تأمُّلاتُ مريض شُفي من عُسر الهضم
بعد خمسٍ وثلاثين ساعةً وجدتُ نفسي في غُرفتي في وستمنستر. قد أجد رسالةً في انتظاري؛ إذ ما كنتُ أنوِي لقاء بلنكيرون في فندق «كلاريدجز» بصورةٍ مكشوفة حتى أحصُل منه على تعليماتٍ بذلك. لكن لم أجد أيَّ رسائل، باستثناء رسالةٍ قصيرةٍ من بيتر، أخبَرني فيها أنه يأمُل في إرساله إلى سويسرا. أدركتُ حينها أنه في وضعٍ صحيٍّ متدهور.
على الفور رنَّ جرسُ الهاتف. كان بلنكيرون هو المُتصل. قال: «اذهب وتحدَّث إلى وكلائك بشأن الحصول على قرضٍ لشراء المعدَّات الحربية. كنْ هناك في غضون الساعة الثانية عشرة، ولا تصعد حتى تقابل أحدًا من أصدقائنا. يُستحسَن أن تحظى بوجبةِ غداءٍ سريعة في النادي، ثم تتوجَّه إلى متجر كُتب «تريلز» في شارع هايماركت في الساعة الثانية. يمكنك العودة إلى بيجلزويك في الخامسة وستَّ عشرةَ دقيقة.»
فعلتُ كما طُلب منِّي، وفي غضون عشرين دقيقة — بعدما سافرتُ بالمترو لأنني لم أستطع العثور على سيارة أجرة — دنوتُ من المربَّع السكني في شارع ليدنهال؛ حيث تقبع الشركة الموثوقة التي تُديِّر استثماراتي. كان لا يزال هناك بضعُ دقائقَ على منتصف النهار، فتباطأتُ قليلًا، وحينها رأيتُ وجهًا مألوفًا يخرجُ من البنك المجاور.
ابتسَم أفري عندما تعرَّف عليَّ. وسأل: «هل أتيتَ إلى المدينة في زيارةٍ سريعة؟» أجبتُ: «قَدِمتُ للقاء وكلائي، وقراءة صحف جنوب أفريقيا في ناديَّ، وسأعود في قطار ١٦٫٥. أيُمكِننا اللقاء؟»
أجاب: «بالطبع، سأركب في هذا القطار. إلى اللقاء. أراكَ في المحطة.» وغادَر في عَجل، وبدا في غاية الأناقة بملابسه النظيفة والزهرة التي يضعُها في عروة سُترته.
تناولتُ وجبةَ الغَداء في عَجلةٍ، وفي غضون الساعة الثانية ظهرًا انشغلتُ بتصفُّح بعض الكتبِ الجديدةِ في مكتبة «تريلز»، وعيناي على الباب الأساسي خلف ظهري. بدَت لي مكانًا عامًّا للقاءٍ سري. فور أن بدأتُ في قراءة بضع فقراتٍ عشوائية من كتابٍ مصوَّرٍ كبير عن حدائق الزهور، قَدِم المساعدُ نحوي. وقال: «يرسل المدير تحياته إليك، يا سيدي، ويظن أن بعضًا من كلاسيكيات الرحَّالة بالأعلى قد تُثير اهتمامك.» اتبعتُه بلا اعتراضٍ إلى الطابق العلوي الذي كان مُصطفًّا بصنوف المجلَّدات وبالطاولات المفروشة بالخرائط والكتابات بالحَفْر. قال: «مِن هنا يا سيدي»، وفتح بابًا في الحائط مُسسترًا بظهور الكتب المزيَّفة. ووجدتُ نفسي في مكتبٍ صغير؛ حيث جلس بلنكيرون في مقعدٍ وثيرٍ يُدخِّن السجائر.
نهض من مقعده وصافحَني بحرارة. قال: إن رؤيتك أفضل من كل البشارات يا رجل. كنتُ أتابع بطولاتك بشغف منذ افتراقنا في العام السابق في مرسى ليفربول. كِلانا انشغل في عمله، ولم أجد طريقةً لإطلاعك على حالي؛ إذ بعدما ظننتُ أنني شُفيتُ ساءت حالتي تمامًا، وكما أخبرتُك، اضطُررتُ إلى السفر إلى الجرَّاحين من أجل الخضوع لجراحة. بعد ذلك، باشرتُ مهمةً مظلمة، ونأيتُ عن الأضواء والمجتمع الراقي. لكن، يا إلهي! صرتُ رجلًا جديدًا. كنتُ أؤدي عملي مغمومَ النفس يُلازم فمي طعمٌ مرٌّ مثل الحنظل، لكني الآن أتناول ما أشاء من الطعام والشراب، وأمرح في الأرجاء مثل المُهر. أستيقظ كل صباح، في مزاجٍ رائق، أشكُر الربَّ الرحيم على نعمة الحياة. كان يومًا شؤمًا على القيصر عندما ركبتُ السيارة قاصدًا وايت سبرينجز.
