أندرو آيموس
بعد مرور ثلاثة أيام، ركبتُ في القطار المُتجه من محطة كينجز كروس إلى إدنبرة. ذهبتُ إلى فندق «بنتلاند» في شارع برنسز، حيث تركتُ حقيبةَ سفري، بما تحتوي عليه من ملابسَ داخليةٍ نظيفة وملابسَ إضافية. فكَّرتُ في ذلك بعضَ الوقت، وتوصَّلتُ إلى أنه لا بد أن يكون لي قاعدةٌ في مكانٍ ما، وثيابٌ نظيفة. بعد ذلك، نزلتُ إلى شوارع مدينة جلاسكو، في ملابسَ مُهترئةٍ من قماش التويد وكيسٍ قماشيٍّ صغيرٍ على ظهري.
سِرتُ من المحطة إلى المَوقع الذي حدَّده لي بلنكيرون. كان المساء صيفيًّا حارًّا، وفاضت الشوارعُ بنساءٍ حاسراتِ الرأس وحرفِيِّين مُتعبين. تجوَّلتُ في شارع دامبارتون مندهشًا من كثرة الرجال الأقوياء البِنية الذين يسيرون في الأنحاء، فكيف وأنت لا تسير ميلًا واحدًا على الجبهة البريطانية دون أن تصطدم بكتيبةٍ من جلاسكو. ثم تذكَّرت أن الذخائر والسفن تُصنع في المدينة فتبدَّدَت دهشتي.
أرشدَتني سيدةٌ مُمتلئةُ الجسم شعثاءُ في زقاقٍ ضيقٍ إلى مسكن السيد آيموس. قالت: «تقبَع شقتُه في الطابق الثاني. ستجد أندرو في البيت يتناول الشاي. فهو لا يُحب العمل لساعاتٍ إضافية. ودائمًا ما يعود إلى البيت عادةً في تمام السادسة.» صَعِدتُ الدرَج بقلبٍ حزين؛ إذ إنني مثل الأفريقيين الجنوبيين يرُوعُني الغبار. كان المكان شديد القذارة، لكن كان على كل بسطةٍ بابان ذويا مِقبضَين مصقولَين جيدًا، ولوحتان من النحاس الأصفر. قرأتُ على إحداهما اسم أندرو آيموس.
فتَح لي البابَ رجلٌ ضئيلُ الجسم، يرتدي قميصًا مع صُدرةٍ محلولةٍ الأزرار، ولا يضع ياقةً حول عنقه. هذا ما استطعتُ رؤيته في الضوء الخافت، لكنه مدَّ كفًّا كمخلبِ الغوريلا وسحبَني إلى الداخل.
منحَتني غرفة الجلوس، التي تُطِل على الكثير من المداخن وسماء صفراء شاحبة تبرز في خلفيتها مدخنتا مصنع بوضوح، ضوءًا كافيًا لأراه بوضوح. كان طولُه خمسَ أقدام وأربعَ بوصات، ومِنكباه عريضَين، وشعره أشعثَ أشيبَ. كان يرتدى نظَّارة، ويُشبه رجال الدِّين الاسكتلنديين التقليديين بسبب حاجبَيه الكثَّين وشاربَيه اللذَين التقَيا تحت فكِّه، كان حليقَ الذقَن والشَّفة العُليا. اصطبغَت عيناه باللون الرمادي الفولاذي، وكانت تغشاهما صرامةٌ بالغة، لكنهما متَّقدتان بالحيوية. كان صوته جَهوريًّا، ولولا أنه تحدَّث بشفتَين نصف مغلقتَين، لاهتزَّت جدرانُ الغرفة من دويِّ صوته. لم تكن هناك سِنَّةٌ واحدةٌ سليمة في فمه.
قبع صحنُ فنجانٍ مليء بالشاي، وطبقٌ حمَل عجةً باللحم فيما مضى، على الطاولة. أشار إليهما وسألني إذا كنتُ تناولتُ الطعام.
سأل: «ألن تتناول أي شيء؟ حسنًا، قد يُقدِّم لك أحدهم جرعة ويسكي، لكن هذا المنزل لا يسمح بتناول الكحوليات على الإطلاق. إذا كنتَ تشعُر بالعطش، فاذهب إلى أقربِ حانةٍ عامة.»
أنكرتُ حاجتي للأكل أو الشرب، وأخرجتُ غَلْيوني، فبدأ يملأ غَلْيونًا قديمًا من الفخار بالتبغ. سأل بصوته الهادر: «اسمك السيد براند، أليس كذلك؟ كنتُ أترقَّب وصولك، لكن يا إلهي! تأخَّرتَ كثيرًا يا رجل!»
أخرج من جيب سرواله ساعةً فضيةً عتيقة، وتفقَّدها بعدَم رضا. قال: «لقد توقَّفَت الساعة اللعينة عن العمل. كم الساعة يا سيد براند؟»
شرع يفتحُ غطاءَ ساعتِه عَنوة، بالسكين نفسها التي استخدمها في تقطيع التبغ، وفيما انهمك بفحص آلية الساعة، أدار الجزء الخلفي من الغطاء ناحيتي. نظرتُ وإذا رقاقةُ ماري لامنتون الأرجوانية البيضاء مُلصقةٌ داخلها.
أظهرتُ ساعتي حتى يستطيع رؤية الدليل نفسه. ارتفعَت عيناه الثاقِبتان هُنهية، وتعرَّف عليها، ثم أغلق غطاءَ ساعتِه بحدَّة، وأعادَها إلى جيبه. عقب ذلك تبدَّد ارتيابُه وأصبح ودودًا.
قال: «هل أتيتَ لزيارة جلاسكو يا سيد براند؟ حسنًا، إنها جيدةُ الإدارة، ويعيش فيها الصالحون والطالحون. أخبروني أنك قَدِمتَ من جنوب أفريقيا. إنها بعيدةٌ للغاية، لكن سمعتُ بعض الأشياء عنها؛ إذ سافر ابن عمي إلى هناك لعلةٍ في رئتَيه. كان يعمل في متجر في الشارع الرئيسي، بلوم فاونتان. يَدعونه «بيتر دوبسون». ربما تذكُره.»
