محيط تلال كويلن
كان من البداهة الابتعادُ عن استخدام القطار. لو كانت الشرطة في شبه جزيرة مورفيرن تبحث عني، فلا بد أنها حذَّرَت خطَّ القطار هذا لأنني سأضطَر إلى استخدامه للتوغل شمالًا. تفقَّدتُ الخريطة، ورأيتُ أن خطَّ القطار ينعطفُ عن الساحل متجهًا شمالًا، وتوصَّلتُ إلى أن المكان الذي يجب أن أقصدَه هو الساحل، جنوب نقطة الانحراف؛ حيث سأنتظر أن يُحالفَني الحظ وتُرسِل لي السماء قاربًا من القوارب. كنتُ مُتيقنًا أنَّ كل حمَّالٍ وناظرِ محطةٍ في هذه المنظومة السيئة الإدارة مُتحمِّسٌ للتعرُّف عن قُرب على شخصي المتواضع.
تناولتُ الشطائر التي أعدَّها لي آل برودبيري في وجبة الغَداء، ثم شقَقتُ طريقي إلى أسفل التل تحت شمس الظهيرة الساطعة، حتى وصلتُ إلى بحيرةٍ عذبةٍ صغيرة، يخرج منها جدولٌ حاذَيتُه عَبْر غاباتِ أشجارِ البُندقِ المليئة بالذباب الصغير إلى أن وصلتُ إلى نقطة التقائه مع البحر. كان الطريق شاقًّا، لكن في غاية الروعة، وعُدتُ إلى المزاج الرائق نفسه لصباح الأمس. لم أرَ أحدًا. في بعض الأحيان كان غزال يحمور أوروبي ينبثق من مَخبئه أو يُفاجئني طيهوجٌ أسودُ عجوز بلسانه السليط. تلألأ المكان بأعشابِ الخلنج التي كانت لا تزال في بداية تفتُّحها وتفوحُ منها رائحةٌ أذكى من رائحةِ عُشبة المر العربية. كان الوادي الصغير بديعًا، وكنتُ في أوْجِ سعادتي حتى بدأ الجوع ينهشُني، وأدركتُ أن الله وحدَه يعلم متى سأحصل على طعامٍ مرةً أخرى. كان لا يزال لديَّ بعض الشكولاتة والبسكويت لكني رغبتُ في تناوُلِ وجبةٍ مشبعة.
تبيَّن أن المسافةَ أكبرُ مما ظنَنتُ، ووصَلتُ إلى الساحل بعد غروب الشمس. وجدتُ الساحلَ مكشوفًا ومُقفِرًا — مجرد أكوامٍ عظيمةٍ من الحصى محفوفةٍ بأشجارِ جارِ الماءِ والبندقِ الشاردة من التل. لكن فيما كنتُ أتقدَّم شمالًا، وأدورُ حولَ لسانٍ صغير، رأيتُ عند منعطَف الخليج كوخًا تتصاعد منه أعمدةُ دخان. كان هناك رجلٌ منحَني الظهر يجُر رجلَيه بمحاذاةِ حافةِ الماءِ حاملًا الشباك ومصائدَ الكركند. ورأيتُ أيضًا قاربًا راسيًّا على الشاطئ الحصَوي.
أسرعتُ الخُطى حتى أدركتُ الصيَّاد. كان رجلًا عجوزًا ذا لحيةٍ رماديةٍ غيرِ مُتناسقة، ويرتدي حذاءَ بحَّارٍ وقميصًا صوفيًّا أزرقَ مُرتَّقًا. لاحظتُ أنه أصمُّ إذ لم يسمعني عندما ألقيتُ عليه التحية. وعندما رآني، لم يتوقَّف عن السير، غير أنه ردَّ التحية برصانةٍ بالغة. مشيتُ معه، حَذْو النعل بالنعل، ووصَلْنا إلى الكوخ صامتَين.
توقف الصيَّاد أمام الباب وأراح ظهرَه من أعبائه. كان كوخًا ذا غرفتَين، وسقفٍ من القش، وجُدرانٍ يُغَطيها نباتٌ مُتسلقٌ أصفرُ الزهر. اعتدَل العجوزُ واقفًا، وجال ببصره في البحر والسماء، كأنه يُحاول التنبؤ بالطقس. ثم عاد إليَّ بعينَيه المستغرقتَين الرقيقتَين. وقال: «ينتظرنا طقسٌ عليلٌ يا سيدي. هل تبحثُ عن مكانٍ ما؟»
أجبتُ: «أبحث عن مكانٍ للمبيت. سِرتُ مسافةً طويلةً في التلال وأطمعُ في الاستراحة قليلًا.»
ردَّ الصيَّاد بصرامة: «ليس لدَينا مكانٌ للمبيت لرجلٍ نبيل.»
قلتُ: «لا أمانع في النوم على الأرض إن وفَّرتَ لي غطاءً ووجبةَ عشاء.»
ابتسَم الرجل ببطء: «كلَّا لن تنام على الأرض. دَعْني استشِر زوجتي. تعالِي يا ماري!»
ظهرت امرأةٌ عجوزٌ استجابةً لندائه، وبدا وجهُها طاعنًا في السنِّ كأنها أُمُّه لا زوجتُه. في المرتفعات تشيخ النساء بوتيرةٍ أسرعَ من الرجال.
قال الزوج: «هذا الرجلُ النبيلُ يريد المبيتَ عندنا الليلة. أخبرتُه أن منزلنا صغيرٌ فقيرٌ لكنه قال إنه لا بأس في ذلك.»
نظرَتِ المرأة إليَّ بأدبٍ مُتحفِّظ لا تجده إلا في أهل المناطق النائية.
قالت: «سنبذلُ أفضلَ ما لدَينا يا سيدي. يمكن أن ينام السيدُ النبيلُ في فِراش كولن في العليَّة لكن عليه أن يتناوَل طعامَنا البسيط. العَشاء جاهزٌ إذا دخلتَ الآن.»
نظَّفتُ جسدي بقطعةِ صابونٍ صفراءَ في الجدول المُجاوِر، ثم دخلتُ المطبخَ الذي انبعثَت منه أبخرةُ الخث المحترق الكريهة. تناولنا سمكًا مسلوقًا، وكعكَ الشوفان، وجبنًا منزوع الدسم، مع الشايِ القويِّ لاستساغة الطعام. أظهَر الزوجانِ أخلاقَ الأمراء. كانا يحثَّانني على تناوُل الطعام ولم يُوجِّها إليَّ أيَّ أسئلةٍ حتى اضطُرِرتُ إلى اختلاق قصة، والتعريف عن نفسي من باب الأدب المحض.
