قطار الأنفاق
هذه هي القصة التي سمعتُها من ماري لاحقًا …
كانت في ميلان، تعمل في المشفى الإنجليزي الأمريكي الجديد، عندما تلقَّت رسالةَ بلنكيرون. كانت قرية سانتا كيارا هي مكان اللقاء المُتفق عليه، وذكَرَت الرسالة سانتا كيارا على سبيل الخصوص، وحدَّدَت موعدَ ذهابها إلى هناك. أصابتها الرسالة بشيءٍ من الحَيْرة؛ إذ لم تكن قد وردَتها بعدُ أيُّ أخبارٍ من أفري، رغم أنها أرسلَت رسالتَين إلى العنوان غير المباشر الذي أعطاه لها بوميرتس. لم تعتقد أنه سيأتي إلى إيطاليا باعتبار مجريات الأحداث؛ لذا فإن التاريخ الذي حدَّده بلنكيرون أصابها بالدهشة.
في صباح اليوم التالي، وردَتْها رسالةٌ من أفري، يُلح عليها باللقاء. وكانت بداية سلسلةٍ من الرسائل المليئة بالكلام الغريب حول أزمةٍ وشيكةٍ تختلِط فيها هواجسُ المتنبئ بشوق المُحب.
كتبَ: «تُوشِك العاصفة أن تندلِع، ولا أستطيع التفكير في قدَري وحدي. أريد أن أخبرك بأمرٍ يهمُّك بشكلٍ خاص. تقولين إنكِ في لومبارديا. يمكنكِ الوصول إلى وادي شيافاجنو بسهولة، وستجِدين عند رأس الوادي فندق «سانتا كيارا»، سأذهب إلى هناك في صباح التاسعَ عشرَ من شهر مارس. قابليني في ذلك المكان، ولو لنصف ساعةٍ فحسب، أرجوك. لقد تشاركنا الآمالَ والأسرار، وأريد أن أشاطركِ معلوماتٍ لا يملكها أحدٌ غيري في أوروبا. لديكِ قلبُ أسد، يا سيدتي، جديرٌ بالأنباء التي سأحملها إليك.»
استُدعي ويك من الوحدة التي كان يعمل بها في الصليب الأحمر في مدينة فشنزة الإيطالية، ونُفذَت الخطة التي وضعها بلنكيرون بالحرف الواحد. قابلهما أربعةُ ضباط من وحدات المشاة الجبلية الإيطالية يرتدون ملابس القرويين الخشنة في شيافاجنو في صباح الثامنَ عشرَ من مارس. ونُسق ذهابُ مالكة فندق «سانتا كيارا» لزيارة ابن أختها، تاركةً الفندق وسط هدوء موسم الشتاء العازل تحت مسئولية خادمَين عجوزَين. رتَّب أفري قدومَه في التاسعَ عشرَ من مارس في الظهيرة؛ لذا ذهبَت ماري بالسيارة إلى الوادي في الصباح، فيما سلك ويك والضباط مسارًا مختلفًا متواريًا عن الأنظار، ووصلوا إلى المحطة القريبة من الفندق قبل منتصف النهار.
لكن في مساء الثامنَ عشرَ، في فندق «فور كينجز» في شيافاجنو، تلقَّت ماري رسالةً أخرى. وردَتها هذه الرسالة منِّي، وأخبرتُها أني أستعِد لاجتياز معبر شتاوب الجبلي في منتصف الليل، وأنني سأكون في الفندق قبل الفجر. رجوتُها أن تُقابلني هناك، بمفردها دون صحبة الآخرين؛ لأن لديَّ ما يجب أن أخبرها به قبل قدوم أفري. رأيتُ الرسالة. كانت مكتوبة بخطٍّ يُشبه خطي السيئ بطريقةٍ متقَنةٍ حتى إني عجزتُ عن التفريق بينهما. لو كنتُ كتبتُ هذه الرسالة لما استخدمتُ هذه المفردات تحديدًا، لكنها كانت بها بعض العبارات التي بدت لعقل ماري أنها لن تصدُر إلا عني. أعترف أنه تصرف بخبث، لا سيما عندما استخدم كلماتِ غزلٍ مهلهَلة كانت ستصدُر عني إذا ما حاولتُ ترجمةَ مشاعري إلى كلماتٍ على الورق. على أي حال لم تشُك ماري في أن الرسالة حقيقية. وتسلَّلَت بعد العشاء، واستأجرَت عربةً يجرها جوادان مُنهكان، وانطلقَت باتجاه الوادي. كما تركَت رسالةً قصيرةً لويك تأمُره فيها بالالتزام بالخطة — وهي رسالةٌ لم تصل إلى يدَيه على الإطلاق — لأن قلقَه بشأن اختفائها دفعَه للحاق بها على الفور.
