معبر السنونوات
أشار إلى القصاصة الورقية على الطاولة.
قال: «هل قرأتَ الأوامر؟»
أومأتُ برأسي علامةَ الإيجاب.
قال: «لقد انتهى العمل الشاق. ابتهِجْ فقد كان دورك هو الأصعب حسبما أظن. هل ستحكي لي التفاصيل في يوم من الأيام؟»
كان وجه الرجل صادقًا وعطوفًا ذا ملامحَ شبيهةٍ بملامح المهندس جاوديان الذي قابلتُه منذ عامَين في ألمانيا. لكن ما سحرني هو عيناه، فقد أشبهتا عينَي حالمٍ مُتعصِّب لن يتوقف عن مواصلة مَساعيه ما دام بقي على قيد الحياة. شعَرتُ أن أفري أحسن اختيار هذا الرجل لأداء المهمة.
قلتُ: «لم تنتهِ مهمتي بعْد. قدمتُ إلى هُنا لمقابلة كيليوس.»
قال: «سيعود مساء الغد.»
قلتُ: «لا يمكنني الانتظار كل هذا الوقت. لا بد أن أراه في الحال. لقد ذهب إلى إيطاليا وعليَّ اللحاق به.»
قال بجدية: «أنت أدرى بواجباتك.»
قلتُ: «لكن عليك مساعدتي. لا بد من أن ألقاه في سانتا كيارا بشأن مسألة في غايةِ الخطورة. هل تُوجَد سيارة؟»
أجاب: «هناك سيارتي. لكنها بلا سائق. فقد أخذه كيليوس معه.»
قلتُ: «يمكنني قيادتُها بنفسي كما أنني أعرف الطريق. لكن ليس لديَّ تصريحٌ لاجتياز الحدود.»
قال مبتسمًا: «سأُزوِّدك بواحدٍ بسهولة.»
كان هناك رفٌّ من الكتب المزيَّفة في خزانة الكتب. فتح الرفَّ كاشفًا عن خزانةٍ صغيرةٍ أخرج منها حقيبةً معدنية. انتقى ورقة من بين الأوراق بدت أنها تحمل توقيعًا بالفعل.
سأل: «ما الاسم؟»
أجبتُ: «اكتب هانز جروبير من بريج. وسبب السفر هو أني سأُقِل سيدي الذي يعمل في تجارة خشب البناء.»
سأل: «وتاريخ العودة؟»
قلتُ بغموضٍ متعمَّد: «سأعود من الطريق القديم»، وإن كان قد فهم قصدي فأنا لم أفهمه.
انتهى من ملء بيانات التصريح وسلَّمه إليَّ. قال: «سيُسهِّل لك المرور من المنافذ الحدودية. لنعُد إلى أمر السيارة. الخدم نائمون الآن؛ إذ كانوا يُعِدون العدة لرحلةٍ طويلة؛ لذا سأريك مكانَ السيارةِ بنفسي. ستجد بنزينًا يكفي لذهابك إلى روما.»
قادني عَبْر الردهة، وفتح الباب الأمامي، وبعد ذلك سِرنا في حديقة تُفضي إلى المرأب. كان المرأب فارغًا باستثناء سيارةٍ ضخمةٍ يُوحي مظهرها بقدومها من المنخفضات المُوحِلة. سرَّني أن وجدتُها من ماركة «دايملر» التي آلَفُ التعامُل معها. أشعلتُ المصابيح، وشغَّلتُ المحرك، ثم خرجتُ إلى الطريق.
قال: «ستحتاج إلى معطفٍ طويل.»
أجبتُ: «لا أرتدي المعاطف.»
سأل: «ماذا عن الطعام؟»
قلتُ: «لديَّ بعض الشكولاتة. سأتناول الفطور في سانتا كيارا.»
قال: «حسنًا، ليرعَك الرب!»
في غضون دقيقةٍ اندفعتُ بمحاذاة البحيرة قاصدًا قرية سانت أنطون.
أوقفتُ السيارة عند كوخ على التل. اتضح أن بيتر لم يذهب إلى فراشه بعدُ. فقد وجدتُه جالسًا عند المدفأة، يحاول التركيز في القراءة، لكن لاحظتُ من وجهه أنه كان ينتظر قدومي بقلقٍ بالغ.
قلتُ بمجرد أن أوصدتُ الباب: «نحن في ورطةٍ كبيرةٍ يا رجل.» وحكيتُ في عباراتٍ معدودةٍ عما فعلتُه في أثناء الليل، وعن مخطَّط أفري، وعن مهمتي المستميتة.
هتفتُ: «أردتُ المشاركة؟ حسنًا، يتوقف كل شيء عليك الآن. سأذهب في أعقاب أفري، والرب وحده يعلم ما سيحدث بعد ذلك. في أثناء ذلك، يجب أن تتواصل مع بلنكيرون، وتُبلغَه ما أخبرتك به. لا بد أن يُوصل تلك المعلومات إلى القيادة العامة بطريقةٍ ما. يجب أن يُوقِع بالطيور البرية قبل أن تهرب. لا أعرف السبيل إلى ذلك، لكن لا خيار آخر. أخبِره أن الأمر يقع على عاتقكما الآن؛ لأنني لم أعُد في اللعبة. يتوجَّب عليَّ إنقاذ ماري، وقد أحسِم القتال مع أفري بمشيئة الرب. لكن المهمة الكبرى صارت من نصيبك أنت وبلنكيرون. لقد ذلَّت قدمُه بشكلٍ ما أو آخر، فسبقه العدو. ولا بد أن يبذل غاية ما في وسعه لتدارُك ما حدث. إنها لحظةٌ حاسمةٌ في حياتنا يا بيتر. لا أرى بارقةَ أمل، لكن يجب ألا نُفوِّت أي فرصة. سأترك لك المسألة بأكملها.»
كنتُ أتحدث كالمحموم؛ إذ لم أعُد في كامل قواي العقلية بعد ما مررتُ به من أحداث. وحلَّ اضطرابٌ شديدٌ محل ذلك الهدوء الذي غشاني في «بينك شاليه». لا أزال أرى بيتر، واقفًا في دائرة من الضوء، يستند على ظهر مقعدٍ، قاطبًا حاجبَيه، فيما يحكُّ طرف أذنه اليسرى برفق، مثلما يفعل عادة في لحظات الإثارة. كان وجهه سعيدًا.
قال: «لا تخف أبدًا يا ديك. ستجري الأمور على ما يُرام.» وأضاف بلغة جنوب أفريقيا: «لنضع خطة.»
بعد ذلك خرجتُ إلى الطريق مرةً أخرى وما يزال القلق العارم يعتريني، وقصدتُ المعبَر الجبلي المؤدي إلى إيطاليا.