قلتُ: «هذا مكانٌ غريبٌ للقاء، كما أحضرتَني إليه عَبْر طريقٍ طويلٍ ملتوٍ.»
ابتسم بلنكيرون ابتسامةً عريضةً وقدَّم لي سيجارًا.
ردَّ: «لديَّ أسبابي. ليس في صالحنا الإعلان عن علاقتنا في قارعة الطريق. وبالنسبة لمتجر الكتب، فأنا أملكُه منذ خمسة أعوام. لديَّ ذوقٌ خاصٌّ في الكتب الجيدة، وإن كنتَ ستستغربُ ذلك، وأرغب في مشاركته مع الزبائن … لكن أولًا أرغب في سماعِ ما لديكَ بشأن بيجلزويك.»
أجبتُ: «ليس لديَّ الكثير لأقوله. وجدتُها فطيرةً مكوَّنةً من الكثير من الجهل، بالإضافة إلى مقدارٍ كبير من الغرور، والقليل من الأمانة المُضللة. فلا تُشكِّل ضررًا حقيقيًّا. هناك أديبٌ أو اثنان قذران، كان الأولى بهما الانضمامُ إلى كتيبة عمال البناء، لكنهما لا يُمثِّلان أي خطر على الإطلاق. عرفتُ الكثير، وحفظتُ جميع الحُجج عن ظهر قلب، لكن حتى لو بنَيتَ بيجلزويك في كل مقاطعة، فلن يعودَ ذلك بالنفع على الألمان. لكنني مع ذلك أرى مكمنَ الخطرِ الحقيقي. هؤلاء الأشخاص يتحدَّثون عن اللاسلطوية الأكاديمية ليس إلا، لكنها تُمارَس على أرض الواقع في مكانٍ ما، ولا بد من التفتيش عنه في المقاطعات الصناعية الكبيرة. تصلُنا أصداؤه الخافتة في بيجلزويك. أعني أن الأشخاص الخطرين بحقٍّ يُريدون إنهاء الحرب ليتسنَّى لهم شنُّ حربِهِم الطبقية المباركة التي تتخطَّى الجنسيات. أما بالنسبةِ إلى العمل في الجاسوسية وما شابَه، فشُبَّان بيجلزويك ينقصُهم الكثير من الخبرة.»
قال بلنكيرون في تأمُّل: «أجل. لدَيهم عقولٌ كعقول الأنعام. أواثقٌ أنك لم تلتقِ بِمن يمثل خطورة فعلية؟»
قلتُ: «أجل. هناك رجل، اسمُه لانسلوت ويك، حضر إلى «مووت هول» مرَّة لإلقاء محاضرة. كنتُ قد قابلتُه من قبلُ. لدَيه مقوماتُ المُتعصِّبين، وهو أكثر خطورةً من غيره؛ إذ يمكنكَ ملاحظة اضطراب ضميره. أتخيَّله يُفجِّر رئيس الوزراء لمجرد إسكات شكوك ضميره.»
سأل: «حسنًا. هل هناك شخصٌ آخر؟»
فكَّرتُ هُنيهة. قلتُ: «هناك السيد أفري، لكنك تعرفه أكثر منِّي. لا ينبغي أن أُحمِّله الكثير، لكن لستُ متأكدًا تمامًا؛ إذ لم أحظَ بفرصة التعرُّف عليه عن قرب.»
قال بلنكيرون مندهشًا: «أفري! إنه يستمتِع برفقة الشباب الحمقى مثلما يُحب الأغنياءُ نباتاتِ الأوركيد والخيلَ السريعة. أصبتَ في تخمينك.»
قلتُ: «هذا وارد. لكن ليست لديَّ أدلةٌ كافيةُ للتأكد.»
أخذ بلنكيرون ينفث سيجارَه لما يقرب من دقيقة. ثم قال: «لو أخبرتُك يا ديك بما فعلتَه منذ أن حطَّت قدَمي على هذه الأرض، لظننتَ أنَّني رومانسيٌّ حالم. فقد انغمستُ وسط الكادِحين. عملتُ لفترةٍ مؤقتةٍ عاملًا ضعيفًا بسيطًا في أحواضِ بناءِ السفن في مدينة بارو. ثم عملتُ ساقيًا في فندقٍ على طريق بورتسموث، وقضيتُ شهرًا أسودَ سائقَ أجرةٍ في شوارعِ مدينةِ لندن. كما عملتُ لفترةٍ قصيرةٍ مراسلًا مُعتمدًا لجريدة «نيو يورك سنتينال»؛ حيث ذهبتُ مع الآخرين إلى الاجتماعات المُهمة لنواب الوزراء وجنرالات وزارة الدفاع. خضعَت مقالاتي لرقابةٍ قاسيةٍ فطردَتْني الجريدة. خرجتُ في جولةٍ على الأقدام حول إنجلترا، ومكثتُ مدَّة أسبوعَين في مزرعةٍ صغيرةٍ في مقاطعة سافك. عُدتُ بعدها سريعًا إلى فندق «كلاريدجز» والمتجر، بعدما حصَلتُ على أغلب المعلومات التي أُريدها.»