في صباح يوم التاسعَ عشرَ، عند الساعة الثانية تقريبًا، وصلَتْ ماري إلى الفندق، بعد رحلةٍ بطيئةٍ شديدةِ البرودة، وأيقظَت الخادمَين العجوزَين، ثم أعدَّت لنفسها كوبًا من الشكولاتة من سلة النزهات التي كانت تحملها، وجلسَت تنظر قدومي.
وصفَت ماري الفترةَ التي قضتها في انتظاري. أضاءت شمعةٌ منزليةُ الصنع في شمعدانٍ خزفيٍّ طويل غرفةَ الطعام التي لم يتوافر غيرها للاستخدام. كان السكون مُخيمًا على المكان، والثلوج تُغطي الطرقات، والجو باردًا لاذعًا مثلما هو معتادٌ في الساعات الأولى من الصباح في شهر مارس. أخبرَتْني أن مذاق الشكولاتة ورائحةَ شحم الحيوان المُحترق ستُذكِّرها دائمًا بذلك المكان الغريب وخفقان قلبها وهي تنتظر. كانت على أعتابِ شهودِ اللحظةِ الحاسمةِ لجهودنا، وهي شابةٌ يافعة، والشباب يملكون خيالَا جامحًا. كما أنها كانت تنتظرني أنا، ونحن لم نتواصل منذ عدةِ أسابيع باستثناء الرسالة ذات الخط السيئ التي تلقَّتها منِّي بالأمس … حاوَلَت تشتيتَ ذهنها من خلال دندنةِ بعضٍ من أبيات الشعر، وما خطَر ببالها في تلك اللحظات هي قصيدة «العندليب» لجون كيتس، وهي قصيدةٌ غريبةٌ لا تتناسب مع الزمان أو المكان.
كان هناك مقعدٌ من الخوص بين أثاث الغرفة، جلسَت عليه ماري متدثرةً بمعطفها المصنوع من الفرو. بعد ذلك سمعَت صوتَ حركة في الفندق؛ فقد ابتهجَت الخادمُ العجوزُ التي استقبلَتها وثار فضولها عندما سمعَت بقدومِ ضيفٍ آخرَ كعادة الخدم. فالنسوة الجميلات لا يُسافرن في منتصف الليل إلا لسببٍ قوي. لذا بَقيَت متيقظةً تنتظر ما سيحدث تاليًا.
فجأةً اخترق الصمتَ صوتُ سيارة تبطئ سرعتها أمام الفندق. هبَّت ماري واقفةً من فرط انفعالها. تكرر المشهد الذي حدث في قلعة بيكاردي من الغرفة الخافتة الإضاءة والصديق القادم ليلًا. سمعَت الباب الأمامي يُفتح وصوتَ خطواتٍ في الردهة الصغيرة …
وجدَت نفسها تنظر إلى أفري … فورَ أن دخل أفري خلع معطف القيادة بسرعة وانحنَى برصانة. كان يرتدي بدلةَ صيدٍ خضراء، بدا لونها بنيًّا مخضرًّا كالزي العسكري البريطاني في الإضاءة الخافتة، كما كان في مثل طولي تقريبًا؛ لذا انخدعَت بهيئته للوهلة الأولى. بعد ذلك رأت وجهه وتوقَّف قلبُها عن الخفقان.
هتفَت: «أنت!» وغاصت في مقعدها مرةً أخرى.
قال: «أتيتُ إليك كما وعدتكِ وإن كنتُ مبكرًا عن الموعد الذي اتفقنا عليه. اعذري لهفتي للقياكِ.»