تحدَّث عن منطقة كلايد. أخبرني أنه قَدِم من الحدود؛ إذ إن مسقط رأسه بلدة جالاشيلز أو «جاولي» بحسب تسميته. قال: «بدأتُ مسئولًا عن صيانة مغازلَ آليةٍ في مصنع ستافيرت. بعد ذلك مات والدي وورثتُ عنه حرفةَ النجارة. لكن هذا ليس زمانَ الحرفِ الصغيرةِ المُستقلة؛ لذا قدِمتُ إلى كلايد وتعلَّمتُ بناء السفن. بوسعي أن أقول إنَّني صرتُ رائدًا في هذه الصنعة، وعلى الرغم من أنني لستُ من مسئولي اتحاد العمال ويُستبعَد أن أصير واحدًا، إلا أن كلِمتي لها وزنٌ كبير. والحكومة على دراية بهذا الأمر لأنها أرسلَتني في مهمَّاتٍ في طول البلاد وعرضها للنظر في الغابات ورفع التقارير عن طبيعة الأخشاب. يخالون أنها رشوة، لكن أندرو آيموس لا يقبل الرشوة. وسيقول رأيه في أي حكومةٍ على الأرض بصدقٍ ودون مواربة. وسيُناضِل من أجل حقوق العمال ضد من يضطهدُهم سواء أكانت الحكومة أو النخبة الغنية الذين يُسمُّونهم أعضاء حزب العمال. هل سمعتَ عن مُمثلي النقابات يا سيد براند؟»
أقررتُ بسماعي عنهم إذ زوَّدني بلنكيرون بتاريخِ نزاعاتِ العمالِ الصناعِيِّين على نحوٍ وافٍ.
قال: «حسنًا، أنا مُمثل نقابة. أُمثِّل الأعضاء العاملين أمام أصحاب المناصب الذين فقدوا ثقة العمال. لكنِّي لست اشتراكيًّا، فلا تنسَ هذه الحقيقة. أنا من راديكاليِّي الحدود القدامى، ولا أنوي الانحراف عن هذا المسار. أُؤيد حُرية الفرد والمساواة في الحقوق وتكافؤ الفرص. لن أركع أمام مسئولٍ حكومي رفيع، ولا إقطاعيٍّ خريع له أراضٍ عند نهر تويد. اضطُرِرتُ أن أحتفظ بآرائي لنفسي، في وقتٍ انشغلَت فيه عقول الشباب بمنشورات الرأسمالية والملكية الجماعية وغيرها من المُصطلحات التافهة الطويلة التي لا أريد تدنيس لساني بنطقها. اللعنة عليهم وعلى الاشتراكية! إن المرء ليجدُ في صفحةٍ واحدةٍ كتبَها جون ستيوارت من الحكمة ما لا يجده في المؤلَّفات الأجنبية التافهة مُجتمعة. لكن، كما قلتُ، اضطُرِرتُ إلى عدم التعبير عن آرائي؛ إذ انتشَرَت الاشتراكية في العالم كالنار في الهشيم. وهذا كله بسبب تشوُّه عملية التعليم.»
سألتُ: «ماذا يقول راديكاليٌّ حدوديٌّ عن الحرب؟»
نزع نظارته ورفع حاجبَيه الكثَّين نحوي. قال: سأُخبرك يا سيد براند. يقول إن في صراعه منذ أن بلغ سنَّ الرشد مع المُحافظين والإقطاعيين الاسكتلنديين وأصحاب المصانع وأصحاب الحانات والكنيسة الاسكتلندية رأى كثيرًا من مَثالبهم، غير أن تلك الكيانات لم تعدم بعضَ الأخلاق بخلاف الألمان فإنهم ينضَحون بالفساد. عندما اندلعَت الحرب، فكَّرتُ في الأمر بهدوء لثلاثة أيام، ثم حدَّثتُ نفسي قائلًا: «لقد وجدتَ العدو أخيرًا يا أندرو آيموس. كلُّ من حاربتَهم من قبلُ كانوا، إن جاز التعبير، أصدقاءَ مُضللين. إما أنتَ أو قيصر هذه المرة!»
تبدَّدَت الصرامة من عينَيه وحلَّت محلَّها قساوةٌ كئيبة. قال: «لكني لم أتذبذب. تلقيتُ التعليمات مبكرًا فيما يخصُّ الطريقةَ المُثلي لخدمة دولتي. لم تكن المهمة سهلة، وبسببها نعَتَني الكثيرُ من الصالحين اليومَ بأوصافٍ مُهينة. يعتقدون أنني أحرِّض المواطنين في الداخل، وأغضُّ الطرف عن القضية التي يُحارِب الشباب لأجلها في الجبهة. أنا أحاول كبحَ جماحِهم يا رجل. لو لم أناصرهم في مَطالبهم الاقتصادية العادلة، لغَضِبوا ووقَعوا تحت رحمةِ أولِ وغدٍ يروِّج للثورة. أنا وأمثالي نُشكِّل صِمامات الأمان. ولا تُسِئ الفهمَ يا سيد براند. هؤلاء الرجال الذين يُطالبون برفع الأجور لا يدعمون السلام. إنهم يُحاربون من أجل الشباب في الخارج مثلما يُحاربون من أجل أنفسهم في الداخل. وجميعُهم مستعدُّون لبذل الغالي والنفيس من أجل هزيمة الألمان. لقد ارتكبَت الحكومة الأخطاء، ويجب أن تتحمَّل ثمنها. لو لم يحدُث ذلك، لشعر العمَّال بالقمع، وأنه لا سبيل لسماع شكواهم. لماذا يجب أن يضاعف أصحابُ الأعمال أرباحهم فيما تُعاني الطبقة العاملة من أجل الحصول على وجبةِ إفطارٍ بسيطة؟ هذا هو جوهرُ إضرابِ العمال، كما يُسمُّونه، وهو شيءٌ إيجابيٌّ في رأيي؛ لأنه إذا لم يكسر العمال القيود من حينٍ لآخر، فستتبدد حيوية الدولة، وسيسحقها هيندنبرج بكل سهولة مثل تفاحةٍ فاسدة.»
سألتُه إن كان يتحدَّث عن السواد الأعظم.
أجاب: «تسعون بالمائة في أي اقتراع. لا أقول إنه ليس هناك الكثير من الحثالة مُرتادي الحانات والحمقى الذين لا يقرءون الصحف بإمعان ويُشوِّشون عقولهم بالأفكار الغريبة. لكن الرجل العادي في منطقة كلايد، كغيره في الأماكن الأخرى، يكره ثلاثة أصنافٍ من البشر؛ الألمان والاستغلاليين حسب تعبيرهم، والأيرلنديين. لكن كراهته للألمان تحتل المرتبة الأولى.»
هتفتُ في دهشة: «الأيرلنديون!»
