العاصفة تندلع في الغرب
في مساء اليوم التالي — العشرين من شهر مارس — انطلقتُ صوب فرنسا بعدما حلَّ الظلام. تولَّيتُ قيادة سيارة أفري المُغلقة الكبيرة، حيث جلس مالكُها مكبَّل الأطراف مكمَّم الفَم، كما جلس آخرون من قبله ينتظرون المصير نفسه. كان يرافقه جوردي هاميلتون وآيموس. كنتُ قد عرفتُ كل ما يتعلق بطريق الرحلة ومراحله الغامضة مما اكتشفه بلنكيرون بنفسه، ومن تلك الأوراق التي وقعَت بحوزتنا في «بينك شاليه». كانت مثل رحلة في حُلمٍ مجنون. ففي شارعٍ خلفيٍّ من بلدةٍ صغيرة، سأتبادل كلمات السر مع شخصٍ مجهولِ الاسم وأحصُل على التعليمات. وفي نُزلٍ مجاورٍ للطريق، في ساعةٍ مُحدَّدةٍ من اليوم، سيُبلغني شخصٌ له لكنةٌ ألمانيةٌ ثقيلة، أن ذلك الجسر أو تقاطُع السكة الحديدية خالٍ من الحراسة. وفي قريةٍ صغيرةٍ بين أشجار الصنَوبَر سيركب رجلٌ غيرُ معروف في السيارة بجواري، ويُساعِدني في عبور نقطة تفتيش. سارت هذه الآلة بسلاسةٍ مثل عقارب الساعة، حتى وجدتُ نفسي، في مطلع يومٍ ربيعي، أهبط واديًا شاسعًا عَبْر بساتينَ صغيرةٍ بدأَت أشجارُها تُزهِر، وعلمتُ أنني في فرنسا. بعد ذلك بدأَت ترتيبات بلنكيرون، وفي غضون فترةٍ قصيرةٍ كنتُ أحتسي القهوة مع ملازمٍ شابٍّ من سلاح المشاة الفرنسي وأزيلت الكمامة من فَم أفري. ألقى الجنديُّ نظرةً فضوليةً على الرجل ذي المعطف الأخضر والوجه الشاحب الذي أشعل سيجارةً تلوَ الأخرى بيدٍ مرتعشة.
اتصل الملازم بجنرال كتيبةٍ كان على معرفةٍ تامةٍ بمهمتنا. في مقَر الكتيبة، شرحتُ له غرضي، فتولى الاتصال بمقَر الجيش، وحصَل على الإذن المطلوب. أتَت لقاءاتي بالشخصيات المهمة في باريس في يناير الماضي، والترتيبات التي اتخذَها بلنكيرون قبل وصولي لفرنسا ليسهل تنفيذ الخطة، بثمارها المرجوة. فقد سلَّمتُ أفري وحارسَه للسلطات الفرنسية — لأنني أردتُ أن يتقدما إلى أميان تحت رقابتها — وأنا على ثقةٍ تامةٍ أنه ليس من شيم جنود ذلك الجيش العظيم أن يُفلِتوا من قبضتهم مَن وقع بها.
في صباحٍ ربيعيٍّ مشرقٍ صافٍ، تناولنا الفطور في بلدةٍ صغيرةٍ حمراء الأسطح، بين كروم العنب فيما تدفَّق النهر اللامع عند أقدامنا. كان جنرال الكتيبة محاربًا قديمًا جزائريًّا تخلَّل الشيبُ شعره، ظلت عيناه تتأمل الخريطة المُعلقة على الجدار حيث شكَّلت الدبابيس والخيوط المُمتدة بينها ما يشبه شبكة العنكبوت.
سألتُ: «هل وردَت أي أخبارٍ من الشمال؟»
أجاب: «ليس بعدُ. لكن الهجوم وشيكٌ. وسيقع على جيشنا في مقاطعة شامبانيا.» وأشار بإصبعٍ نحيفةٍ إلى مواقع تمركُز العدو.
سألتُ: «لماذا لن يُهاجم البريطانيين؟» صنعتُ زاويةً قائمةً بالشوكة والسكين، ووضعتُ طبق ملح في مركزها. أضفت: «هذا هو المعسكر الألماني. يُمكنهم أن يتمركزوا على هذا النحو، حتى لا نعلم مِن أي موضع سيشنُّون هجومهم إلى أن يوجِّهوا ضربتهم.»
قال: «هذا صحيح. لكن هناك أمرٌ لا بد من اعتباره. لو هاجم العدو من ناحية السوم، فسيُضطَر إلى المحاربة على مساحةٍ كبيرةٍ من أرضٍ شهدَت معركةً قديمة، ولا تزال صحراء، ويحفظها الجنود البريطانيون شبرًا شبرًا. أما في مقاطعة شامبانيا، إذا تحرك بالسرعة المطلوبة، فقد يدخل دولةً لم ينتهكها أحد. هذا طريقٌ طويلٌ وصعبٌ إلى مدينة أميان بخلاف الطريق إلى تشيلونز. هذا ما يراه بيتان. هل اقتنعتَ برأيه؟»
قلتُ: «يبدو كلامه منطقيًّا. لكن العدو سيُهاجم مدينة أميان، وأظنه سيبدأ اليوم.»
ضحك الجنرال وهزَّ كتفَيه. قال: «سنرى. أنت عنيد، عزيزي الجنرال، كسائر رجال وطنك الباسلين.»
لكن فيما كنتُ أغادر المقر، سلَّم له ضابطٌ معاونٌ رسالةً، في قصاصةٍ ورقيةٍ وردية. قرأها الجنرال واستدار إليَّ بجدية.
قال: «لديك حَدْسٌ رائعٌ يا صديقي. أنا سعيد لأننا لم نتراهن. في الصباح، عند الفجر، حدثَت معركةٌ كبيرةٌ حول بلدة سان كونتين. لا تخشَ شيئًا لأنهم لن يعبُروا من هذه الناحية. فسيُوقفهم المارشال.»
كانت هذه أول الأنباء التي وردتني عن المعركة.
في ديجون التقيتُ بالآخرين حسب الخطة. ركبتُ في القطار المُتجه إلى باريس في آخر لحظة، جذبَني بلنكيرون بقبضتَيه القويتَين إلى المقصورة في أثناء تحرك القطار. في الداخل جلس بيتر في وداعةٍ مرتديًا زيَّه القديم المرتق بعناية للفيلق الجوي. أما ويك فقد انهمك في قراءة كومة من الجرائد الفرنسية، فيما جلسَت ماري مُمددةً قدمَيها على مقعدها تغُط في نومٍ عميق.
