مغامرات في الغرب
لم تكن سفينة توبرموري مهيئةً للركاب. اكتظَّت طوابقُها بمختلفِ الأغراض، فلا يستطيع المرءُ السيرَ ولو خطوةً واحدةً دون أن يُضطَر لتغيير مساره. وكان فِراشي عبارةً عن رفٍّ في قاعة طعامٍ صغيرةٍ قذرةٍ تكتنفُها رائحةُ البيض باللحم مثل الضباب. صَعِدتُ على متن السفينة في جرينوك، وتجوَّلتُ على سطحها مع ربَّانها عقب تناوُل الشاي، فيما راح يُخبِرني بأسماء التلال الزرقاء الكبيرة ناحيةَ الشمال. كان له وجه عجوز وسيم ذو لونٍ أحمرَ نُحاسي وسوالف مثل رئيس أساقفة، ولأنه قضى حياته يخوض غمار البحار الغربية، امتلأَت جعبته بالقصص مثل بيتر تمامًا.
قال: «على متن هذه السفينة، لا نعلم ما الذي يُخبِّئه المستقبل لنا. قد أقدِّر أنني سأمكثُ في جزيرة كولونساي ساعتَين، وينتهي بي المطاف بالبقاء ثلاثة أيام. حصلتُ على برقية في مدينة أوبان، ثم وجدتُ نفسي في نقطةٍ أبعدَ من جزيرة بارا. كما أن التعامُل مع الغنم من أصعب الأمور. إذ لا بد من أن أنقلها إلى حيث ستُباع، لكن تحريكها صعبٌ جدًّا بسبب بُطئها. كما ترى، يا سيد براند، السفر على متن السفينة ليس أمرًا مُسليًا.»
كان مُحقًّا في كلامه، إذ تأرجحَت السفينة المشوشة مثل الخنزير البدين، فور أن دُرْنا حول رأس جزيرة، وواجهنا الرياح الجنوبية. عندما سألني الربَّان عن غايتي من هذه الرحلة، فسَّرتُ له أنني من مستوطني جنوب أفريقيا ذو أصولٍ اسكتلندية، أزور مسقط رأسي للمرة الأولى، وأردتُ استكشافَ جمال المرتفعات الغربية. تركتُه يُدرك بنفسه أنني لست ثريًّا من الناحية المادية.
سأل: «هل معك جوازُ سفر؟ فلن يسمحوا لك بالذهاب إلى أبعدَ من مدينة فورت ويليام دونه.»
لم يُخبرني آيموس شيئًا عن هذا الأمر، فحِرتُ في الجواب.
تابع الربان: «يمكنك المُكث في السفينة طَوال الرحلة، لكن ليس مسموحًا لك بالنزول إلى يابسة. إن كنتَ تبحث عن المُتعة، فلن تجدها وأنت تجلس على سطح السفينة وتتأمَّل إبداعَ الخالقِ دون أن يكون مسموحًا لك بالنزول إلى المرسى. كان من الأفضل لك أن تحصُل على إذنٍ خاص من المسئولين العسكريين في جلاسكو. لكن ستحظى بالكثير من الوقت لتعزمَ أمركَ قبل أن نصل إلى أوبان. سنتوقَّف عدة مراتٍ في جزيرتَي مول وإسلاي.»
قَدِم أمينُ المحاسبة لتفقُّد تذكرتي، وحيَّاني بابتسامةٍ عريضة.
قال الربَّان: «إذن أنت تعرفُ السيد جريسون! حسنًا، نحظى برفقةٍ صغيرةٍ سعيدةٍ على السفينة، وهذا أمرٌ عظيمٌ في وظيفتنا تلك.»
حظيتُ بوجبةِ عَشاءٍ سيئة؛ إذ ازدادت شدة الرياح، وتوقَّعتُ أن أعاني من الغثيان لعدة ساعات. مشكلتي هي أنني لا أتعافى من الدُّوار بسرعة. تملَّكَني الغثيان والصداع، ولم أجد مهربًا منهما إلا إلى النوم. وهكذا، ذهبتُ إلى فِراشي، وتركتُ ربَّان السفينة ومساعده، الذي يدخِّن نوعًا قويًّا من التبغ على مسافةٍ تقلُّ عن ستِّ أقدام من رأسي، ونمتُ نومًا مضطربًا. بعد ذلك استيقظتُ، لأجد الغرفة فارغةً تفوح فيها رائحة التبغ العطِن والجُبن. كان حاجباي ينبضان من الألم، وصار النوم ضربًا من ضروب الاستحالة؛ لذا حاولتُ التخفيفَ من حدة الألم، من خلال السير مترنحًا على سطحِ السفينة. كان الجوُّ عاصفًا والسماء صافية تتوهج كل نجمةٍ فيها كقِطَع الفحم المُتقدة، ورأيتُ المياه الداكنة المتلاطمة تجري ناحيةَ التلال السوداء الحالكة. فجأة، انهمر وابلٌ من الرذاذ فوقي، فتقهقرتُ عائدًا إلى فِراشي؛ حيث تمدَّدتُ عدة ساعات، أحاول التخطيط للمهمة.
رأيتُ أنه لو أراد آيموس أن أحصُل على جواز سفر، لأمدَّني بواحدٍ؛ لذا لم أشأ إزعاجَ نفسي بالتفكير في الأمر مرةً أخرى. لكن مهمَّتي هي ملازمة جريسون، ولو مكثَت السفينةُ مدة أسبوع في المرسى نفسه، ونزل هو إلى اليابسة، فلا مفَر من ملاحقته. ومع عدم توافُر جواز سفر، لا بد أن أتفادى الوقوع في المشكلاتِ بأي وسيلةٍ مُمكنة، ما سيَسلبُني سهولةَ الحركة، وليس بمُستبعَد أن يجذبَ إليَّ الأنظار أكثر مما أرغب. أظن أن آيموس فعل ذلك حتى يجعل جريسون يظن أنه لا خطر منِّي. منطقة الخطر، إذن، ستكون البلدة التي تطلب جواز سفر لدخولها، وتقبع في مكانٍ ما، شمال مدينة فورت ويليام.
لكن لا مفَر من المخاطرة ودخول تلك البلدة إن أردتُ ملاحقةَ جريسون. وستسكُن شكوكه، إن وُجدَت، إذا غادرَت السفينة في أوبان، لكن سيتحتَّم عليَّ متابعة السفينة برًّا إلى الشمال، حتى أبلُغ المكانَ الذي سترسو فيه توبرموري لفترةٍ طويلة. لم يكن للسفينة المشوشة أي خُطَط؛ فهي تتجوَّل في المرتفعات الغربية بحثًا عن الغنم أو أي سلعةٍ أخرى؛ وربَّانُ السفينة نفسُه ليس لديه أي جدولٍ زمنيٍّ بخصوص تحرُّكاتها. وليس من المُتخيَّل أن يتكبَّد جريسون كل هذا العَناء إذا لم يكن متأكدًا أنه في مكانٍ ما — المكان المناسب — سيحظى ببعض الوقت على اليابسة. لكن لا يُمكنني سؤال جريسون في هذا الشأن؛ فأنا أعتزم أن أنصب شباكي حولَه دون أن يشعر. كنتُ على درايةٍ بالمسار العام للسفينة توبرموري؛ فستجتاز مضيقَ إسلاي وصولًا إلى جزيرة كولونساي، ثم ستتحرَّك شرقَ جزيرة مول باتجاه مدينة أوبان، وبعد ذلك ستعبُر مضيقَ مول قاصدةً الجُزرَ الصغيرةَ التي لها أسماء كالمشروبات الكحولية روم وإيج وكول، وستتجه إلى جزيرة سكاي تاليًا، وفي نهاية المطاف ستُبحر إلى جزر هبرديز الخارجية. خمَّنتُ أن تلك الأخيرة هي المحطة المنشودة، وبدا أن من الجنون أن أغادر السفينة هناك؛ إذ الله وحده يعلم كيف سأجتاز مضيقَ مينش من الأساس. هذه المسألة وحدَها أطاحت بخُطَطي كلها، ونمتُ نومًا مضطربًا دون أن أصل إلى أي نتيجة.