صاح آخِرُ راديكاليِّي الحدود القدامى: «أجل، الأيرلنديون. تعجُّ جلاسكو في الأيام الحالية بشيئَين، وهما المال والأيرلنديون. أتذكَّر اليوم الذي أيَّدتُ فيه قانونَ الحكم الذاتي لأيرلندا الذي روَّجَت له حكومة ويليام جلادستون، وكيف كنتُ أحتجُّ على خضوع دولتنا الشقيقة السامية الكريمة الدافئة القلب لحكمٍ أجنبي. يا إلهي! لا أتحدث عن أهل أولستر، تلك البؤرة السيئة العقيمة التي عارضَت الحكم الذاتي، بل أتحدَّث عن أبناء شعبنا. إن الذين يرفضون بذلَ أدنى جهدٍ لدعم الحرب، ويستغلون حاجتنا لتدبير عصيانٍ تافه، جديرون بسخط الرب والبشر. عاملناهم بطيبةٍ شديدة، وانظر إلى الشكر الذي حصلنا عليه. يتدفَّقون إلى هُنا بالآلاف ويستَولون على وظائف الشباب الذين يُلبُّون نداء الواجب. في الأسبوع الماضي تحدَّثتُ إلى أرملة، صاحبة متجرِ ألبانٍ صغيرٍ في شارع دالمارنوك. علمتُ أن لها ولدَين في الجيش؛ أحدهما يخدم في فوج المشاة الاسكتلندي، والآخر في سجون الألمان. أخبرَتْني أنها لم تعُد تستطيع مواصلة العمل، دون مساعدةِ ولدَيها، رغم أنها بذلَت قصارى جهدها. قالت: «من القسوة، يا سيد آيموس، أن تأخذ الحكومة ولديَّ الاثنَين، وربما لا أراهما مجددًا مرةً أخرى، فيما تترك العمال الأيرلنديين أحرارًا يأخذون اللقمة من أفواهنا». في الأسبوع الماضي، وظَّف مصنع الغاز في الشارع المقابل مائة أيرلندي، وجميعهم من الشباب الأقوياء بحق. وفي الوقت نفسه، يُعاني ديفي الصغير المسجون في ألمانيا من الربو، وجيمي من مرض في الأمعاء. هذا ليس عدلًا على الإطلاق!»
توقَّف عن الكلام وأشعل عودَ ثقابٍ عَبر تمريره على مؤخرة سرواله. قال: «حان وقتُ إشعالِ مصابيحِ الغاز. سيأتي بعضُ الرجال إلى هُنا بعد العاشرة والنصف.»
على صوت صفير الغاز في المصباح وضوئه المرتعش راح آيموس يصف الضيوف القادمين بإيجاز. قال: «سيأتي اثنان من زملائي، وهما مَكناب ونيفِن. سيحضر جيلكيسون، عامل صيانة الغلايات، والشاب ويلكي، الذي يُعاني من السُّلِّ، ويكتب مقالاتٍ صغيرةً في الصحف. وسيزروني رجلٌ غريب الأطوار اسمه تومز، أتي من كامبريدج، حيث يعمل أستاذًا جامعيًّا حسبما سمعت — على أي حالٍ كلامه مليء بالترَّهات الفارغة. أخبرَني أنه قدِم إلى هُنا للتعرُّف إلى العمَّال عن كثَب، وأخبرتُه أنه بحاجة إلى النظر أبعدَ من مظهرهم. لكن هذا المسكين لا يتَّسِم بأدنى قدْرٍ من الذكاء. كما سيأتي تام نوري، مُحرِّر جريدتنا الأسبوعية «العدل للجميع». يتمتَّع نوري بحسٍّ فكاهي وسَعة اطلاعه على أعمال روبرت بيرنز، لكنه مُتذبذب للغاية في آرائه … سترى يا سيد براند أنني ألتزم الصمتَ بين هؤلاء ولا أعبر عن أرائي ما لم تقتضِ الضرورة ذلك. أعرض أفكاري النقدية في بعض الأحيان، وهو ما يُصدِّر عني صورة العقلاني، لكن لا أدع نفسي للثرثرة. غالبية القادِمين إلى هُنا الليلة ليسوا العمَّال الحقيقيِّين، وإنما هم غثاء السيل، لكنهم سيساعدونك في الوصول إلى غايتك. لا تنسَ أنهم سمعوا عنك بالفعل، واكتسبت شهرة يجب أن تُحافظ عليها.»
سألتُ: «هل سيأتي أبل جريسون؟»
أجاب: «لا. ليس بعدُ. لم نصل إلى مرحلة تبادل الزيارات. لكن القادمون أصدقاء جريسون، وسينقلون له صورتهم عنك. وهم طريقك الأفضل للتعرُّف به.»
دوَّت مطرقة الباب، وأسرع السيد آيموس لإدخال أوائل القادِمين. تبيَّن أن الطارقين مَكناب وويلكي؛ كان الأول رجلًا مُهذبًا، في منتصف عمره، ذا وجهٍ نظيف، يدعم ياقةَ قميصِه بياقةٍ بلاستيكية؛ والآخر هو شابٌّ مُتهدِّلُ الكتفَين، ذو شَعرٍ ناعمٍ خفيف، وعينَين جاحظتَين، وبشرةٍ لامعة، وهي أماراتٌ معروفة لداء السل. قدَّمَني آيموس إلى الحاضرين قائلًا: «هذا هو السيد براند، يا شباب، من جنوب أفريقيا. سرعان ما حضَر نيفِن، وهو ضخمُ الجثة ملتحٍ، والمُحرِّر السيد نوري، وهو بدينٌ قذرٌ يُدخِّن سيجارًا نتِن الرائحة. عندما وصل جيلكيسون، عامل تركيب الغلايات، تبيَّن أنه شابٌّ طيب المَعشر، كان يضع نظارةً على عينَيه ويتحدَّث بلباقة المُتعلِّمين، وكان من الواضح أنه ينتمي لطبقةٍ اجتماعيةٍ مختلفةٍ نسبيًّا. كان آخر القادمين تومز، الأستاذ الجامعي في جامعة كامبريدج، وهو شابٌّ نحيفٌ ذو شفتَين عابستَين وعينَين ذكَّرتاني بلانسلوت ويك.
قال السيد نوري مُقهقهًا: «لستَ ثريًّا يا سيد براند رغم قدومِك من جنوب أفريقيا.»
قلتُ: «لا. أنا مهندسٌ عامل. أبي من اسكتلندا، وهذه هي زيارتي الأولى لمسقط رأسي، مثلما شرح لكم صديقي السيد آيموس.»
نظر إليَّ مريضُ السل بارتياب. قال: «بعض رفاقنا، هُنا، نفَتْهم الحكومة الرأسمالية من ترانسفال. ربما تكون على معرفةٍ بهم إن كنتَ تُشاركنا الأيديولوجية نفسها.»