لم تنتبِه لكلامه؛ فقد كانت الأفكار تتدفَّق في عقلها بجنون. صارت تُدرِك أن الرسالة التي تلقَّتها مزيفة، وأن هذا الرجل كشَف مخطَّطاتنا. وهي الآن تُواجهه بمفردها؛ إذ لن يصل أصدقاؤها من شيافاجنو إلا بعد ساعات. وأصبح هو المتحكِّم في اللعبة، ولم يتبقَّ لمجابهته من بين أفراد الجماعة إلا هي. تتَّسِم ماري بشجاعةٍ شبهِ مُطلقة، ولم تفكِّر آنذاك في نفسها أو في مصيرها. حدث ذلك لاحقًا. لكن في تلك اللحظة غشيَتها خيبةٌ عارمةٌ من فشلنا. فلقد ذهبَت جميعُ جهودنا أدراجَ الرياح وانتصَر العدو علينا بسهولةٍ مُخزية. لكن توتُّرها تبدَّد أمام شعورها بالندَم الشديد، وبدأ عقلها يُباشِر معالجة الموقف بهدوءٍ ونشاط.
واجهَت ماري أفري جديدًا، يشع قوةً وإصرارًا من كل ثنية من ثناياه، وتُحيط به هالة من الثقة الهادئة المُستمدَّة من شعوره بالسيطرة. بعد ذلك تحدَّث بتهذيبٍ رصين.
قال: «انتهى وقتُ التظاهر. تبارزنا بالكلمات. فقد أخبرتُك بنصف الحقيقة فيما حافظتِ على بقاءِ مسافةٍ بيننا. لكنك تعلمِين في قرارة نفسك، يا سيدتي العزيزة، أننا سنتواجه عاريَين بلا أقنعةٍ يومًا من الأيام، وها قد أتى اليوم. أخبرتُك أنني أحبُّك من قبل. لذا لم آتِ اليوم للإفصاح عن مشاعري مرةً أخرى. في الحقيقة أتيتُ لأطلبَ منك أن تثقي بي، وتشاركيني مصيري، وأنا أعِدُك بالسعادة التي تستحقينها.»
سحب أفري مقعدًا وجلس بجوارها. لا أستطيع سردَ جميع ما قاله؛ إذ لمَّا استوعبَت ماري مسار الحديث، انشغلَت بأفكارها ولم تنتبِه لحديثه. لكن ما فهمتُه منها هو أنه أعرب عن نفسه بصراحةٍ شديدة، وبدأ يترقَّى بحديثه في مراتب الفكر والأخلاق. فقد أخبرها بهويَّته الحقيقية والدور الذي أداه طَوالَ الفترة الماضية. كما ادعى مشاركتَها في غايتها وهي كراهية الحرب والشغف لإعادة العالَم إلى ما كان عليه من فضيلة. لكنه الآن خلَص إلى فضيلةٍ جديدة. فهو ألماني، وألمانيا وحدَها هي القادرة على تحقيق السلام والتجديد. لقد تطهَّرَت دولتُه من أخطائها، ويُوشِك انضباطُ ألمانيا المُثير للإعجاب أن يُثبت جدارتَه للآلهة والبشر. كرَّر على أسماعها ما أخبرني به في غرفة «بينك شاليه» لكن بصيغةٍ أخرى. فألمانيا ليست انتقاميةً أو متفاخرةً بل صبورة ورحيمة. ويُوشِك أن يُعطيها الرب القوة لتقرير مصير العالم، ويقع على عاتقه وأقرانه التأكُّد من خيرية قرارها. إن مهمة شعبه العظيمة قد بدأَت للتو.
هذا هو خلاصةُ حديثه. تظاهَرَت بأنها تُصغي إليه لكن كان عقلها في مكانٍ آخر. يجب أن تُعطِّله ساعتَين، أو ثلاثًا، أو أربعًا. وإن عجزَت عن ذلك فيجب أن تُلازِمه. فهي الوحيدة التي لها اتصالٌ به من بين أفراد مجموعتنا …
تابع: «سأذهب إلى ألمانيا الآن. أريدك أن تأتي معي وتصيري زوجتي.»
انتظر ردَّها ثم حصل عليه في هيئةِ سؤالٍ مندهش.