لم نتحدَّث كثيرًا لتسارع وتيرة الأحداث في الأيام الماضية، فلم نرغب في استرجاعها. علت وجهَ بلنكيرون أماراتُ الرضا، وراح يُدندن تلك الأغنية التي لا يدندن غيرها وهو يتطلع إلى المنظر الطبيعي الربيعي المُشرِق خارج النافذة. حتى ويك ذهب عنه اضطرابه. كان يضع نظارة القراءة المرقَّشة كدرع السلحفاة، وعندما رفع عينَيه عن الجريدة، والتقتا بعينيَّ، حلَّت ابتسامةٌ على شفتَيه. ونامت ماري نومًا هانئًا كالطفلة، بخدَّين متوردَين توردًا خفيفًا، تكاد لا تحرك أنفاسها ياقة المعطف الطويل التي لفَّتها على عُنقها. أتذكَّر أنَّني تأملتُ عظام وجهها الشاب ورموشها الطويلة المُمتدة برقة ثنايا وجهها الغض في انبهار، وتساءلت كيف تحملَت توتُّر الأشهر الماضية. رفع ويك عينَيه عن الجريدة، ونظر إلى ماري ثم إليَّ، نظرةً مترفقةً يغلب عليها الحنان. يبدو أنه وجد راحة البال بين الجبال.
وحده بيتر مَن كان يبدو دخيلًا على المشهد. كان بائسًا غريبًا، وهو يتحرك لتخفيف ألم ساقه، أو يحدِّق في المنظر الطبيعي بالخارج بلا اكتراث. لقد حلقَ لحيتَه مرةً أخرى لكن ذلك لم يجعله يبدو شابًّا؛ إذ حفر الزمنُ تجاعيدَه على وجهه وتركَت السنون أثَرها في عينَيه بلا رجعة. عندما تحدثتُ إليه، نظر ناحية ماري، وحذَّرني بأصبعه.
همس: «سأعود إلى إنجلترا. ستعتني بي امرأتك الشابة حتى تستقر أوضاعي. تحدثنا في الأمر بالأمس في الكوخ. سأبحث عن مسكنٍ وسأتحلى بالصبر حتى انتهاء الحرب. ماذا عنك يا ديك؟»
أجبتُ: «سأنضَم إلى الفرقة. لقد انتهت المهمة حمدًا للرب. أصبح طريقي الآن واضحًا، وصار بإمكاني التركيز على شئون الحرب فقط. أريد أن أُعبِّر لك عن سعادتي لأنك وماري وبلنكيرون ستكونون بأمان في أرض الوطن. ماذا عنك يا ويك؟»
ردَّ بابتهاج: «سأعود إلى كتيبة العمال. فقد ارتاح بالي أنا أيضًا.»
هزَزتُ رأسي علامة الاعتراض. قلتُ: «سنرى هذا الأمر لاحقًا. لا أُحب هذا الإهدار الآثم للموارد. لقد ناضلنا جنبًا إلى جنب لبعض الوقت ورأيتُ معدنك الحقيقي.»
عاد ويك إلى قراءة جريدة اليوم السابق وقال: «هذه الكتيبة ملائمة تمامًا بالنسبة إليَّ.»
استيقظَت ماري فجأة، واعتدلَت في جلستها، وراحت تفركُ عينَيها بقبضتَي يدَيها مثل الأطفال. بعد ذلك، ذهبَت يدُها إلى شعرها بسرعة، فيما مشَّطَتنا بعينَيها لتتأكد من وجودنا جميعًا. أحصتنا أربعةً ثم تنفَّسَت الصُّعَداء.
قال بلنكيرون: «أرى أنكِ تشعرين بالانتعاش يا آنسة ماري. يشعُر المرء بالسعادة عندما يفكر أنه يُمكننا الآن أن ننعم بنومٍ هانئ. في غضون فترةٍ وجيزة، ستصِلين إلى إنجلترا، وسيبدأ موسم الربيع، وستكون هذه بدايةَ عالمٍ أفضل بمشيئة الرب. لقد انتهت مهمَّتُنا على أي حال.»
قالت الفتاة بجدية: «أشك في ذلك. لا أرى أن الحرب ستتوقف. هل وردَتك أيُّ أنباءٍ عن الحرب يا ديك؟ اليوم هو اليوم المنشود.»
أجبتُ: «لقد بدأ الهجوم» وأخبرتُهم بما سمعته من الجنرال الفرنسي. أضفتُ: «لقد اشتُهرتُ لديهم بقدرتي على التنبؤ إذ خمَّن الجنرال أن الهجوم سيقع على مقاطعة شامبانيا. لكن تبيَّن أن سان كونتين هي المقصودة، لكن لا علم لديَّ بالمستجدات. سنعلم بما حدث حين نصل إلى باريس.»