عبَّرتُ عن سعادتي البالِغة للقائهم مع التنبيه على أنني كنتُ أعمل في منجمٍ على بُعد آلاف الأميال شمالًا، في أثناء وقوعِ الاضطراباتِ المشار إليها.
تلا ذلك محادثةٌ غيرُ عادية لمدة ساعة. بدا تومز، بصوته الجامعي الضعيف الرتيب، متلهفًا للحصول على المعلومات. سأل أسئلةً غير مُتناهية — وجَّهَها إلى جيلكيسون بشكلٍ أساسي — لأنه الوحيد الذي يفهم لُغته في الحقيقة. كانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها رجلًا طليقَ اللسان أجوفَ لكن كانت به مَسْحةُ عنفٍ ضعيفة مثل خروفٍ مهتاج. انهمك الرجل في التنفيس عن غضبه الأكاديميي الشخصي ضد المجتمع، وتخيَّلتُ أنه لو اندلعَت ثورةٌ فسأعلِّقه بنفسي على عمود الإنارة. في أثناء ذلك، واصل آيموس ومكناب ونيفن محادثتَهم حول قضايا مجتمعِهم غير عابئين بالعاصفة المُستعرة حولهم على الإطلاق.
كان السيد نوري المُحرِّر مَن جذبَني إلى المحادثة.
قال بصوته الهادر: «إن صديقَنا الأفريقي في غاية الخجل. لو لم تمنع الكحول في منزلك يا أندرو، وحظينا ببضعِ رشفاتٍ من الويسكي، لربما حلَلْنا عقدة لسانه. أريد سماع رأيِه في الحرب. أخبرتَني في الصباح أنه صحيح العقيدة.»
قال آيموس: «لم أقُل مثل هذا الكلام. كما تعرف، يا سيد تام نوري، فإنني لا أحكم على «صحة العقيدة» في هذه القضية بطريقتك نفسها. أنا أؤيد الحرب في حال توافُر الظروف التي ذكرتُها أكثر من مرة. لا أعرف شيئًا عن رأي السيد براند، باستثناء أنه ديمقراطيٌّ صالح، وهذا لا ينطبق على بعضٍ من أصدقائك.»
ضحك السيد نوري: «أنصِتوا إلى السيد أندرا. هو يظن أن موظف الدولة في الدولة الاشتراكية لن يقل فسادًا عن أرفعِ أرستقراطي. ربما يكون محقًّا بعض الشيء في ذلك. لكن فيما يخص الحرب فهو مخطئ. أنتم تعلمون رأيي في هذا الأمر يا شباب. هذه الحرب بدأها الرأسماليون، ويُحارب فيها العمال؛ لذا يجب أن يُنهيَها العمال. هذا اليوم قريبٌ جدًّا. هناك من يريدون إطالة الحرب، حتى يضعُف اتحادُ العمال، فيُسَيطروا عليه للأبد. هذه هي الخطة التي نسعى لإحباطها. يجب أن نهزم الألمان، لكن العمال مَن يُحدِّدون لحظة الهزيمة لا الرأسماليون. ما رأيك في ذلك يا سيد براند؟»
أعلن السيد نوري عن ولائه بوضوح، لكنه أعطاني الفرصة التي كنتُ أطمح إليها. أفصحتُ عن رأيي في المسألة بقوة، وهو وجوب إنهاء الحرب من أجل الديمقراطية. أثنيتُ على نفسي حُسن طرح المسألة؛ إذ استدعيتُ كل الحُجَج البغيضة، واستعرتُ كثيرًا من مخزون لانسلوت ويك منها. لكن لم أطرحها على نحوٍ مُحكم؛ إذ كان لديَّ تصوُّرٌ واضح عن الانطباع الذي أريد تركَه عند الجميع. أردتُ أن أبدو صادقًا ومتحمسًا ومتطرفًا بعض الشيء، لكني مع ذلك رجلُ أعمالٍ واقعي، بشكلٍ أساسي، يتحيَّن الفرصةَ المناسبةَ لعقد صفقة. واصَل تومز مقاطعَتي بأسئلته المعتوهة، واضطُرِرتُ إلى إفحامه. في نهاية المطاف طرَق السيد نوري المائدة بغَلْيونه.
قال: «سيُساعِدك هذا يا أندرو. لقد استضفتَ ملاكًا دون أن تدري. ما رأيك فيما يقوله يا رجل؟»
هزَّ السيد آيموس رأسه. قال: «لا أنكر أنَّ في كلامه بعضَ الصحة، لكن لستُ مقتنعًا أن الألمان تعلموا الدرس بعدُ.» وافقَه مكناب في كلامه، وأيَّدَني البقية في رأيي. طلب مني نوري كتابةَ مقالةٍ في جريدته، فيما دعاني مريضُ السل إلى أن ألقِيَ خطبةً في اجتماع.
سأل: «أيمكنك إعادةُ ما قلتَه ليلة غدٍ في محفلنا في شارع نيوميلنز؟ سيُعقد اجتماعٌ لأعضاء حزب «العمال الصناعيين»، وسأجعلهم يضعونك في برنامج الاجتماع.» أبقَى عينَيه المتلألئتَين مثل كلبٍ مريضٍ مثبَّتتَين عليَّ، وأدركتُ أنني فزتُ بحليفٍ. أخبرتُه أنني قَدِمتُ إلى جلاسكو من أجل التعلُّم، لا التدريس، لكن لن أفوِّت أي فرصةٍ للإفصاح عن معتقداتي.»
قال آيموس وهو ينفُض غَلْيونه من فُضالة التبغ: «حان وقتُ ذهابي إلى الفِراش يا شباب. سأتصل بك، يا تومز في الصباح بشأنِ مصنع بريجند، لكن كفانا ما ثرثرنا الليلة. أنا رجل يُحب أن يحظى بثماني ساعات من النوم.»
أرشدَهم العجوز إلى الباب وعاد إليَّ بشبحِ ابتسامةٍ على وجهه.
قال: «كم هي رفقة غريبة الأطوار يا سيد براند! لم يُعجَب مكناب بكلامك. فقد قُتل ابنه في حملة جاليبولي ولا يتطلع إلى السلام حتى مماته. إنه صديقي الأقرب في جلاسكو. وهو من مشايخ الكنيسة الغيلية في منطقة كاوكادينز، وأنا رجلٌ يُمكنك وصفُه بمتحرِّر الفكر، لكننا على وئام فيما يخُص الأساسيات. لا يسَعُني سوى الإشادة ببلاغتك في المُحاجاة. سيخبرون جريسون أنك مرشَّحٌ واعد.»
قلتُ: «إنها مهمةٌ كريهة.»
