استدعاء «الثابت»
تلك الليلة لم أنم إلا ساعةً وأربعين دقيقة، لكني استيقظتُ وأنا أشعُر كأنني استغرقتُ في نومٍ عميقٍ دامَ أيامًا. يحدُث هذا، في بعض الأحيان، بعدما يتعرَّض المرء للإنهاك والإجهاد الذهني. حينئذٍ يكونُ النومُ ولو لفترةٍ قصيرة، قادرًا على أن يبني حاجزًا بين الماضي والحاضر، ولا بد للمرء أن يكسِره عن قصد، كي يتسنَّى له أن يسترجعَ ما حدث. كان عقلي مُنهمكًا في تلك المهمة، عندما بدأَت قطراتٌ تتساقط على وجهي من خلال السقف المكسور. دفعَني ذلك للخروج إلى الهواء الطلق. آنذاك، كان نورُ الفجر قد بزغ لتوِّه، وتكدَّسَت السماء بالسُّحب، فيما هبَّت رياحٌ مُثقلة بالمطر من ناحية الجنوب الغربي. أخيرًا جاءت انفراجةُ الطقس التي طال انتظارها. المطر الغزير هو ما كنتُ بحاجةٍ إليه، ليغمُر الأرض ويحوِّل الطرق إلى مجارٍ مائية ويُعيق نقل قوات العدو، بل يُغشِّي بصره … هذا؛ لأنني تذكَّرتُ الخُدعة المنافية للمنطق التي مارسناها على العدو، والحفنة المُنهَكة الجديرة بالشفقة التي حالت دون بلوغ الألمان هدفَهم. لو علموا بالحقيقة، لأزاحونا عن طريقهم بكل سهولة، كما يُبعِد المرءُ الذبابَ عن وجهه.
بينما كنتُ أحلق ذقني، استرجعتُ أحداثَ الأمس كأنها وقعَت في الماضي البعيد. تأملتُها بصورةٍ موضوعية، وتوصَّلتُ في النهاية إلى أنها كانت معركةً ناجحة. لقد قاومَت تلك الحفنة العشوائية من القوات، نصفُها يُعاني من الإنهاك والنصفُ الآخر يفتقر إلى التدريب اللازم، ما لا يقل عن بضعِ فرقٍ نزلَت حديثًا لساحة المعركة … لكننا لن نقوى على تكرار ذلك، ولا نزال خاضِعِين لهذا الخطر اليائس لعدة ساعاتٍ أخرى. ما هو الموعد الذي حدَّده الفيلق لوصول القوات الفرنسية؟ … كدتُ أنادي هاميلتون بصوتٍ عالٍ ليطلب من ويك الاتصال بمقر الفيلق، عندما تذكَّرتُ موته. لقد أحببتُه وأعجِبتُ به كثيرًا، لكن لم أشعُر بغصة في الحلق عندما تذكَّرتُ وفاته. في النهاية، كلنا سيموت، وهو سبقنا إلى هناك فحسب.
لم يحدث قصفٌ في الصباح، وهو ما اعتدنا حدوثَه في الأسبوع الماضي. خرجتُ فوجدتُ العالم المُمتد أمامي ساكنًا تحت السماء الملبَّدة بالغيوم. كان المطر قد توقَّف عن الهطول، ورياحُ الفجر قد خفَّت حدَّتها، فخشيتُ أن تتأخَّر العاصفة. تمنَّيتُ أن تهُبَّ العاصفة فورًا فتساعدنا في الساعات القادمة العصيبة. هل ستأتي القوات الفرنسية في غضون ستِّ ساعات؟ لا، ستأتي في غضون أربع ساعات. لا يمكن أن تتأخر عن أربع، إلا إذ حدث خلطٌ كبير في الجدول الزمني. تُرى ما سببُ سكون الأجواء؟ هذا هو وقتُ طعام الإفطار عند الطرفَين، لكن لا أرى أي إنسان، فيما يبدو، في الشريط القبيح المُمتد لمسافة نصف ميل. لكن في المنطقة النائية التابعة للألمان، بدا أنني سمعتُ دمدمةَ حركةٍ مرورية.
وقف بجواري رجل، طليق اللحية لم تذُق عيناه النوم منذ فترة، وتبيَّن أنه آرشي رويلانس.