كان الضباب قد انقشع، وسطعَت النجوم في السماء. أطَل القمر، الذي كان في نهاية طور التربيع الأول، من فُرجة بين الجبال، فيما تسلَّقتُ الممر الجبلي المنخفِض الذي يربط بين وادي سانت أنطون ووادي شتاوبتال العظيم. كان هناك صقيع وتشقَّقَت طبقة الجليد الصُّلبة تحت عجلات السيارة لكن كان الجو يُنذِر بحدوث عاصفةٍ وشيكة. تساءلتُ إن كانت الثلوج ستعترض طريقي في التلال المرتفعة. كانت المنطقة بأكملها تكتنفها السكينة. لم أرَ أي ضوء في القرى الصغيرة التي مررتُ بها، ولم أرَ شخصًا واحدًا في الطريق السريع.
في وادي شتاوبتال، دخلتُ الطريق الرئيسي وانعطفتُ يسارًا إلى حوض الوادي الضيق. كان الطريق مُمهدًا، وانسابت السيارة فوقه بسرعة بين أشجار الصنَوبَر المُغطاة بالجليد حتى وصلت إلى أرضٍ مرتفعة تتقارَب فيها الجبال ويتعرَّج الطريق السريع حول الأجراف الشاسعة أو يدور حول وادٍ عميقٍ بصورةٍ خطيرةٍ لا يفصله عن هُوَّته سوى صف من الأعمدة الخشبية.
بدأ رأسي يصفو رويدًا رويدًا، ودرستُ المشكلة من جميع نواحيها. طردتُ من عقلي الوضعَ الذي تركتُه خلفي. لا بد أن يُعالجه بلنكيرون بأفضل ما لدَيه. مهمته هي التعامل مع جماعة الطيور البرية، أما أنا فسأتولى أمر أفري وحدَه. في وقتٍ مبكرٍ من الصباح سيصل أفري إلى سانتا كيارا وهناك سيجد ماري تنتظره. أما ما سيحدُث بعد ذلك فتعجز مخيِّلتي عن تصوُّره. ستكون بمفردها؛ فهو يملك من الدهاء ما يُمكِّنه من ترتيب ذلك؛ قد يُحاوِل إكراهها أو إقناعها بالقدوم معه بتلفيق قصةٍ ما. أترجَّاك يا الله أن أصل قبل انتهاء مقابلتهما، وحينها لعنتُ المنحدرات الشديدة التي كنتُ أصعدها، وتمنَّيتُ لو أن سحرًا ما يحمل السيارة الدايملر إلى ما وراء القمة، ويُذلل هبوطها المنحدر بسرعة وصولًا إلى إيطاليا.
أظن أن الساعة كانت تقترب من الثالثة والنصف، عندما رأيتُ أضواء المنفذ الحدودي. بدا الهواء أقل برودةً مما كان في الوديان، وداعبَت ندفاتُ الثلج خدي الأيمن. خرج حارسان سويسريان يحملان بندقيتَين بخطوات متعثرة، فيما كنت أوقف السيارة.
أخذ الحارسان التصريح إلى خيمة ليفحصاه، وغابا لربع ساعة قضيتُها في قلقٍ عارم. تكرَّر الإجراء بعد خمسين ياردة في نقطة التفتيش على الجانب الإيطالي؛ حيث كان الحارسان ميالَين لإجراء محادثةٍ ما أصابني بالذعر. مثَّلتُ دورَ الخادم المُتجهم، كنتُ أجيبُ على أسئلتهما بمقاطعَ أحادية، وأتظاهر بالغباء الشديد.
قال أحدهما بالألمانية: «أتيت في الوقت المناسب يا صديقي. فالطقس يزداد سوءًا وسرعان ما سنغلق المعبر. تبًّا، الجو بارد مِثل آخر شتاء قضيناه في معبر تونالي. أتذكر ذلك يا جوسيبي؟»
لكنهما في النهاية سمحا لي بالعبور. سرتُ بحذَرٍ شديدٍ لبعض الوقت؛ إذ كان الطريق في القمة مليئًا بالانحناءات وكانت الثلوج تشوِّش مجال رؤيتي. وسرعان ما بلغتُ منحدرًا شديدًا، وتركتُ السيارة تندفع فيه بسرعة. أحسستُ ببرودة الجو شيئًا فشيئًا وسرَت رعدةٌ في جسدي؛ واستحال الجليد ضبابًا أبيضَ رطبًا حول قوس الضوء المتوهج المنبعِث من مصابيح السيارة الأمامية؛ وواصل الطريق انخفاضه في هيئة تعرُّجاتٍ طويلةٍ تارةً، وانحداراتٍ شديدةٍ قصيرة تاراتٍ أخرى، حتى لمحتُ مدخل وادٍ صغير يفضي إلى الجنوب. بحكم عيشي فترةً طويلةً في البراري، صرتُ قادرًا على قراءة التضاريس الطبيعية بالحَدْس وإن لم أرَها بوضوح؛ لذا كنتُ أعرف متى يضيق الوادي ومتى يتَّسِع رغم الظلمة الحالكة.
اضطُرِرتُ إلى إبطاء السيارة رغم تعجُّلي، فقد أدركتُ بعدما انحدرتُ بها بسرعة في المرة الأولى، أنني قد أُحطِّمها وأفسد كلَّ شيء إذا لم أنتبه جيدًا. كان الطريق في منحدر الجبال الجنوبي أسوأ من الشمالي آلاف المرات. كانت السيارة تنزلق وتحيد، بل إنها لامسَت حافة الوادي في إحدى المرات. كانت عملية الهبوط مثيرةً للحنق أكثر من الصعود؛ فأثناء الصعود كان الطريق ممهدًا وما كان عليَّ إلا أن أجعل السيارة تبذل أقصى جهدها لصعود المنحدَر، لكنني الآن مُضطَرٌّ إلى كبحها لأني أفتقر إلى المهارة الكافية لقيادتها في تلك الظروف. ذلك الوقتُ الذي قضيتُه في الزحف نزولًا من قمة جبل شتاوب كان من أصعب الأوقات التي مرَرتُ بها على الإطلاق.