علمتُ أن لدَيهما ابنًا يخدم في فوج الأرجيل وصبيًّا صغيرًا في البحرية. لكن بدا أنهما يتجنَّبان الحديثَ عنهما أو عن الحرب. وبالصدفة توصَّلتُ إلى الأمر الذي يستحوذ على اهتمام الرجل العجوز. كان مولَعًا بالأرض. وشاركَ في نزاعاتٍ طواها النسيان، وتعرَّض للطرد في نزاعٍ قديمٍ مع مُلَّاك الأراضي في أقصى الشمال. وعلى الفور أفضى إليَّ بكل مخاوفِ المزارعين الصغار — مخاوف بدت عتيقةً ومنسية، فاستمعتُ إليه كما يستمع المرء إلى أغنيةٍ قديمة. ظل يكرِّر: «لم تسمع عن هذه الأمور لأنك أجنبيٌّ عن البلاد»، لكني أصغيتُ إليه، أمام الخثِّ المُشتعِل، لأعوِّض ما فاتني من معرفة. أخبرَني عن عمليات الطرد التي حدثَت في الماضي. حكى لي عن عمليةِ طردٍ وقعَت في مكانٍ ما بمُقاطعة ساذرلاند وعن المعاملة السيئة التي تلقَّاها المزارِعون الصغار في الجُزُر الخارجية. كان الأمر أكثر من مجرَّد ضغينةٍ سياسية. كان يَرثي الأيام الخوالي والأخلاقَ المنسيةَ للمحافظين. قال: «في الماضي كانت أراضي سكاي خِصبةً يرعى فيها البقرُ الأسودُ وكان جميعُ المزارعين يخرُجون بقُطعانهم الصغيرة إلى منحدَر التل. لكن قال الإقطاعيون إن الأراضي أنسبُ لرعي الغنم، ثم قالوا إنها لا تُناسِب الغنم؛ لذا خصَّصوها للغزلان، حتى لم يعُد هناك أيُّ بقرٍ على جزيرة سكاي.» وأنا أستمع إلى العجوز شعَرتُ أنني أنصِت إلى عزفِ موسيقى حزينة بمزمارِ القربة. الحربُ وما شابهها من الأمور المعاصرة لا تعني له أيَّ شيء؛ كان يعيش وسط مآسي فترةِ شبابِه وفتوَّتِه.
أنا من حزب المحافظين، وأدعم سياساتِ الإصلاح الزراعي؛ لذا توافَقْنا جيدًا. انسجَمْنا حتى حصلتُ على ما أريده دون أن أطلبه. أخبرتُ العجوز أنني سأذهب إلى سكاي، فعرض أن يُوصلَني بقاربه إلى الجزيرة في الصباح. قال: «لن أتكبَّد أي عَناء. صدِّقني. سأذهب إلى هناك للصيد.»
أخبرتُه أنه بعدَ أن تضعَ الحربُ أوزارها لا بد أن يستغل البريطانيون كل شبر من الأرض التي استردُّوها بدمائهم. لكن لم تطِب نفسُه بهذا الحديث. فلم يكترث بالأرض بل بالمزارعين الذين أُجلوا عنها منذ خمسين عامًا. لم يرغب في الإصلاح، بل في ردِّ الحقوق إلى أصحابها، وهذا ما لا تقدر عليه أيُّ حكومةٍ من الحكومات. ذهبتُ إلى فراشي في العليَّة، منشغلًا بكلام العجوز في حزن، وتأملتُ أننا في خِضَم التحوُّل إلى آلاتِ الحرثِ الحديثةِ نسينا أننا سنهدم الكثير من تلال حيوان الخُلد، وكم كانت حياةُ حيوان الخُلد نافعةً ولا بديل لها.
انطلقنا إلى جزيرة سكاي في صباحٍ مشمسٍ عليل فيما تهبُّ الرياح من الجنوب الشرقي. وامتد أمامنا صفٌّ بنيٌّ من التلال المُنخفضة، وخلفه ناحيةَ الشمال قليلًا سلسلةٌ من التلال السوداء المتعرِّجة، التي رأيتُها أول أمس من فوق الحافة الجبلية في قرية أريسيج.
قال الصيَّاد: «هذه هي تلالُ كويلن. إنها منطقةٌ وَعْرة لا تستطيع حتى الغزلان دخولها. لكن بقية الجزيرة كان فيما مضى مراعيَ خصبةً للبقر.»
فيما كنا نقترِب من الساحل، أشار العجوز إلى عدة أماكن. قال: «انظر إلى ذلك الوادي الصغير. كنتُ أرى حوله ستة أكواخ كانت تنبضُ بالحياة فيما مضى، لكنها اختفت جميعًا الآن. كان لديَّ ثلاثةُ أقارب يمتلكون مزارعَ صغيرةً في الأراضي المُنبسطة هناك، ولو ذهبتَ إليها فلن تجد سوى بقايا بساتينهم. ستستدل على المكان من أشجارِ الكرز.»
أنزلني الصيَّاد على الشاطئ، بين التلال الخضراء المُغطَّاة بنباتات السرخس دون أن يتوقَّف حديثُه عن الماضي. أقنعتُه أن يأخذ جنيهًا، رسوم النقل بالقارب لا المبيت في بيته؛ إذ لم أجرؤ على عرض الثاني وإلا لضربني بمجذافه. وصلتُ إلى قمة التل، والتفتُّ ورائي، ورأيتُ الصيَّاد، لآخِر مرة، واقفًا في مكانه يتأمَّل الأراضيَ المهجورةَ التي كانت زاخرةً فيما مضى بمساكن المزارعين.
سِرتُ بمحاذاة الحافة الجبلية لبعض الوقت، على يميني مضيقُ سليت، الذي امتدَّت خلفَه تلالُ شِبه جزيرتَي كنويدارت وكينتيل. بحثتُ بنظري عن السفينة توبرموري، لكني لم أرَ لها أيَّ أثَر. خرجَت سفينةٌ من ميناء ماليج، ورأيتُ العديد من سفن الصيد تشُق طريقَها عَبْر القناة ببطء، كما لمحتُ رايةً بيضاء وسفينةً حربية تندفعُ ناحيةَ الشمالِ بسرعةٍ تاركةً سحابةً من الدخان الأسود في أعقابها. تفقَّدتُ الخريطة، ثم توغَّلتُ في الريف ملازمًا الأراضيَ المرتفعة، غير أني لم أعُد أستطيعُ رؤيةَ البحر إلا لفتراتٍ وجيزة. توصَّلتُ إلى أن مهمَّتي هي الوصولُ إلى حيِّز جزيرة رانا في أقربِ وقتٍ ممكن.
فور أن غيَّرتُ وجهتي، لم يعُد لي رفيقٌ سوى جبال كويلن. لطالما كنتُ مولعًا بالجبال، يأسرني سوادُ وغموضُ قِمَمها القاتمة. نسيتُ كلَّ ما يتعلق بنُزُل «فوس مانر» وكوتسوولدز. كما نسيتُ ذلك الشعور الذي طاردَني منذ أن غادرتُ جلاسكو الذي يتعلق بعبثية المهمة الواقعة على عاتقي. فقد بدا كل ذلك عصيًّا على التصديق وغريبًا. لم يبدُ أن هناك خطرًا كبيرًا على حياتي، لكني خشيتُ دائمًا دهاءَ بلنكيرون وألا يكون الأمر سوى محضِ وهم. لكن غيَّرَت الجبالُ السوداءُ نظرتي. بدأ يتسلَّل إليَّ شعورٌ غريبٌ أن هذا هو المكان المنشود، وأنه قد يُخفي في طيَّاته شيئًا ما في غاية الخطورة. أتذكَّر أنني جلستُ على القمة، نصف ساعة، أُمشِّط التلال بمنظاري. تبيَّنتُ أجرافًا بشعةً وأوديةً صغيرةً يكسوها سوادٌ عتيق. وحينما كانت أشعة الشمس تسقط على هذه القمم — إذ كان الجو غائمًا — لم تكن تعكسُ أي ألوان وإنما ظِلها بدرجاتٍ متفاوتة. كل الجبال التي رأيتُها مثل جبال كدراكنزبرج، وتلال دامارالاند الحمراء، والقمم البيضاء الباردة حول أرضروم لم تبدُ مخيفةً غامضةً مثل هذه.