توجَّسَت ماري كأنها تذكَّرَت تلك الفكرة القديمة الملحة؛ أن مُهمتنا لا يمكن أن تنتهي دون تضحية بأفضل شخصٍ بيننا. عاودَتْني هذه الفكرة بإصرارٍ مُزعج. لكن سرعان ما نسيَت ماري قلقَها فيما يبدو. ففي فترة ما بعد الظهيرة، فيما نُسافر عَبر أراضي فرنسا الجميلة، كانت في مزاجٍ احتفالي، وبثَّت البهجة في أرواحنا لنُسايرها. كان الجو ساطعًا هادئًا؛ حيث الأراضي المحروثة تكتسِب لونًا أخضرَ بوتيرةٍ سريعة، وصنعَت أزهارُ الصفصاف هالاتٍ زرقاءَ فوق أشجارها المحاذية للقنوات المائية، وأنشأَت الأزهار تتفتح في البساتين في القرى الصغيرة ذات الأسطح الحمراء. في ذلك المشهد البديع، كان من العسير أن يبقى المرء جادًّا كئيبًا، وانقشعَت غمامة الحرب السوداوية من فوق رءوسنا. دلَّلَت ماري بيتر وأفرطَت في العناية به مثلما تعتني الأخت الكبرى بأخيها الصغير الضعيف البِنية. فقد جعلَته يبسط ساقه المُصابة عن آخرها على المقعد، وعندما صنعت الشاي لرفقتنا، حظي بيتر بآخِر قطعة من بسكويت السكر بعد معارضةٍ منه. في الحقيقة، كنا رفقةً شِبه سعيدة؛ إذ قصَّ بلنكيرون علينا قصصًا عن الصيد والهندسة من أيامه في الغرب، وجدتُ نفسي وبيتر مدفوعَين لمجاراتها بقصصٍ أخرى أكثر إثارة، وسألت ماري أسئلةً تحريضية، فيما أنصت ويك باهتمامٍ واستمتاع. ولحُسن حظنا أنه لم يكن في المقصورة أناسٌ آخرون؛ إذ بدَونا مجموعةً متنافرةً يندر أن تجتمِع مثلها. فقد بدت ماري نظيفةً حسنةَ المظهر في ردائها كعادتها، وكان بلنكيرون مهيبًا في حلَّته التويدية الخمرية، وقميصه وياقته ذوَي اللون الأزرق الفاتح، وحذائه البُني اللامع، لكن كان بيتر وويك يرتديان زيًّا عسكريًّا عفَّى عليه الزمن، وكنتُ لا أزال أرتدي الحذاء الطويل والثياب البالية البشعة لجوزيف زيمر الحمَّال القادم من أروسا.
بدا أننا نسينا الحرب، لكننا لم ننسَها في الحقيقة؛ إذ كانت كامنةً في أعماق أذهاننا. ففي مكانٍ ما في الشمال كانت تدور حربٌ مُستميتة من شأنها إثبات نجاحنا أو فشلنا. كشفَت ماري عن قلقها بإلحاحها عليَّ بتقصِّي الأخبار كلما توقفنا في محطة. فكنتُ أسأل ضباط الشرطة والجنود العائدين في إجازة، لكن دون جدوى. فلم يسمع أحدٌ عن المعركة. ونتج عن ذلك أن خيَّم علينا الصمتُ في آخر ساعة من الرحلة، وعندما وصلنا إلى باريس في حوالي السابعة، كان أول ما فعلتُه هو أن ذهبتُ إلى كشك بيع الكتب.
اشتريتُ مجموعة من الجرائد المسائية، وحاولنا قراءتها في سيارة الأجرة التي حملَتنا إلى فندقنا. وجدنا أخبار الحرب، بلا شك، في العناوين الرئيسية. فلقد هاجمَنا العدو بقوة من جنوب آراس وحتى نهر واز، لكن صدَّته قواتُنا ومنعَت من تقدُّمه في كل الأنحاء. اصطبغَت المقالات بالثقة، وامتلأَت تعليقاتُ العديد من النقاد العسكريين بالتباهي. لقد دُفعَت ألمانيا إلى الهجوم أخيرًا، وسيحظى الحلفاءُ بتلك الفرصة التي طال انتظارُها لاستعراض تفوُّقهم العسكري. كانت هذه، كما اتفق الجميع، بداية المرحلة الأخيرة من الحرب.
أعترف أنني حينَ قرأتُ هذه المقالات تملَّكني الخوف. لو كان المدنيون بهذه الثقة المُفرِطة، فهل يُستبعَد أن يقع الجنرالات في الفخ نفسه؟ وحده بلنكيرون لم تُزعِجْه هذه الأنباء. ولم تقُل ماري شيئًا، بل اكتفت بالجلوس، وهي تحتضنُ ذقَنها بين يدَيها، في دليلٍ دامغٍ على انشغال بالِها.
في صباح اليوم التالي، زوَّدَتنا الصحف بأخبارٍ أكثر تفصيلًا. لقد وقع الهجوم الرئيسي على سان كونتين من كِلا الجانبَين، وبالرغم من تراجُع القوات البريطانية، إلا أنها لم تخسَر سوى نقاط تمركُزها الخارجية. لقد ساعد الضبابُ في إخفاء قوات العدو، وانهالت قذائفُه بغزارة لا سيما قذائف الغاز. وأضافت كلُّ صحيفةٍ التعليق القديم نفسه؛ أن العدو دفع ثمنًا باهظًا بسبب طَيشه، وتكبَّد خسائرَ فادحةً مقارنةً بقوات الدفاع البريطانية.
ظهر ويك في الإفطار بحُلَّة الجندي الثاني. كان يريد الحصول على تصريح السفر بالقطار، وعزم على الذهاب مباشرة، لكن عندما علمتُ أن وجهته أميان، أمرتُه بالبقاء ومُرافقتي في السفر بعد الظهيرة. كنتُ قد ارتديتُ حُلَّتي العسكرية وتولَّيتُ قيادة المجموعة. نسَّقتُ ذهاب بلنكيرون وماري وبيتر إلى بولون والبيات هناك، فيما سنذهب أنا وويك إلى أميان وننتظر التعليمات.
قضيتُ نهارًا حافلًا. زُرت مع بلنكيرون المكتب السري في جادَّة سانت جيرماين مرةً أخرى، واستعرضتُ تفاصيل عملِنا على مدار الشهرَين الماضيَين. جلستُ مرةً أخرى في البناية المنخفضة بجوار قصر ليزانفاليد وتحدَّثتُ مع ضباط الأركان. كان قادة الجيش الفرنسي قد ذهبوا إلى الشمال.
رتَّبنا أمر تسليم الطيور البرية، بعدما صاروا في فرنسا، وأُعطِيتُ الموافقة على المسار الذي اقترحتُ تبنِّيه في مسألة أفري. كان أفري وحارسُه في طريقهما إلى أميان، وسأقابلهما هناك في الغد، وفقًا للخطة. أغدَق الرجال الرفيعو الشأن علينا من الثناء، إلى حدِّ أن معرفتي بالفرنسية السليمة تلاشت، ولم أجِد ما أردُّ به سوى كلماتٍ خرجَت مُتلعثمةً من بين شفتَي. فتلك البرقية التي أرسلَها بلنكيرون ليلة الثامن عشر، بالمعلومات التي أعطاها أفري لي في «بينك شاليه»، فعلَت الأعاجيب في إيضاح الموقف.