استيقظتُ في الصباح لأجد السفينة تعبُر المضيقَ الفاصلَ بين جزيرتَي جورا وإسلاي، وتوقفَت لفترةٍ وجيزةٍ في ميناءٍ صغير، بحلول منتصف اليوم، وأفرغَت بعضًا من حمولتها وحملَت بضعة رعاةٍ ذاهِبين إلى كولونساي. كانت فترةُ الظهيرة هادئة، ورائحة للملح وأعشاب الخلنج تُداعب أنفي، ما أزالَ الآثارَ المُتبقيةَ من الغثيان، وقضيتُ ساعةً مُثمرةً في اللسان، أتصفَّح كُتيِّب سفرٍ يُدعى «دليل بادلي إلى اسكتلندا» وإحدى خرائط بارثاليميو. بدأتُ أشعُر أن آيموس قد يُخبرني بشيءٍ ما؛ إذ استشفَفتُ من حديثي مع الربَّان أنه لن تمكُث السفينة طويلًا في أنحاء جزيرتَي روم وإيج. لم يَحِن الموسمُ الكبيرُ للترحال الرعَوي بعدُ، وستُنقل الغنم التي ستباع في سوق أوبان في رحلة العودة. في تلك الحالة، ستكون جزيرة سكاي هي أول هدفٍ يجب أن أُركِّز عليه، ولو استطعتُ الوصول إلى أي معلومةٍ عن توافُر حمولةٍ كبيرةٍ هناك، فسأضع خطَطي وفقًا لذلك. آيموس في مكانٍ ما قريبًا من قرية كايل، في الجهة المقابلة للمخانقِ التي تفصلُ بين سكاي والبر الرئيسي. بدا لي، وأنا أتفقَّد الخريطة، أنه على الرغم من عدم امتلاكي جوازَ سفر، فقد أتمكن من شَق طريقي عَبْر شبه جزيرة مورفيرن وقرية أرسيج إلى داخل حدود جزيرة سكاي. ستكمُن الصعوبة في عبور الشريط المائي لكن لا بد من وجود قواربَ يمكن للمرء أن يتسوَّل ركوبها أو يستعيرها أو يسرقها.
كنتُ منهمكًا في تفحُّص «دليل بادلي»، عندما قدم جريسون وجلس بجواري. لاحظتُ أنه في مزاجٍ رائق، ميَّال إلى الحديث، واندهشتُ لمَّا رأيتُه يُسهِب في الحديث عن جماليات الريف. كان كل شيء حولَنا يكسوه وهجٌ أخضَرُ زاهٍ، وكانت تلالُ الخلنج المنحدرة باسقةً تُلامِس عَنان السماء مثل أحجار الجمشت الأرجوانية، فيما امتزجَت صفحة المحيط الغربي الذهبية الباهتة بأفق المغيب. دفَع جمالُ المشهد جريسون إلى الإسهاب في الحديث عنه بعاطفةٍ جياشة. قال: «يُجدِّد هذا المشهدُ روحي يا سيد براند. في كثير من الأحيان أجد نفسي مدفوعًا إلى الابتعاد عن تلك البلدة القديمة وإلا زالت عني حيويَّتي. يشعُر الإنسان بإنسانيته عندما يكون في مكانٍ عبقِ الرائحة مثل هذا. تُرى ما الذي دفَع البشَر إلى العيش في أقفاصٍ من الحجارة والجير؟ يومًا ما سأقود سفينتي إلى مكانٍ نظيف، وأنزل به، وأكتُب القصائد. هذا المكان سيكون مناسبًا. كما أن هناك بقعةً أخرى في كاليفورنيا، على سلاسل الساحل الجبلية، تُثير اهتمامي.» الغريب في الأمر هو أني أعتقدُ أنه كان يعني ما يقوله. فقد أشرق وجهه القبيح في سعادة جادة.
أخبرني أنه قام بهذه الرحلة من قبلُ، فأخرجتُ «دليل بادلي»، وطلبتُ منه النصيحة. قلتُ: «لا أملك قضاء الكثير من الوقت في العطلات، وأريد زيارة كل المواقع الجذابة. لكن غالبيتها، فيما يبدو، تقع في المنطقة التي تحظُر الحكومة البريطانية الحمقاء دخولَها دون جوازِ سفر. أعتقد أنني سأُضطَر إلى أن أتركك في أوبان.»
قال بشفقة: «يا للأسف. حسنًا، سمعتُ بوجود بعض المعالم السياحية الجذَّابة حول أوبان.» وقلَّب صفحاتِ الدليل، وشرع في القراءة عن قرية جلينكو.
أخبرتُه أنها ليست ما أنشُده، واختلقتُ حكايةً عن الأمير تشارلي، والدور الذي أدَّاه جدُّ أُمي في تلك المسرحية. أخبرتُه عن رغبتي في زيارة المكان الذي نزل فيه الأمير ورحل إلى فرنسا. قلتُ: «على حدِّ علمي لن يقودَني ذلك إلى المكان الذي يتطلب جواز سفر، لكن سأضطَر للسير مسافةً طويلة. حسنًا، أنا معتاد على السفر سيرًا على الأقدام. سأجعل القبطان يُنزِلني في مورفيرن، ثم سأسير حول قمة لاخييل وسأعود إلى أوبان عَبْر مقاطعة أبين. ما رأيك في مسار العطلة هذا؟»
استحسن جريسون المسار. قال: «لكن لو كنتُ مكانك يا سيد براند، لجرَّبتُ إرباك رجال الشرطة الشجعان. كِلانا لا يثِق في الحكومات ولا في قوانينها العديمة القيمة، وستكون لعبةً مسليةً أن تختبر قدرتك في اختراق البلدة المحظورة. ورجلٌ مثلك يستطيعُ خداعَ أولئك الحمقى بكل سهولة. لا أمانع المراهنة على أنك …»
قلتُ: «لا. خرجتُ لأجل الراحة لا التنافُس. لو أن هناك مكانًا أتطلَّع إلى بلوغه بواسطة الحيلة فسيكون جُزر أوركني. لكنها مهمةٌ عسيرة ويمكنني التفكير في أماكن أخرى أفضل للزيارة.»
ردَّ: «حقًّا؟ كما شئتَ، استَمتِع بطريقتك الخاصة. سأشعُر بالأسف عند مغادرتك؛ لأنني أدينُ لك بإنقاذ حياتي في أثناء العِراكِ العنيف، ولا تروقني رفقة الربَّان العجوز المتحفِّظ.»
ذلك المساء تبادلتُ وجريسون سرد القصص بعد العَشاء، فيما عبَّر صديقُنا الربَّان ومساعدُه عن دهشتهما بكلماتٍ مثل «يا إلهي!» «هل هذا مُمكن؟» ثم ذهبتُ إلى الفراش بعد تناوُل القليل من مشروب الرُّوم المُخفَّف وعوَّضتُ سهرَ الليلة الماضية بنومٍ عميق. كنتُ أحملُ معي حقيبةَ ظهرٍ صغيرة، بالإضافة إلى الملابس التي أضعُها على جسَدي ومحتوياتِ جيوبي المقاومة للماء، لكن وفقًا لنصيحة آيموس أحضرتُ معي مُسدسي الصغير المَطلي بالنيكل. في أثناء النهار يظل المسدس في جيب السروال الخلفي، فيما أضعه وراء وسادتي في الليل. لكن عندما استيقظتُ في صباح اليوم التالي، ووجدتُ أنَّنا نرسو في الخليج عند سفح التلال المُنخفضة الوَعْرة، في جزيرة كولونساي حسب معرفتي، لم أجد أثرًا للمسدس. بحثتُ عنه في كل شِبر من الفراش، وما جنيتُ سوى نفض الريش من غطاء الحشية العتيق. تذكَّرتُ بوضوح أنني وضعتُه خلف رأسي قبل خلودي للنوم، لكنه الآن قد اختفى تمامًا. بطبيعة الحال، لم أتمكَّن من الإعلان عن خسارتي، ولم أكترث للأمر كثيرًا؛ لأن هذه الوظيفة لا يُمكنني أن أستخدم الأعيرة النارية فيها بكثرة. لكن دفعَتْني الحادثة إلى التفكير مليًّا في أمر السيد جريسون. لا يُوجَد أدنى مبرر لإثارة شكوكه حولي، ولو أنه استولَى على مسدسي — وهو ما فعله بلا شك — فهذا بغرض أن يستأثر به لنفسه، لا لأنه يريد تجريدي من سلاحي. وكلَّما قلَّبتُ الأمر في عقلي، وصلتُ إلى النتيجة نفسها. لا بد أنه يراني مأمونَ الجانب مثل طفلٍ وديع.