قال: «هي مهمةٌ بغيضةٌ حقًّا. وتُصيبني بالغثيان في كثيرٍ من الأحيان. لكن لا يحقُّ لنا التذمر. فهناك رجالٌ أشدُّ بأسًا منا يؤدُّون ما هو أصعب في فرنسا … سأنصحك نصيحةً يا سيد براند. هلَّا تخفِض جناحك قليلًا. إنك تنظر إلى الآخرين في أعينهم كأنك رقيب أول كتيبة المشاة في ثكنات ماري هيل.» وغمَز بعينِه اليسرى ببطء وغرابة.
سار آيموس إلى خزانة الصحون وأخرج زجاجةً سوداءَ وكأسًا. قال: «لقد أقلعت عن الكحول، لكن قد ينسيك القليلُ منه ما سمعتَه منذ قليل. ستجد ماء بحيرة لوخ كاترين العذبة في الصنبور … كما كنتُ أقول، لا ضَررَ كبيرًا من هذه المجموعة. قد يكون تومز عنيفًا قاسيًا إلا أنه مدرسٌ جامعي لو كان تومز عنيفًا قاسيًا إلا أنه مدرسٌ جامعي، والمدرسون الجامعيون سواءٌ على مستوى العالم؛ أي لا خوف منهم. ربما يُبالِغون في الحديث عن العمال الصناعيين وعن طموحاتهم الرائعة لهم، لكن الأجواء راكدةٌ هنا في كلايد. قد يجدون ضالَّتهم في أيرلندا.»
قلتُ: «لنفترِض أن هناك رجلًا بارعًا جدًّا يرغب في مساعدة العدو. ألا تظن أنه سيجني مكسبًا ولو بسيطًا من إشعال فتيل الفتنة في المصانع هُنا؟»
أجاب: «بلى.»
سألتُ: «هل سيصل إلى هذه النتيجة بسرعة لو كان ذكيًّا؟»
قال: «أجل.»
قلتُ: «لو واصل البقاء هُنا، فهل يعني ذلك أنه خلف هدفٍ أكبر أو هدفٍ خطيرٍ وشنيع حقًّا؟»
قطَّب آيموس حاجبَيه ونظر إليَّ مباشرة. قال: «أفهم ما تُشير إليه. أجل! هذا ما توصَّلتُ إليه. خطر لي ذلك الأمر، منذ بضعة أسابيع، بخصوص الرجل الذي قد تحظى بفرصةِ مقابلتِه ليلةَ الغد.»
سحب آيموس صندوقًا من أسفل الفراش، أخرج منه نايًا بديع الشكل. قال: «اعذرني، يا سيد براند، لكن أحبُّ عزفَ بعض الموسيقى قبل أن أخلد إلى النوم. يتلو مِكناب صلواتِه، وأنا أعزفُ الناي، وغرضُنا واحد.»
هكذا انتهت الأمسية الفريدة بالمُوسيقى التي هي مُعالجةٌ بالِغة اللُّطف والدقة لأغاني الحدود القديمة مثل «فتاتي الشابة بيجي» (ماي باجي إذ يانج ثينج) و«وعندما تعود الماشية إلى البيت» (وين ذا كي كام هوم). غفوتُ وأنا أتخيل آيموس بشفتَيه المُطبقتَين على الناي ونظراتِه الشاردةِ فيما يستدعي إلى عالمه المُعتِم مشاعرَ فتًى صغير.
في صباح اليوم التالي، أحضرَت الأرملة من الشقة المجاورة، التي تعمل مدبرة للمنزل وطباخة والقائمة على خدمة سكان المنزل بصفةٍ عامة، ماءً للحلاقة، لكن اضطُرِرتُ للخروج دون استحمام. دخلتُ المطبخ ولم أجد أحدًا، لكن فيما كنتُ أتناول عجةَ اللحم التي لا يُوجَد سواها عاد آيموس إلى المنزل من أجل تناوُل الفطور. وجلَب معه الجريدة الصباحية.
أعلن: «تقول جريدة «هيرالد» إنه جرت معركةٌ كبيرةٌ في مدينة إيبر.»
فتحتُ الجريدة في عُجالة وقرأتُ عن المعركة الكبيرة التي دارت في ٣١ يوليو وأفسدها الطقس. هتفتُ: «يا إلهي! لقد استولَوا على قرية سانت جوليان وفريزنبرج ريدج البغيضة … وقرية هوكا … ومنطقة سانكتشري وود. أحفظ كل شبرٍ من هذا المكان اللعين …»
قال آيموس محذرًا: «هذا لن يُجدي نفعًا يا سيد براند. إن سَمِعَك أصدقاؤنا من البارحة تتحدث بهذه الطريقة فأولى بك أن تركب القطار العائد إلى لندن … يتحدثونَ عنك في أحواض بناء السفن هذا الصباح. ستحظى بحضورٍ كبيرٍ في اجتماعك في المساء، لكنهم يقولون إن الشرطة ستتدخل. قد لا يكون الأمر خطيرًا، لكن أعلم أنك ستأخذ حِذرَك؛ لأنك لن تُصبح ذا نفعٍ إذا وقعتَ في قبضة الشرطة في شارع دوك. سمعتُ أن جريسون سيكون هناك ومعه رسالةٌ أخوية من أصدقائه المَجانين في أمريكا … رتَّبتُ أن تلتقي بتام نوري في فترة الظهيرة كي تُقدِّم له العون في مقاله الصغير بالجريدة. سيُطلِعك تام على الصراع الدائر في المنطقة الغربية، وأنتظر منك أن تُبعدَه عن الشرب. هو يزعم أن الكتابة والخمر لا ينفصلان، ويستشهد بروبرت بيرنز، لكنه يعولُ أسرةً مكوَّنة من زوجة وخمسة أطفال.»
حظيتُ بيومٍ رائع. جلستُ لمدة ساعتَين في غرفة نوري القذرة؛ حيث انهمك في التدخين والخطابة، لكنه عندما تذكَّر مهمَّته دوَّن انطباعاتي عن وضع حزب العمال في جنوب أفريقيا بصورةٍ مختزَلةٍ من أجل صحيفته المبتذَلة. كانت انطباعاتي غيرَ رسميةٍ ركيكة، ركيزتُها الجهل التام، ولو أنها وصلَت إلى منطقة راند هناك، فلا أتصور ماذا سيكون رأيُ أصحابي في مؤلفها كورنيليس براند. دعوتُه إلى الغداء في مطعمٍ رخيصٍ سيئ الجودة في شارعٍ جانبيٍّ متفرعٍ من طريق بروميلاو، ثم تناولنا الشراب معًا في إحدى الحانات حيث عرَّفني على بعضٍ من أصدقائه السيئي السمعة.
