أعرف بأمر الطيور البرية
رأيتُ قُبعةً خضراءَ من اللبَّاد، وتحتها كتفَين ممشوقَين مغطَّيَين بقماش التويد. ثم رأيتُ حقيبةَ ظهرٍ تتدلى من أربطتها عصًا، فيما كان صاحبها يجتاز رفًّا صخريًّا. سرعان ما رفَع الرجلُ رأسَه ليحسبَ المسافة المتبقية إلى السطح. كان وجهَ شابٍّ، شاحبًا ونحيلًا، لكن تسرَّبَت إليه الحمرةُ نتيجةً لتعرُّضه للشمس وعَناء التسلُّق. كان وجهًا رأيتُه لأول مرة في نُزُل «فوس مانر».
غشِيَتْني موجةٌ من الغثيان والحزن على حين غِرَّة. لا أدري سببها، لكن لم يخطُر ببالي قَط تورُّط مُثقفي بيجلزويك في مثل هذا الأمر. لم أشُكَّ في أحد سوى أفري، وقد كان يختلف عن البقية. كانوا بلهاء ومتعجرِفين لا أكثر، وكنتُ سأحلف على براءتهم. لكن ها هو أحدهم متورطٌ في جريمة الخيانة العظمى لوطنه. شعَرتُ بالنبض في صدغيَّ عندما تذكَّرتُ أن ماري صديقةُ هذا الشاب، وأنه أمسَك يدَها، وأنه ناداها باسمها الأول. ولوهلةٍ اجتاحَتْني رغبةٌ عارمةٌ في انتظارِ وصولِه إلى السطح ثم إلقائه بين الصخور الكبيرة حتى يحتار شركاؤه الألمان في أمرِ جُثَّته.
سيطرتُ على غضبي بصعوبة. يجب أن أُنفِّذ المهمَّةَ المنوطةَ بي، والحفاظ على علاقتي بذلك الشاب جزءٌ منها. لا بد من إقناعه أنني شريكٌ له، وهي ليست بالمهمة السهلة. انحنيتُ على حافة المنحدَر، وفيما كان الشابُّ يضع قدَمَه على الحافةِ الناتئةِ فوق الصخور الناعمة أطلقتُ صفيرًا كي أجذبَ انتباهه.
قلتُ: «مرحبًا يا ويك.»
أجفل ويك، وحدَّق بي هُنيهة، ثم تعرَّف عليَّ. كان واضحًا أنه لم يسعَد كثيرًا برؤيتي.
هتف: «براند! كيف وصلتَ إلى هُنا؟»
تسلَّق إلى حيثُ كُنت، ثم اعتدل واقفًا، وحلَّ مشبكَ حقيبةِ ظهره. قال: «ظننتُ أن هذا المكان مَلجَئي وحدي، وأنْ لا أحدَ يعلم بوجوده سواي. أرأيتَ الكهف؟ لا يُوجَد مكانٌ للنوم أفضل منه في جزيرة سكاي بأكملها.» كانت نبرةُ صوتِه لاذعةً للغاية كعادته.
كان الدم يفور في عروقي. وددتُ لو أنني أضع يديَّ على عنقه، وأخنق ذلك الخائن المتعجرف. لكن ركزت على غاية واحدة، وهي إقناعه أنني أشاركه في سره، وأنني في صفه. بدت رباطة جأشه الارتجالية مجرَّدَ ستارٍ بارع لمُتآمِر كُشِفَ أمره على حين غرة يبحث عن خطة لإنقاذ نفسه.
دخلنا الكهف، وألقى ويك حقيبةَ ظهرِه في زاوية. قال: «آخر مرة أتيتُ فيها إلى هُنا، صنعتُ غطاءً للأرضية من نباتات الخلنج. لا بد أن نجمع المزيد إذا كنا نرغب في فِراشٍ مريحٍ للنوم.» لم تكن ملامحُه واضحةً في ضوء الشفق، لكنه بدا مختلفًا عن ذلك الشخص الذي رأيتُه آخِر مرة في «مووت هول» في بيجلزويك. بدا جسَدُه النحيفُ يفيض قوةً ووجهه ينبض عزمًا. كم كنتُ أحمقَ عندما حكمتُ أنه ليس سوى عاطلٍ متعجرف!