ثم فجأة تبدَّل الطقس السيئ إلى معتدل. رأيتُ السماء صافيةً فوقي، وأدركتُ أن الفجر يوشك أن يطلع. بلغتُ مشارف غابة الصنَوبَر، ووصلتُ إلى منحدرٍ مُستقيم أخيرًا؛ حيث تركتُ السيارة تندفع دون إحجام. بدأتُ أستعيد حماستي التي خفتَت تلك الفترة الماضية، وحسبتُ المسافة المتبقية من رحلتي … ودون سابق إنذار، انبثق من حولي عالمٌ جديد. برزَت القمم والنتوءات والقباب الثلجية البيضاء كالأشباح في الشفَق الأزرق، كانت قواعدها متواريةً في الظلمة فيما استمرَّت قممُها في التوهُّج حتى تلألأَت مثل الجواهر. لم أرَ في حياتي مثل هذا المشهد الذي بدَّدَت روعتُه كل ذرة قلقٍ في نفسي. كما منحَني وعدًا بالانتصار. أصبح الجو صافيًا مرةً أخرى، وفي مِثل هذا النقاء لا بد أن تنهزم القوى الشريرة التي تزدهر في الظلام حتمًا …
بعد ذلك رأيتُ على بعُد ميلٍ مبنًى مربعًا أحمرَ السقف الذي أعرفُ أنه فندق «سانتا كيارا».
في تلك اللحظة تعثَّر حظي. كنتُ قد تخلَّيتُ عن حذَري وأوليتُ اهتمامي للفندق بدلًا من الطريق. عند نقطةٍ مُعينة كان جزء من المنحدر منهارًا — ولا بد أن ذلك وقع حديثًا؛ إذ كان الطريق بحالةٍ جيدة — ولم ألحظه حتى صرتُ فوقه مباشرة. مالت السيارة إلى اليمين، فأدرتُها بحدة، حتى وجدتُ نفسي فوق الحافة البعيدة قبل أن أُدرِك ما حدث. ضغطتُ على المكابح بسرعة، واضطُرِرتُ إلى الخروج عن الطريق تمامًا، حتى لا تنقلبَ السيارة. انزلقتُ على منحدَرِ رابيةٍ حتى نزلتُ إلى مرج؛ حيث جعلَتْني ذنوبي أرتطم بجذعٍ ساقط، وقد كانت الصدمة قويةً فألقَتني خارج مقعد القيادة وكادت أن تكسِر ذراعي. علمتُ ما قد حدث من قبل أن أفحصَ السيارة. انبعج محور العجلتَين الأماميتَين واعوجَّت العجلة الأمامية اليسرى.
لم يكن لديَّ وقت لسبِّ غبائي. تسلَّقتُ عائدًا إلى الطريق ثم انطلقتُ أركُض بأقصى سرعتي. شعَرتُ أن جسدي مُتيبِّس بشدة؛ إذ إن مِخلَعة أفري ليست صديقةً للمفاصل، لكني لم أحسَّ بذلك إلا لأنه أبطأ قليلًا من سرعتي، فلم أعتبر الألم الناتج عنه في حدِّ ذاته. كان تركيزًا منصبًّا على النُّزُل أمامي وما قد يحدُث هناك.
كان هناك رجلٌ يقف عند باب الفندق، ما إن رآني حتى بدأ يتحرَّك للقائي. أدركتُ أنه لانسلوت ويك ومنحَتْني رؤيته الأمل.
لكن وجهه بثَّ الخوف في قلبي. فقد بدت عليه علاماتُ القلق والإنهاك، كأنه لم يذُق طعم النوم مطلقًا، وكانت عيناه مُحمرتَين كجمرتَين.
هتف: «هاناي، ماذا يعني ذلك بحق الرب؟»
شهقتُ: «أين ماري؟» كما أتذكَّر أنني أمسكتُ بتلابيبه.
جذبني إلى الجدار الحجري المنخفض على جانب الطريق.
أجاب بصوتٍ مبحوح: «لا أدري. تلقَّينا تعليماتك بالقدوم إلى هُنا في الصباح. كنا في شيافانيو حيث أمرنا بلنكيرون بالانتظار. لكن في الليلة الماضية لما اختفت ماري … اكتشفتُ أنها استأجرَت عربة وأسرعَت بالرحيل. اتبعتُها مباشرة، ووصلتُ منذ ساعة، لأجدها قد رحلَت … لم تكن مديرة الفندق موجودة وليس هناك سوى خادمَين عجوزَين. أخبرني الخادمان أن ماري قدمَت إلى هنا في وقتٍ متأخر، وفي الساعات الأولى من الصباح قدمَت سيارةٌ مغلقةٌ من معبر شتاوب الجبلي تُقِل رجلًا. قالا إنه طلب رؤية الآنسة الشابة، وإنهما تحدثا لبعض الوقت، قبل أن ترحل معه في سيارته باتجاه الوادي … لا بد أنني مررتُ بها في طريقي إلى هُنا … هناك خطةٌ شيطانيةٌ تجري لا أستطيع استيعابها. مَن يكون ذلك الرجل؟ مَن يكون؟»
بدا كأنه يريد خنقي.
قلتُ: «يمكنني الإجابة على ذلك السؤال. إنه أفري.»
حدَّق فيَّ لوهلةٍ وكأنما لم يستوعب ما قلتُ. ثم هبَّ واقفًا على قدمَيه وظل يسُب ويلعَن مثل جنديٍّ أصيل. قال: «لقد أفسدتَ الأمر كما توقَّعتُ أن تفعل. علمتُ أنه لن يأتي خيرٌ من وراء أساليبك الغامضة اللعينة». بعد ذلك لعنَنَي أنا وبلنكيرون والجيش البريطاني وأفري، بل والجميع.
كنتُ قد تخطَّيتُ مرحلة الغضب. فقلتُ له: «اجلس يا رجل وأنصِت إليَّ.» قصصتُ عليه ما حدث في «بينك شاليه». سمعني وهو دافنٌ رأسَه بين يدَيه. كان الموقف في غاية الخطورة ولن يُجدي فيه السباب.
تأوَّه قائلًا: «قطار أنفاق! إن مجرد التفكير في الأمر يفقدني صوابي. لمَ أنت هادئ إلى هذا الحد يا هاناي؟ لقد وقعتَ في قبضة أذكى شيطانٍ في العالم بأسْرِه، وأنتَ تتعامل مع الموقف بهدوءٍ شديد. ينبغي أن تكون مجنونًا مهتاجًا.»