أوكترلوني، مكتب البريد، كايل، آمل أن أقضي جزءًا من العطلة بجوارك، وأن أزورك إن سمح لي برنامج السفينة. هل هناك أي شحناتٍ تنتظِر بجوارك؟ يُرسَل الردُّ إلى مكتب البريد، أوبان.
كان لازمًا ألا يكتشف جريسون أمر هذه الرسالة، لكن لم يكن من السهل التخلص منه. جاء وقت الظهيرة، وخرجتُ في جولة على الساحل، ومرَرتُ بمكتب البريد، لكن اللعين لم يترك جانبي أبدًا. كانت فرصتي الوحيدة هي قبل الإبحار مباشرة؛ إذ لن يجد مَفرًّا من صعوده إلى السفينة وتفقُّد الشحنات. كان من السهل رؤيةُ مكتبِ البريدِ من فوق سطح السفينة لذا لم أقترب منه قيدَ أنملة. لكن في أقصى القرية الصغيرة، التقيتُ بمُدير المدرسة، واستخلصتُ منه وعدًا بإرسال البرقية. كما اشتريتُ منه بضع رواياتٍ مهترئةٍ من فئة البنسات السبعة.
كانت النتيجة أن أخَّرتُ رحيل السفينة عشرَ دقائق، وعندما صَعِدتُ إلى السطح، التقيتُ بجريسون الذي كان في قمة غضبه. سأل: «أين كنتَ بحق الجحيم؟ الطقس يزداد سوءًا والعجوز يُريد الانطلاق بأقصى سرعة. ألم تكفِكَ نزهةُ بعد الظهيرة؟»
شرحتُ له بأدب، أنني التقيتُ بمدير المدرسة لشراء بعض الروايات، وأريتُه المجلداتِ الحمراءَ البالية. على الفور انحلَّت تلك العقدة التي تكوَّنَت بين حاجبَيه. ولاحظتُ كيف سكنَت شكوكُه.
غادرنا كولونساي في حوالي الساعة السادسة مساءً، والسماء خلفَنا تُنذِر بعاصفةٍ وشيكة، وتلال جورا تُحاوطها هالةٌ أرجوانيةٌ غاضبة على مَيمنتِنا. كان سطح جزيرة كولونساي منخفضًا للغاية فلم يُشكِّل أي حاجزٍ من الرياح الغربية الشديدة؛ لذا كان الطقس سيئًا منذ البداية. كان من المُقرَّر أن نتَّجه إلى الشمال الشرقي، وعندما اجتزنا نهايةَ الجزيرة، شقَقْنا طريقنا ببطء بين الأمواج المتلاطِمة، كانت السفينة تبتلِع قدْرًا كبيرًا من الماء وترتجُّ كالجاموس. لم تتجاوز معلوماتي عن السفن معلوماتي عن اللغة الهيروغليفية، لكن حتى للعينَين غير الخبيرتَين لم يكن هناك أدنى شك في أننا سنحظى بليلةٍ عاصفة. عزمتُ ألا أُصابَ بالغثيان مرةً أخرى، لكن عندما هبطتُ إلى الطابق السفلي، أنذرَت رائحة الأمعاء والبصل بنهايتي؛ لذا تناولتُ قطعةً من الشكولاتة وقطعةً من البسكويت، وارتديتُ معطفي المقاوم للماء، وعزمتُ على البقاء على السطح مهما كلَّف الأمر.
تمركزتُ بالقُرب من مقدمة السفينة بعيدًا عن روائح المُحرِّك الزيتية. كانت الأجواءُ منعشةً كما لو كنت وافقًا على قمة الجبل، لكنها في غاية البرودة والرطوبة، نظرًا للعاصفة الماطرة ورذاذ الأمواج العالية. وفيما اندفعَت السفينة ناحيةَ الشفق وقفتُ هناك محاولًا الحفاظ على اتِّزاني، مُتشبثًا بحبلٍ مُتدلٍّ من السارية القصيرة بإحدى يديَّ. لاحظتُ أنْ ليس بيني وبين الحافة إلا حاجزٌ منخفض، لكن أصابتني خطورة الوضع بالإثارة وساعدَتْني في تجنُّب الإصابة بالغثيان. تمايلتُ مع حركة السفينة، ورغم مُعاناتي من شدة البرودة إلا أنني كنتُ في غاية الاستمتاع. كانت خُطتي هي أن أجعل الطقس يطردُ شعوري بالغثيان، ثم أهبط إلى الطابق السفلي عندما يتملَّك منِّي التعَب وأخلُد إلى النوم مباشرة.
وقفتُ هناك حتى حلَّ الظلام. كنتُ حينها قد تجمَّدتُ في وقفتي مثلما يحدث لحارسٍ يباشرُ نَوبةَ حراسته. جالت أفكاري حول الأرض، بدءًا من المهمة التي انطلقتُ بها، وانتقلتُ على الفور — من خلال استذكار بلنكيرون وبيتر — إلى الغابة الألمانية حيث كادت تفتك بي الحُمَّى والعجوز شتوم، في عيد الميلاد المجيد عام ١٩١٥. تذكَّرتُ البرودةَ اللاذعةَ لذلك السباق المحموم، وكيف شعَرتُ أن الثلجَ حارقٌ مثل النار عندما تعثَّرتُ وغُصتُ بوجهي فيه. فكَّرتُ أن الغثيانَ هو أمرٌ تافه مقارنةً بنوبةٍ قويةٍ من الملاريا.
ازداد الطقسُ سوءًا، وطالَني من البحر ما هو أكثر من رذاذ أمواجه. بدأ الخدَر يسري إلى أصابعي، فعانقتُ الحبل بمرفقي. عُدت إلى أحلامي التي دارت بشكلٍ أساسي حول نُزُل «فوس مانر» وماري لامنتون. وغشيَتني راحةٌ تامةٌ كما لو كنتُ نائمًا. حاولتُ أن أستحضر في ذهني صورتَها كما رأيتُها آخر مرة في محطة بيجلزويك …
ارتطم بي جسمٌ ثقيل، فأفلتَت ذراعي الحبل. انزلقتُ على سطح السفينة وسط دوَّامة من الماء. وعلقَت قدمي بإحدى دعامات الحاجز، لكنها انهارت تحت ثقلي، ووجدتُ نصف جسدي يتدلَّى من فوق حافة السفينة للحظة. لكن تصارعَت أصابعي في الهواء بجموح حتى تشبَّثت بحلقات ما أظن أنها سلسلة المرساة. حملَت هذه السلسلة ثُقلي على الرغم من أني شعَرتُ بثقلٍ هائل يتدلى من قدميَّ … ثم اعتدلَت السفينة، وانحسَر عنها الماء، وتمدَّدتُ على السطح المُبلل متقطِّعَ الأنفاس، وجالون من الماء المالح في قَصبتي الهوائية.
سمعتُ صوتَ صُراخٍ حاد، وساعدَتْني يدٌ على النهوض على قدميَّ. تبيَّن أنه جريسون، وبدا أنه في غاية الانفعال.