خرج ويك إلى الرف الصخري، واستنشق هواءَ المساءِ العليل. كان أفقُ المَغيب قد اصطبغَ بلونٍ أحمرَ خلاب، لكن أظلمَت الأجواء داخل الفلْق، واستأثرَت البقعُ الساطعةُ في كِلا الجانبَين بأنباء المغيب.
قلتُ: «لا بدَّ أن نتفاهم يا ويك. أنا صديق أفري، وأدرك الغاية من هذا المكان. لقد اكتشَفتُه بطريق الصدفة، لكن أريدك أن تعلم أنني أدعمك قلبًا وقالبًا. بوسعك أن تثقَ بي في مهمة الليلة كما لو أنني أفري بالضبط.»
استدار ويك ناحيتي، ونظر إليَّ بحدة. كانت عيناه محتقنتَين، مثلما كانت عند لقائنا الأول.
سأل: «ماذا تقصد؟ ما مقدار ما تعرفه؟»
اعتراني الغضب، فسيطرت على نفسي لأُجيب عن سؤاله.
قلتُ: «أعلم أن شخصًا ما ترك رسالةً في الزاوية البعيدة من الصدع، ليلة الأمس، وأن شخصًا آخر قَدِم من ناحية البحر والتقطها. أعلم أن هذا الشخص سيأتي مرة أخرى، عندما يحلُّ الظلام، وسيترك رسالةً جديدة.»
أدار ويك رأسه بعيدًا. قال: «لا تتفوَّه بالترهات. ليس بإمكان أي غواصةٍ أن ترسُوَ على هذا الساحل.»
أدركتُ أنه يختبرني.
قلتُ: «سبَحتُ هذا الصباح في ذلك الخليج اللُّجِّي بالأسفل. لا يُوجَد مخبأٌ للغواصات أفضلُ منه في بريطانيا كلها.»
كان لا يزال مُشيحًا بوجهه عني، فيما ينظر إلى الطريق الذي جاء منه. ظلَّ صامتًا هُنيهة، ثم تحدَّث بتلك النبرة البطيئة اللاذعة التي أثارت استيائي في «فوس مانر».
قال: «كيف تُوفِّق بين هذه المهمة ومبادئك يا سيد براند؟ لطالما كنتَ رجلًا مُحبًّا لوطنه، حسبما أذكر، وإن كنتَ لا تتفقُ مع الحكومة تمامًا.»
لم أتوقَّع هذا السؤال، ولم أكن مستعدًّا. تلعثمتُ في إجابتي. قلتُ: «لأنني أُحب وطني فأنا أريد السلام. أظن أن … أعني …»
سأل: «ألهذا تريد مساعدة العدو في الانتصار؟»
أجبتُ: «لقد انتصَر بالفعل. أريد أن نعترفَ بذلك، فنتعجَّل بالسِّلم.» بدأ ذهني يصفو، وتحدَّثتُ بطلاقة عن ذي قبل.
تابعتُ قائلًا: «كلما طالت الحرب، لحق بالدولة الكثيرُ من الدمار. يجب أن نُخبر الشعب بالحقيقة، و…»
لكنه استدار فجأة، وتأجَّجَت عيناه.
صاح: «يا لك من وغد! يا لك من وغدٍ لعين!» وانقضَّ عليَّ كالنمر.
حصلتُ على إجابتي. لم يصدقني لأنه يظن أنني خائن، وعزم على قتلي. ابتعَدنا عن التحضُّر، وعُدنا إلى البربرية. صارت حياته في مقابل حياتي. ثارت ثائرتي، عندما تلاحَمنا، وغمرَني شعور عارم بالرضا.