واصَل فيما التفتَ إليَّ بعينَين مُتأمِّلتَين واسعتَين فضوليَّتَين: «أدركتُ أن العمال البريطانيين أعقلُ الموجودين على وجه البسيطة. يتذمَّرون حينًا ويرفُضون الامتثال للأوامر أحيانًا أخرى عندما يرَون فساد الحكومة، لكنهم يتمتَّعون بصبر أيوب وعناد الدِّيَكة. كما أنهم يتمتَّعون بحسٍّ فكاهيٍّ عالٍ كفيلٍ بإضحاكي بشدة. ليس ثمَّة تهديدٌ من هذا الجانب لأن العمال وأمثالهم هم مَن يهزمون الألمان … لكني لاحظتُ بضعةَ أمورٍ أخرى.»
انحنى للأمام وربَّت على رُكبتي. قال: «أودُّ أن أُبدِيَ إعجابي بجهاز المخابرات البريطاني. فالجواسيس غير قادِرين على النفاذ إليه. إذ تَحميه شبكةٌ حصينةٌ مَنيعة، لكنْ هناك ثقبٌ فيها، ووظيفتُنا هي رتقُه. عدوُّنا في هذه المهمَّة داهية. واجهتُه منذ عامَين في أثناء مطاردة دومبا وألبرت، وظننتُ أنه في نيويورك، لكن تبيَّن أنني كنتُ مُخطئًا. شَهدت أنشطته مرةً أخرى في أرض الوطن في العام السابق، وتوصَّلتُ إلى أن معقله الرئيسي في أوروبا. بحثتُ عنه في سويسرا وهولندا، لكني لم أجد سوى آثاره. توصَّلتُ إلى أن عرين ذلك الأسد موجودٌ في إنجلترا، ولمدة ستة أشهر انهمَكتُ في تقَفِّي أثَره. تبيَّن أن ثمَّة عصابةً تُقدِّم له المساعدة، عصابة كبيرة ماهرة لكنها بريئة جزئيًّا. لكن هناك عقلٌ مدبرٌ واحد، ولأجل مُجابهته ذهبتُ إلى إخوة روبسون لعلاج مَعِدتي.»
تسارعَت دقات قلبي، فيما كنتُ أُصغي إليه؛ إذ دخلنا في المهمة أخيرًا.
سألتُ: «أهو اشتراكيٌّ دولي أم لاسلطوي أم ماذا؟»
أجاب: «إنه عميلٌ ألمانيٌّ خالص، لكن لم يسبق له مثيلٌ مِن الجواسيس، يفوقُ ذكاءُه أيَّ جواسيسَ عهدناهم من قبلُ. حمدًا للرب أنَّني حدَّدتُ موقعه … لا بدَّ أنْ أُطلِعكَ على بعض الأمور.»
استرخى في مقعده الجلدي المُهترئ وتحدَّث لعشرين دقيقة. أخبرَني أنه في بداية الحرب كان بحوزة سكوتلاند يارد قائمةٌ كاملةٌ لجواسيس العدو، وأخذَت تتخلَّص منهم دون إثارةِ ضجَّة. وبعدما فُكِّكَت الشبكة، صار التركيز منصبًّا على اصطياد الجواسيس المنفردِين. استغرق الأمر الكثير من الجهد. إذ نشِطَت جماعاتٌ ثوريةٌ من كل صنفٍ ولون، مثل الماسونيين الحمر واللاسلطويين الدوليين، لكنَّ أسوأها على الإطلاق جماعةُ المُروِّجين للاستثمار الدولي، المكوَّنة في الغالِب من غريبي الأطوار والمُحتالين العاديِّين، وهم أنفسهم ليسوا عملاءَ ألمان بل أداة في يدِهم. ومع ذلك، عند منتصف ١٩١٥، نجح الجهاز في القبض على غالبية العملاء المُتبقين. لكن ظلَّ شرذمةٌ منهم طُلقاء، وبحلول نهاية العام السابق، انهمكَ شخصٌ في تجميعهم وتشكيل شبكةٍ جديدةٍ منهم. على إثر ذلك، ظهرَت قضايا غريبة عن تسريب معلوماتٍ مهمة. ازدادت خطورة الوضع، بحلول شهر أكتوبر ١٩١٦، عندما انطلقَت غواصات الألمان في مهمةٍ خاصة. فجأة، علمنا أن العدو يمتلك معلومات، كنَّا نظن أنها غيرُ معروفةٍ إلا لقلةٍ من الضباط. قال بلنكيرون إنه لم يستغرِب تسرُّب المعلومات؛ إذ دائمًا ما يسمع أشخاصٌ كُثرٌ أمورًا ليس من المفترض أن يسمعوها. لكن ما أدهشَه هو سرعة وصول هذه المعلومات إلى العدو.