وللغرابة أيضًا ذكَّرني منظرُ تلك الجبال بأفري. للوهلة الأولى بدا أنه لا صِلة بين شخصٍ قليل الحركة، هادئ البال، يتنقَّل بين القصور وقاعات المحاضرات، وبين المنحدَرات الشديدة الوعورة. لكن داخلي، أحسستُ بهذه الصلة، إذ بدأتُ أدرك خطورةَ خصمي. وقد أخبَرَني بلنكيرون من قبلُ أن لأفري شبكةً كبيرةً من العملاء. ولم يكن مُستغربًا نفوذُه بين الشباب الأحمق في بيجلزويك، والمجتمعات المناصرة للسلام، وحتى الرجال الأشداء في كلايد. فلا أجد صعوبةً في تصوُّر تأثيره في تلك المجتمعات. لكن حقيقة إجرائه لأنشطته في تلك المنحدرات السوداء الغامضة جعلَته مخيفًا وخطرًا يمثل تحديًا من نوعٍ مختلفٍ تمامًا. لم تضايقني تلك الفكرة؛ إذ إنني ما شكَوتُ في الأسابيع الماضية إلا لأنني أُبعِدتُ عما أبرع فيه، وها قد عُدتُ إلى ملعبي. دائمًا ما كنتُ أشعُر أنني أليقُ بقاطعِ طريقٍ من رجلِ تحرٍّ. لكن امتزج شعوري بالرضا بالانبهار. راودَني تجاه أفري ذلك الشعورُ الذي راوَدَني حيالَ شياطينِ عصابة «بلاك ستون» الثلاثة الذين طاردوني قبل الحرب، بطريقةٍ لم أشعر بها تجاه جنديٍّ ألماني من قبلُ. فالذين حاربناهم على الجبهة، والجنود الذين قابلتُهم في مهمة «العباءة الخضراء» وحتى العجوز شتوم مجرمون لا يخلون من صفات الإنسانية. كانوا مُخيفين لكن لا يزالُ بوسعك قياسُ وتقديرُ قدراتهم البشرية. أما أفري فكان مثل الغاز السام، يعلقُ في الهواء ويتسربُ إلى الشقوق غير المتوقَّعة، ولا يمكنك محاربتُه دون حيلة أو مكيدة. حتى ذلك الوقت، وعلى الرغم من جدية بلنكيرون، كنتُ أعتبر أفري مجرَّد مشكلة. لكنني صرتُ أراه عدوًّا قريبًا، موجودًا في كل مكان، وغامضًا كروحٍ شريرةٍ في منزلٍ مسكون. وأنا أجلس على قمة الجبل التي تغمُرها أشعةُ الشمس وتُحاوِطني الرياح القادمة من البحر ونداء طيور الكروان، شعَرتُ بالقُشَعريرة من مجرد التفكير في أفري.
يؤسِفني الاعترافُ أنني شعَرتُ أيضًا بالجوع الشديد. ثمَّة شيءٌ ما في الحرب يُصيبني بالشره، وكلما ندر الطعام ازدادت حاجتي إليه. لو أنني في لندن، ولديَّ عشرون مطعمًا تحت إمرتي، لربما فقدتُ الشهية. هكذا هي مَعِدتي عنيدة. كان لا يزال معي بعض الشكولاتة، وتناولتُ فطائر الزبدة التي أعطاها لي الصياد على الغداء، لكن سرعان ما انشغلَت أفكاري بمعدتي الفارغة قبل حلول المساء بفترةٍ طويلة.
قضيتُ الليل في كوخٍ لأحد الرعاة يبعُد عن العمران مسافةً طويلة. اسم الرجل هو ماكموران، وقد قَدِم من مدينة جالاواي في وقتِ انتعاشِ تجارة الغنم. بدا الرجل عبارةً عن محاكاةٍ مثاليةٍ للهمج بشعره الأحمر وعينَيه الحمراوَين، ويبدو كأحد أفراد جماعة البيكت. وكان يعيش مع ابنته، التي عملَت خادمةً في جلاسكو في زمنٍ من الأزمنة، وهي شابةٌ بدينةٌ ذات وجهٍ مليءٍ بالنمش، تبدو عليه أماراتُ العبوس غائرةً من فرط العبوس. ولا غرابة في ذلك فقد كان الكوخ في غاية الرداءة. وفاحت منه رائحةُ الخث المُحترق الكريهة قويةً إلى حدٍّ يجعلها تُسبِّب احتقان الحلق والعينَين. كما كان مُتداعيًا، ولا بد أنه كان مثل المصفاة، تتسرَّب مياه الأمطار إلى داخله أثناء هبوب العواصف. بدا الأب نكدًا، وكان حديثُه عباره عن تذمُّرٍ طويلٍ من العالم وارتفاعِ الأسعار وصعوبةِ نقل غنمه وسوءِ معاملةِ سيده وطبيعةِ سكاي المعزولة. قال: «ها أنا ذا لم أذُق الخبز منذ شهر، ولا أحظى إلا بمرافقة حفنةٍ من سكان المرتفعات الجهلاء الذين يتحدَّثون الغيلية. ليتني أعود إلى قرية جلينكينز. لو حصَلتُ على مُستحقَّاتي المالية فسأرحل من هنا في الصباح.»
لكن الراعي قدَّم لي العَشاء، وهو عبارةٌ عن لحمٍ فاسدٍ وكعكةٍ من الشوفان، اشتريتُ ما تبقَّى منهما لأتناوَلَه في اليوم التالي. لم أثِق بأغطيةِ الراعي؛ لذا نمتُ بجوار المدفأة، في مُتَّكأ مُتهالك، واستيقظتُ عند الفجر بمذاقٍ كريهٍ في فمي. اغتسلتُ في الجدول، فشعَرتُ بالانتعاش من جديد، وبعد تناوُل وعاءٍ من عصيدة الشوفان، واصلتُ رحلتي. كنتُ أتحرَّق شوقًا للوصول إلى أي قمةٍ جبليةٍ تُطِل على جزيرة رانا.
قبل أن ينتصف النهار، كنتُ قد اقتربتُ من الجزء الشرقي لتلال كويلن، عَبْر طريقٍ وَعْرٍ للغاية. وسرعان ما رأيتُ منزلًا كبيرًا أمامي يُشبه النُّزُل، فقرَّرتُ الابتعادَ عنه، وقطعتُ الطريقَ السريعَ المؤدي إليه مُتجهًا إلى الشمال. ثم انحرفتُ شرقًا، وكِدتُ أن أتسلَّق تلةً قدَّرتُ أنها تفصل بيني وبين البحر عندما سمعتُ صريرَ عَجلاتٍ في الطريق، فنظرتُ خلفي.