لكن عندما سألتُهم عن المعركة لم يُخبروني بالكثير. لقد شنَّ العدو هجومًا هائلًا، وتصدَّت له الجبهة البريطانية بقوة، وكان لديهم من الإمدادات العسكرية ما يكفي بحسب اعتقادهم. وذهب بيتان وفوش إلى الشمال للتشاور مع هيج. لا يزال الوضع في مقاطعة شامبانيا غامضًا لكن بدأَت بعضُ الإمداداتِ الفرنسية في التحرك من هناك إلى قطاع السوم. لم يستعرضوا سوى الترتيبات البريطانية في ساحة المعركة. نظرتُ إلى الخطة وإذا بالفرقة القديمة التي كانت تحت إمرتي تُحارِب في عُمق الصراع.
سُئلتُ: «أين ستذهب الآن؟»
قلتُ: «إلى أميان ثم إلى الجبهة بمشيئة الرب.»
قال: «بالتوفيق يا جنرال. أنتَ لا تعطي جسدك أو عقلك قدْرًا وافرًا من الراحة يا عزيزي الجنرال.»
بعد ذلك اتجهتُ إلى مقَر البعثة الإنجليزية لكن لم يكن لديهم ما يُخبرونني به سوى إعلان هيج الرسمي ورسالةٍ هاتفيةٍ من مقَر القيادة العامة بشأن وقوع الجزء الحرِج من المعركة بين سانت كونتين ونهر واز على الأغلب. أما الركن الشمالي من دفاعنا، الذي تمركَز في جنوب آراس وأثار قلقهم، فقد قاوم العدو مثل الجبل. أسعدَني هذا الخبر لأن كتيبة مرتفعات لينوكس القديمة كانت تُحارب هناك.
في أثناء عبورنا لميدان الكونكورد، التقَينا بضابط أركانٍ بريطاني من معارفي، قد استهل رحلة عودته إلى مقَر القيادة العامة، بعدما قضى فترةَ استراحتِه في باريس. كان وجهُه مُتجهمًا أكثر من الضباط في ليزانفاليد.
قال: «الوضع لا يروقُني، صدِّقني. ما يُثير قلقي هو الضباب. لقد تفقَّدتُ الجبهة، من آراس إلى واز، منذ عشرة أيام. وجدتُها محكمةَ التحصين بل لا مثيل لها على الإطلاق. كان خطُّ مواقع التمركز الخارجية عبارةً عن سلسلةٍ من الحصون أو الحواجز الدفاعية المزدوَّدة بالمدافع الرشاشة، في ترتيبٍ بارعٍ يهدف إلى إنهاك قوات العدو الزاحفة بالنيران الجانبية. لكن الضباب سيُفسِد هذه الخطة؛ إذ سيتجاوز العدو موضعَ النيرانِ الجانبيةِ قبل أن نُدرك ذلك … أعلم أننا حصَلنا على المعلومات الاستخباراتية اللازمة، وزوَّدنا ساحة المعركة بالجند في الوقت المناسب، لكن الغاية من الجبهة الخارجية هي صد العدو لأطول فترةٍ مُمكنة، حتى تصير كل الصفوف خلفها في تنسيقٍ مثالي، ولا أرى سوى تلك القطاعاتِ العريضةِ التي خسرناها حتمًا في عملية الاجتياح الأولى … ليكن في علمك أن محور خطتنا الدفاعية هي الجبهة. إنها في غاية الكفاءة لكن إن خسرناها للعدو …» ورفع يدَيه تعبيرًا عن يأسه.
سألتُ: «ألدينا إمداداتٌ كافية؟»
هزَّ الضابط كتفَيه.
سألتُ: «هل أعدَدنا مواقع تمركُز خلف الجبهة؟»
ردَّ بلهجةٍ جافة: «لم أرَ أي موقع» وانطلق ذاهبًا قبل أن أحصُل منه على المزيد من المعلومات.
قال بلنكيرون فيما كنا نسير إلى الفندق: «تبدو مُضطربًا يا ديك.»
قلتُ: «يبدو أنني أشعر بالقلق. أعرف أن ما سأقوله سخيف، لكن شعوري تجاه هذه الحرب الآن أسوأ من أي وقتٍ مضى منذ اندلاعها. انظر حولك في أرجاء هذه المدينة. تتناول الصحف المسألة باستهانة، ويتجوَّل السكان في الأنحاء بلا اكتراث كأنْ لا شيء يحدُث. الأدهى من ذلك أن الجنود أنفسهم يشعرون بالاطمئنان. بوسعك أن تنعتَني بالأحمق؛ لأنني متشائم إلى هذا الحد، لكن يُراوِدني شعورٌ قويٌّ أننا على مشارفِ معركةٍ دموية قاتمةٍ لم نشهدها في حياتنا من قبلُ، وأن باريس ستسمع دويَّ المدافع الألمانية عما قريب كما حدث في ١٩١٤.»
قال: «أنتَ تُشبه إرميا الباكي. أنا سعيد لأن الآنسة ماري ستذهب إلى إنجلترا في القريب العاجل. يبدو أنها محقةٌ في شكوكها، وأن مهمتَنا لم تنتهِ بعد. أحسدُك نوعًا ما؛ إذ ينتظرك موقعٌ شاغرٌ في الجبهة.»
قلتُ: «يجب أن تعودَ إلى أرض الوطن، وتُبقيَ المسئولين على اطلاعٍ جيدٍ بالوضع. هذه هي الحلقة الضعيفة في سلسلتنا، كما أنه ينتظرك قدْرٌ كبيرٌ من العمل.»
قال بشرود: «ربما»، فيما ثبَّت عينَيه على قمة عمود فاندوم القابع وسط الميدان.
كان القطار في فترة الظهيرة مكتظًّا بالضباط الذين استُدعوا من عطلاتهم، وتطلب الأمر استخدام نفوذي أنا وبلنكيرون لحجز مقصورةٍ لمجموعتنا الصغيرة. في اللحظة الأخيرة، فتحتُ باب المقصورة لأسمح بدخول طيار الفيلق الجوي الملكي، آرشي رويلانس، الذي بدا مضطربًا متوترًا.
هتف: «ما إن بدأتُ أشعر بالبهجة والانتعاش والراحة، حتى تلقيتُ برقيةً تأمرني بالعودة سريعًا لوقوع معركةٍ جديدة. إنها حربٌ قاسيةٌ يا سيدي.» مسَح الشاب المسكين جبهته، وابتسم لبنكيرون ابتسامةً عريضة، ونظر إلى بيتر نظرةً فاحصة، ثم وقعَت عيناه على ماري، فشعَر بالخجل من هيئته. وراح يُسوِّي شعره، ويُصلح رابطةَ عنقه، ويتصرَّف برصانةٍ بالغة.