في فبراير الماضي، عندما بدأَت الغواصات الألمانية الترويع على نطاقٍ واسع، تفاقَم الوضع. كانت التسريبات تحدُث بوتيرةٍ أسبوعية، وهو أمرٌّ يُدبِّره حتمًا أشخاصٌ على درايةٍ تامةٍ بالمنظومة؛ إذ نجحوا في تفادي كل المصايد التي أعدَدناها لهم، ولم يُبلغوا العدوَّ بالأخبار المُزيفة التي نشرناها عن عمد. كما هُوجمَت مواكبُ أمنية، خرجَت في سريةٍ بالغة، في مواضعِ عجز. وكانت خططُنا الدفاعية التي أعدَدناها بعناية، تُحبَط حتى من قَبلِ محاولةِ تنفيذها. قال بلنكيرون إنه لم يكن هناك دليلٌ على أن عقلًا مُدبرًا واحدًا وراء هذه العمليات؛ إذ لا يُوجَد تَشابهٌ بينها، لكن كان لدَيه انطباعٌ قويٌّ طيلةَ الوقتِ أنها من تدبيرِ رجلٍ واحد. تمكنَّا من غلق بعض المَخابئ، لكنَّنا لم نقدر على الاقتراب من المعاقل الكبرى. قال بلنكيرون: «آنذاك، أعتقِد أنني كنتُ على استعدادٍ تقريبًا لتغييرِ أساليبي. كنتُ أستخدِم ما يَصفه المُثقفون ﺑ «الاستنباط»، وهو تتبُّع الأفعالِ للوصولِ إلى الفاعل. بعد ذلك أدركتُ حاجتي إلى تَبنِّي نهجٍ جديد، وهو تتبُّع الفاعل للوصول إلى الأفعال. ويُسمُّون ذلك «الاستنتاج». تراءى لي أنه في مكانٍ ما على هذه الجزيرة ثمَّة رجلٌ مهذب، يُمكِننا تسميتُه ﺑ «السيد إكس»، لو تتبَّعنا أنشطتَه فسنصِل إلى بعضِ سِماته. فكَّرتُ جيدًا في نوعية شخصيته. لاحظتُ أن أسلوبه هو الخدعة المزدوجة. بعبارةٍ أخرى، عندما يكون لدَيه طريقان أمامه، الطريق «أ» والطريق «ب»، فإنه يتظاهر أنه سيسلُك الطريق «ب» حتى يجعلَنا نظُنُّ أنه سيسلك الطريق «أ». ثم سيسلك الطريق «ب» في نهاية المطاف. تراءى لي أن هذا التمويه يتطابق قطعًا مع ذلك الأسلوب الفريد. ولأنه عميلٌ ألماني، فهو لن يتظاهر أنه وطنيٌّ مُخلص أو محافظٌ مُخلصٌ مُتعصب. ستكون هذه خدعةً عادية. إنما فكَّرتُ أنه سيكون من دعاة السلام، ذكيًّا بقَدْرٍ يجعله يتحرك في إطار القانون، لكن على نحوٍ يلفِتُ إليه أنظار الشرطة. سيكتُب كُتبًا لن يُسمح بتصديرها. سيجعل نفسه مكروهًا في الصحف المشهورة، لكنَّه سيُثير إعجاب الحياديين لشجاعته الأخلاقية. هكذا، رسمتُ لنفسي صورةً دقيقةً للغاية للعدوِّ الذي أتوقَّع أن أجده. بعد ذلك شرعتُ في عملية البحث عنه.»
اكتسى وجه بلنكيرون بإحباطِ فتًى صغير. وقال: «لم تُفلِح مُحاولاتي. واصلتُ الطرقَ على الباب الخطأ، وأنهكتُ نفسي بمُلاحقة الأبرياء الأنقياء.»
هتفتُ وقد ارتبتُ فجأةً في أمرٍ ما: «لكنك عثَرتَ عليه.»
ردَّ بحزن: «عُثر عليه لكن ليس بفضل جون س. بلنكيرون. فهو لم يفعل شيئًا سوى أن حرَّك المياه الراكدة. وتُرك أمر الإيقاع بالسمكة الكبيرة لآنسةٍ شابة.»
هتفت بحماس: «أعرفها. اسمُها الآنسة ماري لامنتون.»
هز بلنكيرون رأسه مُعاتبًا. قال: «أنتَ مُحقٌّ فيما وصلتَ إليه، يا بُني، لكنك نسيتَ لباقتك. عملُنا خطير؛ لذا فإننا لا نذكُر اسم الشابة الكريمة الأصل الطاهرة. ولو فُرض أننا سنتحدَّث إليها، فسنُنادِيها باسمٍ مُستعارٍ مُقتبَس من «سياحة المسيحي» … على أي حال، لقد أوقعَتِ السمكةَ في الشباك، لكنها لم تصطَدْها بعدُ. هل فهمتَ؟»
شهقتُ: «أفري.»
ردَّ: «أجل. أفري. ليس استثنائيًّا كما قلتُ. هو رجلٌ عادي، في منتصف عمره، ذو وجهٍ مُستديرٍ أبله، ومعرفةٍ واسعةٍ برياضة الجولف، لا يُثير الشك على الإطلاق. يظهر على ملامحه الكدح، على نحوٍ طفيف، ليظهر أنْ لا علاقة له بالطبقة الأرستقراطية العقيمة. وهو معسولُ الكلامِ لاحِن، يُعشَقُ وقْع صوتِه على الآذان. كما أنه غاية في اللِّين والوداعة.»