سألَت: «إلى ألمانيا؟ كيف؟»
أجاب مبتسمًا: «الأمر سهل. السيارة التي تنتظرنا بالخارج هي المرحلة الأولى في نظام نقلٍ أحكمناه.» وأخبرها عن نظام «قطار الأنفاق» لا بالطريقة نفسها التي أخبرني بها لبثِّ الخوف في صدري، بل استعرض قوة ألمانيا وبُعد نظرها.
تصرَّف أفري بصورةٍ مثاليةٍ لا تشوبها شائبة. فقد أظهر توقيرَه وتفانيَه وتفهُّمَه لجميع الأمور. كما لبس عباءة المُتوسِّل لا الآمِر. وعرض عليها السلطةَ والجاهَ ووظيفةً مغرية؛ لأنه استحق كل التقدير من دولته، وهو التفاني لمحبٍّ مُخلص. سيأخذها إلى موطنه وستتلقى حفاوةَ الأميرات. لا أشُك في إخلاصه لأن لدَيه جوانبَ كثيرة، وذلك الجانب الفاجر الذي كشفه لي في «بينك شاليه» قد تخلى عن مكانه للجانب النبيل الشريف. كان يؤدي جميع هذه الأدوار ببراعة لأنه تبنَّاها كلَّها بصدق.
بعد ذلك تحدَّث عن الأخطار، لا بهدف التقليل من شجاعتها، بل للتأكيد عن اكتراثه بأمرها. فالعالم الذي تقطن فيه يشهد حالة انهيار، ولا يستطيع أحد غيره إيواءها. أحسَّت بتهديد في باطن كلامه المعسول.
كانت ماري غارقةً في التفكير طيلة هذا الوقت، ومسندةً ذقنها بيدَيها كعادتها القديمة … يُمكنها أن ترفضَ الذهاب معه. ويمكنه إرغامُها، بلا شك؛ إذ لن يهُب الخادمان العجوزان لنجدتها. لكن ليس من السهل نقلُ امرأةٍ كرهًا في المرحلة الأولى لنظام قطار الأنفاق. قد تُوجَد فرصٌ للنجاة … على افتراض أنه قَبِل رفضَها وتركَها وشأنها. لكنه في هذه الحالة سيكون قد رحل للأبد وستنتهي المهمة بالفشل الذريع. وسيعود ألد أعداء إنجلترا إلى موطنه في فرحٍ يحمل غنائمه في يده.
آنذاك لم تخشَ على نفسها من أفري. إن القلب البشري مُثيرٌ للعجب؛ فقد كان شغلها الشاغل المهمة لا حياتها. تراءى لها الفشل التام أمرًا في غاية المرارة. لنفترض أنها ذهبَت معه. سيُضطَرون إلى مغادرة إيطاليا والذهاب عَبْر سويسرا. ولو ذهبَت معه فستكونُ رسولَ الحلفاء في معسكر العدو. سألَت نفسها ماذا يُمكنها أن تفعل من موقعها ذاك، وأجابت: «لا شيء». كانت تشعر أنها مثل طائرٍ صغيرٍ عالقٍ في مصيدةٍ ضخمة وتملَّكَها إحساسٌ بالعجز. لكنها درسَت إنجيل بلنكيرون وعلمَت أن السماء تُرسِل فرصًا عجيبةً للباسلين. وحتى بعدما عقدَت العزم على الذهاب، أحسَّت بشبحٍ أسودَ يتربص بها من مكانٍ بعيد في عقلها، وهو الخوف الذي كانت تُدرِك أنه ينتظر الفرصة للانقضاض عليها. كانت تعلم المصير الذي ينتظرها. هذا لأنها ذاهبةٌ إلى المجهول مع رجلٍ تكرهه هي، ويدَّعي هو حُبه لها.
كان أشجع تصرُّف سمعتُ به على الإطلاق، وأنا من عشتُ حياتي بين الرجال الشجعان.
قالت: «سآتي معك. لكن لا تتحدَّث معي من فضلك؛ فأنا أشعر بالتعَب والاضطراب، كما أنني بحاجة إلى الهدوء لأتمكن من التفكير.»
فور أن نهضَت من مقعدها، اجتاحتها موجةٌ عارمةٌ من الضعف، وترنَّحَت حتى التقطَها بين ذراعَيه. قال برقة: «ليتني أستطيعُ ترككِ ترتاحين قليلًا، لكن الوقت يمضي بسرعة. السيارة مريحة ويُمكِنكِ النوم فيها.»