قلتُ: «لو كان الجنون يفيد لاستخدمتُه، لكنني أفرغتُ ما بجعبتي من غضبٍ الليلة الماضية في وكر أفري. لا بد أن نتمالك أنفسنا يا ويك. أولًا وقبل كل شيء، ثقتي في ماري أبدية. لقد ذهبَت معه بإرادتها الحرة. لا أدري لمَ فعلَت ذلك، لكن لا بد أن لدَيها سببًا، وسيكون مقنعًا بلا شك لأنها أكثر براعة منكَ ومنِّي … يجِب أن نلحق بها بطريقةٍ ما. أفري في طريقه إلى ألمانيا، لكنه سيمُر بمنزل «بينك شاليه»، لأنه يأمل في أن يأخذَني معه عنوة. لقد سلك الوادي؛ وهذا يعني أنه سيذهب إلى سويسرا عَبْر طريق مارمولادا. إنها رحلةٌ طويلةٌ وستستهلك أكثر يومِه. لا أعرف السبب وراء اختياره لهذا الطريق، لكن هذا هو الوضع الراهن. يجب أن نعود عَبْر ممر شتاوب.»
سأل: «كيف أتيتَ إلى هُنا؟»
قلتُ: «هذا هو حظنا العاثر. أتيتُ بسيارة دايلمر فاخرة بمحرك ذي ست أسطوانات، لكنها تقبع محطَّمة في مرجٍ على بُعد ميلٍ من الطريق. لا يُوجَد خيارٌ آخرُ سوى السير على الأقدام.»
قال: «لا نستطيع فعل ذلك. فسيستغرق الأمر وقتًا طويلًا بالإضافة إلى أننا سنُضطَر لاجتياز الحدود.»
تذكَّرتُ في أسفٍ أنني فوَّتُّ فرصة الحصول على تصريح عودة من اليهودي البرتغالي إذ لم أكن أفكر إلا في الوصول إلى سانتا كيارا.
قلتُ: «يجب أن ندور حول الجبل ونتفادى الحراس. لا فائدة من خلق الصعوبات يا ويك. نحن في ورطةٍ كبيرةٍ بالفعل، لكن يجب أن نستمرَّ في المحاولة حتى النفَس الأخير. وإلا فسآخذ بنصيحتك وأجن.»
قال: «لنفترِض أنك عُدت إلى سانت أنطون، ستجد المنزل مغلقًا والمسافرَين قد رحلا منذ ساعاتٍ عَبر قطار الأنفاق.»
قلتُ: «هذا احتمالٌ وارد. لكن بربك يا رجل، سيظل هناك بارقةُ أمل دائمًا. ليس في صالحنا الاستسلام حتى آخر نفس.»
قال: «دعكَ من أقوالك المأثورة تلك أيها المتفلسِف، وانظر إلى هناك.»
كان يقف مسندًا إحدى قدمَيه على الجدار، ويُحدِّق في فلق في خط الثلج الذي يمتدُّ في الجهة المقابلة من الوادي. بدا أن رأس القمة المرتفعة ينخفضُ بحدة مُشكلًا ما يُشبه الشق قبل أن يرتفع مرةً أخرى في هيئة منحنًى انسيابيٍّ طويلٍ من الجليد. أخفى الظلام الجزء السفلي من الفلق، لكني خمَّنتُ من تشكيل المنحدرات أن رافدَ نهرٍ جليدي يمتدُّ من خلاله إلى المجلدة الرئيسية عند منبع النهر.
قال: «هذا معبَر كولي ديلي رونديني الجبلي؛ أي معبر السنونوات، وهو يقود إلى وادي شتاوبتال بالقرب من جرونفالد. أقطعه في سبع ساعاتٍ حينما يكون الجو معتدلًا، لكن عبوره في الشتاء عسير. لقد فعلتُها من قبل، بالتأكيد لكن لم أكررها كثيرًا … إذ كان الطقس مواتيًا، يُمكننا عبوره، ما يجعلنا نصل إلى سانت أنطون بحلول المساء. تُرى …» ونظر إليَّ نظرةً تقييمية ثم قال: «تُرى هل أنتَ أهلٌ لهذا؟»
تبدَّد التيبُّس الذي كنتُ أشعر به سابقًا، وتلهَّفتُ لأُذهِب اضطرابي بالمجهود البدني.
قلتُ: «إذا كنتَ أنت أهلًا له، فأنا كذلك.»
قال: «لا. أنتَ مُخطئ في ذلك. أنت رجلٌ قوي، لكنك لست متسلِّق جبال، وثلوج كولي ديلي رونديني بحاجة إلى رجلٍ خبير. ومن الجنون أن أجازِف بعبورها مع هاوٍ مثلك إن كان هناك خيارٌ آخر. لكن أثق أنه ليست هناك طريقةٌ أخرى لذا سأغامر بالذهاب معك. يمكننا الحصول على حبل وفأسَين من الفندق. هل تودُّ مشاركتي في هذا المغامرة؟»
أجبتُ: «بالتأكيد. تقول إننا سنعبُرها في غضون سبع ساعات. لنفعلها في ست ساعات.»
قال بعبوس: «ستتواضع أكثر عندما تسير وسط الثلوج. يُستحسَن أن نتناول الفطور؛ إذ إن الله وحده يعلم متى سنرى الطعام مرةً أخرى.»
غادرنا الفندق في التاسعة إلا خمسَ دقائقَ صباحًا، كانت السماء صافية، وشعَرنا بالرياح القوية التي هبَّت من الشمال الغربي رغم عُمق الوادي. سار ويك بخطواتٍ واسعةٍ بطيئةٍ امتحنَت صبري. إذ أردتُ الإسراع لكنه أمرَني بأن أحذُوَ حَذْوه. قال: «لا بد أن تطيع أوامري لأنني أكثر خبرةً منك في هذا الأمر. تذكَّر ضرورة المحافظة على النظام في الصفوف».»
عبَرنا إلى الضفة المقابلة من الوادي الذي يجري بواسطة جسرٍ خشبي، ثم شقَقْنا طريقنا خلال ضفَّته اليمنى، تاركين الركام الصخري خلفنا، باتجاه طرف النهر الجليدي. كانت مهمةً عسيرةً إذ أخفى الثلج الصخور الكبيرة، وتعثَّرَت قدماي في الثقوب في كثيرٍ من الأحيان. ولم يُبطئ ويك من وَتيرةِ سَيره، لكنه كان يتوقَّف من حين لآخر ليتلقط أنفاسه.
علَّقتُ قائلًا إن الجو يبدو جيدًا، لكن كان لويك رأيٌ آخر. قال: «السماء في غاية الصفاء. ستهُب عاصفةٌ عنيفةٌ على المعبر الجبلي، ويغلب على الظن أن عاصفةً ثلجيةً ستهُب في فترةٍ ما بعد الظهيرة.» وأشار إلى سحابةٍ مُصفرَّةٍ كثيفةٍ بدأَت تنتفِخ فوق أقرب قمة. بعد ذلك أحسستُ أنه أطال خطوته.