نهض بلنكيرون من مقعده ووقف أمامي. قال: «أؤكِّد لك يا ديك أن هذا الرجل يُصيبُني بالقُشَعْريرة. ليست لدَيه ذرةُ صلاحٍ في قلبه. الهمَج الرعاعُ مقارنةً به ودِيعون. إنه قاسٍ كالوحوش ماكرٌ كالذئاب. لكنه داهية. وقد التقَط الطُّعم ونجَحنا في خداعه، لكن الرب يعلم إذا كنا سنُفلِح في إحكام قبضتِنا عليه أم لا!»
سألت: «لِمَ لا تعتقِله بحق السماء؟»
أجاب: «ليست لدَينا أدلة؛ أقصد أدلة قانونية مُلزِمة، لكننا لدَينا أدلةٌ كثيرةٌ غيرها. يُمكنني أن أُقدِّم حُججًا أخلاقيةً داحضةً تُدينه، لكنه سيهزمني في المحكمة. سينهض خمسون خانعًا، في البرلمان، ويَنعتوننا بالمُضطهِدين. فلدَيه تابعٌ في كل مجموعةٍ من غريبي الأطوار في إنجلترا، بالإضافة إلى المُغفَّلين الذين يُقَوقِئون عن حرية الفرد، فيما يتجول الألمان بحُريةٍ لاستعباد العالم. لا، يا سيدي، إنها لعبةٌ في غاية الخطورة! كما أن في جعبَتي خطةً أفضَل، لأن موكسون أفري رجلٌ يحتل مكانةً رفيعةً في الدولة. وملفُّه أكثر ملفٍّ مُكتملٍ بعد سجلَّاتِ الملائكةِ الحفَظة. لقد تحقَّقنا من مراجعِه في كل زاويةٍ من العالَم، وجميعُها سليمةٌ لا تشوبها شائبة. وهي تقول إنه مواطنٌ فاضلٌ منذ نعومة أظافِره. لقد نشأ في نورفولك ولا يزال هناك أشخاصٌ على قَيد الحياة يتذكَّرون والده. وتلقَّى تعليمَه في مدرسة «ميلتون»، واسمه مُدرَج في سجلَّاتها. كما عمل في مدينة فالبارايسو في تشيلي، وثمَّة ما يكفي من الأدلة لكتابة ثلاثة مجلَّداتٍ عن حياته المُستقيمة هناك. عاد إلى الوطن وقد اكتسب خبرةً متواضعةً قبل عامَين من الحرب، وشغَل الرأي العام منذ ذلك الوقت. كان مُرشحًا ليبراليًّا لدائرةٍ انتخابيةٍ بلندن، وزيَّن اسمُه كلَّ مجالس إدارة المؤسسات التي تشكَّلَت من أجل تحسين المجتمع. لدَيه حُججُ غيابٍ تسُد عين الشمس، وجميعها محكمةٌ داحضةٌ وإن كانت ملفَّقة … ومع ذلك لا يمكنك هزيمتُه في لعبتِه تلك. إنه أفضلُ مُمثلٍ مشى على الأرض على الإطلاق. يمكنك ملاحظةُ ذلك من وجهه. فهو ليس له وجهٌ بل قناع. ولو شاء لانتحل شخصية شيكسبير أو يوليوس قيصر أو بيلي صانداي أو اللواء–الجنرال ريتشارد هاناي. ليست لدَيه شخصيةٌ واحدة، بل خمسون، وجميعُها لا تُعبِّر عنه. أظنُّ أنه لو وقع في قبضة الشيطان في نهاية المطاف، لاضطُر أن يُمسِك به بيدَيه وأسنانه مخافة أن يُفلِتَ منه.»
جلس بلنكيرون في مقعده مرةً أخرى، وتدلَّت إحدى ساقَيه على جانب المقعد.
تابع: «أغلقنا عددًا كبيرًا من قنواتِ اتصالِه في الأشهر الأخيرة. لا، إنه لا يشُك بي. فالعالَم لا يعلم شيئًا عن رجالِه العُظماء، وبالنسبة إليه ما أنا إلا مُتعصبٌ للسلام من شمال الولايات المتحدة الأمريكية، يُعطي تبرعاتٍ كبيرةً للمجتمعات المخبولة، وعلى استعدادٍ للسفر مئات الأميال لإلقاء خطبٍ رنَّانة على أي جمهور. لقد زارَني في فندق «كلاريدجز»، ونسَّقتُ الأمور على نحوٍ يُسهِّل اطِّلاعه على ماضيَّ. وهو ماضٍ شنيع، كما تعلَم، لأنني كنتُ متعصبًا للبريطانيين منذ عامَين قبل أن أجد الخلاص وأتعرَّض للنفي من بريطانيا. عُدتُ إلى الوطن في نهاية المطاف، وأعلنتُ عن مُعارضتي للحرب بشكلٍ رسمي، عندما لم أكن طريحَ الفِراش. لا يرى السيد موكسون أفري أن جون س. بلنكيرون يُمثِّل أي تهديدٍ له. وفي أثناء وجودي في إنجلترا، حرصتُ على التواري عن الأنظار، والعمل بأساليبَ مُلتويةٍ كثيرة، لن يستطيع تتبُّعها إليَّ … كما قلتُ، قطعنا أغلب قنواتِ اتصاله، لكننا لم نصل إلى أهمها بعدُ. ولا يزال يُسرِّب معلوماتٍ في غاية الخطورة إلى الخارج. أنصِت إليًّ جيدًا يا ديك؛ فنحن بصدَد مناقشة دورك.»