استدعَى أفري الخادمَ وتعهَّد إليها بماري. قال: «سنغادر خلال عشرِ دقائق»، وبعد ذلك خرج لأمر السائق بإحضار السيارة.
كان أول ما فعلَته ماري حين أوصلَتها الخادم إلى غرفتها هو أن غسلَت عينَيها ومشَّطَت شعرها. راودَها شعورٌ بضرورة المحافظة على صفاء ذهنها. بعد ذلك كتبَت ملاحظةً سريعةً لويك تُخبره فيها بما حدث ثم سلَّمَتْها للخادم وأعطتها إكرامية.
قالت: «سيأتي السيد النبيل في الصباح. لا بد أن تُسلِّميها له على الفور لأنها تخصُّ مصير الدولة.» ابتسمَت المرأة ابتسامةً عريضةً ووعدَتها بتسليمها للرجل. لم تكن هذه المرة الأولى التي تسعى في حاجة امرأةٍ جميلة.
وضع أفري ماري في سيارةٍ ضخمةٍ بعنايةٍ فائقة، ودثَّرها بدِثار. ثم عاد إلى الفندق لحظةً، ولاحظت حركةً خفيفةً في غرفة الطعام. بعد ذلك رجع أفري وتحدَّث للسائق بالألمانية فيما جلس في المقعد بجواره.
لكنه قبل أن يفعل ذلك ناوَل ماري الملاحظةَ التي تركَتْها من أجل ويك. قال: «أظن أنكِ نسيتِ هذا.» ولم يكن قد فتحَها.
غلب النوم على ماري وهي تجلسُ وحيدةً في السيارة. واستحالت هيئتا أفري والسائق في المقعد الأمامي داكنتَين في ضوء المصابيح الأمامية قبل أن تستغرق في أحلامها. فلقد تعرضَت لضغطٍ كبيرٍ لم تشهده من قبلُ وغرقَت في نومٍ عميق من فَرْط شعورها بالإرهاق.
عندما استيقظَت وجدَت نفسها في وضح النهار. من النظرة الأولى أدركَت أنهم لا يزالون في إيطاليا، ما يعني أنهم لم يسلكوا معبر شتاوب. بدا كأنهم يسيرون بين سفوح الجبال؛ إذ لم يكن هناك سوى القليل من الثلوج، لكن من حينٍ لآخر كانت تلمح القممَ العاليةَ في نهاية الأوديةِ الفرعية. سعت جاهدةً لتمييز الطريق ثم تذكَّرَت معبر مارمولادا الجبلي. بذل ويك جهدًا كبيرًا في تدريسها طبوغرافية جبال الألب من قبلُ، وقد استوعبَت حقيقةَ وجودِ معبرَين مفتوحَين. لكن ممَر مارمولادا يعني أنهم سلكوا طريقًا غيرَ مباشر ولن يصلوا إلى سويسرا قبلَ حلولِ الظلام. قد يبلغُونها في الليل، ويرحلون عنها في الليل أيضًا، ولن تحظى بأي فرصةٍ للهرب. شعرَت بوحدةٍ شديدة وبانعدامِ الحيلة.
حملَت ساعاتُ النهار المزيدَ من الخوف إلى ماري. وكلما يئسَت من هزيمة أفري تغلغل ذلك الشبحُ الأسود في عقلها بإصرار. حاولَت تهدئة نفسِها بمشاهدة المناظر الطبيعية من النافذة. أخذَت السيارة تتأرجح في القرى الصغيرة مرورًا بكروم العنب وأشجار الصنَوبَر والبحيرات الزرقاء وفوق وديانٍ تجري فيها أنهارٌ جبلية. لم تُشكِّل تصاريحُ السفر مشكلةً فيما يبدو. فقد لوَّح حارسا نقطة التفتيش بأيديهما علامةَ الاطمئنان عندما نظرا إلى البطاقة التي حملَها السائقُ بين أسنانه. لكن في إحدى نقاط التفتيش طال الانتظار وسمعَت أفري يتحدث مع ضابطَين من فيلق الرماة الإيطالي باللغة الإيطالية ويقدِّم لهما السجائر. بدت أماراتُ الشباب والصلاح على الضابطَين، ولوهلةٍ خطر لماري أن تدفع باب السيارة بعنف، وتتوسَّل إليهما لإنقاذها. لكنها علمَت أن الأمرَ لن يُجديَ نفعًا؛ إذ يبدو أن أفري يملك جميع الوثائق اللازمة. وتساءلَت عن الشخصية التي ينتحِلها أفري حاليًّا.