قال ويك: «من حُسن الحظ أنني جدَّدتُ نعل حذائي ومَسمرتُه في شيافاجنو.» كان هذا هو تعليقه الوحيد حتى اجتزنا النتوءات الجليدية للنهر الجليدي الرئيسي ووصلنا إلى رافده المتدفِّق ممَر معبَر كولي ديلي رونديني.
بحلول العاشرة والنصف صباحًا اقتربنا من مقدمة النهر، ورأيتُ شريطًا ثلجيًّا نقيًّا يمتد بين أجرافٍ سوداءَ شديدةِ الانحدار حتى إن الجليد لا يستقر عليها، وهو السبيلُ الوحيدُ لصعودنا إلى الممر الجبلي. كانت السماء قد تلبَّدَت بالغيوم وطفَت سحبٌ ضخمةٌ قبيحة فوق المنحدرات المرتفعة. ربطنا الحبل عند بداية الشق الجليدي الذي يسهُل عبورُه بسبب تجمُّع الثلوج فيه في فصل الشتاء. وتولى ويك القيادة، بلا شك، وسرعان ما بلغنا المسقط الجليدي.
في شبابي تسلَّقتُ جبالًا كثيرة، ووعدتُ نفسي بقضاء موسم في جبال الألب، لاختبار نفسي في صعود الجبال الشاهقة. ولو سنحَت لي الفرصة بالذهاب، لتسلَّقتُ الأبراج الصخرية الشاهقة حول وادي شاموني لأني لا أُحب الجبال الجليدية. وذلك اليوم الذي قطعنا فيه معبَر كولي ديلي رونديني زادني نفورًا من الجليد. أعترف أنني ربما استمتعتُ بالرحلة لو قمتُ بها في عطلة وأنا رائقُ المزاج بغرض التسلية. لكن تسلُّق ذلك الأخدود بنفسٍ مُضطربةٍ ورغبةٍ مُستميتةٍ في الإسراع كان الجزء الأسوأ في هذا الكابوس. كان الممَرُّ الجبلي شديدَ الانحدار وكأنه جدارٌ من الثلج الأسود الناعم الصلد كالجرانيت. تولى ويك شَق درجاتٍ فيه للصعود بمهارة أثارت إعجابي بشدة. لم يبدُ لي أنه يستخدم قوةً مفرطة، لكنه كان يصنع الدرجات بالمقاس المناسب تمامًا، وكانت المسافة بين كل درجة والتي تليها مواتيةً جدًّا. أدى ويك هذه المهمة باحترافيةٍ شديدة. حمِدتُ الرب أن بلنكيرون لم يكن معنا؛ فتسلُّق تلك الدرجات كان سيُصيبه بالدُّوار. انزلقَت رقاقاتُ الثلج بين ساقيَّ وكنتُ أراقبها حتى تستقر فوق الفجوة العميقة مباشرة.
كان الجليد الذي نتسلَّقه في حيِّز الظل، كما كان الجو باردًا لاذعًا. في أثناء صعودنا، لم يُمدَّني المجهود البدني الذي بذلتُه في استخدام الفأس بالدفء، وسرى الخدَر في جسَدي من وقوفي على ساقٍ واحدة وأنا أنتظر وضع قدمي على الدرجة التالية. الأسوأ من ذلك أن عضلاتِ ساقي بدأَت تتشنَّج. كنتُ أتمتَّع باللياقة، لكن ذلك الوقت الذي قضيتُه محبوسًا في آلة أفري أضرَّ بمفاصلي. نفرَت عضلاتُ ربلتيَّ من مكانها وشكَّلَت انتفاخاتٍ مؤلمةً حتى كِدتُ أصرخ من شدة الألم. ارتعدتُ من فكرة الانزلاق، وكلما تحركتُ ناديتُ ويك لتحذيره. رأى ويك ما يجري. فكان يُثبِّت المعول في الثلج قبل أن يأذن لي بالتحرك. كما كان يُكثِر الحديث كي يُنسيَني آلامي وذهبَت عنه تلك النبرة القاسية. فأشبه بذلك جنرالًا غضوبًا أعرفُه كان يستحيل إلى مخلوقٍ رقيقِ القلبِ في ساحة القتال.
في النهاية، بدأَت الثلوج تتساقط، تطاير مسحوقٌ ناعم، كأنه بقايا عاصفةٍ هوجاءَ تهُب وراء القمة. بعد ذلك مباشرةً صاح ويك معلنًا أننا سنبلغ القمة في غضونِ خمسِ دقائق. تفقَّد ساعة يده. قال: «أها، وفي زمنٍ جيدٍ جدًّا. لقد تأخرنا خمسًا وعشرين دقيقةً فقط عن الزمن الذي قدَّرتُه. فلم تَحِن الساعة الواحدة بعدُ.»
أول ما أتذكَّر بعد ذلك هو أنني استلقيتُ فوق حشيةٍ من الجليد أريح ساقيَّ المتشنِّجتَين، فيما صرخ ويك في أذني محذرًا من عقبةٍ وشيكة. أحسستُ بعاصفةٍ ثلجيةٍ قادمة، لكني لم أكن أُفكِّر في أي شيءٍ آخر سوى تلك الراحة العارمة من الألم. استلقيتُ على تلك الحالة بضعَ دقائق، أرفع ساقيَّ المتشنِّجتَين في الهواء وأثني أصابعي حتى بدأَت عضلاتي تعود إلى حالتها الطبيعية.
لم تكُ هذه البقعةُ مناسبةً للبقاء فترةً طويلة. نظرنا للأسفل من خلال الضباب الصاعد الذي كان يتنحى جانبًا في بعض الأحيان كاشفًا عن تشكُّلاتٍ صخريةٍ سوداءَ في القاع السحيق. تناولنا بعض الشكولاتة، وصاح ويك في أذني مُبلغًا إياي أننا انتهينا من الجزء الأكبر من رحلتنا. كان يبذل أقصى جهده للتخفيف عني لكنه عجز عن إخفاء قلقه. اكتسى وجهانا بالصقيع مثل كعكعة العُرس، ولسعَت الرياح جفوننا مثل ضَربة سَوط.