قدَّمتُه إلى بيتر، وسرعان ما نسي وجود ماري. لو أن بيتر امرؤٌ متباهٍ لشعَر بالإطراء من أمارات الاهتمام والإعجاب الواضحة في عينَي الشاب. قال: «أنا في غاية السعادة بعودتك سالمًا يا سيدي. كنتُ آمُل دائمًا أن أحظى بفرصة لقائك. نحن في أمسِّ الحاجة إليك في الجبهة. فقد صار لينش متعجرفًا نوعًا ما.»
بعد ذلك وقعَت عيناه على ساقِ بيتر الذابلة، وأدرك فداحةَ خطئه. تضرَّب وجهُه حمرةً وفاض بالاعتذارات. لكن لم تكن هناك حاجةٌ إليها، فقد أبهج بيتر سماعُه يتحدث عن إمكانية عودته للقتال من جديد. وسرعان ما انخرط الاثنان في الحديث عن التفاصيل الفنية، تلك التفاصيل الفنية المروِّعة لمهنة الطيَّار. لم أجد فائدةً من الإنصات إلى حديثهما، إذ عجزتُ عن فهم أي شيء، لكن هذا الحديث بعثَ الحيوية في بيتر كأنه تناول كأسًا من النبيذ. زوَّده آرشي بوصفٍ دقيقٍ لأنشطة لينش الأخيرة وطرائقه الجديدة. كما وصلَت إليه تلك الشائعة، التي أخبرني بها بيتر في سانت أنطون، عن وجود طائرةٍ ألمانيةٍ جديدة، ذات محركات جبارة، وأجنحة قصيرة متقوِّسة ببراعة، وقدرات فائقة على التحليق، لكن لم تظهر عينةٌ منها بعدُ على الجبهة. تحدَّثا عن بالي، وريس ديفيدز، وبيشوب، ومكودين وجميع الأبطال الذين حظُوا بالتكريم والتقدير منذ معركة السوم، وطُرز الطائرات البريطانية الجديدة التي لم يرَ بيتر أغلبها من قبلُ، فوصفها آرشي له.
رأيتُ بالخارج أن الضباب قد غشَّى المروج مع حلول الشفَق. فأشرتُ إلى بنلكيرون لينظر إليه.
قلتُ: «ها هو الضباب الذي يدمِّرنا. إن طقس مارس يُشبه أكتوبر؛ إذ يغشَى الضبابُ الأرضَ صباحَ مساءَ. أتمنَّى أن تحل الأمطار الربيعية المعتادة.»
كان آرشي يتحدث بإسهاب عن الطائرة شارك-جلاداس.
قال: «كنتُ مخلصًا لهذه الطائرة دائمًا، لأنها مُدهشةٌ بطريقتها الخاصة، لكنها فطرَت قلبي. لقد شهد الجنرالُ ألاعيبها الغريبة. أليس كذلك يا سيدي؟ عندما تُصبح الأجواء مُثيرة، يميل المحرك إلى أن يتوقف عن العمل وينال قسطًا من الراحة.»
قلتُ وأنا أستعيد الذكرياتِ الكئيبة: «لا بد من إعدام جميع طائرات هذا الطراز على الملأ.»
علَّق: «لن أذهب إلى هذا الحد يا سيدي. فطرازات جلاداس القديمة لديها مزاياها المذهلة. ففي زمانها لم يكن هناك ما يُضاهيها في سرعتها وقدرتها على التسلق، كما أنها تسير بانسيابيةٍ مثل القوارب الشراعية الصغيرة في السباقات. عيبُها الوحيد هو أنها شديدة التعقيد. إنها تُشبه بعض فئات السيارات التي تتمنَّى لو كنتَ ميكانيكيًّا عبقريًّا حتى تفهمَها … لو صنع المسئولون نسخةً أقل تعقيدًا وأكثر أمانًا، فلن يكون لها نظير في هذا المضمار. أنا الرجل الوحيد تقريبًا، الذي عاملَها بصبرٍ وعَرف مزاياها، لكنها كادت تقتلني في كثيرٍ من الأحيان. على أي حال، لو كنت سأحارب خصمًا قويًّا مثل لينش، على الحياة أو الموت، فسأختار جلاداس قطعًا.»
ضحك آرشي ضحكةً مُعتذرة. وقال: «هذا الموضوع محظورٌ عليَّ التحدَّث فيه مع جماعتنا. فأنا المُناصر الوحيد لهذه الطائرة القديمة، الشبيهة بفرسي، المُفضَّلة في رحلات الصيد، التي حملَت لي الكثير من الحُب حتى إنها كانت تُحاوِل عضَّ ذراعي دائمًا. لكن أتمنَّى لو أعطاها أحدُ كبار الطيارين فرصةً عادلة. فأنا طيَّار من الدرجة الثانية على أي حال.»
كنا نسير شمال سانت جاست عندما ارتفع صوتٌ مكتومٌ غريبٌ فوق جلجلة عجلات القطار على القضبان. كان الصوت قادمًا من ناحية الشرق، وبدا مثل هدير عاصفةٍ رعديةٍ فوق الأراضي العشبية أو القرع الرتيب لطبولٍ مكتومة الصوت.
هتف آرشي: «أتسمعون المدافع! هناك قصفٌ كثيفٌ يجري في مكانٍ ما.»
ظَلِلتُ أسمع أصوات المدافع على فتراتٍ مُتقطِّعة في الثلاث السنوات الماضية. فقد شهدتُ التحضيرات الكبيرة قبل بعض المعارك، مثل لوس والسوم وآراس، وصرتُ أعتبر ضجة سلاح المدفعية ظاهرةً طبيعيةً حتميةً مثل المطر وأشعة الشمس. لكن ذلك الدوي كان غريبًا وأصابني بالقُشَعريرة لسببٍ لا أعلمه. ربما لأنه غيرُ متوقع؛ إذ إنني على ثقةٍ تامةٍ أنه لم يُسمع دويُّ المدافع في هذه المنطقة منذ معركة مارن. لا بد أن الضوضاء سافرت عَبر وادي واز، أو ربما تجري، في ضواحي بلدة شوني أو لا فير، معركة ضارية. وهذا يعني أن العدو يشنُّ هجومًا ضاريًا على قطاعٍ عريضٍ من الجبهة؛ إذ تظهر جهودُه الكبيرة في جناحِه الأيسر المتطرف. هذا إذا افترضنا أن الصوت القادم ليس من هجومنا المضاد. لكنني أستبعِد أن يكون كذلك لسببٍ ما.