قال وهو يُشعِل سيجارًا: «لم أنم طوال الليل. لا، لم أتناول طعام الفطور بعدُ. لقد ارتأى القائد نشر كتيبةٍ مُضادةٍ للطائرات ثانيةٍ في هذه الناحية، وأنا أشرِف على تنفيذ هذه المهمة. إنه يخشى أن يُحلِّق الألمان فوق الجبهة، ويكتشفوا مواطنَ ضعفنا. ونحن لدينا مواطنُ ضعفٍ غيرُ معهودة كما تعلم يا سيدي. أيضًا …» حلَّت الجدية على ملامح آرشي وأضاف: «تدفَّقَت المزيد من الفرق الألمانية إلى هذه البقعة. وحسبما أرى فإن العدوَّ يُعدُّ لهجومٍ هائل على ضفتَي النهر. قال شبابنا بالأمس إن الريف ما وراء بيرون يفيضُ بالقوات القادمة حديثًا. كما أنهم قادمون بمدافعهم الضخمة. لم تصِل القوات إلى هُنا بعدُ، لكن العدوَّ أصلح الطرقَ ولدَيه سككٌ حديديةٌ سريعةٌ جديدة، وفي أي لحظةٍ قد تأتيك تحية الصباح من المدافع عيار ٩.٥ … ادعُ الله، يا سيدي أن تصل الإمداداتُ في الوقت المناسب. أظن أننا لن نواجه هجومًا آخرَ هذا الصباح، أليس كذلك؟»
قلتُ: «لا أظن ذلك. لقد تكبَّد الألمان خسارةً كبيرةً بالأمس، ولا بد أنهم يعتقدون أن جيشنا قويٌّ بعدما قمنا بذلك الهجوم المضاد. أرى أنهم لن يشنُّوا أي هجومٍ جديدٍ حتى يصيروا قادرِين على القتال على جانبَي النهر في آنٍ واحد، وسيتطلب ذلك بعضَ الوقت. لهذا السبب جلبوا هذه الفرق الجديدة … لكن تذكَّر، أنهم قادرون على الهجوم في الوقت الحالي إن شاءوا. فلو علموا بضعفنا، لأدركوا قوَّتهم، وقضَوا علينا جميعًا في غضون ثلاث ساعات. هذه هي الحقيقة التي يجب أن تمنعهم أنت وزملاؤك من اكتشافها. لو عبرَت طائرةٌ ألمانيةٌ واحدةٌ فوق جبهتنا وعادت أدراجها فقد خسرنا تمامًا. قدَّمتم لنا مساعدةً جليلة يا آرشي منذ بدء هذه الحرب. فاستمرُّوا في ذلك حتى النهاية بحق الرب، وسَخِّروا ما أمكنكم من الطائرات لحماية هذا القطاع.»
قال: «نبذل قصارى جهدنا. سنحصُل على المزيد من المُستطلِعين المُحاربين من الشمال، ونحن الآن نُراقب العدو عن كثَب. لكنك تعرف، يا سيدي، مثلما أعرف أن نجاحنا في ذلك ليس مضمونًا. فلو أرسل الألمان سربًا من الطائرات، فقد نُحطِّمها باستثناءِ واحدة، وتلك الواحدة ستكون كافيةً لكشفنا. إن الألمان قلِقون بشأن مجالهم الجوي، ولا ألومهم في ذلك. أرى أننا لم نُحارِب النخبة من القوات الألمانية بعدُ. يقول جينينغز إن العدو أحرزَ تقدمًا كبيرًا في فلاندرز، وتنبأَت القيادة بوقوع هجومٍ وشيك على البلدة. أرى أنه يُمكنُنا معالجة الطائرات التافهة التي يرسِلها العدو إلى هُنا في الآونة الأخيرة، لكن لو ظهر لينش أو أحد أقرانه، فلا يُمكنني تخيُّل ما قد يحدُث. إن لعبة الطيران تلك فيها مقامرةٌ كبيرة»، ونظر آرشي بوجهه المتسخ ناحية السماء حيث أخذت طائرتان من طائراتنا ترتفِعان مُحلقتَين باتجاه المشرق.
ذكَّرتني سيرة لينش ببيتر، فسألتُ آرشي ما إذا كان قد عاد بيتر إلى بريطانيا.
قال: «هو يرفض العودة، ولا نقوى على إجباره عليها. إنه يشعر بسعادةٍ عارمة وهو يلهو بطائرة «جلاديس شارك» ذات المقعد الواحد. كما أنه يتحدَّث عنك دائمًا، وسينفطر قلبه إن أمرنا بنقله.»
سألتُه عن صحة بيتر، فأخبرَني أنه لا يُعاني من آلامٍ مُبرِّحة على ما يبدو.
هزَّ آرشي رأسه الحكيم وقال: «لكنه يتصرَّف بغرابةٍ نوعًا ما. يرفض أن يتزحزح عن مكانه زاعمًا أن الرب يُريد استعماله. وهو جدِّي في ذلك، ومنذ أن خطرَت له تلك الفكرة، تملكَته البهجة. كما أنه لا ينفك يسأل عن لينش، لا بنبرةٍ انتقاميةٍ بل ودودة، إن كنتَ تفهم قصدي. يبدو أن لدَيه اهتمامًا خاصًّا به. أخبرتُه أن لينش خاض سلسلةً طويلةً من الانتصارات لا يُضاهيه فيها غيره، وأن قانون المتوسطات يُحتم أن ينهزم قريبًا، فحزِن للغاية.»
