر. منذ ساعة، كنت أشفقُ عليه لامتلاكه ساقًا واحدة، لكنه موجود في الخارج، في عالم الأحياء، يفصل بينه وبين الموت أعوامٌ كثيرة؛ أما أنا، فأستلقي في الأعماق، جثةً هامدة لا تستطيع الحراك، على شفا الموت.
بدأتُ أتخيل المياه الباردة تحت الجليد، حيث يُمكِنني الذهاب إن شئت. لا أظن أنني سأسلكُ هذا المسلك؛ لأنه لا يزال هناك فسحةٌ من الأمل طالما لم يلفظ المرءُ أنفاسه الأخيرة، لكن كنتُ سعيدًا لوجوده باعتباره أحد الخيارات … ثم نظرتُ إلى الجدار أمامي، ورأيتُ نافذةً مربعةً صغيرةً على ارتفاعٍ شاهق.
كانت النجوم مُحتجبة عندما تسلَّلت إلى ذلك المنزل البغيض لكن لا بد أن الضباب انقشع الآن. فقد رأيتُ صديقي القديم الجبار، دليل الصياد، من خلال قضبان النافذة. وفجأة خطرَت لي فكرة.
كنتُ أشاهد وبيتر النجوم في الليل، وأعرف موضع جميع الكوكبات الرئيسية من وادي سانت أنطون. ويُفترَض أنني في إحدى غرف الجانب المشرف على البحيرة من «بينك شاليه»؛ لا بد أن الأمر كذلك لو كان أفري صادقًا. لكن لو صح ذلك لما استطعتُ على الإطلاق رؤية كوكبة الجبار من خلال النافذة … إذن الاستنتاج الوحيد هو أنني في غرفة في الجانب الشرقي من المنزل، وأن أفري يكذب لا محالة. وأنه كذبَ بالفعل عندما افتخر بكيفيةِ خداعه لي في إنجلترا وعلى الجبهة. وبالمثل قد يكون يكذب بشأن ماري … لا، طردتُ ذلك الأمل. فقد كانت كلماتُه عنها تتقاطر صدقًا.
تفكَّرتُ في كلامه هنيهة، وتوصَّلتُ إلى أنه كذب عليَّ لإخافتي، وحتى لا أتحرَّك من مكاني؛ هذا يعني أن هناك ثغرةً في هذا النظام اللعين على الأرجح. فكَّرتُ أيضًا أنني قويٌّ جدًّا، أقوى كثيرًا مما يتصور؛ لأنه لم يرَني متخففًا من الملابس. ولأن المكان كان مغلفًا بظلامٍ دامس، لم أستطع تخمين كيفية عمل هذا الشيء، لكن كنتُ أحسُّ بثقل العارضتَين المتقاطعتَين الجاثمتَين على صدري وساقيَّ بالإضافة إلى العارضتَين الجانبيتَين اللتين تُثبتان ذراعيَّ مُلتصقَين بجانبيًّ … التقطتُ نفسًا عميقًا، وحاولتُ أن أباعد بين مرفقيَّ. لم يتحرك شيء، ولم أستطع رفع العارضة التي تجثم على ساقي، ولو قيدَ أنملة.
حاولتُ مرةً تلو الأخرى. بدت العارضة الجانبية التي تُثبِّت ذراعِي اليمنى أقل صلابةً من الأخريات. أفلحتُ في رفع يدي اليمنى فوق مستوى فخذي، وبعد محاولةٍ شاقةٍ أمسكتُ العارضتَين المتقاطعتَين بها، فحصلتُ على بعض السيطرة. وبصعوبةٍ بالغةٍ دفعتُ العارضة اليمنى بمرفقي وكتفي. تزحزحَت قليلًا … فحشدتُ ما لديَّ من قوة وحاولتُ مرةً أخرى. سمعتُ صوت تصدُّع ثم انكسار، بعد ذلك تراجعَت العارضة الضخمة، وتحرَّرَت ذراعي اليمنى وصارت قادرة على الحركة جانبيًّا، وإن منعَتني العارضتان المتقاطعتان من رفعها للأعلى.
وصلتُ إلى جيب معطفي، ببعض الصعوبة؛ حيث قبع المصباح الكهربائي والمسدس. وبجهدٍ شاق وآلامٍ مبرحة أخرجتُ المصباح وأشعلتُه من خلال دفع مفتاح تشغيله بالعارضة، بعد ذلك تمكَّنتُ من رؤية زنزانتي.
كانت غرفةً مربعةً صغيرة، سقفُها في غاية الارتفاع، وكان بابها الضخم الذي رحل أفري من خلاله على يساري. اتضحَت معالم العارضات المخلعة الشيطانية التي تثبِّتني وخمَّنتُ كيفية عملها نوعًا ما. لا بد أن نابضًا قد رفع الأرضية بزاويةٍ مائلة، وأسقط الآلة من مكانها في الجدار الأيمن. لاحظتُ أن الآلة مثبَّتة بمِشبك في تكوين على الأرضية أمام الباب. إن استطعتُ فك ذلك المشبك، فسيسهل التحرُّر من قيودي؛ لأن هذه العارضات الثقيلة لن يستحيل رفعُها على مَن هو في مثل قوَّتي.