اختار أفري طريقَ مارمولادا لغرضٍ ما. ففي بلدة، التقى بمسئولٍ مدني وتجاذبا أطراف الحديث، وكانت السيارة تُبطئ سرعتها، في كثيرٍ من الأحيان، ليظهر شخصٌ من جانب الطريق، ويتبادل مع أفري بضع كلماتٍ قبل أن يتوارى عن الأنظار من جديد. شهدَت ماري التجميع النهائي لخيوط خطةٍ كبيرةٍ قبل أن تئوب الطيور البرية إلى أعشاشها. بدا أن غالبية هذه اللقاءات عُقدَت بالإيطالية لكنها خمَّنَت من حركة الشفاه مرةً أو مرتَين أن المُجتمعين يتحدثون الألمانية، وأن القرويَّ الأشعث أو البرجوازيَّ ذا القبعة السوداء ليس إيطاليَّ الأصل.
في ساعات النهار الأولى، بعدما استيقظَت ماري بفترةٍ وجيزة، أوقف أفري السيارة وقدَّم لها سلَّةً مليئةً بالوجبات الخفيفة. لم تستطع تناوُل أي شيء، واكتفت بمشاهدته يتناول الشطائر في الفطور، بجوار السائق. في المساء استأذنها في الجلوس بجوارها. توقَّفَت السيارة في مكانٍ منعزلٍ وأخرج السائق سلَّة الطعام. صنع أفري الشاي؛ إذ بدت لا تقوى على الحركة من شدة اضطرابها، وتناولَت معه كوبًا من الشاي. بعد ذلك ظلَّ بجوارها.
علَّق أفري: «في غضونِ نصفِ ساعة سنخرج من إيطاليا.» كانت السيارة تقطع بسرعةٍ كبيرةٍ واديًا طويلًا يفضي إلى ممرٍّ عجيبٍ يمتد بين مرتفعاتٍ مغطَّاة بالثلج تُشكِّل قمةَ جبل مارمولادا. وأراها موقعهم الحالي على الخريطة. ثم أحكم الدِّثار حولها؛ إذ كلما ازداد ارتفاعهم عن مستوى البحر اشتدَّت برودة الجو، واعتذر عن عدم توافُر قربةٍ ساخنةٍ لتدفئة قدمَيها. قال: «في غضون وقتٍ قصيرٍ سنبلغ بلادًا تكون فيها أقل أمنياتك مُجابة.»
غفَت ماري من جديد؛ لذا لم تشهد عبورَ نقطة الحدود. عندما استيقظَت كانت السيارة تنساب في حنايا وادي فايز الطويلة، قبل أن تدخل الخور المؤدي إلى جرونفالد.
سمعَته يقول: «نحن في سويسرا الآن.» أحسَّت بنبرةٍ جديدةٍ في صوته أو ربما خُيِّل لها ذلك. فقد كان يتحدث بثقة المُسيطر. هُم الآن خارج إيطاليا التابعة للاتحاد، في بلادٍ تتغلغل فيها شبكته.
سألَت بوجل: «أين سنقضي الليل؟»
أجاب: «يؤسِفني القول إننا لا يُمكننا التوقف. تحمَّلي السيارة لليلةٍ أخرى. فأنا أريد إنجاز مهمةٍ بسيطةٍ في الطريق ستُعطِّلنا عدة دقائق ثم نُواصِل رحلتنا. في الغد، يا جميلتي، سينتهي كل تعبك.»
لم يكن هناك أدنى شك في نبرة التملك في صوته. بدأ قلبُ ماري يخفق بسرعة وجنون. لقد ضاق الخناقُ حولها ورأت الحماقةَ التي أودَت إليها شجاعتُها. فقد ساقتها، مكبَّلة اليدَين مكمَّمة الفم، إلى يدَي رجل تكرهه أكثر فأكثر بمرور كل ثانيةٍ، وتنفرُ من قُربه أكثر من نفورها من الثعبان. وجدَت ماري نفسها تعَضُّ على شفتَيها كي تمنعَ نفسها من الصراخ.