لم يكن لديَّ مُتسع من الوقت للقلق بشأن بيتر. تناولتُ وآرشي طعام الفطور بسرعة، ثم التقيتُ بقادة الألوية. آنذاك، كنتُ قد تواصلتُ مع مقَر الفيلق، وتلقَّيتُ الأخبار بشأن القوات الفرنسية. كان الوضع أسوأ ممَّا توقَّعتُ. سيصِل الجنرال بيجي في العاشرة صباحًا تقريبًا، لكن لن يُمكِّن رجاله من تولِّي مقاليد الأمور حتى منتصف النهار. زوَّدَني المقَر بموقع القوات، ووجدتُه في الخريطة. لا تزال رحلتُهم طويلة، كما أن إجراءات تسليم القيادة تستغرق وقتًا. تفقَّدتُ ساعةَ مِعصمي. أمامنا ستُّ ساعات يمكن للألمان خلالها أن يُبيدونا بالقنابل، ستُّ ساعاتٍ من القلق المُثير للجنون … أعلن ليفروي أن الأوضاع مُستَتِبة في الجبهة، وأن العمال انتهَوا من تثبيت الأسلاك الشائكة الجديدة حول غابة بوا دي لا برويير. أبلغتُ الدوريات عن قدوم فرقةٍ جديدةٍ في أثناء الليل لنجدة الفرقة التي أنزلنا بها أشدَّ العقاب بالأمس. سألتُه إن كان يستطيع هو ورجاله الصمود في وجه هجومٍ جديد. فأجاب بلا تردُّد: «لا. فأعدادنا قليلةٌ جدًّا، ولا نقدر على الوقوف بثباتٍ من شدة التعب. كما أنني أستعمِل رجلًا واحدًا على كل ثلاثِ ياردات.» اندهشتُ مما قاله؛ إذ إن من عادته التفاؤل وعدم الاكتراث.
سمعتُ آرشي يهتف متذمرًا: «اللعنة، ها قد ظهرَت الشمس.» تبيَّن أنه مُحقٌّ فيما قاله؛ إذ بدأَت الغيوم تنقشع، وبدت في وسط السماء رقعةٌ زرقاء. كانت هناك عاصفةٌ قادمة، شممتُ رائحتَها في الجو، لكن قد لا تأتي حتى المساء. تُرى أين سنكون حينها؟
أصبحَت الساعة تاسعةً وأنا أبذل وسعي للمحافظة على رباطة جأشي؛ إذ أدركتُ أن الساعات القادمة ستكون عصيبة. أنا رجلٌ باردُ الطبع نوعًا ما، لكني ما وجدتُ أشَقَّ على نفسي من الصبر والثبات، كما أنه لم يعُد بي قدرة على التحمُّل بعد التوتُّر الذي نتج عن عملية انسحابنا الطويلة. سِرتُ شمال الجبهة وقابلتُ قادة الكتائب. أقلقَني هدوءُ الأجواء. بعد ذلك عُدتُ إلى مقَر فرقتي لدراسة التقارير القادمة من دوريات المراقبة الدورية. وجدتُها جميعًا تُكرِّر الأمر نفسه، وهو وجود نشاطٍ غيرِ طبيعي، في مؤخرة الجيش الألماني. أحسستُ أن الأحداث تتشكَّل على منوال يومِ الواحد والعشرين من شهر مارس نفسه، ولو نفَد حظُّنا السعيد، فستُضطَر بقايا فرقتي المسكينة إلى تلقِّي الصدمة الجديدة. اتصلتُ بالفيلق ووجدتُهم قلقِين مثلي. زوَّدتُهم بتفاصيل قوتي الحالية، وجاءني الردُّ مكروبًا من الطرف الآخر من الهاتف. وجدتُ بعضَ السلوى عندما أدركتُ أنَّ هناك مَن يُشاركني في محنتي نفسها.
شعَرتُ أنني لا أستطيعُ الجلوسَ مكتوفَ اليدَين. لو أن هناك أي أعمالٍ يُمكنني إنجازها لفعلتُ، لكن لم أجد ما أفعله. ليس أمامي سوى الانتظار المُريع. فيما مضى كنتُ نادرًا ما أشعر بالبرد، لكن تغيَّر ذلك، وأدهشتُ هيئة الأركان عندما ارتديتُ المعطف العسكري الطويل وزرَّرتُ ياقتَه. تجوَّلتُ كالذئب الجائع في أرجاء المزرعة الخرِبة، أشعُر بالبرودة في قدمي، والتوتُّر في مَعِدتي، والاضطراب الشديد في عقلي.