عادت إليَّ شجاعتي، وركَّزتُ على الخطوة الراهنة، محاولًا أن أنحِّي جانبًا آمال الهرب. كانت مهمتي الأولى هي تدمير المشبك المسئول عن تثبيت العارضات في مكانها، وقرَّرتُ استخدامَ مسدسي لتحقيق هذا الغرض. حشرتُ مصباحي الكهربائي في زاوية العارضتَين المتقاطعتَين حيث أضاء الأرضيةَ المفضيةَ إلى الباب. بعد ذلك واجهتُ صعوبةً شديدةً في إخراج المسدس من جيبي. كانت أصابع يدي ورسغي تتشنَّج طيلة الوقت، وارتعدتُ من فكرة أن يسقط المُسدس في مكانٍ لا أستطيع استعادتَه منه.
أجبرتُ نفسي على أن أفكِّر بهدوء في أمر المشبك؛ لأن رصاصة المسدس صغيرة، وليس لديَّ رفاهية المخاطرة بعدم إصابة الهدف. فسَّرتُ الأمر من خبرتي بالميكانيكا، وتوصَّلتُ إلى أن مركز ثقل النظام هو بقعة لامعة بعينها من المعدن، يُمكِنني رؤيتُها فوق العارضتَين المتقاطعتَين مباشرة. كانت البقعة لامعة للغاية؛ لذا لا بد أنها أُصلحَت حديثًا، وهذا سببٌ آخر يجعلها مهمة. كان السؤال هو كيفية إصابتها؛ إذ لم أستطع وضع المُسدس في مرمى بصري. جرِّب أن تجعل شخصًا يُصوب مسدسًا، بذراعٍ ملتفَّة حول عارضة، وهو مستلقٍ على ظهره وينظر إلى الهدف من أسفلها، وسيفهم التحديات التي أتحدَّث عنها. لديَّ ستُّ طلقات في مسدسي، ولا بد من إطلاق طلقتَين أو ثلاثٍ في البداية لتحديد المدى في كل الأحوال. يجب ألا أستنفد كل الطلقات وأريد أن أستبقيَ واحدةً لمعالجة أي خادم يأتي للتطفُّل وأخرى لحماية نفسي. لكن لا أظن أن صوت الطلقات سيُدوِّي خارج هذه الغرفة؛ فقد كانت جدرانُها سميكةً جدًّا.
ثبتُّ رسغي فوق العارضتَين المتقاطعتَين وأطلقتُ النار. استقرَّت الرصاصة يمين الجزء المعدني اللامع ببوصة. حرَّكت يدي قليلًا وأطلقتُ النار ثانية، فلامسَت رصاصتي الثانية جانبه الأيسر. ثبتُّ عينَي المُجهدتَين على الهدف، وحاولتُ للمرة الثالثة. رأيتُ شيئًا يطير في الهواء، وشعَرتُ فجأة أن الإطار الذي يقبع فوقي قد تحرَّر وصار قابلًا للتحريك … تصرَّفتُ بهدوء فأعدتُ مُسدسي إلى جيبي وأمسكتُ بالكشَّاف قبل أن أتحرك … لقد حالفَني الحظ وتحرَّرتُ. انقلبتُ على وجهي وقوَّستُ ظهري فاستطعتُ أن أزحف خارجًا من تحت الإطار دون عناء.
لم أسمح لنفسي بالتفكير في لحظة الهروب النهائية؛ إذ لن يجدي ذلك إلا في إصابتي بالتوتُّر، يكفي أن أركِّز على كل خطوةٍ على حدة. أتذكر أنني نفضتُ ثيابي ووجدتُ الجرح في رأسي قد توقف عن النزيف. استعدتُ قبعتي التي كانت قد تدحرجَت إلى زاويةٍ عند سقوطي … ثم ركَّزتُ انتباهي على الخطوة التالية.
كان استخدام النفق مستحيلًا، والمخرج الوحيد هو الباب. لو توقفتُ للتفكير لأدركتُ أن فرص الخروج من هذا المنزل واحدٌ في الألف. كتَمَت الجدرانُ السميكةُ صوتَ طلقات المسدس، لكن المكان، كما أعلم، مليء بالخدم، وحتى لو عبَرتُ من الباب القريب، فسيحاصرني الخدم في أحد الممرات. لكني تمالكتُ أعصابي جيدًا واستكشفتُ الباب بهدوء وكأنني أستكشفُ موقعًا محتملًا للتنقيب عن المعادن في رودسيا.
لم يكن للباب مقبضٌ ولا ثقبُ مفتاح حسبما رأيتُ … لكن لاحظتُ حينما سلَّطتُ مصباحي على الأرض، أن القضيبَ النحاسيَّ المغروس في الأرضية الذي كان المشبك الذي حطَّمتُه مثبتًا به يمتد إلى أحد جانبَي إطار الباب. اتضح أن الباب يعمل بواسطة نابضٍ ومتصل بآلية الأداة.