قال: يا إلهي، أفلتَّ من الموت بأعجوبة يا سيد براند. صَعِدتُ لأبحث عنك عندما مالت السفينة اللَّعينة على جانبها. وجدتُ نفسي أندفع نحوك مثل المدفع، ووجَّهتُ لنفسي ألفاظًا نابيةً عندما رأيتُك تتدحرج في المُحيط الأطلسي. لو لم أُمسِك الحبل بقوَّة، لسقطتُ بجانبك مباشرة. أخبِرني، هل تأذَّيت؟ من الأفضل أن تذهبَ إلى الطابق السفلي وتتناولَ كأسًا من الروم لتبعثَ الدفءَ إلى أحشائك. أنتَ مُبلَّل تمامًا كمِنشَفةِ صحون.
للقتال في المعارك ميزة. هو يُعلِّمك أن تأخذ ما يُلقيه إليك الحظ ولا تقلق بشأن ما فاتك. لم أُفكِّر كثيرًا في المسألة باستثناء أنها عالجَتْني من دُوار البحر. نزلتُ إلى المقصورة الكريهة الرائحة دون أدنى شعورٍ بالغثيان، وتناولتُ مقدارًا كبيرًا من الجُبن على شريحة خبزٍ محمَّرة وخمر الباس المُعبَّأة متبوعةً ببضعِ رشفات من الروم. ثم نزعتُ ملابسي المبلَّلة، ونمتُ في الفراش، حتى رسَونا بالقرب من إحدى قرى جزيرة مول في صباحٍ صافٍ.
استغرق الوصولُ إلى مدينة أوبان أربعةَ أيامٍ زحَفْنا فيها على امتداد الساحل، إذ أدَّينا دَور متجرٍ عامٍّ عائمٍ لكل قرية في تلك الأرجاء. تصرَّف جريسون بلُطفٍ بالغ، كأنه يريد التعويض عن فِعلتِه التي كادت أن تُودي بحياتي. لعبنا البوكر قليلًا، وقرأتُ الروايات التي اشتريتُها من كولونساي، ثم أعدَدنا خيط صنارة الصيد، واصطدنا أسماك البلوق، والقد، وكنا في بعض الأحيان نصيد سمكةَ حدوق كبيرة. لكن كان الوقت يمضي ببطء، وكنتُ سعيدًا عندما وصلنا، ذات يومٍ في فترة الظهيرة تقريبًا، إلى خليج تسُدُّه الجُزُر، ورأيتُ مدينةً صغيرةً نظيفةً تتربَّع على التلال ودخانًا منبعثًا من قطار السكة الحديدية.
نزلتُ إلى اليابسة، واشتريتُ قُبعةً فخمةً من متجرٍ لملابس التويد. ثم اتجهتُ مباشرةً إلى مكتب البريد وسألتُ ما إذا كانت هناك برقياتٌ من أجلي. أعطاني المسئول برقية، وفيما كنتُ أفتَحُها، رأيتُ جريسون بجواري.
مرَّرتُ البرقية إلى جريسون بوجهٍ حزين.
قلتُ: «برقيةٌ حمقاء. لديَّ ابن عم — وهو قسٌّ مشيخي في روس شاير — وقبل أن أدركَ حماقةَ جواز السفر، كتبتُ إليه وعرضتُ عليه زيارته. أخبرتُه أن يراسلني هُنا، حينما يتيسَّر له الأمر، وقد أرسل لي العجوزُ الأحمقُ برقيةً خاطئة. لا بد أنه قصد إرسالها إلى أخٍ من القساوسة الذي تلقَّى برقيَّتي بدَوره.»
سأل جريسون بفضول، فيما تطلَّع إلى التوقيع أسفل البرقية: «ما اسم الرجل؟»
قلتُ: «أوكترلوني. ديفيد أوكترلوني. هو بارعٌ في كتابة الكتب لكنه عديمُ الحيلة عندما يتعلق الأمر بالبرقيات. لكن، لا يهم؛ فلن أستطيع الذهاب إليه على أي حال.» جعدتُ البرقية الوردية وألقيتُها على الأرض. ثم سرتُ وجريسون إلى توبرموري.
قال صاحب الرؤيا، حينئذٍ رأيتُ أن رجلًا يُقال له ديماس كان جالسًا بالقُرب من الطريق إلى جانبِ منجمِ الفضة، يدعو أبناء السبيل إلى التفرُّج عليه. فلما دنا منه المسيحي وصاحبُه قال لهما: «عرِّجا إلى هنا لأريَكُما منظرًا عجيبًا.»
فيما كنا نشرب الشاي، أدرتُ دفَّة الحديث إلى ماضيَّ. أسهبتُ في الحديث عن خبراتي في هندسة التنجيم، وقلتُ إنني لن أُفلِح أبدًا في التخلُّص من عادة تأمُّل البلاد من منظور المنقِّب. وأضفتُ: «على سبيل المثال، لو أننا في روديسيا، لقلتُ إن احتمالية توافُر النحاس في التلال المُطلَّة على البلدة كبيرة. فهي تُشبِه التلال المُحيطة بمنجم ميسينا.» أخبرتُ الربَّان أنني فكَّرتُ في الالتفات إلى المرتفعات الغربية والبحث عن المعادن بعد انتهاء الحرب.
ردَّ الربَّان: «لن تجني شيئًا من هذا. فتكاليف التنقيب باهظة، وحتى لو عثرتَ على المعادن، فستدعوك الحاجة إلى جلب الأيدي العامِلة من الخارج. وهذا لأن سكان المرتفعات الغربية غيرُ مولَعين بالأعمال الشاقَّة. هل سمعتَ من قبلُ عن أنشودة المزارعين؟
سألتُ: «هل جرَّب أحدٌ البحث عن المعادن؟»
أجاب: «كثيرًا. هناك محاجر الرخام والأردواز، وسمعتُ شائعاتٍ عن وجود الفحم على جزيرة بنبيكولا. كما أن هناك مناجمَ حديدٍ في بلدة رانا.»
سألتُ: «أين تُوجَد هذه البلدة؟»
قال: «في مواجهة جزيرة سكاي. نمُر عليها ونمكُث قليلًا عادةً. لدَينا شحنةٌ كبيرةٌ متجهةٌ لبلدة رانا، وفي العادة نحمِل شحنةً كبيرةً في العودة. لكن كما أخبرتُك، لا يعمل هناك سوى القليل من سكان المُرتفعات. أما غالبية العمَّال فهم من الأيرلندِيين والشباب القادمين من شِبه جزيرة فايف وبلدة فالكيرك.»
لم أواصل الكلام في الموضوع؛ فقد عثَرتُ على منجم فضَّة ديماس المنشود. لو رست سفينة توبرموري في جزيرة رانا، لمدة أسبوع، فسيتوافر لجريسون الوقتُ الكافي للقيام بمهمته السرية. لكنها ليست البُقعة المنشودة لأنها مكشوفةٌ للعالم بأَسْره بحُكم موقعها وسط قناةٍ يكثر سالكوها. لكن جزيرة سكاي تقع في الجهة المُقابلة، وعندما تفقدتُ شِبه جُزرها الكبيرة المتشعِّبة على خريطة، تأكَّدتُ من صحَّة ما وصلتُ إليه؛ وهو أن سكاي هي وجهتي المنشودة.