فتحتُ نافذة المقصورة، وأخرجتُ رأسي إلى ظلام الليل. كان الضباب قد زحف إلى حافة خط السكة الحديد، وأسدل ستارًا رقيقًا على المنازل والأشجار والماشية، فصارت غيرَ واضحةِ المعالم في ضوء القمر. استمرت الضوضاء بلا توقُّف، لكنها لم تكن متقطِّعة، بل دويٌّ متصلٌ هادرٌ كنفير البوق. سرعان ما تركنا الصوت خلفنا ونحن نقترب من أميان؛ إذ يمتاز وادي السوم بتشكيلٍ عجيبٍ يحجُب الأصوات. يُسمِّيه القرويون «الأرض الصامتة»، وفي أثناء المرحلة الأولى من معركة السوم، لم يكن الرجل في أميان يسمع قعقعة المدافع المندلعة على بُعد عشرين ميلًا في بلدية ألبرت.
عُدتُ إلى مقعدي، وإذ خيَّم الصمت على رفقتي، حتى على آرشي الثرثار. التقت عينا ماري بعينيَّ، وقرأتُ فيهما، في الضوء الفاتر لمقصورة الركاب الفرنسية، الإثارة لا الخوف يقينًا. فهي لم تسمع وابلًا من القذائف من قبلُ. كان بلنكيرون مضطربًا، وبيتر غارقًا في أفكاره الخاصة. ازدادت كآبتي لأنني سأضطَر إلى فراق أعز أصدقائي والفتاة التي أحبُّها في غضون فترةٍ قصيرة. لكن هذه الكآبة اختلطَت بترقبٍ غريبٍ يكاد يكون مُمتعًا. فقد ذكَّرني صوتُ المدافع بمِهنتي، وكنتُ أتحرك باتجاه موقعه، والرب وحدَه يعلم ما ستئول إليه الأمور. فجأة، بدا ذلك الحُلم السعيد عن كوتسوولدز، والبيت الذي أريد مُشاركتَه مع ماري، بعيدَ المنال. وشعَرتُ مرةً أخرى أنني أقف على حافة الهاوية.
في الجزء الأخير من الرحلة استحضرتُ الماضي كي أُنشِّط معلوماتي عن هذه المنطقة الريفية. ومرةً أخرى رأيتُ في ذهني الرقعةَ المُمتدةَ من بلدية سِير إلى كومبل؛ حيث وقع القتال في صيف ١٩١٧. لم أحضُر التقدُّم الذي أحرزناه في بداية ربيع العام التالي، لكن حاربتُ في كومبل، وحفظتُها عن ظهر قلب من لاجنيكورت إلى سان كونتين. أغلقتُ عينيَّ، وحاولتُ تصوُّر المدينة والطرق المُفضية إلى الجبهة، ورحتُ أخمِّن المواقع التي تعرَّضَت لقصفٍ شديد. لقد أخبروني في باريس أن القوات البريطانية منتشرةٌ حتى نهر واز في الجنوب، إذن لا بد أن القصف الذي سمعناه منذ قليلٍ كان موجهًا إلى جبهتنا. وبعد أن أخذتُ معركتَي باشنديل وكامبريه في الاعتبار، والصعوبات التي لطالما واجهناها في الحصول على المجنَّدين، تساءلتُ من أين جئنا بكل هذه القوات للقتال على تلك الجبهة الجديدة. لا بد أن أعدادنا ضئيلة على هذا الامتداد الطويل. لكننا في مواجهةِ وابلٍ مرعبٍ من القذائف! والأدهى من ذلك أننا أمام أعدادٍ هائلةٍ وتكتيكاتٍ جديدةٍ تباهى بها أفري في تلك الليلة!
حينما بلغنا محطة أميان التي تُشبه الكهف المعتم، أحسستُ بنوعٍ جديدٍ من التوتر. لم تُثِره حادثةٌ بعينها، بل شعرتُ به في الأجواء المشحونة؛ إذ كان رصيف المحطة يكتظ بالمدنيين الذين يحمل أغلبهم حقائبَ إضافية. تساءلتُ ما إذا كانت المدينة قد تعرَّضَت للقصف في الليلة السابقة.
قلتُ للآخرين: «لن نفترق الآن. القطار لن يُغادر قبل نصف ساعة. سأذهب وأحاوِل الوصول إلى أخبارٍ جديدة.»
اصطدتُ ضابطَ نقلٍ بالسكك الحديدية من معارفي، بصحبة آرشي، وأجاب أسئلتي بابتهاج.
قال: «نحن نُبلي بلاءً حسنًا يا سيدي. سمعت في الظهيرة، من أحد رجال العمليات، أن القيادة العامة راضية جدًّا عن الوضع. لقد قتلنا الكثيرَ من الألمان، ولم نخسر إلا بضعة كيلومترات من الجبهة … هل أنت ذاهبٌ إلى فرقتك؟ حسنًا، ستجدُها حول بلدية بيرون، أو هكذا كانت في الليلة الماضية. لقد عاد شيني ودونثروب من العطلة، وحاولا سرقةَ سيارةٍ للوصول إلى هناك … أوه، أمرُّ بوقتٍ عصيب. لقد أصيب المدنيون البؤساء بالهلَع ويحاوِلون الفرار. يقول الأغبياء إن الألمان سيبلغون أميان في غضون أسبوع. ماذا كانت العبارة الشهيرة؟ «هذا على افتراض أن المدنيين سيصمُدون كل تلك الفترة». أخشى أنني مُضطرٌّ للرحيل يا سيدي.»
أرسلتُ آرشي إلى جماعتنا بهذه المعلوماتِ القليلة، وأوشكتُ أن أركض إلى منزل أحد الضباط المسئولين عن الشئون الإعلامية، على اعتقاد أنه على اطلاعٍ بما يجري، عندما التقيتُ بليدلو عند مدخل المحطة. كان ليدلو قائدَ لواء أركان حرب في الوحدة التي تضُم لوائي السابق، وهو الآن أركان الحرب في الجيش. وجدتُه يتجه إلى سيارته بخطواتٍ عريضة، فأمسكتُ بذراعه، فاستدار إليَّ بوجهٍ قلقٍ.