وجدتُ أنها عربةٌ صغيرة تحمل شخصًا واحدًا على متنها. كنتُ أبتعِد عن العرَبة مسافةَ نصف ميلٍ، لكن ثمَّة شيءٌ ما في هيئة الرجل جعله يبدو مألوفًا بالنسبة إليَّ. صوَّبتُ منظاري المُعظم إليه، ووجدتُه قويَّ البنية قصيرَ القامة، يرتدي معطفًا واقيًا من المطر، ويلفُّ وشاحًا صوفيًّا حول رقبته. وفيما كنتُ أراقبه، حرَّك يده وكأنما ليحكَّ أنفه في كمِّ معطفه. كانت تلك هي عادة شخصٍ بعينه. تسلَّلتُ مختبئًا خلف نباتات الخلنج الطويلة كي أسبقَ العربةَ إلى الطريق. وبرَزتُ من جانب الطريق مثل الشبح، فأجفل الخيلُ لا السائق.
قال صوتُ آيموس: «أنت هُنا إذن. لديَّ أخبارٌ لك. لا بد أن توبرموري وصلَت إلى جزيرة رانا الآن. فقد اجتازت قرية برودفورد منذ ساعتَين. ما إن رأيتُها، حتى شددتُ الرحال، وقدِمتُ على أمل لقائك.»
سألتُ مندهشًا: «كيف اهتديتَ إلى مكاني بحق السماء؟»
أجاب: «أوه، أدركتُ كيف تفكِّر من البرقية التي أرسلتَها. وقلتُ لنفسي إن براند رجلٌ لا يُقهَر بسهولة. لكنني خشيتُ أن تتأخر مسافةَ يوم؛ لذا قَدِمتُ للسيطرة على الموقف في غيابك. أنا سعيدٌ برؤيتك يا رجل. أنتَ أصغرُ سنًّا وأكثرُ رشاقةً مني، وجريسون فتًى مثيرٌ للمتاعب.»
قلتُ: «هناك خدمةٌ واحدةٌ أريد أن تُسديَها إليَّ. لا أستطيع دخول النُّزُل والمتاجر لأسُدَّ جوعي. وفقًا للخريطة هناك بلدةٌ على بُعد ستة أميال. اذهب إلى هناك واشترِ أي طعامٍ معلَّب من البسكويت واللحم والسردين بالإضافة إلى بضع زجاجاتٍ من الويسكي إن استطَعتَ. قد تطول هذه الرحلة، فابتَعِ الكثير.»
كان سؤاله الوحيد: «أين سأضع الطعام؟»
اتفقنا على مخبأ، على بُعْد مائةِ ياردةٍ من الطريق الرئيسي؛ حيث تقترب سلسلتان جبليتان من بعضهما وتحجُبان الرؤية، فلا يكشفان إلا مساحةً صغيرةً من الطريق.
قال: «سأعود إلى قرية كايل، ولو وجدتَ طريقة لإرسال رسالة أو الحضور بنفسك، فسيدُلُّونك على مكاني. أوه، وأحمل إليك رسالةً من السيدة. قالت إنه كلما عُدتَ إلى «سوق الأباطيل» أبكر كان أفضل شرط أن تجتاز «جبل الصعوبة».»
ارتسمَت ابتسامةٌ على وجه آيموس المليء بالتجاعيد، وضرب الفرسَ بسوطه استعدادًا للرحيل. ظننتُ أن رسالة ماري تحثُّني على الإسراع لكن ما باليد حيلة. يتوقَّف ذلك على جريسون. شعَرتُ بالقليل من الانزعاج، حتى أطربتُ خاطري بترجمةٍ أخرى للرسالة. قلتُ في نفسي إنها قد تكون قلقةً بشأن سلامتي وتريد رؤيتي مرةً أخرى؛ فمجرَّد إرسال الرسالة يعني أنها تكترثُ لأمري. استغرقتُ في ذلك الحُلْم الجميل، فيما كنتُ أصعد التل مستفيدًا من الغِطاء الذي تمنحه الأخاديد الكثيرة. وصلتُ إلى القمة، ونظرتُ إلى جزيرة رانا والبحر بالأسفل.
رأيتُ السفينة توبرموري وقد رسَت في الميناء تُفرغُ حمولتَها. وحتمًا لن يتمكَّن جريسون من الرحيل على الفور. لم أرَ أي زورقٍ في القناة؛ لذا قد أُضطَر إلى الانتظار لساعاتٍ طويلة. جلستُ بين صخرتَين بعيدًا عن الأنظار، لكن كنتُ أرى البحر والساحل بوضوح. وسرعان ما اكتشفتُ حاجتي إلى أعشاب الخلنج، كي أجلس عليها، فنهضتُ من مكاني لأجمع بعضها. ما إن رفعتُ رأسي حتى خفضتُه على الفور. فقد أدركتُ أن لي جارًا على القمة القريبة.
كان الرجل على بُعد مائتَي ياردة تقريبًا، قاب قوسَين أو أدنى من القمة، يسير دون أن يخشى اكتشافَه على عكسي. رأيت عينَيه منصبَّتَين على جزيرة رانا؛ لذا لم يلحظ وجودي، وانتهزتُ الفرصة كي أتفحَّصَه بإمعان من مخبئي. بدا رجلًا ريفيًّا عاديًّا، يرتدي سروالًا فضفاضًا يصل إلى الركبة، من النوع الذي يرتديه أدلَّة الصيد في العادة. كانت ملامحُه تُشبه ملامحَ يهود البرتغال، لكني رأيتُها من قبلُ في أهل المرتفعات؛ قد يكونون يهودًا وقد يكونون لا، لكنهم يتحدثون اللغة الغيلية. فجأةً اختَفى الرجل. لا بد أنه سار على نهجي وبحث عن مخبأٍ يختبئ فيه.
كان الجوُّ حارًّا والسماءُ صافية لكنه استحال عليلًا في ذلك المكان الجيد التهوية. انبعثَت روائحُ عطرةٌ من البحر، وكانت نباتات الخلنج دافئةً وعبقة، والنحل يحلِّق في الأجواء، فيما مشَّطَت طيور النورس الحافة الجبلية بأجنحتِها. كنتُ أتفقد جاري بين الحين والآخر، لكنه لم يخرُج من مخبئه. ركَّزتُ منظاري على الجزيرة معظم الوقت، وراقبتُ تحركاتِ سفينةِ توبرموري. كانت المرساة في البحر، وبدت السفينةُ غيرَ متعجِّلة في إفراغ حمولتها. شاهدتُ ربَّان السفينة ينزل على الرصيف، ويسير إلى منزلٍ على منحدَر التل. مشى بعضُ العاطلين إلى السفينة بخطواتٍ متئدة، ثم توقفوا وأشعلوا السجائر بالقرب منها. عاد ربَّان السفينة ثم رحل مرةً أخرى. ظهر رجلٌ يحمل أوراقًا في يده، وامرأةٌ تُمسِك ما يشبه البرقية. خرج مساعد الربَّان إلى اليابسة مرتديًا أفضل ملابسه. في نهاية المطاف، ظهر جريسون بعد منتصف الظهيرة. وانضَم إلى الربَّان في مكتب مدير الرصيف، قبل أن يظهر على الجانب الآخر من الرصيف حيث ترسُو القواربُ الصغيرة. قَدِم رجلٌ من سفينة توبرموري استجابةً لندائه، وانطلَق قاربٌ وبدأ يشُق طريقَه في القناة. جلس جريسون في مؤخرة القارب يتناول غَداءه بمزاجٍ رائق.