فجأة تبدَّد توتُّري، وعاد الدم يسري في عروقي بشكلٍ طبيعي. اختبرتُ تغيُّرَ المزاج، الذي يشعُر به المرء في بعض الأحيان، عندما تطولُ معاناته حتى تصقل كيانَه كلَّه. تبدَّى لي قتالُ الأمس كحدثٍ بديعٍ. فأي تحدياتٍ عظيمةٍ تلك التي واجهناها، وأي شهامةٍ تلك التي أظهرناها! تسارعَت دقاتُ قلبي عندما تذكَّرتُ فرقتي القديمة، المُحاربين القدامى، الذين لا ينهزمون أبدًا ما داموا يتنفَّسون. كما تذكَّرتُ الأمريكيين، والفتيان من مدرسة الرماية، والمعدَّات التي استحوذنا عليها. وبلنكيرون العجوز الذي كان ثائرًا كالأسد النبيل في ساحة المعركة! شعرتُ أنه من غير المنطق ألا ننتصرَ بعد ما أبديناه من جَلَد. لقد أرعبنا الألمان وألحقنا بهم ضررًا كبيرًا، حتى استَكْفَوا وانسحَبوا لترتيب صفوفهم. سيأتون مرةً أخرى، لكننا استرحنا منهم في الوقت الحالي، وستتوافَد القوات الفرنسية الشهمة، المُفعَمة بالحيوية المُتلهِّفة للثأر، لإزعاجهم.
لم تَرِدني أيُّ حقائقَ جديدةٍ تدعو للتفاؤل، لكنني غيَّرتُ منظوري للأمر. فعلتُ ذلك فتدفقَت في عقلي ذكرياتٌ أخرى. كانت وفاة ويك قد تركَتْني فاقدَ الحس، لكني تذكَّرتُها الآن فشعرتُ بغصةٍ حادة. كان ويك أوَّل مَن رحل من جماعتنا الصغيرة. لكن كم كانت خاتمتُه رائعة! وكم كان سعيدًا في تلك الفترة المجنونة عندما نزل من بُرجِه العاجي، وصار واحدًا من الجمهور! لقد وجد نفسَه أخيرًا، وتلك سعادةٌ لا يمكن لأحدٍ أن يسلُبه إيَّاها. لو سيُنتقى الأخيار من بيننا فسيكون أوَّلَهم؛ لأنه رجلٌ عظيمٌ يستحقُّ كل الاحترام. كلما فكَّرتُ به يملؤني التواضُع. فأنا لم أتعرَّض لمثل تحدِّياته، لكنه خرج منها نقيًّا، وبلغ درجةً من الشجاعة لا أستطيعها. كان هو «الأمين»، ذلك السائح الذي أنهى رحلتَه قبل الآخرين. لقد قالت ماري: «لا بدَّ من دفع الثمن … أفضل فردٍ بيننا.»
فور أن تذكَّرتُ ماري تدفَّقَتِ الآمال السعيدة إلى رأسي. تطلَّعتُ مرةً أخرى إلى ما بعد الحرب، إلى السلام الذي سأرِثُه وماري في يومٍ من الأيام. تخيَّلتُ مساحةً خضراءَ من الريف الإنجليزي، تتضوَّع برائحة الأخشاب والمروج والحدائق … وتخيَّلتُ وجهها الذي يظهر في كل أحلامي، والعينَين الطفوليتَين الشجاعتَين الصادقتَين وهما تتطلَّعان مثلي إلى ما وراء ذلك الظلام، إلى بلدٍ مُشرقٍ جميل. تردَّد في أُذني شطرٌ من أغنيةٍ قديمة، كانت إحدى أغاني أبي المُفضَّلة:
كنَّا نقِف على أنقاض سياج ما كان حظيرةَ أغنامٍ فيما مضى. نظرتُ إلى آرشي، فابتسَم إليَّ، لأنه رأى التغيُّر الذي طرأ على ملامح وجهي. بعد ذلك وجَّه أنظارَه إلى السُّحب المتكدِّسة.
شعَرتُ بقبضته تعتصِر ذراعي.
قال بصوتٍ قوي، فيما وجَّه منظاره للأعلى: «انظر هناك!»
نظرتُ إلى ما أشار إليه، ورأيتُ من بعيدٍ ما يُشبه سربًا من الإوز البري يُحلِّق في اتجاهنا من أرض العدو. حاولتُ تبيُّن النقاط الصغيرة التي تُشكِّله، فأخبرني منظاري أنها طائرات. لكن عينَي آرشي الخبيرة عرفَت أنها طائراتٌ غير صديقة.
سألتُ: «أهمُ الألمان؟»
قال: «بلى. انتهى أمرُنا.»
غاص قلبي مثل الحجر، لكني حافظتُ على هدوئي. تفقَّدتُ ساعة مِعصمي، ورأيتُ أنها الحادية عشرة إلا عشرَ دقائق.
سألتُ: «كم عددُها؟»
أجاب آرشي: «خمس. أو ربما ستٌّ لا أكثر.»
قلتُ: «أنصت إليَّ! اتصل بمقر الفيلق الجوي. أخبرهم أنه سينتهي أمرنا إن عادت طائرةٌ واحدة إلى قاعدتها. دَعِ الطائرات تعبُر الجبهة، وكلما تعمقَت كان أفضل، واطلب منهم إرسالَ ما يملكون من طائرات، وحطِّمها كلها. أعلِمهم أن الأمر مسألةُ حياةٍ أو موت. لا يمكن عودة طائرةٍ واحدة. أسرِع!»