كان انتصاره مستحيلًا؛ فرغم أنه مَمشوق القوام ولدَيه جسدٌ نحيلٌ خفيفٌ مثل مُتسلقي الجبال، فهو لا يتمتَّع بربع قوَّتي. إلى جانب أن موضعه لم يكن مُواتيًا؛ إذ كان يُهاجمني من الخارج. ولو كان يُهاجمني من داخل الكهف، لربما استطاع أن يُلقيَ بي من فوق الحافة بهجومه المباغت. على غرار ذلك، صرعتُه وطرحتُه أرضًا، قاطعًا النفس عن جسَده أثناء ذلك. ولا بد أنني آلمتُه بشدة، لكنه لم تصدُر عنه صرخةٌ واحدة. بعد عناءٍ ربطتُ يدَيه خلف ظهره بحزامِ معطفي الواقي، ثم حملتُه إلى الكهف وألقيتُ به في الطرف المُظلم منه. ثم أوثقتُ قدمَيه برباطِ حقيبةِ ظهره. كان يُمكنني سدُّ فمه، لكنني فضَّلتُ الانتظار.
يجب أن أبتكر خطة عمل من أجل الليلة لأنني لا أعلم ما الدور الذي كان سيؤديه لولا تدخُّلي. ربما يؤدي دور الرسول بدلًا من اليهودي البرتغالي، وفي تلك الحالة ستكون الرسالة في حوزته. لو كان يعرف الكهف، فلا بد أن الآخرين يعرفونه بدورهم؛ لذا من الأفضل أن أنقلَه من الكهف قبل وصولهم. نظرتُ إلى ساعة معصمي، وأشار قُرصُها المضيء إلى التاسعة والنصف.
سمعتُ صوتَ نحيبٍ صادرٍ عن الكَومة البشرية في الزاوية. بدا النحيب مريعًا وأصابني بالقلق. كان لديَّ مصباحٌ يدويٌّ جيبي، فسلطتُ ضوءه على وجه ويك. لو كان يبكي، لكان يفعل ذلك بعينَين خاليتَين من الدموع.
سأل: «ماذا تنوي أن تفعل بي؟»
قلتُ بتجهُّم: «حسب الظروف.»
قال: «حسنًا، أنا مستعد. قد أكون ضعيفًا لكن تأكَّد أنني لا أخشاك ولا أمثالك.» تقاطَر كلامُه شجاعة، لكنها شجاعةٌ زائفة؛ فقد رأيتُ أسنانَه تصطكَّ من الرعب.
قلتُ: «أنا مستعدٌّ لعقد صفقة.»
أجاب: «لن تحصُل عليها. اقطع رأسي إن شئت، لكن لا داعي لأن تُهينَني بحق السماء … أشعر بالتقزُّز عندما أُفكِّر بك. نزلتَ بيننا، فرحَّبنا بك، واستقبلناك في بيوتنا، وأفضَينا إليك بمكنون صدورنا، وما أنت إلا خائنٌ لعينٌ طيلة هذا الوقت. أنت تريد بيعنا لألمانيا. ربما فزتَ الآن، لكن الويلُ لك! سيحينُ دورُك! هذه هي كلمتي الأخيرة لك … أيها الحقير!»
هدأَت ثورتي. رأيتُ نفسي فجأة أحمقَ، أعمَى بلا عقل. مشَيتُ إلى ويك بخطواتٍ واسعة، وعندما رآنى أغلَق عينَيه مخافةَ أن ألكُمه. لكنني بدلًا من ذلك حلَلتُ وثاق ساقَيه وذراعَيه.
قلتُ: «يا لي من غبي يا صديقي العزيز ويك. يمكنك شتمي بأفظع الشتائم. وسأتركك تضربني ضربًا مبرحًا دون الدفاع عن نفسي. لكن ليس الآن. فالآن تنتظرنا مهمةٌ أخرى. نحن نعمل في الجانب نفسه يا رجل، ولم أدرك ذلك على الإطلاق. أعلم أن هذا ليس عذرًا، ولعلك تجد بعضَ العزاء في حقيقة أنني أشعُر أنه ليس هناك أحمقُ في أوروبا كلها مثلي في اللحظة الحالية.»