قال: «يا إلهي، هاناي! من أين أتيت؟ أتريد معرفة الأخبار؟» وخفَض صوتَه وسحبَني إلى زاويةٍ هادئة. وأضاف: «الأخبار مريعة.»
علَّقتُ: «أخبروني أننا صامدون.»
قال: «غير صحيح! لقد اخترق الألمان جزءَ خطوطِ الدفاعِ على قطاعٍ عريضٍ من الجبهة. هزمونا اليوم في مقاطعتَي ميسمي وإسيني. أجل، هزمونا على الجبهة. وتتوالى كتائبهم واحدةً تلو الأخرى مثل ضربات المطرقة. ماذا كنتَ تتوقَّع غير هذا؟» وقبض على ذراعي بشدة. وهتف: «كيف تستطيع إحدى عشرة فرقةً فحسب الحفاظ على جبهةٍ طولها أربعون ميلًا؟ وكيف يُحارب واحدٌ في مقابل أربعة؟ هذه ليست حربًا بل جنونٌ محض.»
صِرتُ أعلم الأسوأ، ولم أتفاجأ مما سمعتُه، لأنني توقَّعتُ ما حدث. كان ليدلو في غاية القلق؛ إذ كان وجهه شاحبًا وعيناه مُتقدتَين مثل رجلٍ محموم.
ضحك بمرارة: إمدادات! لدينا ثلاثُ فرقِ مشاة وفرقتا خيالة. وجميعُها في عمق الصراع منذ وقتٍ طويل. سيأتي الفرنسيون لنجدتنا من ناحية اليمين لكن لا تزال أمامهم رحلةٌ طويلة. ولهذا قدمتُ إلى هُنا. كما سنحصل على الدعم من هورني وبلومي. لكن هذا سيستغرق أيامًا، وفي الوقت نفسه بدأنا نتراجَع مثلما فعلنا في مدينة مِنس. وفي الوقت الحالي … أوه، أجل، ستتراجع الجبهة بأكملها. هناك قطاعاتٌ من الجبهة لا تتعرَّض للضرب من العدو، لكنها مضطَرَّة للتراجُع، وإلا فستقع في قبضة العدو. ليتني أعرف إلى أين وصلَت فرق الميمنة. كل ما أعرفُه أنهم سيبلغون في كومبيين الآن. لقد عبَر الألمان القناة هذا الصباح، ويغلبُ على الظن أنهم عَبروا نهر السوم في اللحظة الراهنة.
عندما بلغ هذه النقطة صحتُ: «أتريد إخباري أننا سنخسر بيرون؟»
هتف: «بيرون؟ سنكون محظوظين إن لم نخسر أميان أيضًا! … وفوق كل ذلك، أُصِبتُ بحُمى لعينة. سأعاني من الهذيان في غضونِ ساعة.»
كان يتعجل للرحيل، لكنني أوقفتُه.
سألتُ: «ماذا عن فرقتي القديمة؟»
أجاب: «لقد أبلت بلاءً حسنًا لكنها تكبَّدَت خسائرَ فادحة. في الحقيقة هذا ما حدث لكل الفرق. ومن العجيب أن بعضَ رجالِ فرقتِك لا يزالون صامدين، وستكونُ معجزةً كبيرةً إن وجدَت الفرقة جبهةً تقاتل عليها. سُحقَت ساق ويستووتر. وقد نُقِل إلى هُنا هذا المساء، وستجده في المشفى. وقُتل فريسر ووقع ليفروي في الأسر — هذه هي آخر المستجدات على حسب علمي. لا أعلم مَن يتولى زمام أمور الألوية في اللحظة الحالية، لكن ماسترتون يُتابع شئون الفرقة … يُستحسَن أن تتعجَّل في الذهاب إلى الجبهة وتتولَّى زمام السلطة. التقِ بقائد الجيش. سيصل إلى أميان في صباح الغد من أجل الاجتماعات.»
استرخى ليدلو في سيارته في إنهاك، واختفى في ظلام الليل، فيما أسرعتُ الخطى إلى القطار.
كان الآخرون قد نزلوا إلى رصيف المحطة، واحتشَدوا حول آرشي، الذي كان يُلقي خطابًا متفائلًا يفيض بالترَّهات. دفعتُهم للركوب في المقصورة وأغلقتُ الباب.
قلتُ: «الوضع في غاية السوء. اخترق الألمانُ عدةَ مواضعَ في الجبهة وقد تقهقرنا إلى المنطقة الشمالية من نهر السوم. أخشى أن الوضع لن يتوقف عند هذا الحد. سأتجه إلى الجبهة فور أن أتلقى الأوامر. ستأتي معي يا ويك لأننا بحاجة إلى كل رجل. وأنتَ يا بلنكيرون ستتأكد من وصول ماري وبيتر إلى إنجلترا بأمان. الآن هو الوقت المناسب؛ إذ قد لا يكون من السهل مغادرة أميان غدًا.»
رأيتُ القلق على وجوه رفاقي رغم الإضاءةِ السيئةِ في المقصورة. ودَّع بعضُنا بعضًا بتحفُّظ على عادة البريطانيين. أتذكَّر أن العجوز بيتر أمسك يدي كأنه لا يرغب في إفلاتها، وأن الشحوب علا وجه ماري. لو انتظرت لحظةً أخرى لانتحبت؛ إذ كانت شفتا ماري ترتعشان، وعينا بيتر حزينتَين مثل ذكَر أيلٍ مجروح. قلتُ بصوتٍ مبحوح: «ليرعَكُم الرب»، وغادرتُ وبيتر يقول بصوتٍ متهدج: «ليحفَظك الرب يا صديقي العزيز.»
قضيتُ ساعاتٍ مضنية في البحث عن ويستووتر. لم أجده في محطة الإخلاء الكبيرة، لكن عثَرتُ عليه في نهاية المطاف في المشفى الجديد الذي أُسس حديثًا في دير الأورسلينيات. كان رجلًا مميزًا — جافًا وعمليًّا في الظروف العادية — ولدَيه من الصرامة ما صرَف قلوبَ الآخرين عنه. وجدتُه يستلقي على فِراش المشفى في صلابةٍ وهدوء، بعينَين صارمتَين حزينتَين، كعينَي كلبٍ سقيم.