كانت المرحلة الأولى من رحلة هبوطنا سهلة؛ إذ كان المنحدر الثلجي صلبًا فلم نُضطَر إلى أن نحفر الدرجات. ثم وصلنا إلى الجليد مرةً أخرى، فاضْطُررنا إلى حفر طريقنا في الطبقة الثلجية السطحية التي تكوَّنَت حديثًا. كانت مهمةً شاقةً للغاية، حتى إن ويك لجأ إلى الصخور عن يمين الخور لنحتميَ بها من قوة العاصفة الرئيسية. وجدتُ السير فيها أسهل، لخِبرتي في التعامُل مع الصخور، لكنه كان لا يزال صعبًا لأن الثلوج كانت تُغطي كل موضعِ قدمٍ أو يد. وسرعان ما دُفعنا إلى السير في الجليد مرةً أخرى وشقَقنا طريقنا بمشقةٍ عَبْر مقطعٍ ضيِّق من الوادي. هناك كانت الرياح مريعة؛ إذ شكَّل الممرُّ الضيِّق ما يُشبه القُمع، ونزلنا ونحن نلتصقُ بالجدار، نوشك أن نحبس أنفاسنا فيما راح الإعصار يدفع جسدَينا كأنما يريد أن يحملنا بعيدًا مثل قشَّتَين ويُلقِي بنا في أغوار النسيان.
بعد ذلك اتسع الوادي وصار الهبوط أسهل، حتى وجدنا أنفسنا فجأةً على لسانٍ صخريٍّ عظيمٍ تهُب من حوله الثلوجُ كالزَّبَد في الدوَّامةِ المائية. حين توقفنا لالتقاط أنفاسنا، صاح ويك في أذني معلنًا أننا نقف فوق بلاك ستون أو الصخرة السوداء.
هتفتُ بصوتٍ عالٍ: «ماذا؟»
أجاب: «شفارتشتاين. ويُسمِّي السويسريون هذا المعبر شفارتشتاينتور؛ أي معبَر الصخرة السوداء. يمكنك رؤيتُه من جرونفالد.»
أظن أن كل فردٍ منَّا لدَيه معتقداتٌ خرافية يؤمن بها. وعندما سمعتُ ذلك الاسم في هذا المكان المتوحِّش، اجتاحتني فجأةً موجةٌ من الثقة. شعَرتُ أن جميع أفعالي جزءٌ من خطةٍ كبيرةٍ مُقدَّرة. وبالطبع لم يكن ظهور الكلمة المِفتاحية لمُغامرتي الأولى في ذاك الصراع الطويل عبثًا. شعَرتُ بالقوة تسري من جديد في ساقيَّ وامتلأَت رئتاي حيويةً. وصرختُ: «إنها بشارة. سنفوز يا صديقي العزيز ويك.»
علَّق قائلًا: «الأسوأ لم يأتِ بعدُ.»
كان مُحقًّا في ذلك. فنزولنا اللسان الصخري إلى الأخدود المُغطى بطبقات الثلج لم يترك في قوس الصبر منزعًا. لا أزال أذكُر تلك الرائحة الحامضة الكئيبة للصخور الرطبة والجليد وذلك الألَم العصبي الحاد الذي كاد أن يفلقَ جبهتي. كان الأفريقيون السود يقولون إن شياطين تسكُن الجبالَ الجليديةَ الشاهقة، وهذا المكانُ سيطرَت عليه يقينًا قوى الطبيعة غير العابئة بالحياة البشرية. شعَرتُ أنني في عالمٍ قديمٍ موجودٍ من قبل خلق البشر. عالمٍ خالٍ من أي رحمة، حشدَت الطبيعةُ فيه قواها السرمدية ضد شخصَين عديمَي القيمة لانتهاكهما قدسيته. تُقتُ للدفء، لوهج نارٍ أو شجرةٍ أو نصلِ عشبٍ أو لأي شيءٍ يشير إلى الحميمية والعناية اللتَين تسودان عالم الأحياء. أدركتُ حينها تعريفَ اليونانيين للهلَع؛ إذ أفزعَتْني لامبالاة الطبيعة. لكن ذلك الهلع منحني شيئًا من الطمأنينة. فلم أعُد أخاف من أفري أو مكائده كما في السابق. إذا خرجتُ من ذلك الجحيم البارد فسأُجابهه بثقةٍ جديدة.
قادني وِيك لأنه يعرف الطريق الذي كان بحاجة إلى من يعرفه. ولولا ذلك لكان يهبط ورائي على الحبل فذلك موضع المُتسلِّقين المُحنَّكين. مرَرتُ بلحظاتٍ مريعة وأنا أسير خلفه خاصةً عندما يصير الحبل مشدودًا فلا يُزوِّدني بالدعم المطلوب. تعرَّجنا بين الصخور، نجد أنفسنا مدفوعين ناحيةَ جليدِ الأخاديد المجاورة أو إلى الحافة الخارجية لمعبَر بلاك ستون في بعض الأحيان، كما تلمَّسنا طريقَنا بين الشقوق الصغيرة وفوق الصخورِ الناعمةِ المشئومة أحيانًا أخرى. لم تتكوَّم الثلوج المتساقطة فوق هذه الصخور، لكنها كانت تطقطق حين نطأ طبقة الجليد الخفيفة التي تُغطيها أو ترشح منها مياهُ جليدٍ ذائبة. في كثيرٍ من الأحيان كانت رحمةُ الرب وحدها مَا أنقذَتني من أن أسقط في الهاوية، وأجُر خلفي ويك الذي كان يتشبَّث بالشق أسفل منِّي. انزلقتُ أكثر من مرة لكن كنتُ أستعيدُ توازني بأعجوبة دائمًا. زاد الوضع سوءًا أن التعب بدأ يترك آثاره على ويك. أحسستُ أنه يسحب الحبل ببطء، كما تبدَّدَت تلك الدقة التي امتازت بها حركتُه في الصباح. كان هو المتسلِّق المُحترف وأنا مجرَّد شخصٍ هاوٍ. إذا انهار فلن نصل إلى الوادي أبدًا.
كانت الإرادة تشع من ويك بوضوح. عندما وصلنا إلى سفح السطح الخشن، وجلسنا متكوِّرَين مولِّيَين ظهرَينا للرياح، رأيتُ علاماتِ الإعياءِ على وجهه. يُمكِنك تخمينُ حجم المجهود الذي بذَله في سبيل التحلِّي بهذه العزيمة، لكن قواه لم تخذلْه حتى انقضى الجزءُ الأسوأ من الرحلة. بدَت شفتاه شاحبتَين، وكان يُجاهد الدُّوَارَ الناجمَ عن الإجهاد. كانت هناك زجاجةٌ من الكونياك في جيبه، فشرب منها ملءَ فمِه، وأفاق من إعيائه.
قال: «لم تعُد لديَّ أدنى طاقة. صار الطريق أسهلَ الآن، ويُمكِنك السيرُ وحدَكَ في الجزء المتبقي وفقًا لإرشاداتي … يُستحسَن أن تتركني هُنا. لن أكون سوى عبء عليك. سأتبعك عندما أشعُر بالتحسن.»
قلتُ: «لا، لن تفعل ذلك، أيها الأحمق. أخرجتَني من ذلك الجبل الجليدي اللعين؛ لذا سأتأكد من وصولك إلى بيتك سالمًا.»