انتصَب في جلستِه وانهمَك في دلك كتفَيه المصابتَين بالرضوض. سأل بصوتٍ مبحوح: «ماذا تقصد؟»
قلتُ: «أقصد أننا حلفاء. اسمي الحقيقي ليس براند. أنا جندي — جنرال — إذا كان يهمك معرفة الحقيقة. ذهبتُ إلى بيجلزويك استجابةً للأوامر التي جلبَتْني إلى هُنا بطبيعة الحال. أفري هو أكبر عميلٍ ألماني في بريطانيا، وأنا أُلاحقه. اكتشفتُ قنواتِ اتصاله، وهذه الليلة، إن شاء الله، سنصل إلى المفتاح النهائي لهذا اللغز. أتسمعني؟ نحن في هذه المهمة معًا، ويجب أن تساعدني.»
حكيتُ له عن جريسون بإيجاز، وأنني اقتفيتُ آثاره حتى وصلتُ إلى هُنا. تناولنا العَشاء، فيما كنتُ أتحدث، وتمنَّيتُ لو أنني كنتُ أستطيع رؤية وجه ويك. وجَّه إليَّ الكثير من الأسئلة لأنه لم يقتنع بسهولة. أظن أنه لم يقتنع إلا عندما ذكرتُ ماري لامنتون. لا أعلم السبب لكن بدا أن ذلك أزال شكوكه. لكنه لم يكن مستعدًّا للإفصاح عن نفسه.
قال: «يمكنك الاعتماد عليَّ؛ لأن هذه خيانةٌ عظمى لا خيانة بعدها. لكنك تعلم آرائي السياسية ولن أحيد عنها لهذا الغرض. لقد زادت مُعارضَتي لحربك اللعينة أكثر من ذي قبل، خاصةً بعدما علمتُ بما تنطوي عليه.»
قلتُ: «أنت محقٌّ فيما تقوله. أنا أدعم فكرة السلام. ولن تسمع منِّي خطبًا رنانةً عن مآثر الحرب. أؤيد السلام قلبًا وقالبًا، لكن يجب إسقاط هؤلاء الشياطين أولًا.»
لم يكن آمنًا بالنسبة إلينا مواصلة البقاء في الكهف؛ لذا مَحَونا علاماتِ نزولنا في الكهف، وأخفَينا حقائبنا في شقٍّ عميق في المنحدر. أعلن ويك عن نيتِه في تسلُّق البرج قبل أن يسود الظلام التام. قال: «إن قمة البرج فسيحة، ويُمكنني مراقبة البحر من مكاني تحسبًا لظهور أي ضوء. تسلَّقتُ البرج من قبلُ. واكتشفتُ الطريق إليه منذ عامَين. نمتُ أغلب الظهيرة فوق قمة جبل سكور فيكوينك وأنا في غاية اليقظة الآن.»
راقبتُه فيما يتسلق واجهة البرج، وانبهرتُ بسرعته ورشاقته. سِرتُ بمحاذاة الفلق جنوبًا إلى أن وصلتُ إلى التجويف، أسفل المُنبسَط الصخري الذي عثرتُ فيه على آثار الأقدام. كانت هناك صخرةٌ كبيرةٌ تحجُب المنبسط جزئيًّا عن نظر الواقف ناحية الكهف. كان المكان مثاليًّا لغرضي؛ إذ كانت هناك فرجةٌ ضيقةٌ بين الصخرة وجدار البرج، ومن خلالها يُمكنني سماعُ ما يجري على المُنبسَط الصخري. وجدتُ بقعةً يُمكنني الاسترخاءُ فيها ومراقبةُ ما يجري من خلال الفُرجة.
كان لا يزال هناك ضوءٌ خافتٌ يسطع على المنبسط الصخري، لكنه سرعان ما اختفى وحل الظلام الدامس على التلال. كان القمر محاقًا، وكما حدث في الليلة السابقة، تناثَرَت سُحبٌ خفيفةٌ في السماء فحجبَت النجوم. خيَّم صمتٌ تامٌّ على المكان، لكني كنتُ أسمع من حين لآخر نعيقَ طائرٍ في الأجراف العالية أو صياحَ خرشنةٍ أو صائد محار على الشاطئ. سمعتُ نعيقَ بومةٍ قادمًا من أعلى البرج. خمَّنتُ أنها إشارة وِيك، فنعقتُ بدوري، وأجابني. نزعتُ ساعةَ معصمي ووضعتُها في جيبي، حتى لا يكشف قُرصُها المضيء في الظلام عن مكاني، ولاحظتُ أن الساعة توشك أن تدق الحادية عشرة مساءً. كنتُ قد خلعتُ حذائي، وزرَّرتُ معطفي حتى الياقة لإخفاء قميصي. تراءى لي أن القادم الجديد لن يتكبد عناء استكشاف التجويف الكامن وراء المُنبسَط الصخري، لكن أردتُ الاستعداد للطوارئ.