فور أن اختفى آرشي، اندلعَت مدافعنا المضادة للطائرات. تُفرِّق التشكيل بالأعلى، وتماوجَت الطائرات، لكنها كانت تُحلِّق على مسافةٍ عالية، فلم تتعرض لخطرٍ كبير. في الوقت نفسه لم تكن بعيدةً جدًّا بما لا يسمح لها برؤية الحقيقة التي يجِب أن نُخفِيَها وإلا هلكنا.
خفَت هديرُ مدافعنا، فيما عبَر الغُزاة مُتَّجِهين ناحية الغرب. راقبتُ مسار الطائرات، وتراءى لي أنها بدأَت تُحلِّق على مسافةٍ مُنخفضة. بعد ذلك ارتفعَت مرةً أخرى، وأخفتها كومةٌ من السحاب.
ساورَني اعتقادٌ مُرعبٌ أن الطائرات ستضربنا، وأن بعضها سيعود لقواعده على أي حال. فقد رأت صفوفَنا الضئيلة، والطرقَ الخاليةَ من قوات الدعم خلف جبهتنا. سترى، كلما توغلَت أكثر، قدوم القوات الفرنسية من الجنوب الغربي، وستعود وتُخبر العدو أن ضربةً واحدةً ستفتح الطريق إلى أميان والبحر. ولدَيه من القوة ما يكفي لهذه المهمة، وسرعانَ ما ستتعاظم قوَّته. لن يتطلب سدُّنا المُتهالك أكثر من وخْزِه بسنِّ رمحٍ كي ينهارَ، ويسمحَ لهم بالتدفُّق من خلاله … ستعود الطائرات في غضونِ عشرينَ دقيقة، وعند الظهيرة سنكون قد انهزمنا. هذا ما لم تحدُث معجزةٌ عجيبةٌ تحُول دون عودة أيٍّ من الطائرات.
أبلغَني آرشي أن قائده سيبذل قُصارى جهده، وأن طائراتنا قد بدأَت بالتحليق. قال: «لدينا فرصة، يا سيدي، فرصةٌ كبيرة.» نظرتُ، فإذا به قد أصبح شخصًا جديدًا ذا صوتٍ جهور ووجهٍ نحيل، وعينَين تفيضان حكمة.
كانت هناك رابية، خلف الجدران الناتئة لمباني المزرعة، شكَّلَت جزءًا من الطريق السريع فيما مضى. تسلقتُها بمُفردي؛ إذ لم أرغب في صحبة أحد. أردتُ مكانًا مرتفعًا يُمكِنني من خلاله مُراقبة الأجواء، وأردتُ أن أحظى بالهدوء؛ فما هو قادم سيكون عصيبًا. كشفَت الرابية جزءًا كبيرًا من الأرض. نظرتُ ناحية الشرق ورأيتُ صفوفنا تتعرَّض للقذائف من حينٍ لآخر وسمعتُ جلجلة المدافع الرشاشة. في الغرب سادت السكينة على الغابات التي تُسوِّر هذه المساحة الخضراء. وفي الشمال، حسبما أتذكَّر، لاحظتُ وهجًا كبيرًا مُنبعثًا ممَّا يبدو أنه مخزنُ ذخيرةٍ مُشتعل، وسمعتُ دويَّ مدافعَ ثقيلةٍ في وادي أنكر. وفي الجنوب سمعتُ دمدمةً بعيدةً لمعركةٍ عظيمةٍ دائرة. لكن في مُحيطي، في منطقتنا المكشوفة في منتصف الجبهة، أخطر مكان على الإطلاق، كان الهدوء سائدًا على نحوٍ غريب. استطعتُ تمييز الأصوات المُتداخلة بوضوح. فبالأسفل، ألقى شخصٌ ما في المزرعة دعابةً أثارت نوبةً قصيرةً من الضحك. حسدتُ ذلك الفكاهيَّ على رباطة جأشه. كما سمعتُ قعقعةً وصليلًا صادرًا عن مدفعٍ يُغيِّر موضعه. وفي الطريق تهادى جرَّار، سمعتُ صياحَ سائقه وصريرَ محورِ عجلاته الذي يحتاج إلى التزييت.