في آخر النهار عُدت إلى منزل آيموس، وقضيتُ ساعةً أو ما شابَهَ في كتابة خطابٍ طويلٍ للسيد أفري. حدَّثتُه عن جميع مَن قابلتُهم، وبالغتُ في وصفِ خطورةِ الوضع في منطقة كلايد، واستهجنتُ غياب التفكير المنطقي بين القوى التقدُّمية. رسمتُ صورةً تفصيليةً لآيموس، وتوصَّلتُ منها إلى أن الراديكاليين سيُشكِّلون على الأغلب عائقًا أمام التقدُّم الحقيقي. كتبتُ: «لقد حوَّلوا نضالهم القديم إلى مسارٍ جديد؛ إذن فالنضال بالنسبة لهم مسألة ضمير.» أنهيتُ خطابي ببعض الملاحظات غير الناضجة عن الاقتصاد كنتُ قد انتقيتُها من مُحادثَتي غير الرسمية مع تومز الفَظ. رجوتُ بهذا الخطاب أن أرسمَ شخصيتي في عقل أفري بريئًا مثابرًا.
في الساعة السابعة كنتُ في شارع نيوميلنز حيث أمسَك بي ويلكي. وجدتُه وضع ياقةً نظيفةً وغسل وجهه النحيف جزئيًّا احتفالًا بهذه المناسبة. كان المسكين يُعاني من سُعالٍ يهزُّ جسدَه بقوة مثلما تهزُّ المولدات الكهربائية جدران محطة توليد الكهرباء.
اعتذَر نيابةً عن آيموس. قال: «ينتمي أندرو إلى الماضي. إنه يحظى بشهرةٍ واسعةٍ بين جماعته، بالإضافة إلى أنه مقاتلٌ قوي، لكن ليست لدَيه أي رؤية. إنه من كبار مؤيدي حكومة جلادستون، وهي حكومةٌ محكومٌ عليها بالإخفاق ومُستهجَنة في اسكتلندا. كما أنه ليس صاحب فكرٍ حديثٍ يا سيد براند، مثلي ومثلك. لكنك ستقابل الليلة بضعةَ رجالٍ جديرين بالمعرفة. قد لا تكون قطعتَ شوطًا كبيرًا مثلهم لكنكم تتشاركون الوجهة نفسها. أتطلَّع إلى اليوم الذي يكون لنا فيه مجالسُ للعمال والجنود في طول البلاد وعرضها مثل الروس، وأن نُمليَ شروطنا على الطُّفيليين في البرلمان. لقد أخبروني أيضًا أن الشبان في الخنادق بدءوا في الانضمام إلى صفوفنا.»
دلَفنا إلى القاعة من بابٍ خلفي، وفي غرفة الانتظار الصغيرة قدَّمني ويلكي إلى بعض المُتحدِّثين. بدَوا حفنةً عشوائية، ولا سيما في هذا المكان الرث. كان رئيس اللجنة مُمثلًا عن أحد اتحادات العمال، وهو رجلٌ ضئيلٌ مشاكس، يتحدَّث بلهجة سكان شرق لندن، ويخاطبني ﺑ «الرفيق». لكن أحدهم أثار فضولي بشكلٍ كبير. سمعتُ اسم جريسون، فاستدرتُ وإذا هو رجل في الخامسة والثلاثين تقريبًا، يرتدي ملابسَ أنيقة، ويضع زهرةً في عُروة سُترته. قال بلهجةٍ أمريكيةٍ خالصةٍ ذكرتني ببلنكيرون: «السيد براند. تشرَّفتُ بمعرفتك. قَدِمنا أنا وأنت من أماكنَ بعيدةٍ لنحضُر هذا الاجتماع.» لاحظتُ أن لدَيه شَعرًا مائلًا للحمرة، وعينَين متلألئتَين صغيرتَين، وأنفًا مُنحنيًا كأنوف اليهود البولنديين.
فور أن وصلنا إلى المنصة، أحسستُ بوجود مشكلةٍ وشيكة. كانت القاعة مكتظةً بالحاضرين، واحتل نصفَها الأمامي ذلك الصنفُ الذي توقَّعتُه من الحاضرين، وهو الطبقة العاملة المعنية بالشأن السياسي التي كانت تتجمهر قبل الحرب في الاجتماعات الحزبية. لكن ليس كل الموجودين في الصفوف الخلفية قد قَدِموا للإنصات للحاضرين. بعضهم كانوا من المُشاغبين، والبعض الآخر من موظَّفي الطبقة المتوسطة الذين جاءوا من أجل المرح، بالإضافة إلى عددٍ كبيرٍ من الجنود الذين يرتدون الزي العسكري. كما كان هناك بضعةُ رجالٍ مُهذَّبين ثمِلين قليلًا.
بدأ الرئيس خطابه بارتكاب خطأٍ فادح. قال إننا اجتمعنا الليلة لمعارضة استمرار الحرب وتشكيل فرعٍ من المجلس البريطاني للعمال والجنود الجدد. وتحدَّث إلى الحاضرين بمزيجٍ دقيقٍ من الاستعارات عن ضرورة الإمساك بزمام الأمور؛ لأن المسئولين عن الحرب يتصرفون وفقًا لأجندتهم الخاصة، ويسعَون إلى تحقيق حكم الأقلية من خلال دماء العمال. أضاف أن خلافنا مع الألمان ليس بسوء خلافنا نفسه مع الرأسماليين في بلادنا. وتطلَّع إلى اليوم الذي يقفز فيه الجنود البريطانيون من خنادقهم ويمُدُّون يد الصداقة لرفقائهم الألمان.
قال صوتٌ وقور: «كلا! لا أريد الحصول على طلقةٍ في المعدة»، وأثار تعليقُه الضحكاتِ وعباراتِ السخرية.
صَعِد تومز إلى المنصة تاليًا، وألقى خطابًا أسوأ من خطابِ رئيسه. كان مصرًّا على الحديث، حسب تعبيره، إلى الديمقراطية بلغتها الخاصة، لذا استخدم كلمة «الجحيم» مرَّاتٍ عَديدة، بصوتٍ عالٍ لكن بلا اقتناع. بعد ذلك انتقل إلى أسلوب المحاضر، فازداد ضجَر الحاضرين. قال: «سأسأل نفسي سؤالًا»، فانبعث من الجزء الخلفي من القاعة صوتٌ يقول: «وستحصل على إجابةٍ قبيحةٍ تمامًا.» عقب ذلك اختفى تومز.