بدا أن بلنكيرون لديه ما يدعم شُكوكَه بأن القناة لا تزال مفتوحةً ولها علاقةٌ بالشمال. لكن توقَّفَت معلوماتُه عند هذا الحد، حتى سمع من عُملائه عن قدوم شخص، اسمه أبل جريسون، إلى جلاسكو من الولايات المتحدة. اكتشف أن المدعو جريسون هو نفسه رانكيستر، رئيس حزب العمال الصناعيين الدولي، المتورط في بعض قضايا التخريب العنيفة في كولورادو. فضَّل بلنكيرون الاحتفاظ بهذه المعلومات لنفسه وعدَم مشاركتها مع الشرطة لئلَّا تُعيقَ عمله، لكنه أمر فريقَه بالتواصلِ مع جريسون ومُلاحقته عن قرب. كان الرجل حريصًا جدًّا لكنه في غاية الغموض، حتى إنه كان يختفي لمدة أسبوع أحيانًا دون أن يترك أي أثَرٍ خلفه. ولسببٍ مجهول، لم يستطِع تفسيرَه، توصَّل بلنكيرون إلى أن جريسون له علاقةٌ بأفري؛ لذا أجرى بعضَ التجاربِ لإثبات صحة تخمينه.
قال: «أردتُ أن أتأكَّد من صحة ما وصلتُ إليه بعدة تلميحاتٍ ألقيتُها. وحقَّقتُ ذلك الليلة قبل السابقة. كانت زيارتي لبيجلزويك مُثمرة.»
قلتُ: «لم أفهم مَغزى تلميحاتك، لكني أذكُر زمان إلقائها. كانت الأولى عندما تحدَّثتَ عن الاشتراكيين النمساويين، وأيَّدكَ أفري في كلامك. أما الأخرى فكانت بعد العَشاء عندما اقتبس خبرًا من صحيفة «فيزر».»
قال بلنكيرون بابتسامته البطيئة: «أنت لمَّاح يا ديك. لقد أصبتَ الهدف من الضربة الأولى. أنتَ تعرفني جيدًا؛ لذا تتبَّعتَ طريقتَي في التفكير في هذَين التعليقَين. ولأن أفري لا يعرفني جيدًا، وكان رأسُه منشغلًا بهذا الجدل، لم يلحظ أي شيءٍ غير عادي. ضُخَّت هذه الأخبار إلى جريسون حتى ينقلَها إلى شريكه. وقد فعَل ذلك، ونقلَها إلى أفري. وبهما اكتملَت السلسلة.»
قلتُ: «لكنها أخبارٌ عاديةٌ يُمكنه تخمينها بسهولة.»
أجاب: «لا، ليست أخبارًا عادية. كانت أخبارًا سياسيةً دقيقةً حسَّاسة يسعى إليها شتَّى الجماعات من غريبي الأطوار.»
عقَّبتُ: «كانت اقتباساتٍ من الصحف الألمانية على أي حال. ربما وصلَت إليه تلك الصحفُ أبكَرَ مما توقَّعت.»
أجاب: «أخطأتَ مرةً أخرى. لم تظهر الفِقرة في صحيفة «فيزر» أبدًا. زيَّفنا جزءًا اقتطعناه من تلك الصحيفة، لكنه كان تزييفًا مُتقنًا، ولأن جريسون يعمل باحثًا سُمح له بالاطلاع على هذا النص. وأرسلَه بدَوره إلى شريكه. أراني أفري ذلك النص مُنذ ليلتَين. لم يُلطِّخ مثل هذا الخبر العواميد في صحف الألمان. لا، كان دليلًا دامغًا … والآن، يا ديك، مهمَّتك هي ملاحقةُ جريسون.»
قلتُ: «حسنًا. أشعُر بسعادةٍ بالغةٍ لأنني سأعود إلى عملي مرةً أخرى. فقد كسبتُ بعض الوزن من قلة التمارين. أظن أنك تريدُ مني إلقاءَ القبضِ على جريسون متلبسًا بجُرم ثم الزج به وأفري في السجن بلا أي فرصةٍ للهرب.»