التصقَت عيناي بعدستَي منظاري المُعظِّم، لكنه كان يهتز في يديَّ المُرتعشتَين، فرأيتُ من خلاله بصعوبةٍ شديدة. عضَضتُ على شفتيَّ لتهدئة نفسي، لكن ظلَّت يدايَ ترتجفان. من حينٍ لآخر تفقَّدتُ ساعتي. ها هي ثماني دقائقَ قد مضت … عشرُ دقائق … ثماني عشرةَ دقيقة. ليتَ الطائراتِ تظهَر في الأفق! حتى تيقُّن الهزيمة سيكون أفضلَ بكثيرٍ من هذا الشك المُرعب. لا بد أن الطائرات قد عادت الآن، إلا إذا حلَّقت شمالًا من الرَّابية الناتئة، أو حصلَت معجزةٌ عجيبة …
بعد ذلك، اندلع مدفعٌ مُضادٌّ للطائرات في البُعد، متبوعٌ بإخوته في اللحظة التالية، فيما ترصَّعَت السماءُ الزرقاءُ البعيدةُ ببقعٍ من الدخان. أخذَت السُّحب تتكاثف وسط السماء، لكن في الغرب أصبحَت رقعة السماء الفارغة الناصِعة غير واضحة المَعالم من شظايا الانفجارات. أحصيتُ الانفجارات بغير تركيز … واحد … ثلاثة … خمسة … تسعة، وبدأ اليأس يحلُّ محلَّ القلق في نفسي. توقفَت يداي عنِ الارتجاف، ورأيتُ طائرات العدو عَبر منظاري.
حلقَت خمسة أجسامٍ مُستطيلةٍ فوق القصف، كانت تتَّضِح لقاء السماء الزرقاء تارة، وتستتِر بالبُخار تارةً أخرى. كانت عائدةً إلى قواعدها في هدوءٍ وازدراء بعدما رأت ما تُريده.
اختفى الهدوء وعلا الضجيج. اندلعَت المدافع المُضادة للطائرات، منفردةً وفي جماعات، من جميع الجهات. راقبتُ ما يحدُث وشعرتُ أن هذا إهدارٌ للذخيرة لا طائل منه. لم تعبأ طائراتُ العدو أدنى ذرةٍ بهذه القذائف … لكن بالتأكيد سقطَت إحداها. إذ أحصيتُها ووجدتُها أربعًا فحسب. كلَّا، ها هي الخامسة تخرج من خلف سَحابة. في غضونِ عشرِ دقائقَ ستعبُر تلك الطائراتُ الجبهة. تملَّكَني الحنق. لم تفعل هذه المدافع شيئًا سوى أنها تسبَّبَت في صداعٍ شديد في الرأس. أين طائراتُنا بحق السماء؟
آنذاك، ظهرَت طائراتُنا في الأفق بسرعة البرق، عبارة عن أربع مقاتلاتٍ استطلاعية، تتلألأ أجنحتُها في الشمس، وتبرق أغطيةُ مُحركاتها المعدنية. رأيتُ بوضوحٍ على هياكلها الحلقات الحمراء والبيضاء والزرقاء. وقبل أن تقوم طائراتنا بهجمتها، تفرَّقَت طائرات العدو على الفور.
بتُّ أراقب المشهد بعينَيَّ المُجردتَين، وتلهَّفتُ لصحبة الآخرين؛ إذ انتهى وقتُ الانتظار. ولا بدَّ أنَّني هبطتُ الرابية بصورةٍ آلية؛ إذ وجدتُ نفسي بعد ذلك أحملِق في السماء برفقة آرشي. بدا أن كل طائرةٍ اشتبكَت مع طائرةٍ غريمةٍ تلقائيًّا. كانت الطائرات المتلاحِمة تهبط بسرعةٍ شديدة وتدور في حلقاتٍ وتصعد في الهواء، خارجةً من نقطة الالتحام، أو تستتِر بسَحابة. كنتُ أسمع جلجلةَ المدافع الرشاشة رغم ارتفاعها الشاهق. وفجأة، رأيتُ وميضَ انفجارٍ خلف خيطٍ من الدخان. سقطَت طائرة، وهي تتقلَّب وتدور حول نفسها، حتى ارتطمَت بالأرض.
قال آرشي الذي كان يحمل منظاره: «إنها إحدى طائراتِ الألمان!»
تبعتها طائرةٌ أخرى في الحال. لكن هذه المرة استعاد الطيَّار توازُنه، والطائرة لا تزال على بُعْد ألف قدمٍ من الأرض، وبدأ يطير ناحية صفوف العدو. لكنه ما لبث أن فقد السيطرة عليها وانخفض بسرعةٍ شديدة، قبل أن يسقط برأس الطائرة في الغابة خلف لا برويير.
في أقصى الشرق، فوق الخنادق الأمامية مباشرة، انخرطَت طائرةٌ ألباتروس ذات مِقعدَين في قتالٍ حامٍ مع طيَّارٍ بريطاني. كان القصف قد توقَّف؛ لذا تمكنَّا من مُراقبة كل حركة من مكاننا. صَعدَت طائرة وتبعَتها ثانيةٌ إلى الأعلى، ثم هبطتا بسرعةٍ شديدة، مُبتعدة إحداهما عن الأخرى قبل أن تقتربا من جديد، حتى كادتا أن ترتطما لولا بضع بوصاتٍ فصلَت بينهما. بعد ذلك بدا كأنهما اقتربتا وتشابكتا. توقعتُ تحطُّمهما، لكن فقدَت إحداهما السيطرةَ على جناحَيها بغتة، وسقطَت بسرعةٍ شديدة كالحجر.
قال آرشي: «طائرة ألمانية، هذا يجعل العدد ثلاثة. رائع يا شباب! رائع!»