راقبتُ عملية العبور بانتباهٍ شديد، أشعُر بالغبطة فيما تبيَّن صحةُ تخميني. وفي منتصف الطريق تقريبًا، تناول جريسون المجاذيف، لكنه سرعان ما سلَّمها إلى أحد أفراد طاقم سفينة توبرموري، وأشعل غَليونًا. بعد ذلك، أخرج من جيبه منظارًا مُعظمًا ليتفقَّد منحدَر التل حيث اختبأتُ. حاولتُ التأكد من تبادُله الإشارات مع الشخص الآخر، لكن ظلت الأجواء ساكنة. على الفور، توارى القارب عن الأنظار، واحتجب خلف جزءٍ ناتئٍ من التل، ثم تناهَى إلى مسامعي صوتُ احتكاكِه بالشاطئ.
بخلاف جاري، وجد جريسون صعوبةً في صعود التل. واستغرق ما يقرُبُ من ساعة في الوصول إلى قمته، قبل أن يتوقف عند نقطةٍ لا تبعُد أكثر من ياردتَين عن مخبئي. خمَّنتُ من أنفاسه المتسارعة أنه في غاية الإنهاك. ثم سار على القمة مباشرة، حتى توارى عن جزيرة رانا، وألقى بنفسه على الأرض. وصار على بُعد خمسين ياردةً من موضعي؛ لذا تحركتُ من مكاني لتقليل المسافة الفاصلة بيننا. كان يُحيط بالجانب الشمالي من التل خندق معشوشب عميق تكتنفه نباتات خلنج كثيفة. سرت في الخندق، إلى أن أصبحتُ على بُعد اثنتَي عشرةَ ياردةً من جريسون، ثم لم يعُد بإمكاني التقدم إذ وصلتُ إلى نهاية الخندق. استرقتُ النظر من مخبئي فرأيتُ الرجل الآخر ينضم إلى جريسون ثم تعانق الغبيَّان.
لم أجرؤ على التقدم قيدَ أنملة، وانخرط الرجلان في الحديث بصوتٍ منخفض، فلم أسمع شيئًا ممَّا قالاه. ما سمعتُ إلا عبارةً واحدةً كرَّرَها الرجل الغريب مرتَين بنبرة تأكيد. قال: «ليلة الغد»، ولاحظتُ أن نبرته لا تُشبه نبرة سكان المرتفعات التي توقَّعتُ سماعها. أومأ جريسون، ونظر إلى ساعته، ثم بدأ الاثنان يهبطان التل، قاصدَين الطريق الذي سافرتُ خلاله هذا الصباح.
مشيتُ في إثرهما قَدْر الإمكان، عَبْر جدولٍ ضحلٍ جافٍّ اتخذَتْه الغنم مسارًا لها؛ إذ حافظ على بقائي على مستوًى منخفضٍ من المرج. قادني الجدولُ أسفل التل، لكن بعيدًا عن المسار الذي اتخذه الرجلان، وفي كثيرٍ من الأحيان كنتُ أُضطَر إلى استطلاع محيطي لتبيُّن تحركاتهما. كانا لا يزالان على بُعد ربع ميل أو ما شابَه من الطريق عندما توقَّفا وحملقا أمامهما. في ذلك الطريق المُوحش يندُر وجود المسافرين، وما استوقفهما كان عبارة عن عربةٍ صغيرةٍ يقودها عجوزٌ قويُّ البنية، يضع وشاحًا صوفيًّا حول عنقه.
كانت لحظةً عصيبة، وفكَّرتُ أنه لو تعرَّف جريسون على آيموس، فقد يُصَاب بالذعر. وربما شاركَني السائقُ مخاوفي؛ إذ تظاهر أنه في غاية السُّكر. رأيتُه يُلَوِّح بسوطه، ويُحرك زمامَ الفَرس بحركاتٍ مباغتة، ويُحاول أن يُغَني. ثم نظر ناحيةَ الشخصَين الواقفَين عند منحدر التل وتفوَّه بشيءٍ ما بصوتٍ عالٍ. تفادت العربةُ الخندقَ بأعجوبة قبل أن تُطلِقَ الفرسُ سيقانها للريح، فتنفَّستُ الصُّعَداء. ترنَّحَت العربة، مثل سفينة في ريحٍ عاصفة، وتوارت خلف التل، عند مخبأ مؤني. لو تمكَّن آيموس من إيقاف الفرس ووضع المؤن، فسيكون قد قدَّم عرضًا هزليًّا بارعًا.
أثار هذا العرضُ الهزليُّ ضحك الرجلَين قبل أن يفترقا. عاد جريسون من حيث أتى وصَعِد التل. أما الرجل الآخر — الذي لقَّبتُه في رأسي باليهودي البرتغالي — فسار بخطواتٍ سريعةٍ ناحيةَ الغرب، واجتاز الطريق، ثم سار عَبْر رقعةِ أرضٍ مُستنقعيةٍ قاصدًا أقصى شمال تلال كويلن. كانت لدَيه مهمة، يعلمها جريسون وحده، وبدا في غاية العَجلة لتنفيذها. وكان عليَّ مطاردته بلا شك.
أنهكَتْني فترة الظهيرة. راح الرجل يقطع المرج بسرعةٍ مثل الغزلان، وتركَني ألهَث خلفه في طقس أغسطس الحار. اضطُرِرتُ إلى الحفاظ على مسافةٍ بيننا، والاختباء قَدْر الإمكان، خشيةَ أن يُبصرني إن التفتُّ خلفه؛ وهذا يعني أني كنتُ أضطَر إلى أن أضاعِف سرعتي عندما يعبُر حافةً جبلية، حتى لا يبتعدَ عن مرمى بصري، وأن أسلكَ مساراتٍ ملتفةً عندما نكون في منقطة خلاء، حتى لا يكتشف وجودي. وفي نهاية المطاف، سلكنا طريقًا يمُر عَبْر دربٍ مستوٍ يلتفُّ حول المحيط الجانبي للجبال، وتابعنا السير فيه حتى وصلنا إلى الجانب الغربي، وأصبح البحر على مرمى أبصارنا. في ذلك المكان، كان الجو بديعًا، ورأيتُ أشرعةً ساحرةً تتمايل في المياه الزرقاء، والنسائم العليلة تُحدِث أمواجًا صغيرةً في المياه الهادئة، فيما كنتُ أشعُّ حرارةً مثل موقد. لحُسن الحظ كنتُ أتمتع بلياقةٍ عالية؛ فقد كنتُ في حاجةٍ ماسةٍ إليها. إذ كان اليهودي البرتغالي يقطع هذه الأراضي الوَعْرة بمقدار ستة أميال في الساعة حسب تقديري، وبوتيرة ثابتة.
في حوالي الساعة الخامسة، وصلنا إلى منطقة لم أجرؤ على ملاحقة اليهودي فيها. وهي طريقٌ مستوٍ يُحاذي الساحل منكشفًا لمسافةِ عدة أميال. والأهم من ذلك أن الرجل بدأ يتلفَّت حوله بين الحين والآخر. لا بدَّ أنه يقترِب من شيءٍ ما لذا فإنه يريد التأكد من خُلُو المكان من العابرين. تركتُ هذا الطريق، وفقًا للمُستجدَّات، ولزمتُ منحدَر تلٍّ كان لسوء حظي مكونًا من ركام الصخور والحجارة المتدحرِجة. رأيته يختفي خلف تلٍّ، بدا أنه حافةُ خليجٍ صغير، ينحدر إليه أحدُ أكبر التجاويف الجبلية. وأظن أنه قد مضى ما يقرُب من نصفِ ساعةٍ قبل أن أصل إلى هذه المنطقة من فوق منحدَر التل الذي ازدادت وعورته. نظرتُ إلى الوادي الصغير لكن الرجل قد اختفى.