قال ببطءٍ شديد وبشكلٍ قاطع: «ليس هذا ما أريد. لا بد أن تتبع التعليماتِ الواردةَ إليك بدقة. أقدِّر هذَين الرجلَين الرائعَين كأنهما ولداي الأثيران. ولا أرغب في التعرُّض إلى راحتهما وحريتهما لأي سبب. يجب أن يستمرَّا في التواصُل مع أصدقائهما. وأنا أريدُ تزويدَهما بكل الوسائلِ المُمكنةِ لذلك.»
وانفجَر ضاحكًا عندما رأى الحَيْرة على وجهي.
قال: «انتبِه لِما سأقوله يا ديك. كيف نريدُ معاملة الألمان؟ نحن نريدُ أن نملأ عقولهم بالأكاذيب الماكرة ونجعلَهم يتصرَّفون وفقًا لها. وموكسون أفري يُمِدُّهم بالمعلومات المهمة بصفةٍ مستمرة. إنهم يثقون به ثقةً عمياء، ومن الحماقة أن نُحطِّم ثقتَهم به. لو تمكنَّا من اكتشافِ قنواتِ موكسون، فسنستخدمها لصالحنا وسنُرسِل إليهم أخبارًا مزيفة باسمه. كل كلمة يُرسلها موكسون تذهب مباشرة إلى هيئة أركان الحرب العُظمي الشديدة السرية. ويعصر العجوزان هندنبورغ ولودندورف عقليهما لحلِّ شفرتها. نريد أن نشجعهما على الاستمرار. سنُرتب إرسال معلومات صحيحة عديمة الأهمية، حتى يستمرَّا في ثِقتهما بموكسون، وسندسُّ وسطها بعض المعلومات المزيفة بالغة الأهمية. لا يُمكننا ممارسة هذه خدعة إلى الأبد، لكن لو حالفنا الحظ سنلعبها فترة طويلة بما يكفي لإرباك خُطَط قادتهم.»
حلَّت الجدية على ملامحه وغشِيَته صرامةٌ كصرامة قائد قواتنا في اجتماع التخطيط للهجوم.
قال: «لن أُعطيكَ أي تعليماتٍ لأنك تقدِر على اتخاذ القرارات اللازمة بنفسك. لكن سأرسمُ لك الخطوطَ العريضةَ للموقف. أَخبِر أفري أنك ستذهب إلى الشمال لتتقصَّى بنفسك حقيقةَ نزاعاتِ حزب العمال الصناعيين. سيبدو الأمر طبيعيًّا بالنسبة إليه، وسيجده مُتوافقًا مع سلوكك أخيرًا. سيُخبِر شركاءه أنك استعماريٌّ ساذج، يشعُر بالاستياء من بريطانيا، وربما تكون ذا نفعٍ لهم. ستذهب إلى أحد رجالي، في جلاسكو، وهو مشاغبٌ سياسيٌّ متحمسٌ اختار هذا الطريق لأداء واجبه تجاه بلدِه. وهو طريقٌ شاقٌّ جدًّا ووَعْرٌ للغاية. من خلاله ستتواصل مع جريسون، ولن تُفارِق ذلك المواطنَ الماكر. تَقفَّ أخباره، وتحيَّن الفرصَ لملاحقته. احذَر من إثارة الريبة في قلبه؛ ولهذا السبب لا بد أن تكون على شفا الخروج عن القانون. اذهب إلى هناك كداعٍ للسلامِ مُتعصِّب وستعيشُ وسطَ أناسٍ يُثيرون اشمئزازك. قد تُضطَر إلى انتهاك القوانين العديمة القيمة التي ابتدعَتها الحكومة البريطانية من أجل الدفاع عن أرضها، وسيتعيَّن عليك ألا تقع في قبضة الشرطة … تذكَّر أنك لن تحصُلَ على أي مساعدةٍ من جانبي. لا بد أن تجمعَ المعلوماتِ بشأن جريسون في الوقت الذي تتَّحد فيه قوى بريطانيا ضدَّك. أرى أن هذه مهمةٌ خطيرة، لكنك أهلٌ لها.»
وفيما تصافحنا، أضاف كلمةً أخيرة. قال: «خذ ما يَكفيك من الوقت للاستعداد لكن القضية لا تحتمِل التأخير. فكلَّ يومٍ يُرسِل أفري معلوماتٍ شديدةَ الخطورة إلى العدو. يتجهَّز الألمانُ لهجومٍ واسعٍ في ساحة القتال، ولحملةٍ كبيرةٍ لإثارة مواطنينا وتشويش عقولهم. العالم كلُّه مُنهكٌ من الحرب واقتربنا من اللحظة الحاسمة. نُراهِن عليك يا ديك؛ لأن الوضع صار في غاية الحساسية.»
اشتريتُ روايةً جديدةً من المتجر وبلغتُ محطة سانت بانكراس في الوقت المناسب كي أتناول كوبًا من الشاي في البوفيه. وجدتُ أفري عند كشك الكُتب يشتري جريدةً مسائية. دخلنا إلى عربة القطار، فأمسك بنسختي من مجلة «بانش»، وراح يضحك، ويجذب انتباهي إلى الرسوم الهَزْلية. نظرتُ إليه وإذا هو صورةٌ مثاليةٌ لمواطنٍ مُتأقلمٍ على حياة الريف في طريقه لبيته البريء في المساء. كان كل شيء طبيعيًّا، بدايةً من ثيابه النظيفة المصنوعة من التويد، والغطاء الواقي للحذاء الفاتح اللون، ووشاح العنق المرقَّط، وانتهاءً بمعطفه الواقي الفاخر.