تلا ذلك ساعة من الانتظار. اجتاحني شعور بالبهجة والسعادة؛ لأن ويك أعاد ثقتي في الطبيعة الإنسانية. في ذلك المكان الغريب أحاط بنا الغموضُ مثل الضباب. أتى شخصٌ مجهولٌ من ناحية البحر، رسول تلك القوة التي نتصارع معها منذ ثلاثة أعوام. بدا كأن الحرب وصلَت إلى عتبة بابنا، ولم أشعُر من قبلُ، حتى في غابة جنوب ألمانيا، أننا تحت رحمة قدَرٍ متقلِّب. تمنَّيتُ فقط لو أن بيتر بجواري. وهكذا ذهبَت أفكاري إلى بيتر في معسكر الاعتقال، وتلهَّفتُ لرؤية صديقي العزيز مرةً أخرى، مثلما تتلهف فتاةٌ لرؤية حبيبها.
ثم سمعتُ نعيق البومة، وتلاه على الفور صوتُ خطواتٍ حذرة. لم يكن من الممكن رؤية أي شيء، لكن خمَّنتُ أنه اليهودي البرتغالي، إذ سمعت احتكاك حذائه ذي المسامير بالصخور الصلبة.
التزم القادم بالهدوء التام. خُيِّل إليَّ أنه جلس على الأرض، ثم نهض من مكانه وعبث بموضعٍ في جدار البرج وراء الصخرة التي أختبئ خلفها مباشرة. بدا أنه حرك حجرًا قبل أن يعيده إلى مكانه. بعد ذلك، خيَّم صمتٌ على المكان، ثم نعقَت البومة مرةً أخرى. سمعتُ وَقْع خطواتٍ على الدرَج الصخري، وهي خطواتٌ تنبئ عن رجلٍ لا يعرفُ طريقه جيدًا؛ لذا فإنه يتعثَّر في مشيته. والأدهى من ذلك أنها خطواتٌ صادرةٌ عن حذاءٍ أملسِ النعل بلا مسامير.
بلغَا المنبسط الصخري وتحدَّث أحدهما. تبيَّن أنه صوتُ اليهودي البرتغالي وتحدَّث الألمانية بطلاقة.
قال: «العصافير الصغيرة سكنَت في الغابة.»
أجاب الآخر بصوتٍ حازمٍ واضح.
قال: «صبرًا فلن تلبث أنت أيضًا أن ترتاح.»
ليس ثمَّة شكٌّ في أن كلامهما شفرةٌ من نوعٍ ما؛ إذ لن يتحدَّث العقلاءُ عن الطيور في مِثل هذا الموقف. شعَرتُ أنني أسمع شعرًا خاليًا من الروح.
تحدَّث الرجلان بعد ذلك حديثًا خافتًا، لم أتبيَّن منه سوى بضعِ عباراتٍ متقطعة. سمعتُ اسمَين؛ أحدهما كيليوس والآخر بوميرتس وهو اسم هولندي فيما يبدو. ولسعادتي سمعتُ كلمة «ألفينباين» التي تعني العاج لُفِظَت وأُتبعَت بضحكة. تكرَّرَت عبارة «الطيور المنزلية تفهم»، لكني لم أفهم معناها تمامًا. نطَق هذه العبارةَ الرجلُ القادمُ من البحر. ثم سمعتُ كلمة «الطيور البرية». بدا أن الرجلَين مولَعان بالطيور.