قضيتُ المساء مع جريسون على سطح السفينة، وسط أجواءٍ ساحرةٍ من السكون والنجوم التي تُرصِّع السماء، ورُحنا نُراقِب مصابيحَ البلدة وهي تخفتُ رويدًا رويدًا، ونتحدَّث في الكثير من الموضوعات. لاحظتُ — وهو ما رأيتُ ملمحًا منه في السابق — أن رفيقي ليس رجلًا من العامة. كانت هناك لحظاتٌ ينسى فيها نفسه، ويتحدث كرجلٍ مهذَّبٍ مثقَّف، ثم يتذكَّر ويعود إلى لهجة أهل مدينة ليدفيل بولاية كولورادو. وجَّهتُ إليه أسئلةً صعبةً عن السياسة والاقتصاد — متبنيًا شخصيةَ السائل الساذج — وتظاهرتُ بمعرفتي بهذه الأمور من خلال التصفُّح السطحي للكتبِ غيرِ المُتخصِّصة. بصفةٍ عامة، كان يُجيب بالكلمات الرائجة العامية، لكن عندما تأخُذه الحماسة بعيدًا — وهو ما كان يحدث من وقتٍ لآخر — يُلقي عليَّ محاضرةً كما لو كنتُ واحدًا من أقرانه. واكتشفتُ أمرًا آخر، وهو أنه مهووسٌ بالشعر وذو ذاكرةٍ قويةٍ لحفظه. نسيتُ كيف انجرفنا في حديثنا إلى الشعر، لكن أذكُر اقتباسه لأبياتٍ مؤثرةٍ غريبة، زعم أنها لسوينبرن، وأبياتٍ لشعراءَ آخرين سمعتُ عنهم من ليتشفورد في بيجلزويك. شعَر من صمتي أنه قد أفرط في الحديث، فتراجَع إلى لهجة غرب أمريكا. سأل عن خُطَطي، ونزَلنا إلى المقصورة، وتفقَّدنا الخريطة. شرحتُ له المسارَ الذي أنوي اتخاذه، وهو الاتجاه شمالًا إلى شِبه جزيرة مورفيرن، ثم الدوران حول لسان لوخيل، والعودة إلى أوبان من الجانب الشرقي من بحيرة لوخ لينيه.
قال: «فهمتُك. تنتظرك نزهةٌ طويلةٌ على الأقدام. لم أتحمَّس لهذا الأمر قط، فلا أحسُدك. وماذا ستفعل بعد ذلك يا سيد براند؟»
قلتُ بخفَّة: «سأعود إلى جلاسكو لتأدية بعض المهام الخاصة بالقضية.»
قال بابتسامةٍ واسعة: «أنتَ مُحِق. يفوزُ باللَّذات كلُّ مثابر.»
في فجر اليوم التالي، أبحرنا من الخليج، وبحلول الساعة التاسعة صباحًا، نزلتُ إلى اليابسة، في قريةٍ صغيرة تُدعى لوخاليين. حملتُ كل مقتنياتي في حقيبة الظهر، وملأتُ جيوب المعطف الواقي من المطر بعُلَب الشكولاتة والبسكويت التي اشتريتُها من أوبان. حاول الربَّان أن يَثنيَني عن رحلتي. قال: «ستعجزُ أمام المرتفعاتِ يا سيد براند، من قبل أن تتمكَّن من الدوران حول اللسان البحري. وستودُّ لو أنك تعود إلى توبرموري.» لكن حثَّني جريسون على الرحيل، وقال إنه يتمنَّى القدوم معي. بل ذهبَت به الحماسة إلى مرافقتي مسافةَ مائةِ ياردة، قبل أن يُلوِّح بقُبعتِه ويُودِّعني، عندما بلغتُ طريقًا جانبيًّا.
كان الجزء الأول من رحلتي مُبهجًا للغاية. كنتُ ممتنًّا لخلاصي من السفينة الكئيبة، ومسَح عني الهواءُ الدافئُ المُحمَّل بروائح الصيف أثناء نزولي إلى الوداي تعبَ هواءِ البحرِ الباردِ المالح. كان الطريق يمُر بجانب خليجٍ صغير يستقرُّ على قِمته منزلٌ أبيضُ كبير بين البساتين. وسرعانَ ما تركتُ الساحلَ ووجدتُ نفسي في وادٍ يجري فيه نهرٌ مُتعرِّج تقطنه أسماك السلمون عَبْر أرضٍ واسعةٍ تكسوها أعشابُ الميرقية الحلوة. كان منبعه بحيرة يرتفع من ورائها جبلٌ شديد الانحدار؛ كانت صفحتُها برَّاقةً للغاية فعكسَت بوضوحٍ كلَّ شَقٍّ وتجعيدٍ في جانب الجبل. بعد ذلك اجتزتُ دربًا مُنخفضًا يُفضي إلى خليجٍ صغيرٍ آخر، واتبعتُ الخريطة فصَعِدتُ تلةً كبيرةً وجلستُ أتغدَّى عليها، مُطلًّا على منظرٍ بديعٍ من الأشجار الكثيفة والمسطَّحات المائية بالأسفل.
قضيتُ ساعاتِ النهارِ وأنا في غاية الفرح، لا أفكِّر في جريسون ولا أفري، بل أُريح عقلي عَبْر تأمُّلِ المساحات الشاسعات، واستنشاقِ هواءِ التلال العليل. لكن لاحظتُ شيئًا مثيرًا للانتباه. في رحلتي الأخيرة إلى اسكتلندا، عندما توغَّلتُ في المروج وسرتُ مسافاتٍ طويلةً في اليوم الواحد لم يَسِرْها رجلٌ قط منذ مسألة كلافير هاوس، كنتُ مأخوذًا بالأجواء وانهمَكتُ بالتخطيط للتقاعُد في هذه البقعة. لكن الآن، بعد ثلاث سنوات من الحرب والدمار العام الذي خلَّفَته، لم أعُد مفتونًا بها مثلما كنتُ في الماضي. أردتُ مكانًا أكثرَ خضرةً وأمانًا وصالحًا للسُّكنى، ووجدتُ ذكرياتي تعود إلى منطقة كوتسوولدز في شوقٍ.
احترتُ في سبب هذا التغيُّر، حتى أدركتُ أن شخصيةً بعينها تظهر وتختفي في ذكرياتي عن تلال كوتسوولدز — صبية لها شعرٌ ذهبيٌّ غزير وهيئة صبيٍّ رشيقٍ قوي، وهي نفسُها التي سمعتُها تُغَني «كرز لذيذ» في الحديقة تحت ضوء القمر. على منحدَر التلِّ فهمتُ بوضوح أنني أُغرمتُ بصبيةٍ تصغرني نصفَ عمري، وأنا الذي لم يعبأ بالنساء كناسكٍ متعبد. لم يكن الاعترافُ بهذا الاستنتاج أمرًا سهلًا على نفسي على الرغم من أنه ظل يُلِح عليَّ لأسابيع. لا أقصد أنني لا أستمتع بهذا الحب المجنون، غير أنني أراه ضربًا من ضُروب المُستحيلات، ولستُ بحاجة للعلاقات العابرة. لكن، في أثناء جلوسي على الصخرة والتهام الشكولاتة والبسكويت بنهَم، واجهتُ الحقيقة مباشرة وعزمتُ على أن أثق بحظي. على أي حال، نحن زميلان في مهنةٍ خطيرة، والآن لديَّ فرصة لأن أُظهِر الشجاعة الكافية لأفوز بقلبها. استجمعَت هذه الفكرةُ كل ذرةِ شجاعةٍ موجودةٍ داخلي. وكلُّ المهام العسيرة بدَت يسيرةً من أجل نَيل رضاها والفوز بمرافقتها بعد ذلك. جلستُ لفترةٍ طويلةٍ مستغرقًا في هذا الحلم السعيد، أتذكَّر كل المرَّات التي حظيتُ فيها برؤيتها بصورةٍ سريعة، وأُدَندِن بأغنِيتها لمُستمعي الوحيد، وهو خروفٌ أسودُ الوجه.