لم أجرؤ على أن أطيل النظر إليه. حمَّسَني ما عرفتُه عنه لتفرُّس ملامحه، لكن خشيتُ أن يكتشف اهتمامي المُتزايد به. كنتُ أعامِلُه بفتورٍ دائمًا لأنني لم أُحبَّه كثيرًا؛ لذا كان عليَّ مواصلة طريقتي السابقة في التعامل. كان مرحًا للغاية، كثير الثرثرة، وفي غاية الود والتسلية. أتذكَّر أنه تناوَل الكتاب الذي اشتريتُه في الصباح لقراءته في القطار، وهو المجلد الثاني من «مقالات هازليت» وآخر مُقتنياتي من المؤلفات الكلاسيكية، وتحدَّث عن الكتب بحكمةٍ حتى تمنَّيتُ لو أنَّني صَحبتُه لفترةٍ أطولَ في بيجلزويك.
قال: «كان هازليت أكاديميًّا راديكاليًّا في عصره. وأطلق العِنان دائمًا لغضبه النظري تجاه اعتداءاتٍ لم يَختبرها بنفسه. بينما الرجال الذي يثورون على مشكلاتٍ حقيقيةٍ يدَّخرون أنفاسَهم للقيام بشيءٍ حيالها.»
منحَني هذا النقاشُ الفرصةَ لإخباره عن رحلتي إلى الشمال. قلتُ إنني تعلَّمتُ الكثير في بيجلزويك لكن أريد اختبار الحياة الصناعية عن قرب. أضفتُ: «وإلا فسأصير مثل هازليت.»
أثار كلامي اهتمامَه بشدَّة وشجَّعَني في طلبي أيَّما تشجيع. قال: «هذا هو الطريقُ الصحيحُ لمُعالَجة الأمر. أين تفكِّر في الذهاب؟»
أخبرتُه أنني فكَّرتُ أولًا في مدينة بارو، ثم عدَلتُ عن ذلك وقرَّرتُ الذهاب إلى مدينة جلاسكو؛ لأن منطقةَ كلايد دافئة.
قال: «خيارٌ صائب. ليتَني أستطيع الذهاب معك. ستستغرقُ بعضَ الوقتِ في فهم اللغة. وستُواجه عدوانيةً غيرَ معقولةٍ بين العمال؛ إذ لدَيهم شكاوى كثيرة بسبب الحرب مثلما لدَيهم شكاوى كثيرة بشأن سياسات حزب العمال. لكنك ستُقابل الكثير من العقول الحكيمة والقلوب السليمة. لا بدَّ أن تكتب لي وتُخبرني باستنتاجاتك.»
كانت أمسيةً دافئة، ونام الجزء المُتبقي من الرحلة. نظرتُ إليه وتمنَّيتُ لو أنني أستطيع النظر إلى ما يدور في عقله المُتخبئ خلف وجههِ الشبيهِ بالقناع. كنت لا أساوي شيئًا بالنسبة إليه، بل كنتُ غير كافٍ حتى لأن يَستغلَّني، وأنا من أتجهَّز لاستغلاله. بدا أنني شرعتُ في مغامرةٍ بائسة. كما أنني طيلةَ هذا الوقتِ لم يُفارقني ذلك الشعورُ المُريبُ بأن وجهَه مألوف لي. حدثتُ نفسي بحماقتي لأن رجلًا بوجهٍ مثل هذا لا بد أن له آلافَ الأشباه. لكن ظلَّت الفكرة تُؤرِّقني حتى وصلنا إلى وِجهتِنا.
ونحن خارجان من المحطة إلى الأجواء المسائية الذهبية رأيتُ ماري لامنتون مرةً أخرى. كانت تسير بصحبةِ إحدى بنات عائلة ويكس، حاسرةَ الرأسِ على عادة سُكان بيجلزويك، يتلألأ شعرُها في ضوء الشمس. أزال أفري قُبعتَه لتحيتِها، وأثنى عليها بكلماتٍ بليغة، فيما قابلتُ نظراتها الثابتة بنظراتٍ خاليةٍ من التعبير كمُمثلٍ يلعب دور المُتآمِر على خشبة المسرح.
عقَّب أفري فيما ابتعَدنا عنهم: «إنها فتاةٌ جذابة. لكنها لا تخلو من جدية يمكن استخدامها في قضايا نبيلة.»
فكَّرتُ، فيما كنتُ أسير لأتناول وجبة عشائي الأخيرة مع عائلة جيمسون، أن الفتاة الآنفة الذكر ستُشكِّل في الغالب تحديًا كبيرًا للسيد أفري موكسون قبل أن تنتهي اللعبة.