صَعِدتُ إلى المنصة تاليًا في توتُّرٍ بالِغ، ولدهشتي لاحظتُ أن الحاضرين يُعِيرونني انتباهم جيدًا. أحسستُ بالدناءة والخزي، لأنني أمقُت التفوُّه بالترَّهات أمام الجنود، لا سيما أمام اثنَين من الجنود الاسكتلنديين الملكيِّين الذين ربما يقاتلون في لوائي حسبما أعرف. تبنَّيتُ دور رجلٍ وطنيٍّ عمليٍّ بسيط، قَدِم حديثًا من المُستعمرات، ينظر إلى الأمور من زاويةٍ مختلفة، ويدعو إلى عقدِ صفقةٍ جديدة. التزمتُ الوسطيَّة، لكن اضطُررتُ إلى إقحام أجزاءٍ متطرفةٍ في الخطاب كي أُبرِّر ظهوري على المنصة، وفعلتُ ذلك من خلال النقد اللاذع لوزارة الذخائر. مزجتُ خطابي ببعضِ عباراتِ الثناء الخفيفة على الألمان، ذاكرًا أنهم مشهورون على مستوى العالم بحُسن أخلاقهم. حظيتُ بتصفيقٍ قليل، لكن لم أتلقَّ معارضةً واضحة، وعُدت إلى مقعدي في امتنانٍ بالغ.
كان المُتحدث التالي هو مسك الختام. كان مشاغبًا سياسيًّا مشهورًا قد رحَّلَته السلطاتُ حسبما أعتقد. لم يتلقَّه الحضورُ بالفتور؛ إذ فور أن نهض من مقعدِه علت الهُتافاتُ من نصف الحاضرين وصيحاتُ الازدراء والتذمُّر من النصف الآخر. استهل خطابه بنقدٍ سريعٍ للأغنياء الخاملين، ثم انتقل إلى الطبقات المُتوسِّطة (واصفًا إياهم بخُدَّام الرجل الغني)، وانتهى بالحكومة. تلقى الحاضرون خطابه بالاستحسان حتى هذه النقطة؛ إذ إن من عادة البريطانيين ذمَّ حكوماتهم رغم كراهتِهم تغييرَها. بعد ذلك حوَّل نقده إلى الجنود وسبَّ الضباط (نعتَهم بأنهم «جِراءُ الأرستقراطيين») واتهَم الجنرالاتِ بالكسل والجبن وإدمان السُّكْر. أخبرنا أنه يُضَحَّى بأصدقائنا وأقاربنا في كلِّ معركةٍ بواسطة قادةٍ ليست لديهم الشجاعةُ لمشاطرتهم المخاطر. ظهر الاسيتاءُ على الجنود الاسكتلنديين كأنهم ليسوا متأكِّدين مما يَعنيه. لكنه أعرب عن مقصده دون أي مواربة. قال: «أيُنكِر الجنود أنهم يؤدُّون دَورَ الدروع لحماية الضباط؟»
قال جندي من فوج البنادق الاسكتلندي: «هذا افتراءٌ محض!»
لم ينتبه المُحاضر لهذه المقاطعة، منجرفًا في سيل كلامه المُنمَّق، لكنه لم يحسب حسابًا لإلحاح الجندي. نهض الجندي على قدمَيه ببطء، وأعلن رغبتَه في الحصول على اعتذارٍ من المحاضر. قال: «لو وجَّهتَ الإهاناتِ للرجال الشرفاء بلسانِك القَذِر، فسأصعدُ على المنصة وأخنقُك بيدي.»
نجَم عن ذلك تلك الجلبةُ المعهودة؛ حيث طلب فريقٌ منهم «النظام» فيما ذهب آخرون إلى طلب «الإنصاف» وانهمَك فريقٌ ثالثٌ في التصفيق. شرع رجلٌ كنديٌّ في الجزء الخلفي من القاعة في غناءِ أغنية، وحصَل دفعٌ للأمام بصورةٍ مخيفة. بدا أن القاعة بأكملها تتحرك من الجزء الخلفي، وفاضت الممرَّات بالرجال، وحتى مقدمة المنصة. لم تُعجِبني نظرة الوافدين الجدد، ورأيتُ وسط الحشد عددًا من رجال الشرطة في ثيابٍ مدنية.
همَس الرئيس في أذن المتحدِّث الذي واصَل خطابه عندما خفتَت الضوضاء مؤقتًا. فابتعَد عن سيرة الجيش، وعاد إلى الحكومة، وجرى لسانُه بالحديث عن اللاسلطوية الخالصة. لكنه ارتكب خطأً فادحًا مرةً أخرى؛ لأنه استَشهَد بمناصري حزب شين فين مثالًا على الاستقلالية الحقَّة. حينها ضجَّت القاعة بالفوضى، ولم يُسمح له بمواصلةِ خطابِه مرةً أخرى. جرت عدة اشتباكاتٍ بالأيدي في القاعة بين العامة وبين مؤيدي المُحاضِر الشجعان.
تقدَّم جريسون إلى حافة المنصة في محاولةٍ عبثيةٍ للسيطرة على الوضع. ولا بد من الاعتراف أنه أفلح في ذلك بصورةٍ استثنائية. فهو مُتحدثٌ مفوَّه فيما يتَّضح، ولوهلةٍ أتى استجداؤه: «لنهدأ قليلًا يا شباب ونتحدَّث بالمنطق» بالتأثير المطلوب. لكن كان الضرَر قد وقع بالفعل، وتدافَع الحاضرون حول ملاذنا الوحيد حيث جلسنا. تبيَّن لي أنه رغم مهارته في الحديث لم يُعجِب المُجتمِعين منظره. كان وديعًا مثل حمامةٍ قمريةٍ لكنهم لم يُطيقوه. مرَّت قذيفةٌ أمام أنفي، ورأيتُ ملفوفًا فاسدًا يحطُّ على رأس المُرحَّل السابع الأصلع. مدَّ شخصٌ ذراعًا طويلة، وسحَب كرسيًّا، ثم استخدَمه في إفقاد جريسون توازُنه. فجأةً انطفأَت الأضواء، وتقَهقَرنا في انتظامٍ عَبْر باب المنصة والحاضرون الغاضبون في أعقابنا.
في تلك اللحظة ظهر نفعُ أفراد الشرطة الذين يرتدون ملابسَ مدنية. فقد أمسكوا بالباب إلى أن هرب المُرحَّل السابق من ممرٍّ جانبي. كان هذا الشخص سيموت لا محالة لولا حمايةُ القانون الذي يريد إلغاءه. اضطُر بقيَّتُنا، الذين ليس لديهم ما يخشَونه، إلى التسلُّل إلى شارع نيوميلنز. وسرعان ما وجدتُ نفسي أركُض بجوار جريسون وأمسكتُ بذراعِه. كان هناك جسمٌ صلبٌ في جيب معطفه.