بعد ذلك حدث شيءٌ سلبَني أنفاسي. رأيتُ طائرةً ألمانية تنخفض في دوائر، وفوقها طائرة بريطانية تتبعها عن قُرب. كان هذا أول استسلامٍ أشهده على الإطلاق يحدُث وسط الجو. راقبتُ الطائرتَين في اندهاش، تتَّجِهان ناحيةَ الأرض، حتى هبطَت طائرة العدو في مرجٍ شاسع في الناحية الأخرى من الطريق السريع، وهبط رجلُنا في حقلٍ قريبٍ من النهر.
عُدتُ أنظر إلى السماء، وإذا هي فارغة. لم أرَ أثرًا لأي طائرةٍ بريطانيةٍ أو ألمانيةٍ في الشمال أو الجنوب أو الشرق أو الغرب.
انتفَض جسدي بعُنف. كان آرشي يُفتِّش السماء بمنظاره وهو يُغمغِم. أين الرجل الخامس؟ لا بد أنه شَق طريقه إلى القاعدة، وفات الأوان.
أحقًّا حدث ذلك؟ اندلع لهيبٌ من مقدمة سَحابٍ مُتكاثفٍ متجهًا صوب الأرض، وفي أثره خطان مُتشعِّبان من الدخان. أهي طائرةٌ بريطانية أم ألمانية؟ بريطانية أم ألمانية؟ لم أنتظر الإجابة طويلًا. فقد رأيتُ مُقاتلتَين استطلاعِيَّتَين بريطانيَّتَين تصعدان فوق الطرف البعيد من السحاب.
حاولتُ الحفاظ على هدوئي، ووضعتُ منظاري في حقيبته بسرعة، رغمًا عن رغبتي في الصياح. التفتَ آرشي ناحيتي بابتسامةٍ متوترة وشفتَين مُرتعشتَين. قال: «أعتقد أننا فُزنا في هذه المعركة.»
مدَّ يده ليُصافحني، وعيناه لا تزالان مُثبتتَين على السماء، وكدتُ أُمسِكها عندما أبعدها مرةً أخرى. كان آرشي يُحملق بالأعلى بوجهٍ شاحب.
كنا ننظر إلى الطائرة السادسة للعدو.
كانت تُحلق خلف الطائرات، على مسافةٍ منخفضةٍ جدًّا، وتتَّجِه ناحية الشرق بسرعةٍ شديدة. كشف منظاري عن طائرةٍ مختلفة الطراز، كبيرةِ الحجم قصيرةِ الجناحَين، تتربَّص بطائراتنا كصقرٍ بين سربٍ من الطهيوج. حلقَت تحت السحاب المُتكاثف، الذي حلقَت فوقه طائرتان من طائراتنا، في رضًا وراحة بعد أن قاتلَت العدو ودحرَته.
انطلق مدفعٌ مضادٌّ للطائرات مجاورٌ على نحوٍ مفاجئ، وحمِدتُ الرب على توقيته المناسب. فقد استدارت الطائرتان البريطانيتان، في تعجُّب من هذا التطوُّر الجديد، ورأتا الطائرةَ الألمانية فهجمَتا عليها.
لا أستطيع وصفَ ما حدث بعد ذلك. امتزجَت الطائرات الثلاث في قتالٍ ضارٍ، حتى لم أعُد أستطيع تمييز العدو من الصديق. توقفَت يداي عن الارتجاف؛ إذ كنتُ في غاية اليأس. انحدرَت إلينا طقطقة المدافع الرشاشة، ثم انفصلَت إحدى الطائرات، وبدأَت تصعد للأعلى. بذلَت الباقيتان غاية جهدهما للَّحاق بها، لكنها كانت قد ابتعدَت عن مرمى نيرانِهما بسرعة البرق، لسرعتها الفائقة. هل كانتْ هذه طائرةَ العدو؟
تحرَّكَت شفتا آرشي الجافتان بالكلام.
قال: «إنه لينش.»
شهقتُ بغضب: «كيف عرفت؟»
أجاب: «أُميِّزه بسهولة. انظر إلى الطريقة التي تسلَّل بها، فيما انعطف بطائرته. هذه هي خدعتُه الفريدة.»
في هذه اللحظة العصيبة انطفأَت جذوة الأمل داخلي. غمرني هدوءٌ شديد؛ إذ ولَّى زمن القلق وانقضى. انجرفت الطائرتان البريطانيتان بعيدًا أكثر فأكثر، فيما حلَّق لينش في دوائر مرارًا وتكرارًا مُنتشيًا بانتصاره، كأنه يودِّع مُطارديه بازدراء. وفي أقلَّ من ثلاثِ دقائقَ سيهبط بأمانٍ بين صفوف جيشه، ومعه المعلومة التي تقتضي نهايتَنا.
كان هناك من يصرُخ في أذني وهو يشير للأعلى. تبيَّن أنه آرشي، وبدا الحماسُ على وجهه. نظرتُ إلى ما كان يشير إليه وشهقتُ، ثم أمسكتُ بمنظاري ونظرتُ مرةً أخرى.