لا يمكن أن يكون قد اجتاز الوادي؛ إذ تبيَّن أنه أوسعُ مما تخيَّلت. على بُعد نصف ميل من الشاطئ، انحدَرَت حلقةٌ من الأجراف السوداء، مُحتضنة جدولًا واسعًا؛ تشكَّل من بركٍ ضحلةٍ عند مستوى البحر، وسلسلةٍ من الشلالات المُتدفقة من علٍ. اختفى الرجل في الأرض مثل حيوان الغرير، ولم أجرؤ على التحرك شبرًا واحدًا، تحسبًا أن يكون منشغلًا بمُراقبتي من خلف إحدى الصخور الكبيرة.
لكن بينما كنتُ أقف مترددًا، ظهر مرةً أخرى، وهو يعبُر الجدول موجهًا بصَرَه صوبَ الطريق الذي أتينا منه. لقد أنجز مهمَّته أيًّا كانت، وهو الآن يتعجَّل العودةَ إلى سيده بالأخبار. لوهلةٍ فكَّرتُ في ملاحقته، لكن تملَّكَني حدْسٌ آخر. هذا الرجلُ لم يأتِ للبراري لتأمُّل الطبيعة. في مكانٍ ما، جنوب الوادي، لا بد أن هناك شيئًا أو شخصًا ما يمتلك مفتاحَ حلِّ هذا اللُّغز. وارتأيتُ البقاء هناك إلى أن أُجليَ الغموض. كما أن الظلام سيسود في غضونِ ساعتَين، وقد بلغ منِّي التعبُ مبلغَه من طول السير.
سِرتُ إلى الجدول، وارتويتُ منه. خلفي، استضاء التجويفُ الجبليُّ بشمس المغيب، وتوهَّجَت الأجرافُ الجرداءُ باللونَين الورديِّ والذهبي. امتدَّت أراضٍ عشبيةٌ على جانبَي الجدول مثل المروج، تبلغ مائةَ ياردةٍ تقريبًا عرضًا، متبوعة بكتلة متشابكةٍ من نباتات الخلنج الطويلة والصخور الكبيرة التي تنتهي عند حافة الصخور العظيمة. لم أشهد مساءً ساحرًا كهذا من قبل، لكني لم أستطع الاستمتاع بهدوئه، بسبب انشغالي باليهودي البرتغالي. لم يقضِ في المكان إلا نصفَ ساعة، وهي فترةٌ تكاد تكون كافيةً لأن يعبُر الجدول ويبلُغ أول حافةٍ جبليةٍ على جانبه المقابل ثم يعود أدراجه. مع ذلك تسنَّى له تنفيذُ مهمته. ربما ترك خطابًا في مكانٍ مُرتَّبٍ له مُسبقًا؛ في كل الأحوال، سأبقى هناك حتى يأتي الرجل المنشود ليأخذ الخطاب. وقد يكون التقى بشخصٍ ما لكني أرى هذا الأمر بعيدًا عن الاحتمال. فيما كنتُ أفحص المروج الشاسعة الوعرة، وأتأمَّل مُداعبة الأمواج للرمال الرمادية بلطفٍ، راودَني شعور أن مشكلةً صعبةً في انتظاري. لم يكن من المُمكن تتبُّع خطواتِ الرجلِ بسببِ شدةِ الظلام. فاضطُرِرتُ إلى تأخير هذه المهمة إلى الصباح، ودعوتُ الله ألا تمطر السماء هذه الليلة.
تناولتُ معظم لحم الشاة السقيمة وكعكة الشوفان، اللذَين أحضرتُهما من كوخ ماكموران، على العشاء. اضطُرِرتُ إلى أن أكبح نفسي بعض الشيء — نظرًا لجوعي الشديد — كي أدخر جزءًا من الطعام لفطور صباح اليوم التالي. بعد ذلك، انتزعتُ بعضًا من الخلنج والسرخس، لأصنع فِراشًا خلف صخرةٍ على رابيةٍ تُطِل على النهر. كان فِراشي مخبَّأً جيدًا لكنه يكشف المكان بأكمله؛ إذ ما جدَّ جديدٌ عند طلوع الفجر. أبقاني معطفي الواقي من المطر في غاية الدفء، وخلدتُ للنوم بعدما تناولتُ غَليونَين.
لم أنعَم بنومٍ هادئ. في البداية، قَدِم ثعلبٌ إلى فِراشي ونبَح في أذني، فاستيقظتُ لأجد نفسي وسط ظلمةٍ حالكةٍ لا تكاد تظهر فيها أي نجوم. وفي المرة التالية استيقظتُ على صوتِ هبوب رياحٍ بين التلال، لكن عندما جلستُ وأرهفتُ السمع، خُيِّل إليَّ أنني رأيتُ بصيصَ ضوءٍ بالقُرب من حافة البحر. اختفى الضوء في غضونِ لحظة، لكنه أصابني بالقلق. نهضتُ من مكاني، وتسلقتُ الصخرة إلى قِمتها، لكن كانت الأجواء ساكنة، باستثناء صوتِ عبثِ الأمواج برمال الشاطئ، وتردُّدِ نعيقِ طائرٍ ليلي بين المُنحدرات. وفي المرة الثالثة، صحوتُ فجأةً دون سبب؛ إذ لم أكن أحلُم. لقد نمتُ مئاتِ المراتِ وحدي، بجوار فرسي في المروج، ولم أعلم لاستيقاظي فجأةً إلا سببًا واحدًا، وهو وجود شخصٍ بالقُرب منِّي. فأيُّ رجلٍ يعتاد العُزلةَ يكتسب حاسةً سابعة، تُعلِن، مثل جهاز التنبيه، عن اقترابِ شخصٍ منه.
لكن لم أسمع شيئًا. ما سمعتُ إلا احتكاكًا وخشخشة في البراري لكنهما صدَرا عن الرياح والكائنات البرية الصغيرة الساكنة في التلال. قد يكون منشَؤهما ثعلبًا أو أرنبًا جبليًّا. هكذًا أقنعتُ عقلي لا حواسي، وبتُّ مُستيقظًا لساعاتٍ طويلة، مُرهفَ السمع مُستنفَر الحواس. بعد ذلك غفوتُ واستيقظتُ مع أول بشائر الفجر.
أشرقَت الشمس من خلف تلال كويلن، فتكحَّلَت التلالُ بلونٍ أسودَ كالحبر، لكن بعيدًا ناحية الغرب، تألق شريطٌ ذهبيٌّ عريضٌ على صفحة البحر. نهضتُ من مكاني ونزلتُ إلى الشاطئ. وجدتُ مصَبَّ الجدول ضحلًا، لكن عندما تحركتُ ناحية الجنوب، وصلتُ إلى قطعةٍ يحتضن فيها رأسان صغيران خليجًا. خمَّنتُ أنه وليدُ صدعٍ في صخرةٍ بركانية؛ إذ كان شديد العمق. نزعتُ ملابسي، وغطستُ في الخليج البارد اللُّجِّي، دون أن أصل إلى قاعه. سبَحتُ إلى السطح متهدِّج الأنفاس، وانطلقتُ صوب البحر؛ حيث طفتُ على ظهري وتأملتُ الجدار الجرفي الهائل. أدركتُ أن المكان الذي قضيتُ فيه الليلةَ السابقة لم يكُن إلا واحةً عشبيةً خضراءَ عند سفح تجويفٍ جبليٍّ يصعُب أن يتصوَّر العقل وجودَ أقتم منه. كان التجويفُ قاحلًا مثل دامارالاند. ولاحظتُ أيضًا شدة انحدار الأجراف عن مستوى الأرض. كما كانت هناك صدوعٌ وأخاديد، يمكن أن يتسلَّقها المرء إلى القمة، لكنها تستعصي على الجميع باستثناء مُتسلقي الجبال المحترفين.