في الطريق الرئيسي بالأسفل، وعلى بُعد نصف ميل من مكاني، رأيتُ شخصًا يصعد التلة بواسطة دراجة، ثم يترجَّل عند القمة ليمسح وجهَه من العرق. التفتُّ إليه، بمنظار «زايس» المعظم، وأدركتُ أنه شرطيٌّ ريفي. انتَبه الشرطي لوجودي، وحملَق هُنيهة، ثم وضع درَّاجتَه على جانب الطريق، وبدأ يصعَد جانب التلَّة ببطءٍ شديد. فور أن توقَّف، لوَّح إليَّ بيده، وقال شيئًا بصوتٍ عالٍ لم أستطع فهمه. جلستُ أُنهِي وجبةَ الغداء، حتى برزَ عجوزٌ بدين، يلتقط أنفاسَه بصعوبة، وتستقرُّ قُبعتُه في مؤخرة رأسه الأصلع، وينعقد طرفا سرواله عند قصبتَي ساقَيه بواسطة حبلٍ.
كان بجانبي ينبوعُ ماء، فملأتُ منه قارورة الماء لأختم وجبتي.
قلتُ: «تفضَّل بعضَ الماء.»
تلألأَت عيناه وارتسمَت ابتسامةٌ عريضةٌ على وجهه المتعرِّق.
قال: «أشكرك يا سيدي. إن صعود منحدَر التل يُصيبُك بالعطشِ الشديد.»
قلتُ: «ما كان ينبغي لك أن تفعل. أنا أعني ذلك. فصعودُ تلةٍ بسرعةٍ ثم بذل جهدٍ مضاعفٍ لاجتياز الجبل الذي يليها ليس جيدًا لرجلٍ في مثل عمرك.»
رفع سدادةَ القارورة في تحيةٍ رصينة. قال: «في صحتك.» ثم أطبق شفتَيه بصوتٍ عالٍ وتجرَّع قدْرًا كبيرًا من ماء الينبوع.
سأل بصوتِه العذب بعدما استعاد أنفاسَه أخيرًا: «هل أتيتَ من أخرانيك؟»
أجبتُ: «هذا صحيح. الجو مناسبٌ لاصطياد الطيور.»
قال: «كلَّا. لن يكون هناك صيَّادون اليوم، إذ لم يتبقَّ نبلاءُ في مورفيرن. لكن سألتُك عن أخرانيك، لأعرف ما إذا رأيتَ أحدًا في طريقك إلى هُنا.»
أخرج مظروفًا بُنيًّا من جيبه وبرقيةً ضخمة. وقال: «هلَّا قرأتَها يا سيدي لأنني نسيتُ نظارتي؟»
اشتملَت البرقية على أوصاف رجلٍ مشتبهٍ به من جنوب أفريقيا، اسمه براند، تطلُب الشرطة القبض عليه وإعادته إلى أوبان. لم تكُن الأوصاف سيئة، لكنها لم تذكُر أي صفةٍ مميزة. ولا شك أن الشرطي رآني عابرَ سبيلٍ بريئًا أو ضيفًا ينزل في أحد أكواخ الصيادين وسط المروج، خاصة مع وجهي الأسمر وملابسي المصنوعة من التويد وحذائي ذي النعل المُدعم بالمسامير.
قطَّبتُ حاجبي في تأمُّل. ثم قلتُ: «رأيتُ رجلًا على منحدَر التل على بُعد حوالي ثلاثة أميال. هناك حانة عند الجدول وأظنه كان يقصدها. قد يكون رَجُلَك المنشود. تقول البرقية «جنوب أفريقيا»، وأتذكَّر الآن أنه بدا كسكانِ المُستعمرات.»
تنهَّد رجلُ الشرطة. «إنه هو بلا شك. ربما كان يحمل مسدسًا وسيُطلِق النارَ عليَّ.»
ضحِكْت: «لا. بدا الرجل في حالةٍ يُرثى لها وسيرتعبُ بمجرد رؤيتك. لكن، خذ نصيحتي، واصحَب أحد رجال الشرطة معك، قبل أن تُواجِهه. من الأفضل وجودُ شاهدٍ تحسبًا لوقوع عراكٍ.»
قال بوجهٍ مشرق: «أنتَ محق. تبًّا، يا لها من أيامٍ عصيبة! في الماضي لم يكن هناك ما أفعلُه سوى حراسةِ أبوابِ معارضِ الزهور ومنعِ اليخوتِ من الصيد الجائر لأسماك التروتة. لكن الآن لم يعُد هناك شاغلٌ لنا سوى الجواسيس، يقولون لك: «انهَض من فراشك، يا دولاند، وسِرْ عشرين ميلًا لتقبض على جاسوسٍ ألماني». ليت الحرب تنتهي ونتخلَّص من الألمان للأبد.»
هتفتُ: «يا ليت، يا ليت!» وأعطيتُه شربةَ ماءٍ أخرى تعبيرًا عن موافقتي له.
صحِبتُه إلى الطريق، وانتظرتُه حتى ركب دراجته، ورأيتُه يتعرَّج في سَيره أسفل التل مثل طائر الشنقب ويتَّجه صوبَ أخرانيك. بعد ذلك انطلقتُ ناحيةَ الشمال بسرعة. أدركتُ أنه كلما تحرَّكتُ بسرعة كان ذلك أفضل.
سِرتُ، وأنا أعترف على مضضٍ بكفاءة الشرطة الاسكتلندية. تعجَّبتُ كيف عرفوا بأمري. ربما بسبب لقاء جلاسكو أو علاقتي بأفري في بيجلزويك. على أي حال، هناك شخصٌ ما، في مكانٍ ما، قد جمع معلوماتٍ كافيةً عني بسرعةٍ بالِغة. ولا بد من الإسراع إلى ساحل قرية أريسيج إلا إذا كنتُ أرغب في العودة إلى أوبان والأغلال في يدي.
قادني الطريق على الفور إلى خليجٍ بحريٍّ ضيقٍ متلألئ، يشُق طريقه عَبْر التلال الأرجوانية مثل نصل سيفٍ أزرقِ اللون. في نهاية الشريط، قبعَت قريةٌ صغيرة، وسط أشجار البتولا والسَّمن، عند مصَب جدولٍ بُنيٍّ مُصفَر في البحر. وطِئتُ هذه البقعة، في حوالي الساعة الرابعة مساءً، وشعرتُ بسلامٍ مطبقٍ يكتنِف المكان. في الشارع المُشمِس الواسع لم تكن هناك أيُّ دلائلَ للحياة أو أيُّ أصوات، باستثناء قوقأة الدجاج وطنين النحل بين الورود. كما كانت تُوجَد كنيسةٌ رماديةٌ صغيرةٌ كالعلبة، وكوخٌ مسقوفٌ بالقش بالقُرب من الجسر يحمل لافتةً تُشير إلى أنه مكتب البريد والبرق.
خلال الساعة الماضية انشغلتُ بأمر التجهُّز لِما قد ألقاه من عراقيل. إذ كانت الشرطة في تلك الأنحاء قد تلقَّت تحذيرًا بشأني؛ فقد لا أستطيع التعامُل معها وحدي، وسيُباشِر جريسون رحلتَه بلا مُنافس. الشيء الوحيد الذي يُمكِنُني فعلُه هو إرسالُ برقيةٍ إلى آيموس وتركُه يتعامل مع الأمر. ويتوقَّف نجاحُ ذلك على مكتب البريد النائي هذا.
دخلتُ المتجر الصغير، وانتقلتُ من الشمس الساطعة إلى عتمتِه التي تفوحُ فيها رائحةُ الكيروسين وحلوى النعناع ذات الخطوط السوداء. ورأيتُ عجوزًا، ترتدي قُبعةً قطنية، جالسةً في مقعدٍ خلف الشبَّاك. نظرَت إليَّ من فوق إطار نظارتها وابتسمَت، فأحببتُها على الفور. كان لها وجهٌ متجعِّد حكيمٌ يُحبه الرب.
بجوار العجوز، لاحظتُ كومةً صغيرةً من الكُتب من بينها الكتاب المقدَّس. وفي حجْرِها، قبعَت الصحيفةُ الشهرية، «الكنيسة الحرة المتحدة»، مفتوحة. لاحظتُ هذه التفاصيل بنهَمٍ؛ إذ كان لا بد من اختيار الدور الذي سأؤديه.