تغيَّر الطقس، وانهمرَت الثلوجُ بكثرة، وهي العاصفة نفسها التي لاقيناها أثناء اجتيازنا معبر السنونوات. انخفضَت سرعة السيارة عما قبل وازداد اضطراب أفري. فقد رأته يتفقد ساعته مرارًا وتكرارًا ثم اختطف وصلة التحدُّث مع السائق. سمعَته ماري يقول: «سانت أنطون».
تمكَّنتُ من الحديث بصوتٍ عالٍ وسألت: «هل سنسافر عَبر سانت أنطون؟»
أجاب باقتضاب: «أجل.»
أعطتها هذه المعلومة بصيصًا من الأمل؛ لأنها تعرف أنني وبيتر نمكث بالمكان. حاولَت النظر خارج النافذة المُغبَّشة، لكنها لم ترَ سوى بشائرِ حلولِ الظلام. توسَّلَت لرؤية الخريطة، ورأت أنهم لا يزالون في وادي جرونفالد العريض، حسب فهمها المُتواضع، ولا بد من اجتيازهم المعبَر المنخفِض عَبْر وادي شتاوبتال ليتمكنوا من بلوغ سانت أنطون. كانت الثلوج لا تزال تنهمر بغزارة والسيارة تشُق طريقها ببطءٍ شديد.
شعَرَت ماري بارتفاع الطريق في أثناء صعود المعبَر. استحال الطريق وَعْرًا عند تلك النقطة، في اختلافٍ تامٍّ عن الأجواء الصقيعية الجافة التي سادت وأنا أقطع الطريق نفسه بالأمس. وواجهتهم عوائقُ عجيبة. فقد أسقطَت عربةُ أخشابٍ حطبًا في الطريق السريع باستهتار، واضطُر أفري والسائق لمغادرة السيارة أكثرَ من مرة لإزالته. وفي نقطةٍ أخرى حدث انزلاقٌ أرضيٌّ صغير خلَّف مساحةً صغيرة للعبور، فاضطُرَّت ماري للنزول والعبور على قدمَيها، فيما تولَّى السائق المناورة بالسيارة بمفرده. ازداد مزاجُ أفري حدةً فيما يبدو. ولحُسن حظ الفتاة أنه واصل الجلوس في المقعد الأمامي، حيث انهمك في نقاشٍ حادٍّ متواصلٍ مع السائق.
عند رأس المعبَر قبعَت دار ضيافة — وهي عبارة عن نُزلٍ مريحٍ يملكه الهِر كرونيج — ذائعة الصيت بين مُتسلقي القِمَم المنخفضة الارتفاع في وادي شتاوبتال. وفي وسط الطريق وقف رجلٌ يُمسك مصباحًا في يده.
هتف: «الطريقُ مسدودٌ بسبب تساقُط الثلج. تُجرى الآن إزاحته. سيُجهَّز الطريقُ في غضون ساعة.»
قفز أفري من مقعده وهُرع إلى النُّزل بسرعة البرق. ذهب كي يستحث عملَ فريقِ إزاحة الثلوج على الإسراع، وصحِبَه هِر كرونيج بنفسه إلى مشهد الكارثة. تجمَّدَت ماري في مكانها إذ سيطرَت فكرةٌ على عقلها بغتة. حاولَت صرفها لحماقتها لكنها ظلَّت تُلِحُّ عليها. لم انسكبَت جذوع الشجر على الطريق؟ لمَ انسدَّ معبرٌ مُمهَّد بعدما سقط الثلج بغزارةٍ متوسطة؟
خرج رجلٌ من فِناء النُّزل وتحدَّث إلى السائق. بدا أنه عرض عليه وجبةً خفيفةً مع المشروبات؛ لأن الأخير ترك مقعده واختفى بالداخل. مكث السائق هناك فترةً من الوقت، ثم عاد مرتجفًا مُتبرمًا من برودة الطقس وقد رفع ياقةَ معطفه الطويل لتُغطي أذنَيه. كان يتدلَّى من الشرفة مصباح، فرأت ماري ملامحَ الرجل على ضوئه. كانت تنظر إلى مؤخرة رأس السائق بشرود في أثناء الرحلة الطويلة، ولاحظَت أنها مُدبَّبة كالرصاصة، بلا أي تحدُّب في مؤخر عنقه، وهي سمةٌ شائعة في الألمان. الآن لا يُمكنها رؤيةُ عنقه إذ تُخفيه ياقةُ المعطف لكنها كانت واثقةً تمامَ الثقة أن شكل رأسِه مختلف. بدا لها أن الرجل يعاني من البرودة بشدة؛ لأنه زرَّر ياقة معطفه حتى ذقنه، وأمال قُبعته لتنزل على حاجبَيه.