خطرَت لي فكرةٌ مجنونةٌ فهبَبتُ واقفًا على قدمي. دفعتُ الباب فانفتح ببطء. لقد حرَّرَت الرصاصة التي خلَّصَتني النابضَ الذي يتحكم بالباب.
لأول مرة، وخلافًا لكل قواعدي عن الحذَر، بدأتُ أشعر بالأمل. خلعتُ قبعتي، وشعَرتُ أن جبهتي تحترق؛ لذا أرحتُها على الجدار البارد هنيهة … ربما لا يزال الحظ في صفي. تدفقَت في عقلي صور ماري وبلنكيرون وبيتر وكل شيء كافحنا في سبيله بسرعة وعزمتُ عزمًا أكيدًا على الفوز.
لم تكن لديَّ أدنى فكرة عن التصميم الداخلي للمنزل أو عن مكان الباب الرئيسي المفضي إلى العالم الخارجي. كشف لي ضوء المصباح عن ممرٍّ طويلٍ في نهايته ما يُشبه الباب، لكني أطفأته بعد ذلك إذ لم أجرؤ على استخدامه في الظروف الحالية. كان الصمت يُخيِّم على المكان. أصغيتُ بحذَر، وبدا أنني سمعتُ بابًا يُفتح في مكانٍ بعيد، ثم ساد الصمت مرةً أخرى.
تلمَّستُ طريقي عَبْر الممر حتى استقرت يداي على الباب البعيد. رجوتُ أن يقودني إلى ردهةٍ أستطيع الهرب منها بواسطةِ نافذةٍ أو شرفة؛ إذ خمَّنتُ أن الباب الخارجي سيكون مقفلًا. أرهفتُ السمع فلم أسمع أي أصواتٍ قادمةٍ من ورائه. رأيتُ أنه لا فائدة من المُماطلة، فأدرتُ مقبض الباب بهدوءٍ شديد، وواربتُه.
صرَّ الباب، فانتظرتُ في هلع أن ينكشَف أمري؛ إذ رأيتُ بالداخل هالةً من الضوء. لكن لم يكن هناك أدنى حركة، وأدركتُ أن المكان خاوٍ. أدخلتُ رأسي من فرجة الباب، ثم أتبعتُها باقي جسدي.
وجدتُ نفسي في غرفةٍ كبيرة، يشتعل حطَب مدفأتها، ويكسو أرضيَّتَها سجَّادٌ سميك. كانت تُغطي جدرانها أرففُ الكتب، وعلى طاولة في وسط الغرفة كان مصباح القراءة مُضاءً. وجدتُ عدة صناديق أوراقٍ حكوميةٍ على الطاولة بالإضافة إلى كومةٍ صغيرةٍ من الأوراق. لا بد أن رجلًا كان بالغرفة منذ دقيقة؛ إذ قبع سيجارٌ مُشتعل على طرفِ حاملِ أدواتِ الكتابة.
في تلك اللحظة استعدتُ صفاء ذهني ورباطة جأشي. وفوق ذلك عاد إليَّ شعوري القديم بعدم الاكتراث الذي أنقذَني جيدًا من قبل. لقد رحل أفري لكن هذا المكان هو حَرَمُه المقدس. ومثلما تلهَّفتُ للحصول على أوراق شتوم فوق أسطح أرضروم، انتابتني رغبةٌ عارمةٌ في تفقُّد هذه الكومة مهما كان الثمن.
«يجب أن تعود الطيور البرية.»
في اللحظة نفسها، سمعتُ وقع خطواتٍ على الأرض وفُتح بابٌ في الجانب المقابل من الغرفة، فتراجعتُ إلى المدفأة وتحسَّستُ المسدس في جيبي.
دخل رجل له ظهرٌ مَحنيٌّ كعادة الباحثين، ولحيةٌ شعثاء، وعينان داكنتان واسعتان ناعستان. فور أن رآني توقَّف في مكانه وبدَت أماراتُ التوتُّر على جسده. كان هو اليهودي البرتغالي الذي رأيتُه آخِر مرة يقف مُوليًا ظهره لبابِ ورشةِ الحدادةِ في جزيرة سكاي، والذي لم يرَ وجهي، حمدًا للرب.
توقفتُ عن تحسُّس مسدَّسي؛ إذ خطرَت لي فكرة. قبل أن يتفوَّه بكلمة واحدة أخذتُ بزمام المبادرة.
قلتُ بالألمانية: «الطيور الصغيرة سكنَت في الغابة.»
تهلَّلَت أساريره وارتسمَت على وجهه ابتسامةٌ عذبة، وأجاب:
«صبرًا فلن تلبث أنت أيضًا أن ترتاح.»
قال بالألمانية وهو يمُد يده لمصافحتي: «آه، لقد قدمتَ من هذا الطريق، وكنا نظن أنك ستأتي عَبْر مودان. أُحيِّيك لأنني سمعتُ عن بطولاتك. ألستَ كونرادي صاحب المآثر العظيمة في إيطاليا؟»
انحنيتُ في احترام. وقلتُ: «بلى، أنا كونرادي.»