صرتُ أشعُر بالتحسُّن، بعد أن أذهبَت السباحة آثار النُّعاس، وجفَّفتُ نفسي عَبْر الركض خلال نباتات الخلنج جيئةً وذهابًا. فجأةً لاحظتُ شيئًا ما. وجدتُ آثار أقدام عند حافة الخليج اللجي، لا تعود إليَّ؛ إذ كانت على الجانب الآخر. ورأيتُ تعرُّض الأرض المُعشوشِبة على جانب البحر للدَّعس والدَّوس في أماكن عدة، وتقطُّع بعض سيقان نباتات السرخس. وخطر لي أن صيادًا نزَل بالمكان كي يبسُط ساقَيه.
غير أن ذلك دفعَني إلى التفكير في اليهودي البرتغالي. تناولتُ آخِر ما تبقى من الطعام — وهي مُضغةٌ من لحم الشاة وقَضمةٌ من كعكة الشوفان — على الفطور ثم شَرعتُ في اقتفاءِ أثَره بدايةً من نقطة دخوله إلى الوادي. عُدتُ من حيث أتيتُ كي أستوعِبَ الاتجاهاتِ جيدًا، وبعد أن بذلتُ جهدًا مُضنيًا في البحث، عثَرتُ على آثار أقدامه. بدت واضحةً وضوحَ الشمسِ حتى الجدول؛ إذ كان يسير — أو بالأحرى يركُض — على أرضٍ يُغَطي الحصى رقعًا كثيرةً منها. بعد ذلك، لم تعُد آثارُه واضحةً كما كانت، واختفت تمامًا في الأرض الوَعْرة التي تُغَطيها نباتاتُ الخلنج أسفل المنحدرات. ما توصَّلتُ إليه يقينًا هو أن اليهودي عَبَر الجدول، وأنه نفَّذ مهمَّته أيًّا كانت في حيِّز الرقعة الوَعْرة أسفل المنحدرات.
قضيتُ صباحًا محمومًا هناك، لكن لم أجد شيئًا إلا هيكلًا عظميًّا لشاة التهمَتْها الغربانُ عن آخِرها. كانت مهمةً غيرَ مثمرة، وشعَرتُ بالاستياء الشديد. راودَني شعورٌ قبيحٌ أنني اقتفيتُ الآثار الخاطئة وأنني أهدرتُ الوقت. تمنَّيتُ لو أنَّ بيتر العجوز معي. فلدَيه القدرةُ على اقتفاءِ آثارِ الأقدامِ كرجل الأدغال، ولاستطاع تقفِّي أثَر اليهوديِّ في أكثر الأراضي وعورة. لم أتعلم قَط هذه المهارة، لأنني كنتُ أتركها للسكان الأصليين في الأيام الخوالي. أقلعتُ عن المحاولة، وجلستُ على رقعةٍ عشبيةٍ دفيئةٍ في عبوس، أدخِّن وأفكِّر في بيتر. لكن انشغَل عقلي بالتفكير في الفطور الذي تناولتُه في الخامسة فجرًا، والساعة الآن الحادية عشرة وأنا في غاية الجوع، وليس هناك ما يسُدُّ جوعَ جرادة، وسأموت جوعًا إن لم أحصُل على الإمدادات.
كانت المسافة بيني وبين مخبئي السري طويلة، لكن لم يكن هناك خيارٌ آخر. فأملي الوحيد هو الجلوس مُنتبهًا في الوادي الصغير، وقد أُضطَر إلى الانتظارِ لعدة أيام. وليس بوسعي الانتظارُ بلا طعام، ولو دفعَني ذلك إلى التخلِّي عن الحراسة لمدة ستِّ ساعات، فلا بد من المخاطرة. وهكذا، انطلقتُ في رحلتي بخطواتٍ سريعة، أشعر بالكآبة.
كان هناك طريقٌ مختصر، وفقًا للخريطة، يمتدُّ فوق ممرٍّ في السلسلة الجبلية. قرَّرتُ أن أسلكَه، لأجده ملعونًا من قِبل السماء مثل غالبية الطرق المُختصرة. لن أُسهِب في الحديث عن مشاقِّ الرحلة. فقد انزلقتُ بين ركام الصخور، وتسلَّقتُ الصدوعَ الشديدةَ الانحدار، وسِرتُ على طول حوافٍ حادةٍ كالأمواس مُعرِّضًا نفسي للمخاطر. أوشك حذائي أن يتمزَّق بسبب الصخور الشيطانية المُنقَّرة كأنها أصيبت بداء الجدري. عبرتُ الفجوة، في نهاية المطاف، ووجدتُ صعوبةً بالغةً في الانتقال من مستوًى لآخر في التجويف الجبلي المُرعب؛ إذ كنتُ أتحسَّس موضعَ قدمي إذ كنتُ أخطو فوق صخورٍ ملساءَ زلقةٍ للغاية. أخيرًا، وجدتُ نفسي بين المستنقعات في الجزء الشرقي، وبلغتُ المكان القريب من الطريق حيث مخبأ المؤن.
لم يخذلني آيموس الوفي. كانت المؤن عبارة عن بضعةِ أرغفةٍ صغيرة، وعدة عُلبٍ من الأطعمة المعلَّبة، وزجاجة ويسكي. حزمتُ السلع في معطفي الواقي جيدًا، وعلقتُها في عصاي، وانطلقتُ في طريق العودة، أفكر أنني أبدو حتمًا كصورة المسيحي على غِلاف رواية «سياحة المسيحي».
قبل الوصول إلى مقصدي كنتُ مثل المسيحي بعد أن اجتاز «جبل الصعوبة». كانت الجولة الصباحية سيئةً لكن فاقَتْها جولة الظهيرة في السوء؛ لأنني في خِضَم تعجُّلي للعودة وضجري من الجبال، سلكت الطريق الطويل مثل الأمس. خشيتُ كثيرًا أن يكشفني أحدٌ لغرابة مظهري؛ لذا تفاديتُ كل المواضع التي لا أرى فيها الطريق أمامي بوضوح. بلغ مني التعبُ مبلغَه وأنا أنحرف بين المستنقعات وركام الصخور والجداول الحجرية الطويلة. لكنني بلغتُ غايتي في النهاية، وتنفَّستُ الصُّعَداء، فيما ألقيتُ حزمة المؤن بجوار النهر؛ حيث قضيتُ ليلتي السابقة.
حظيتُ بوجبةٍ مُشبعة، وأشعلتُ غَليوني، مُغشِّيًا نفسي ذلك المزاج الهادئ الذي يلي الاستراحة بعد عناء والشبع بعد جوع. كانت الشمس تميل ناحية المغيب، وسقطَت أشعتُها على الجدار الصخري، في المكان الذي أقلعتُ فيه عن بحثي عن آثار أقدام اليهودي.