لسوء الحظ كان هناك مصباحٌ كبيرٌ في البقعة التي خرجنا إليها، ووجدنا الجندِيَّين الاسكتلنديَّين، فشَعَرنا بالارتباك. كان كلاهما متأهبًا للقتال وعازمًا على إراقة الدماء. لم ينتبه إليَّ أحد، لكن جريسون تحدَّث بعدما اشتَعل غضبُهما فقرَّرا استهدافَه. أسرعا نحوه وهما يُطلِقان صيحات الفرح.
شعرتُ بيدِه تتسلل إلى جَيبه الجانبي. فهمستُ في أُذنه زاجرًا: «اتركه في مكانه أيها الأحمق.»
قال: «بالتأكيد يا سيدي»، وفي اللحظة التالية وجدنا أنفسنا وسط المعمعة.
مثل الكثير من معارك الشوارع التي شهدتُها من قبلُ، تدافَع حشدٌ ضخمٌ نحونا في حلقةٍ دائرية، لكنه ترك مساحةً فارغةً للقتال. تقهقرتُ وجريسون إلى حائطِ رصيفِ المارة، والجنديان الغاضبان أمامنا. كانت نيَّتي عدم القتال إلا عند الضرورة، لكن أثبتَت اللحظة الأولى أنه ليس له أي باعٍ في العراك بالأيدي، وتَملَّكَني خوفٌ شديدٌ أن يستعمل المسدس القابع في جيبه. ذلك الخوفُ دفعَني إلى الانضمام إلى القتال. كان الجندِيَّان قويَّين على بكرة أبيهما وتقدَّم منهما واحدٌ لقتالنا. عالج ذلك الجندي جريسون بضربةٍ قويةٍ سريعةٍ في فكِّه بيده اليسرى، ولولا الحائط لسقط على ظهره. رأيتُ في ضوء المصباح نظرةً متوحشةً في عين الأمريكي، ولاحظتُ تحرُّكَ يدِه صوبَ جيبه. قرَّرتُ التدخُّل وشكَّلتُ حاجزًا بينه وبين مهاجمه.
جلب هذا الإجراء الجندي الثاني إلى ساحة المعركة. وهو عريضُ المَنكِبَين، شديدُ الضخامة، متقوِّس الساقَين، قويُّ البنية، مثل الجنود الذين رأيتُهم يعبُرون مثلث سكك الحديد في أراس بسهولةٍ كالسكين في الزبد. كانت لديه خبرةٌ لا بأس بها في القتال، فلم أغلبه بسهولة، لا سيما أنني كنتُ أُعارك الجندي الآخر في الوقت نفسه، وأحاوِل إبعادَه عن جريسون.
صرختُ: «عودا إلى البيت أيها الأحمقان. اتركا الرجلَ المحترمَ وشأنه. لا أريد إيذاءكما.»
كانت الإجابةُ التي حصَلتُ عليها عبارةً عن لكمةٍ خطافيَّة اتقيتُها بصعوبة، متبوعةٍ بضربةٍ شديدةٍ باليد اليُمنى ناحيةَ رأسي، لكن تفاديتُها فاصطدمَت براجمُهُ بالحائط بصوتٍ مُدوٍّ. سمعتُ صرخةً غاضبة، ونظرتُ فإذا بجريسون قد ركَل مهاجمَه في قصبة ساقه. وبدأتُ أتوقُ لتدخُّل الشرطة.
ثم ماج الحشد كما يحدث عادةً عند اقتراب قوات الأمن. لكن كان قد فات الأوان على الحيلولة دون وقوع الشجار. فقد اضطُرِرتُ إلى أن آخُذ مُهاجمي بجدية دفاعًا عن نفسي، ولكمتُه عندما مدَّ يده أبعدَ من اللازم وفقدَ توازُنه. ما ضربتُ أحدًا في حياتي إلا على مضضٍ. على إثْر الضربة، تراجَع الجندي إلى الخلف وسقط على الرصيف على ظهره.
وجدتُ نفسي أشرح لرجال الشرطة ما حدثَ بِكل أدبٍ. قلتُ: «هذان الرجلان قاطَعا خطابَ هذا الرجل المُحترم في الاجتماع، واضطُرِرتُ إلى التدخُّل من أجل حمايته. لا، لا! لا أريد توجيه التُّهَم لأي أحد. ما حدث مجرَّد سُوءِ تفاهم!» ساعدتُ الجندي المضروب في النهوض على قدمَيه، وأعطيتُه عشرة شلنات ترضيةً له.
نظر إليَّ بتجهُّم، وبصَق على الأرض. قال: «احتفظ بمالك القذر. فلم ينتهِ الأمر بيننا، وسأنتقم منكَ ومن ذلك الخائنِ ذي الشعر الأحمر. سأتذكَّر وجهَيكما حين أراكما ثانية.»
كان جريسون يمسحُ الدم من خدِّه بمنديلٍ حريري. قال: «أنا مدينٌ لك يا سيد براند. تأكَّد أني لن أنسى لكَ صنيعكَ هذا.»
عُدت إلى آيموس الذي كان ينتظرني في قلق. قصصتُ عليه ما حدث، وأنصتَ هو إليَّ في صمتٍ، ولم يُعلِّق إلا قائلًا: «أحسنتم صنعًا يا جنود فوج البنادق!»
واصَل: «لا أُنكِر خطورة الموقف. لكنكَ جعلتَ جريسون مدينًا لك نوعًا ما، وهو ما قد يُفيدُك في المستقبل … بمناسبة الحديث عن جريسون، لديَّ أخبارٌ لك. سيُبحِر على متن سفينة «توبرموري»، يوم الجمعة، بصفته أمينَ حساباتها. تتجوَّل السفينة مرةً في الشهر عَبْر المرتفعات الغربية الاسكتلندية حتى بلدة ستورنووي. حجزتُ لك تذكرة، يا سيد براند، كي تسافر على متنها.»
أومأتُ برأسي. وسألتُ: «كيف توصَّلتَ إلى هذه المعلومة؟»
أجاب بجدية: «لقد استغرق الأمر بعض البحث لكن لديَّ طُرقي ووسائلي الخاصة. لن أُزعجك بنصائحي، فأنتَ مثلي، تعي مهمَّتك جيدًا. في الصباح، سأسافر إلى الشمال كي أتفقد أمرًا ما في غابات روس شاير وسأتلقَّى البرقيات في قرية كايل. تذكَّر ذلك جيدًا. ولا تنسَ أيضًا أنني قارئٌ جيد لرواية «سياحة المسيحي» ولديَّ ابن عم اسمه أوكترلوني.»