منذ ثانية كان لينش وحده، والآن تُحلِّق طائرتان في السماء.
سمعتُ صوت آرشي. قال: «يا إلهي، إنها شارك-جلاداس.» أمسك ذراعي بقوة حتى انغرسَت أصابعه في لحمي وخبَّأ وجهه في كتفي. ثم هدأَت ثورتُه، وتحوَّلَت إلى انبهارٍ أعجزه عن الكلام، فقال متلعثمًا: «إنه …»
لم أكن بحاجة لأن يُخبرني باسمه، لأنني خمَّنتُ الطيَّار، عندما رأيتُ الطائرة الجديدة تسقُط من بين السحب لأول مرة. انتابني ذلك الشعور الغريب، عندما يُحِس المرء في بعض الأحيان بوجود صديقه وإن لم يرَه. في مكانٍ ما، من ذلك الفضاء، كان بطلان، أحدهما مبتور الساق، يخوضان معركتهما الأخيرة.
لم أشُك في نتيجة القتال على الإطلاق، لكن أخبرَني آرشي فيما بعدُ أنه كاد أن يفقد عقله من الترقُّب. لم يلحظ لينش خصمَه حتى صار فوقه قريبًا، وتساءلتُ ما إذا قاده إحساسُه إلى التعرُّف على ألد أعدائه. لم يطلق لينش رصاصةً واحدةً ولا بيتر … رأيتُ الألماني يدور وينعطف جانبًا كأنه يراوغ قدَره المحتوم. ورأيتُ بيتر ينحرف فوقه عموديًّا، وعلمتُ أن النهايةَ قد حانت. ظل بيتر هنا حتى يتأكد له النصر وقد سلك السبيل الوحيد لذلك. اقتربَت الطائرتان وارتطمتا، شعرتُ بقوة ارتطامهما وإن لم يبلُغني دويُّه، وفي اللحظة التالية اندفعَتا للأرض بأقصى سرعة وتدحرَجَتا مرةً تلو الأخرى.
سقطَت الطائرتان في النهر، على بُعد مسافةٍ قصيرةٍ من صفوف العدو، لكن لم أرَهما إذ اغرورقَت عيناي بالدموع، وجثوتُ على ركبتَي.
ما حدث بعد ذلك كان حُلمًا. وجدتُ جنرالَ فرقةٍ فرنسية يُعانقني ورأيتُ أوائلَ سرايا القوات الفرنسية المُبتهجة التي انتظرتُها بفارغ الصبر. فور وصولهم، أمطرَت السماء، وانسحبتُ مع ما تبقَّى من الفرقة من ساحة المعركة في أول ساعات الليل تحت سماء أبريل الماطرة. بدأَت مدافع العدو تُدوِّي خلف ظهورنا، لكن لم أُعِرْها اهتمامًا. كنتُ أعلم بوجودِ حراسٍ عند البوابة، ورجوتُ أن يتغمدنا الرب برحمته وتظل البوابة مسدودةً للأبد.
انتُشِل بيتر من بين الحطام دون أي جروحٍ باستثناء ساقه المُلتوية. كان الموتُ قد خفَّف من آثار الزمن على وجهه، فأشبه كثيرًا الوجهَ الذي رأيتُه منذ وقتٍ طويلٍ مضى في تلال ماشونالاند. قبعَت نسختُه المهترئة من «سياحة المسيحي» في جيبه. ولا تزال قابعةً أمامي، وأنا أسطر هذه السطور، وبجوارها — بصفتي وارثه الوحيد — الحقيبة الصغيرة التي وصلَت بعد بضعةِ أسابيعَ من وفاتِه، وفي داخلها أعلى وسامِ شرفٍ يمكن منحه لجنديٍّ بريطاني.
من «سياحة المسيحي» قرأتُ في صباح اليوم التالي؛ حيث وقفتُ مع ماري وبلنكيرون بجوار قبر بيتر، في حِمى بستان تفاح، تحت مطر الربيع الخفيف. قرأتُ الحكايةَ الأخيرةَ التي لم يكن بطلها «الثابت»، الذي اختاره بيتر نظيرًا له، وإنما «القوي للحق» الذي لم يطمح بيتر لمضاهاته. تفوَّهتُ بالكلمات على سبيل التحية والوداع:
«ثم قال: «إنني ذاهبٌ إلى بيت أبي، ومع أنني قد قاسيتُ كثيرًا في مجيئي، لا أندم على ما قاسيتُه في سبيل الوصول إلى ذلك البيت. إنني أعطي سيفي مَن يليني في السياحة، وشجاعتي وحذاقتي مَن يستطيع الحصول عليهما. أما الآثار التي في جسدي فآخذها معي شهادةً لي بأني قد حاربتُ مُحاربات من يُجازيني الآن.»
ثم عبَر، فهتفَت له الجموع على الجانب الآخر.»