قلتُ، وأنا أنتقل إلى اللهجة العامية لسكان المنخفضات؛ إذ راودَني شعورٌ أنها ليست من سُكان المرتفعات: «يا له من يومٍ حارٍّ يا سيدتي.»
وضعَت الجريدةَ جانبًا. وأجابت: «هذا صحيحٌ يا سيدي. هو طقسٌ ملائم جدًّا للحصاد، لكن موسمه لا يحين قبل نهاية سبتمبر، كما أن الشوفان لم ينضجْ بعدُ على أحسن الأحوال.»
قلتُ: «صحيح. يختلف الأمر في وادي أنانديل.»
انفرجَت أساريرُ وجهها. وسألَت: «هل أنتَ من بلدة دومفريس يا سيدي؟»
قلتُ: «أنا من دومفريس، كما أني على درايةٍ جيدةٍ بمنطقة الحدود.»
هتفَت: «لن تجد أفضل منها. لا أعني أن المكان هنا سيئ، بل أنا ممتنَّة للكثير من الأشياء هنا منذ أن أحضَرني جون ساندرسون، زوجي، إلى هذا المكان قبل سبعةٍ وأربعين عامًا، في عيد القديس مارتن. لكن كلما طعنتُ في السن، ازداد حنيني إلى مسقط رأسي. وهو على بُعد ثلاثةِ أميالٍ من قرية وامفري، على طريق لوكربي، لكن سمعتُ أنه لم يتبقَّ منه سوى كَومةٍ من الأحجار.»
قلتُ: «أتساءل يا سيدتي أين يمكن أن أشرب كوبًا من الشاي في هذه القرية.»
قالت: «فلتَحتسِه معي. لا يفدُ إلينا من منطقة الحدود أناسٌ كثيرون. الإبريق على النار.»
قدَّمَت إليَّ العجوزُ الشاي مع الكعك والزبد ومربَّى الكشمش الأسود وبسكويت العسل الأسود الذي يذوب في الفم. وفيما كنا نشرب الشاي تحدَّثنا في موضوعاتٍ شتى تمحورَت حول الحرب وشرور العالم.
قالت: «لم يبقَ هنا فتيان. فجميعهم التحقوا بفوج البنادق الاسكتلندي، ولقي أغلبُهم حتفَهم في تلك الموقعة المريعة في مكانٍ يدعى لووس. لم نُرزق أنا وزوجي جون بأي أبناء، لكن لديَّ بنتٌ واحدةٌ تزوَّجَت من دونالد فرو، وهو حمَّال من قرية سترونتيان، وكنتُ أقلق بشأنها، لكني أحمد الله أن عافاني من ألَم الفَقْد. لكَم تمنَّيتُ لو أن لي ابنًا يُحارب لأجل بلده. أحيانًا أتمنَّى لو كنتُ كاثوليكيةً كي أُصلي من أجل الجنود الذين قضَوا نحبهم. الصلاة لهم حتمًا تعزيةٌ كبيرة.»
أخرجتُ رواية «سياحة المسيحي» من جيبي فجأة. وقلتُ: «هذا كتابٌ عظيم لهذه الأوقات العصيبة.»
قالت: «أعرف هذه الرواية. ربحتُ نسخةً منها جائزةً من المدرسة السبتية عندما كنتُ فتاةً صغيرة.»
قلَّبتُ صفحاتِ الرواية. وقرأتُ بضعَ فِقرات، ثم تظاهرتُ أنني تذكَّرتُ شيئًا ما.
قلتُ: «هذا مكتبُ برقٍ يا سيدتي. فهل تكرَّمتِ بإرسالِ برقيةٍ من أجلي؟ لديَّ ابن عم، يعمل قسًّا في قرية كايل بمقاطعة روس شاير ونحن نتراسل بصفةٍ دائمة. كان قد سألَني بشأن فِقرة في «سياحة المسيحي»، وأفكِّر في أن أرسِل برقيةَ إجابةٍ على سؤاله.»
قالت: «سيكون الخطاب أقل ثمنًا.»
قلتُ: «أجل، لكن أنا في عطلة، ولا أملك وقتًا للكتابة.»
أوكترلوني. مكتب البريد. كايل. سيصل ديماس منجمه خلال هذا الأسبوع. حاوِل إيقافَه؛ لأنني أخشى أن تخورَ قُوايَ في أثناء الرحلة.
اكتفَت العجوز بالتعليق: «أنتَ فصيحُ اللسان يا سيدي.»
تركتُها آسفًا، وكدنا نتشاجر عندما عرضتُ أن أدفع ثمنَ الشاي. طلبَت منِّي أن أرسِل تحياتِها لمزارعٍ في مزرعة «نيذر ميركلوتش» يُدعى ديفيد تادهول عندما أزورُ قريةَ وامفري ثانية.
غادرتُ القرية هادئةً كما دخلتُها. شقَقتُ طريقي صاعدًا التلة، أشعُر براحة البال لأنني أرسلتُ البرقية، آمِلًا أن أكونَ قد غطَّيتُ آثاري. فصديقتي مديرةُ مكتب البريد لو سُئلَت عن المشتبه القادم من أفريقيا الجنوبية، فإنها على الأغلب لن تظن أنه هو المسافر الذي تلمَّسَت فيه الصدق والبساطة وتحدَّث إليها عن أنانديل و«سياحة المسيحي».
بدأَت التلال تصطبغ بلَون الغروب الأرجواني. كنتُ آمُل أن أقطعَ الأميالَ التي تفصلُني عن القرية التالية على الخريطة قبل أن يُسدِل الظلامُ ستاره، كي أجد مكانًا للمبيت. لكني لم أكن قد اجتزتُ مسافةً بعيدة حتى سمعتُ هديرَ محرِّكٍ قادمٍ من خلفي، ثم مرَّت سيارة تحمل على متنها ثلاثة رجال. تفحَّصَني السائق بنظرةٍ حادةٍ ثم ضغَط على المكابح. لاحظتُ أن الرجلَين الجالسَين في الصندوق الخلفي للسيارة يحمِلان بنادقَ صيد.
هتَف: «أنت يا سيد. تعالَ هنا.» ووضَع الرجلان المسلَّحان، وهما دليلا صيد، بندقيتَيهما في وضع التأهُّب.
قال السائق: «يا إلهي. إنه الرجل. ما اسمك؟ صوِّب بندقيتك عليه يا آنجوس.»
امتثل الدليلان لأوامر رئيسهما، ولم أُحب منظر بندقيتَيهما المُشهرتَين في وجهي. بدوَا متفاجِئَين مثلي تمامًا.
لم أمتلك سوى نصف لحظة كي أضع خطة. تقدَّمتُ نحو السائق، بخطواتٍ صارمة، وسألتُه عن مقصد كلامه. توقَّفتُ عن استخدام لهجة سكان المنخفضات الاسكتلندية. وانتقلتُ إلى نبرة ضابطٍ مساعدٍ من كتيبة الحرس.
كان متفحِّصي رجلًا طويلًا يرتدي معطفًا فضفاضًا ويعتمر قبعةً خضراءَ من الصوف على رأسه الصغير. كان له وجهٌ نحيلٌ مُهذَّب وعينان زرقاوان مشاكستان. خمَّنتُ أنه جنديٌّ قديمُ الطراز متقاعدٌ من كتيبة المنخفضات أو ربما من الخيالة.
أخرج نموذجَ برقيةٍ مثل الذي أراني إيَّاه الشرطي العجوز.
«متوسط الطول وقوي البنية، يرتدي حلةً رماديةً من التويد وقبعةً بنية، ويتحدث بلهجة سكان المستعمرات، وداكن البشرة. ما اسمك يا سيدي؟»
لم أجِبْه بلهجةِ سكانِ المستعمرات بل عدَلتُ إلى تلك الغطرسة التي يتحدث بها ضابطٌ بريطانيٌّ عندما يوقفه حارسٌ فرنسي. سألتُه مرةً أخرى عما سيفعل باسمي. فاستشاط غضبًا وبدأ يتلعثم في الكلام.