عاد أفري متبوعًا بصفٍّ من الرجال يسيرون ببطءٍ حامِلين المجارف والمصابيح. ألقى أفري نفسه في المقعد الأمامي وأومأ للسائق بأن يتحرك. كان السائق قد أدار محرِّك السيارة منعًا لإهدار الوقت. ترجرجَت السيارة فوق الركام غير المُستوي الناتج عن تساقُط الثلوج قبل أن يترك السائق العِنان لسيارته. كان أفري يتحرَّق شوقًا للإسراع، لكنه لم يرغب في أن يلقَى حتفه؛ لذا صاح فيه ليأخذ حِذْره. أومأ السائق برأسه، وأبطأ من سرعته، لكنه سرعان ما عاد إلى طيشه مرةً أخرى.
لو كان أفري قلقًا فقد فاقته ماري بمراحلَ كثيرة. فهي قد عثَرَت فجأة على ما يبدو أنه آثار لأصدقائها. في وادي سانت أنطون، توقَّفَت الثلوج عن الهطول، ففتحَت ماري النافذة لاستنشاق الهواء النقي، إذ كادت تختنق من فَرطِ شعورها بالترقُّب. اندفعَت السيارة أمام المحطة، باتجاه أسفل التل المجاور لكوخ بيتر، وشقَّت طريقَها عَبْر القرية، ثم سارت بمحاذاة ساحل البحيرة ناحية «بينك شاليه».
أوقف أفري السيارة أمام البوابة. قال للسائق: «املأ خزانَ الوقود. واطلب من جوستاف إحضارَ السيارة الدايملر وأن يجهز لاتِّباعنا في غضونِ نصفِ ساعة.»
وتحدَّث إلى ماري عَبْر النافذة المفتوحة.
«سأترككِ لفترةٍ قصيرةٍ جدًّا. يُستحسَن أن تبقَي في السيارة لأنها مريحةٌ مقارنةً بمنزلٍ مُفكك. سيجلب خادمٌ لك طعامًا ومزيدًا من الأغطية للرحلة الليلية.»
واختفى أفري في ممَر السيارات المظلم.
أول ما خطر لماري هو التسلُّل من السيارة والعودة إلى القرية حيث تُحاوِل العثور على أي شخصٍ يدُلها عليَّ أو يأخذها إلى بيت بيتر. لكنها فكَّرَت أن السائق سيُحاوِل منعَها من تحقيق مأربها؛ لأن أفري تركه خلفه لحراستها. نظرَت بقلقٍ إلى ظهره؛ إذ كان هو العائق الوحيد بينها وبين حريتها.
بدا أن الرجل المهذَّب مُنهمكٌ في عمله. فور أن خبا وقعُ أقدامِ أفري، أعاد السائق السيارة إلى المدخل، وانعطف بها صوبَ سانت أنطون. وبدأَت السيارة تتحرك ببطءٍ شديد.
آنذاك انطلقَت صفارةٌ مدويةٌ ثلاث مرات. وفُتح الباب الأيمن، وصَعِد بمشقة كبيرة إلى المقعد رجلٌ كان ينتظر في الظلام. لاحظَت ماري أنه ضئيل الجسم وأن به إعاقة. مدَّت يدَها لمساعدتِه حتى ألقى نفسَه بجوارها على المقعد. ثم أخذَت السيارة تزيد من سرعتها.
قبل أن تستوعبَ ما يجري حولها، أمسك القادم الجديد يدَها وراح يُربِّت عليها.
بعد مرور دقيقتَين كنتُ أعبُر بوابة «بينك شاليه».