قال في إجابة على سؤالي: «ليست حالتي خطيرة. فقد سقطَت قذيفةٌ بجواري وتضرَّرَت قدمي بشدة. يقول الأطباء إنه لا بد من بترها … أشعُر بالراحة لقدومك يا هاناي. بالطبع ستتسلم القيادة من ماسترتون. إنه رجلٌ صالحٌ لكنه غير مؤهَّل لهذه الوظيفة. فريزر المسكين — سمعتَ ما حدث له. لقد قُتل في بداية المعركة. أجل، بسبب قذيفة. وليفروي. لو كان حيًّا وغيرَ مصاب بجروحٍ بالغة، فقد حظي الألمان بسجينٍ مُثيرٍ للشغب.»
لم يكن به قدرةٌ على الكلام من الإعياء لكنه لم يشأ أن يتركَني أرحل.
قال: «أبلت الفرقة بلاءً حسنًا. ولا تصدِّق مَن يقول إن الجنود لم يحاربوا مثل الأبطال. فقد أوقف خط دفاعنا زحفَ الألمان لمدة ست ساعات، ولم يعُد منه سوى حَفنةٍ من الرجال. ولو لم يُحاصرنا العدو من كلا الجانبَين لواصلنا الصمود. فقد اخترق العدو ميْسرة كراب، ونَزل وادي فيري، ثم اجتاحت موجةٌ كبيرةٌ غابة شروبشاير … دافعنا عن موقعنا شبرًا شبرًا، ولم نتراجع حتى رأينا مخزن بليسيز مشتعلًا خلفنا. آنذاك اضطُرِرنا للتقهقر … ولم يتبقَّ لدينا الكثير من قادة الكتائب. فقد قُتل واتسون وإنديكوت وكروشاي …» وتلعثَم وهو يسرد قائمة الشجعان الذين قضَوا نحبهم.
قال: «عُد بأقصى سرعة يا هاناي. هم بحاجةٍ إليك. لا يروقُني ماسترتون. إنه صغيرٌ للغاية على هذه الوظيفة.» بعد ذلك أخرجَتْني مُمرضة من الغرفة، وتركتُه يتحدث بصوتٍ متهدجٍ واهنٍ لا أعهده منه.
في أسفل الدرَج رأيت ماري واقفة.
قالت: «رأيتُك في أثناء دخولك لذا انتظرتُك.»
هتفتُ: «عزيزتي، من المفترض أن تكوني في بولون الآن. أي جنونٍ قادكِ إلى هُنا؟»
قالت: «هم يعرفونني؛ لذا وظفوني بالمشفى. لا يمكنك أن تنتظر مني البقاء بالوطن دون تقديم يد العون. أنتَ قلتَ بنفسك إنهم بحاجة للجميع، كما أنني أعمل في المخابرات مثلك تمامًا. لا تغضب يا ديك، أرجوك.»
لم أكن غاضبًا ولا حتى قلقًا بإفراط. الأمر برمته بدا لي مقدرًا منذ بدء الخليقة. فلم تنتهِ المهمة التي قد انخرطنا بها، ومن الطبيعي أن نستكمل ما بدأناه معًا. ثمَّة قناعةٌ استقرَّت داخلي مع ذلك الشعور، وهي أننا سننتصر في النهاية. سنصل إلى نهاية حجِّنا بطريقةٍ ما أو في وقتٍ ما. لكن تذكرتُ نذيرَ ماري بشأن التضحية المطلوبة. قالت إننا سنُضحِّي بأفضلِ شخصٍ بيننا. وهذا الوصف يستبعِدني من المعادلة، لكن ماذا عن ماري؟
احتضنتُها بين ذراعي. قلتُ: «إلى اللقاء يا أعز ما لديَّ. لا تقلقي بشأني، فلا أقوم بأعمالٍ خطيرة، ويمكنني حمايةُ نفسي. لكن انتبهِي لنفسكِ لأنك صرتِ دُنياي.»
قبَّلَتْني ماري بجديةٍ مثل طفلةٍ حكيمة.
قالت: «لا أخشى عليك. ستتصدَّى للأعداء، وأعلم — أعلم يقينًا أنك ستنتصر. تذكَّر أن امرأتك يمتلئ قلبُها بالفخر حتى لم يعُد به متَّسَع للخوف.»
خرجتُ من باب الدير وأنا أشعُر مرةً أخرى أنني قد حصَلتُ على الأوامر.
لم أندهِش حين لقيتُ بلينكيرون في رواقِ الطابق العلوي من فندق «هوتيل دو فرانس» بينما كنتُ أبحث عن غرفتي.
قال: «لا يمكنك إبعادي عن هذه المهمة يا ديك؛ لذا لا داعي لأن تبدأ في الجدال معي. هذه فرصةٌ ذهبية بالنسبة لجون إس. بلنكيرون. كانت معركتُنا في أرضروم صغيرة، لكن تلك هي المعركة الحاسمة. حتمًا سأجد طريقةً للمساعدة.»
لم يُساوِرني الشك في كلامه، وسُرِرتُ لأنه فضَّل البقاء على الرحيل. لكن أشفقتُ على بيتر أن يعود إلى إنجلترا بمفرده مثل حطامٍ جَرفَه الفيضان.
قال بلنكيرون: «لا تقلق. بيتر ليس عائدًا إلى إنجلترا. ما أعرفه هو أنه خرج من هذه البلدة من الباب الخلفي الشرقي. فقد تحدَّث مع السيد آرشيبالد رويلانس، وسرعان ما ظهر سادةٌ محترمون من الفيلق الجوي الملكي، ونتَج عن ذلك أن رافق رويلانس بيتر، ورحلا معًا دون توديعنا. أعتقدُ أنه ذهب ليتجاذب أطراف الحديث مع أصدقائه القدامى في محطة ميناء جوية. وربما خطرَت له فكرةُ العودة إلى إنجلترا بالطائرة ليُرفرِف بأجنحته للمرة الأخيرة قبل أن يطويَها للأبد. على أي حالٍ بدا بيتر في غاية السعادة. آخر ما رأيتُه كان يدخِّن غَليونه مع مجموعة من الشباب في عربة الفيلق الجوي قاصدًا ألمانيا مباشرة.»