فيما كنتُ أتأمَّل المكان بذهنٍ شارد، رأيتُ شيئًا مثيرًا للانتباه.
بدا كأن هناك فلقًا في الجدار الصخري ينفُذ من خلاله شعاعٌ من ضوء الشمس. ليس ثمَّة شكٌّ في ذلك. فقد سقط طرَف الشعاع على المرجِ أسفلَه فيما توارى باقي المشهد في الظلِّ. فركتُ عينيَّ، وأخرجتُ منظاري. ثم توصَّلتُ إلى تفسير هذه الظاهرة العجيبة. لا بُد أن برجًا من الصخور تشكَّل بالقُرب من صفحة المنحدَر الرئيسي حتى إنه يتعذَّر على الناظر إلى المنحدَر مباشرةً التفريقُ بينه وبين البرج. ولا سبيل إلى اكتشاف البرج إلا بسقوط أشعَّة الشمس عليه من زاويةٍ مائلة. وبين البرج الصخري والمنحدَر كانت هناك فجوةٌ كبيرةٌ بطبيعة الحال.
لما أدركتُ ذلك هبَبتُ واقفًا وركضتُ بأقصى سرعة إلى طرَف شعاع الضوء. تركتُ نباتات الخلنج ورائي، وتسلَّقتُ ركام الحجارة بسرعة، وواجهتُ صعوبةً في اجتياز بعضِ الصخور الملساء الزلِقة، ولم يمنَعْني من الانزلاق إلا احتكاكُ التويد المصنوعة منه ملابسي بسطحِ الصخورِ الخشِن. شقَقتُ طريقي إلى بصيص الضوء رويدًا رويدًا إلى أن وجدتُ بروزًا أتشبَّث به ودفعتُ بجسَدي إلى داخل الفَلْق. وجدتُ واجهة التل، فيما قبَع البرجُ الصخريُّ البالِغ تسعين قدمًا على وجه التقريب في الجانب الآخر، وبينهما امتدَّ فلْقٌ طويلٌ عرضُه ما بين ثلاثة وستة أقدام. وكشَف الفلْقُ عن رقعةٍ صغيرةٍ متلألئةٍ من البحر.
ليس هذا كل شيء؛ فبمجرَّد ما دلفتُ إلى الصَّدع وجدتُ بروزًا علويًّا صنع تجويفًا كالمغارة، كانت منخفضةً في بدايتها ومرتفعةً قَدْر اثنتَي عشرة قدمًا في داخلها، وجافةً مثل الحطب. فكَّرتُ أن هذه المغارة هي مخبأٌ مثالي. قبل أن أغوصَ في الأعماق، قرَّرتُ أن أرجع للتزوُّد بالطعام. لم تكن عمليةُ الهبوط سهلةً على الإطلاق، بالإضافة إلى أنني انزلقتُ نحو عشرين قدمًا، إلى أن سقطتُ على رأسي على رُكام الحجارة الناعم. على جانب الجدول، ملأتُ قارورتي بالويسكي، وملأتُ جيوب معطفي الواقي من المطر بنصفِ رغيفٍ من الخبز، وعُلبة من السردين، وعُلبة من اللحم، وظرف من الشكولاتة. استغرقتُ بعضَ الوقت في الصعود إلى الكهف مرةً أخرى، نظرًا لحمولتي الثقيلة، لكن وصلتُ في النهاية، وأودعتُ مقتنياتي في الزاوية. بعد ذلك انطلقتُ لاستكشاف بقية الفلْق.
انحدرَت الأرض، ثم ارتفعَت مرةً أخرى، عند منبسطٍ صخري. بعد ذلك، انخفضَت بصورةٍ تدريجيةٍ إلى المرج القابع وراء البرج. لو أن اليهودي البرتغالي كان هُنا، فلا شك أنه سلَك هذا الطريق للوصول إلى البرج؛ إذ لن يكون لدَيه متَّسعٌ من الوقتِ لرحلةِ الصعودِ الطويلةِ التي قمتُ بها. خطوتُ بحذَرٍ شديد؛ إذ شعَرتُ أنني على وشكِ اكتشافِ شيءٍ هام. كان المنبسَط الصخري مختفيًا بشكلٍ جزئيٍّ من زاوية رؤيتي، بواسطةِ حَنيةٍ في الفلْق، كما كان محجوبًا، بشكلٍ أو آخر، بالحصن الخارجي للبرج في الجانب الآخر. كان سطح المُنبسَط مُغطًّى بغبارٍ ناعمٍ دقيقٍ مثل الطريق المتدرِّج وراءه. دفعَتْني الحماسة إلى الانحناء وفحص الغبار.
كانت هناك آثارُ أقدامٍ واضحة بما لا يدع مجالًا للشك. آنذاك، كنتُ قد حفظتُ آثار أقدام اليهودي البرتغالي عن ظهر قلب، فميَّزتُها من الآثار الأخرى، لا سيما في زاويةٍ بعينها. لكن وجدتُ آثار أقدام مختلفة. كان بعضها لنعلَي حذاءٍ مُخصَّص للأراضي الوَعْرة، وكان البعضُ الآخرُ لحذاءٍ ذي نعلَين أملسَين. وتمنَّيتُ مرةً أخرى لو أن بيتر معي كي يؤكِّد لي ما توصَّلتُ إليه رغم تيقُّني منه. وهو أن الرجل الذي لاحقتُه أتى إلى هذا المكان دون أن يمكُث لفترةٍ طويلة. وقَدِم شخصٌ آخر، في وقتٍ لاحقٍ على الأغلب؛ لأن آثار النعل الأملس كانت موجودةً فوق آثارِ حذاء الأراضي الوَعْرة. قد يكون الأول ترك رسالةً للآخر. وقد يكون الآخر هو مَن أحسستُ بوجوده بشكلٍ غيرِ قاطعٍ في أثناء الليل.
محوتُ أثَر خطواتي من على الأرض بعناية، وعُدتُ إلى الكهف. كان رأسي منشغلًا بهذا الاكتشاف. تذكَّرتُ ما قاله جريسون لصديقه: «ليلة الغد». استنتجتُ أن اليهودي البرتغالي حمل رسالة من جريسون إلى شخصٍ آخر، وأن هذا الشخصَ قَدِم من مكانٍ ما، وأخذ هذه الرسالة. ولا بُد أن الرسالة تشير إلى لقاءٍ سريٍّ في تلك الليلة بعينها. عثَرتُ على زاويةٍ للمراقبة؛ لأنه من المُستبعَد أن يقترب أحدٌ من الكهف، نظرًا لوعورة الطريق إليه من المرج. سأُخيِّم هناك في العَراء، وأنتظِر ما يحمله إليَّ الظلام من أخبار. أتذكَّر أنني فكَّرتُ في حظي السعيد الذي رافقَني لهذه البقعة البعيدة. تأمَّلتُ ضوء الشفَق الأزرق الباهت وهو يزحفُ فوق البحر، فيما تسارعَت دقَّاتُ قلبي من شدة الترقُّب.
ثم سمعتُ صوتًا بالأسفل، فمدَدتُ عنقي لأنظر من خلف حافة البرج. رأيتُ رجلًا يتسلَّق المنحدَر من نفس المسار الذي اتخذتُه.