دلكتُ ذراعَيه وساقَيه وجعلتُه يبلَع بعضَ الشكولاتة. لكنه عندما وقف على قدمَيه كان واهنًا مثل رجلٍ عجوز. لحُسن الحظ أن نزولنا كان سهلًا عَبْر منحدرٍ ثلجي؛ حيث انزلقنا فيه بسهولةٍ غيرِ معهودة. أنعشَته الحركةُ السريعةُ قليلًا وأوقفنا بمعوله حتى لا نسقط في الهوة الجليدية. عَبرنا إلى الناحية الأخرى بواسطة جسرٍ ثلجي وانطلَقنا نحو الكتلة الجليدية ذات النتوءات لمجلدة شفارتشتاين.
لستُ متسلقًا محترفًا، لا سيما في الجبال الجليدية والثلجية، لكني أتمتع بقوةٍ بدنيةٍ كبيرة وهذا ما أحتاجه بشدة في اللحظة الراهنة. هذا لأن هذه الكتلة الجليدية لهي شيءٌ شيطاني. شعَرتُ أن عبور هذه المتاهة من النتوءات، وسط عاصفةٍ ثلجيةٍ تُغشي البصر، ومع رفيقٍ في غاية الإعياء لا يستطيع أن يعبُر حتى أضيق الشقوق أو يتشبَّث بالحبل مثل قائدٍ عند الضرورة، يفوق قدرتي على التحمُّل. كما أن كل خطوةٍ جديدةٍ قرَّبَتني من الوادي ألهبَت حماستي للإسراع، وأصبح السير في تلك المتاهة من الجليد المتخثِّر مثل كابوس الوقوف على قضبان سكة حديد، ترى القطار السريع يقترب لكنك تعجزُ عن القفز على رصيف المحطة من شدة الوهَن. في أول فرصةٍ مُمكنة، تركتُ النهر الجليدي واتجهتُ إلى منحدر التل؛ لأنه يمنحني إمكانيةَ التحركِ في خطٍّ مستقيم، على الرغم من أن اجتيازه يتطلَّب جهدًا شاقًّا. لم ينبِس ويك ببِنت شَفة. نظرتُ إليه وإذا وجهُه شاحبٌ رغم الرياح الهوجاء التي ينبغي أن تُصيب وجنتَيه بالتورُّد وعيناه نصف مُغلقتَين. كان يستهلك آخر ذرة من صموده …
في غضونِ فترةٍ وجيزة، بلغنا الركام الصخري، وعبَرنا عددًا من روافد النهر الجليدي، حتى وصلنا إلى طريقٍ يفضي إلى جانب المنحدَر. أردتُ التأكد من صحة الطريق فأومأ ويك برأسه في وهن. وشعَرتُ بالسعادة عندما رأيتُ شجرةَ صنَوبَر قديمة.
حلَلتُ عقدةَ الحبل وسقَط ويك على الأرض مثل جذع شجرة. قال متأوهًا: «اتركني. نفِدَت قوَّتي تمامًا. سأتبعك في وقتٍ لاحق.» وأغلق عينَيه.
أخبرَتْني الساعة أن الوقت قد تجاوز الخامسة مساءً.
قلتُ: «اصعَد على ظهري. لن أتركك حتى أعثُر على كوخ. أنتَ بطل. لقد أخرجتَني من تلك الجبال اللعينة وسط عاصفةٍ ثلجية، وذلك أمرٌ لا يستطيع أي رجلٍ آخر في بريطانيا فعلَه. انهض.»
أطاعني إذ لم تعُد لدَيه أدنى طاقةٍ لبذلها في الجدل. ربطتُ رُسغَيه بمنديلٍ، تحت ذقَني، حتى أُمسك ساقَيه بذراعيَّ. أما الحبل والمِعوَل فقد تركتُهما في مخبأ أسفل شجرة الصنَوبَر. بعد ذلك أنشأتُ أهروِل باحثًا عن أقربِ منزلٍ على الطريق.
شعَرتُ أن قوَّتي مَعينٌ لا ينضب، ودفعَتْني الطاقة السارية في أحشائي لمُواصلة الطريق. كان الجليد لا يزال ينهمر، لكن الرياح قد هدأَت سَورتُها، وبعد ما مرَرْنا به من أهوال في الممر الجبلي، شعَرتُ أن الطقس يبدو كالصيف. دار الطريقُ حول الصخور الرسوبية لجانب المنحدر، ثم صبَّ فيما يبدو أنه في موسم الربيع يكون مُروجًا مرتفعة. بعد ذلك تخلَّل الطريق الأشجار، وسمعتُ هديرَ النهرِ الجليدي يجري في خوره البعيد بالأسفل. وسرعان ما ظهرَت الأكواخُ الفارغةُ الصغيرة، والحقولُ المُعشوشِبة المُسيَّجة البدائية، وبلغنا جرفًا مطلًّا على النهر وشممتُ رائحةَ دخانِ الحطب الدال على أن هذه المنطقة مأهولة بالسكان.
وجدتُ قرويًّا متوسط العمر في الكوخ، يعمل دليلًا في الصيف وحطَّابًا في الشتاء.
قلتُ: «أحضرتُ سيدي من قرية سانتا كيارا عَبْر معبر شفارشتين. إنه في غاية الإنهاك وبحاجة إلى النوم.»
وضعتُ ويك على مقعد، وتدلَّى رأسه على صدره. لكن تحسَّن لون وجهه قليلًا.
قال الرجل بخشونة لكن بغير قسوة: «أنت وسيدك مُغفَّلان. لا بد أن ينام وإلا فسيصاب بالحمى. شفارتشتاينتور في هذا الطقس اللعين! هل هو إنجليزي؟»
قلتُ: «أجل. شأنه شأن جميع المجانين. لكنه سيدٌ صالح ومتسلقٌ شجاع.»
خلعنا عن ويك زيَّ الصليب الأحمر الذي استحال إلى أسمالٍ مبلَّلة، وأدخلناه بين الأغطية، فيما وضعنا زجاجةً فخاريةً ضخمةً مملوءةً بالماء الساخن عند قدمَيه. باشرَت زوجة الحطَّاب غليَ الحليب ووضعناه بين شفتَيه بعد مزجه بالقليل من الكونياك. لم يعُد ذهني قلقًا بشأنه لأنني رأيتُ هذه الحالة من قبلُ. في الصباح سيصير متيبسًا مثل قضيبٍ حديدي لكنه سيكون قد استردَّ عافيتَه.
قلتُ: «سأنطلق الآن إلى سانت أنطون. يجب أن أصل هناك الليلة.»