قال: «سأعلمك ماذا سأفعل به. أنا نائب حاكم هذه المقاطعة، ووردَتني أوامرُ من مكتب الأميرالية بمراقبة الساحل. اللعنة، يا سيدي، أحمل برقيةً واردةً من مأمور الشرطة تشمل أوصافك. أنتَ براند، رجل في غاية الخطورة، وأريد أن أعرف ماذا تفعل هنا بحق الجحيم.»
نظرتُ إلى عينَيه الغاضبتَين، ورأسه النحيل الذي يفتقر إلى الذكاء، ووجدتُ أنه من الضروري تغيير نبرة صوتي. أدركتُ أنني لو استفزَزتُه أكثر من ذلك، فسيُعقد الأمور ويرفض الإنصات إليَّ ويوقفني عدة ساعات. لذا تحدَّثتُ بنبرة تفيضُ احترامًا.
قلتُ: «أستميحك عذرًا، يا سيدي، لكنني لم آلف أن يعترض أحدٌ طريقي ويسألني عن هويتي. اسمي هو بلايكي، النقيب روبرت بلايكي، من فوج البنادق الاسكتلندي. عُدت إلى الوطن في عطلةٍ لمدة ثلاثة أسابيع لأنال قسطًا من الراحة بعد معركة هوج. عادت قواتُنا منذ خمسة أيام فحسب.» رجوتُ في أعماق قلبي أن يُسامحني صديقي القديم، القابع في مشفى الصدمات النفسية في أيشم، على استعارة هويته.
ارتبك الرجل. وقال: «وكيف سأتأكد من صحة كلامك؟ أتحمِل معك أوراقَ إثباتِ الهوية؟»
قلت: «لا، بالطبع. لا أحمل جوازَ السفر فيما أطوف سيرًا على الأقدام. لكن يمكنك إرسال برقيةٍ إلى مركز التدريب أو إلى عنواني في لندن.»
فتل العقيد شاربه الأصفر. وقال: «ليتني أعرف ما يُمكنني فعلُه. أريد العودة إلى المنزل وتناول العشاء. دعني أخبرك، يا سيدي، سآخُذك معي للمبيت في منزلي الليلة. ولدِي في المنزل يقضي فترةَ نقاهته، ولو قال إنك صادقٌ في كلامك، فسأطلب منك الصفحَ وسأقدِّم لك زجاجةَ بورت فاخرة. أنا أثق بولدي وأحَذِّركَ من فراسته.»
لم يسَعْني سوى الإذعان، فجلستُ في المقعد المجاور للسائق، بنفسٍ مُضطربة. ماذا لو اكتشَف الابن الخدعة! سألتُ عن اسم كتيبة الابن وعرفتُ أنها كتيبةُ المرتفعات الشمالية العاشرة. لم تكن هذه الأخبار سارةً لأن هذه الكتيبة انضمَّت للوائنا في معركة السوم. لكن العقيد برودبيري — حسبما أخبرَني باسمه — تطوَّع وأمدَّني بمعلومةٍ أخرى بدَّدَت مخاوفي. وهي أن ابنه لم يبلغ العشرين بعدُ، ولم يفُت على خدمته في الجيش أكثر من سبعة أشهر. لكنه أُصيب في معركة آراس بشظية في الفخذ، عبثت بعرق النسا، ولا يزال يتكئ على عكازَين في السير.
اجتزنا المرجَ المتعرِّج بسرعة، دون أن نحيد عن الشمال، ثم توقَّفنا عند منزلٍ جميلٍ أبيضِ اللون قريبٍ من البحر. قادني العقيد برودبيري إلى ردهة؛ حيث اشتعلَت نارٌ صغيرةٌ وقودُها الخث، وبجوار المدفأة قبعَت أريكةٌ يتمدَّد عليها شابٌّ هزيلٌ شاحبُ الوجه. تخلى العقيد عن أسلوبه الشرطي وتصرَّف مثل رجلٍ مهذب. قال: «أحضرتُ صديقًا للمبيت يا تيد. خرجتُ للبحث عن مُشتبهٍ به ووجدتُ جنديًّا بريطانيًّا. قدِّم التحية إلى النقيب بلايكي من فوج البنادق الاسكتلندي.»
نظر إليَّ الشاب بابتهاج. وقال: «سُرِرتُ بمعرفتك يا سيدي. اعذرني لأنني لا أستطيع النهوض وتحيتك كما يليقُ بسبب إصابة في الساق.» كان الشاب يُشبه أباه تمامًا غير أن ملامحه داكنةٌ وشاحبةٌ بخلاف ملامح أبيه الشقراء. اتسم الشاب، مِثل أبيه، بجبهةٍ غيرِ عريضة وفمٍ عنيدٍ وعينَين صادقتَين متقدتَين. كان من نوع جنود الأفواج المندفِعين الذين يُمنَحون وسامَ صليبِ فيكتوريا لشجاعتهم ويُقتلون بأعدادٍ كبيرة. لم أكن من ذلك الصنف أبدًا. فأنا أفضِّل مدرسة الجبناء الأذكياء.
في نصف الساعة الذي يسبقُ وجبةَ العشاء، تبدَّدَت آخرُ ذرةٍ من الشكوك من عقلِ مُضيفي. انغمستُ على الفور مع تيد برودبيري في مناقشة «خبراتنا العسكرية». كنتُ قد قابلتُ غالبيةَ رؤسائه، بالإضافة إلى درايتي بجميع تحرُّكاتهم في معركة آراس؛ إذ كان لِواؤه يقاتل في الجهة المقابلة من النهر، على اليسار من لوائي. استرجعنا المعركة بتفاصيلها، وأسهَبنا في الحديث عن التفاصيل الفنية، وسبَبْنا هيئة الأركان كما يفعل الجنود الشباب، فيما كان العقيد يُقاطِعنا بأسئلةٍ عكسَت مدى افتخاره بابنه. اغتسلتُ قبل العشاء، وفيما كان مُضيفي يقودني إلى المرحاض، اعتذَر لي بشدة عن سوء معاملته لي. وقال: «لقد أرسلكَ الرب إلى تيد. فقد أصابه المُكثُ في المنزل بالكآبة. وعلى الرغم من أنه من غير اللائق الثناء على ابني فإنه شابٌّ صالحٌ بحق.»
حصَلتُ على زجاجة البورت الموعودة، وبعد العَشاء نافستُ العقيد في البليارد. ثم جلَسْنا في غرفة التدخين، وبذلتُ غايةَ ما في وسعي لتسليتِهما. كانت النتيجة أن عرَضَا استضافتي لمدة أسبوع، لكني تعذَّرتُ بقِصَرِ العطلة، وتحدَّثتُ عن ضرورة الذهاب إلى محطة القطار والعودة إلى بلدة فورت ويليام من أجل استعادة أمتعتي.
هكذا أقمتُ الليل بين أغطية الفِراش النظيفة، وتناولتُ إفطارًا شهيًّا مشبِعًا في الصباح، ثم منحَني المضيف سيارتَه لأقطع بها جزءًا من الطريق. قطعتُ ستةَ أميال، ثم أرسلتُ السيارةَ إلى صاحبها، واستكملتُ رحلتي عَبْر التلال إلى الغرب مُسترشدًا بالخريطة. وبحلول منتصف النهار، وصلتُ إلى قمة حافةٍ جبلية، ورأيتُ مضيقَ سليت المتلألئ في الأسفل. كان المنظر الطبيعي أمامي يشمل أيضًا عناصرَ أخرى. ففي الوادي على يَميني رأيتُ قطار بضائعَ طويلًا يزحف إلى محطة سكة حديد ملايج. وفي الطرَف المقابل من الشريط المالح، شمخَت المعاقلُ المعتِمة وأبراجُ تلال جزيرة سكاي على مثال حصون الآلهة القديمة.