ضحك الرجل وقال: «أنتَ رجلٌ قوي الإرادة. سأرشِدك إلى أسرع طريق إلى جرونفالد حيث يمُر القطار. لو حالفك الحظ فستُدرك القطار الأخير.»
أعطيتُ القروي خمسين فرانكًا نيابةً عن سيدي، وأنصتُّ إلى إرشاداته للطريق الأسرع، ثم انطلقتُ بعدما شربتُ لبن الماعز، أمضغ آخر قطعةٍ من الشكولاتة. كنتُ لا أزال في غاية الحيوية من النشاط الحركي، وركضتُ الثلاثة الأميال الفاصلة بين الكوخ ووادي شتاوبتال، دون أن أُحِسَّ بأدنى تعب. وصلتُ قبل الموعد بعشرين دقيقة، وفيما جلستُ على الدكة على الرصيف، تراجعَت طاقتي بغتة. هذا ما يحدُث بعدما يبذل المرء مجهودًا كبيرًا. تلهَّفتُ للنوم، وعندما وصل القطار تسلَّلتُ إلى مقصورة، مثل رجلٍ يُعاني من الشلل. بدا أنه لم يعُد هناك أدنى طاقةٍ في أطرافي. أدركتُ أن ساقيَّ في غاية الإنهاك، وهو أمرٌ شائعٌ بين الخيل لكن ليس البشر.
استلقيتُ دون حَراكٍ طيلة الرحلة كأنني في غيبوبة، وميَّزتُ محطتي بصعوبة، فخرجتُ من القطار بخطواتٍ متعثرة. لكن فور أن انبثقتُ من محطة سانت أنطون دبَّت في جسدي طاقةٌ جديدة. هطلَ الكثير من الثلوج منذ أمس، لكنها توقفَت الآن، وصارت السماء صافيةً والقمر ساطعًا. عادت إليَّ جميع مخاوفي فور أن رأيتُ المكان الذي أعرفه جيدًا. وانمحى من ذاكرتي ذلك اليومُ الذي قضيتُه في معبر السنونوات، ولم أعُد أرَى سوى فندق «سانتا كيارا» وأسمع سوى صوتِ ويك المبحوح وهو يتحدث عن ماري. تلألأَت مصابيحُ القرية بالأسفل، ورأيتُ عن يميني الأجمة التي تحتضن «بينك شاليه».
سلكتُ طريقًا مختصرًا بين الحقول متجنبًا البلدةَ الصغيرة. ركضتُ بأقصى سرعتي، متعثرًا في كثير من الأحيان؛ إذ لا تزال ساقاي ضعيفتَين، وإن كنتُ قد استعدتُ صفاء ذهني. سمعتُ ساعة المحطة تدقُّ معلنةً أننا في التاسعة والنصف مساءً تقريبًا.
سرعان ما بلغتُ الطريق السريع، ووصلتُ إلى بوابات «بينك شاليه». سمعتُ، كأنني في حُلم، ما بدا أنه صوتُ صفيرٍ حاد ثلاثَ مرات. بعد ذلك مرَّت أمامي سيارةٌ كبيرةٌ متجهة إلى سانت أنطون. لوهلة خطر لي التلويح لسائقها، لكنها تجاوزَتني وذهبَت بعيدًا. لكني كنت متيقنًا أنني سأجدُ ضالتي في المنزل؛ فأنا أعتقد أن أفري هناك، وهو مَن يعنيني الآن.
اجتزتُ ممَر السيارات بسرعة، بلا أي خطةٍ في رأسي، بل مجرَّد تسرُّعٍ أعمى لأرى ما يُخبئه لي القدَر. تذكَّرتُ، بشكلٍ غيرِ واضح، أنه لا تزال لديَّ ثلاثُ خراطيش في مسدسي.
وجدتُ الباب الأمامي مفتوحًا، فدلفتُ إلى الداخل، ومشيتُ على رءوس أصابعي في الممَر المُفضي إلى الغرفة التي قابلتُ فيها اليهوديَّ البرتغالي. لم يعترض أحدٌ طريقي لكن هذا ليس بسبب غياب الخدم. أخبرني حَدْسي أن هناك أشخاصًا يتربصون لي في الظلام، وتراءى لي أنني سمعتُ همساتٍ خافتةً باللغة الألمانية. أحسستُ بوجود شخصٍ أمامي، ربما يكون المُتحدث؛ لأنني سمعتُ خطواتِه الحذِرة. كان الظلام دامسًا لكن تسلَّل شعاعٌ من الضوء من أسفل باب تلك الغرفة. بعد ذلك انبعثَت من خلفي جلجلةُ غلقِ باب الردهة وتكتكةُ مفتاحٍ يُدار في قفله. أدركتُ أنني دخلتُ بقدَمي إلى فخٍّ مباشرة ولم يعُد هناك مجالٌ للرجعة.
ازداد ذهني صفاءً وإن كان غرضي لا يزال غَير واضح. أردتُ مجابهة أفري، وكنتُ متأكدًا من وجوده أمامي في مكانٍ ما. ثم تذكَّرتُ الباب الذي أخرجَني من الغرفة التي كنتُ حبيسًا فيها. لو استطعتُ الدخول من خلاله فقد أحظى بأفضلية مفاجأته.
تحسَّستُ الجانبَ الأيمنَ للمَمَر، وعثَرتُ على مقبض بابٍ. أفضى الباب إلى ما يبدو أنه غرفةُ طعام؛ إذ لا تزال رائحةُ طعامٍ خفيفةٌ عالقةً بالمكان. مرةً أخرى، أحسَستُ بوجودِ أناسٍ آخرين، لكنهم لم يتعرَّضوا لي لسببٍ لا أعلمه. ورأيت في الجهةِ المقابلةِ للغرفةِ بابًا آخر يقود إلى غرفةٍ ثانية، خمَّنتُ أنها تُجاوِر غرفة المكتبة. لا بد أنه يقبع وراءها الممَر الذي يتَّصِل بغرفة المخلعة. كان الصمتُ المطبقُ يُخيِّم على المنزل بأكمله.
صحَّ تخميني. كنتُ واقفًا في نفس الممَر الذي وقفتُ فيه الليلة السابقة. وجدتُ المكتبة أمامي، كما تسلل شعاعُ الضوء الخفيف نفسه من تحت الباب. أدرتُ مقبض الباب بهدوءٍ شديد، وفتحتُ الباب فتحةً صغيرة …
كان أوَّل ما رأيتُه هو جانب وجه أفري. كان ينظر إلى طاولة الكتابة حيث يجلسُ شخصٌ ما.