وللحظةٍ يسيرة، سطع ضوءُ مصباحٍ يدوي في المنطقة المحيطة بالصخرة الكبيرة، فتمكَّنتُ من رؤية وجه ملتحٍ مُسمر يتفقَّد بعض الأوراق. ثم عاد الظلام يغلِّف المكان، ومرةً أخرى سمعتُ اليهودي البرتغالي يعبث بالحجارة في قاعدة البرج. لحُسن حظي أنه كان قريبًا من الصدع الذي أختبئُ خلفه فسمعتُ كل كلمةٍ يقولها. قال: «لا يُمكنك التردُّد على هذا المكان كثيرًا، وقد لا نستطيعُ تنسيقَ لقاءٍ بيننا. لهذا اخترتُ مكانًا أضع فيه طعامَ الطيور. سأتحيَّن الفُرصَ للقدوم إلى هنا، وستأتي أنتَ أيضًا عندما تتهيأ لك الظروف. تارةً ستجد الكثير وتاراتٍ أخرى لن تجد شيئًا.»
شعَرتُ أن الحظ حليفي، وأخذَتْني البهجةُ فتخلَّيتُ عن حذَري. انزلقَت حجارة، من تحت قدمي، ورغم أنني تمالكتُ نفسي على الفور، إلا أن تلك الحجارةَ اللعينةَ تدحرجَت إلى التجويف وأحدثَت جلبة. تجمَّدتُ في مكاني في أحضان الصخرة، وانتظرتُ وأنا أسمع دقاتِ قلبي المتسارعة. كان المكان غارقًا في ظلامٍ دامس، لكن كان مع الرجلَين مصباحٌ يدوي، ولو أنهما سلَّطا ضوءَه عليَّ، لانتهى أمري. سمعتهما يُغادران المنبسط الصخري ويهبطان إلى التجويف. توقَّفا هناك في غاية الانتباه، فيما حبستُ أنفاسي. ثم سمعتُ: «لا شيء يا صديقي»، وعاد الاثنان، والضابط البحري يتعثَّر فوق الحصى.
لم يغادر الرجلان المنبسط الصخري معًا. ودَّع الرجلُ القادمُ من البحر اليهوديَّ البرتغاليَّ بسرعة، واستمع إلى رسالته الأخيرة بنفادِ صبرٍ كأنه يتعجَّل الرحيل. مضى ما يقرُب من نصف الساعة قبل أن يرحلَ الرجلُ الأخير، وسمعتُ ضجيجَ حذائِه ذي المساميرِ على الأرض حتى تلاشى ببلوغِه نباتاتِ الخلنج في المرج.
انتظرتُ قليلًا، ثم زحفتُ عائدًا إلى الكهف. صدحَت البومةُ مرةً أخرى، وسرعان ما هبط ويك بخفة إلى جواري؛ كان من الواضح أنه يحفظ كل موطئِ قدمٍ وموضعِ يدٍ عن ظهر قلب ليتمكَّن من شَق طريقه وسط الظلام الدامس بهذه السهولة. أتذكَّر أنه لم يُوجِّه إليَّ أي سؤال، لكنه استخدم لغةً يندر أن تخرج من شفاه مُعارضي الحرب الأتقياء بشأن الرجلَين الذين كانا يقفان في التجويف الصخري منذ فترةٍ وجيزة. بعد ذلك تكوَّرنا، نحن من كنا على وشك أن نقتل بعضنا منذ أربع ساعات، على الأرض الصلبة، ونِمنا نومًا عميقًا من فَرْط التعب.
استيقظتُ لأجد ويك متكدرًا. كان أبرز ما علقَ بذهنِه من أحداث الليلة الماضية هو شجارنا وإهانتي له. لَم ألُمْه على ذلك؛ إذ لو اتَّهمَني أيُّ شخصٍ بالتورط مع الألمان لأرقتُ دمه، ولم تُفلِح محاولتي إقناعه بأنه مَنحَني أسبابًا وجيهةً لأشُكَّ به في التسرية عنه. كان في غاية الحساسية فيما يخُص مبادئه المباركة مِثلما تتحسَّس الفتاة العانس من التعرُّض إلى سنِّها. وزاد الوضعَ سوءًا أني كنتُ أؤنِّب نفسي على حماقتي. بدا وجهُه مكفهرًّا ونحن نقصد الشاطئ للاستحمام؛ لذا التزمتُ الصمت. كان يجترُّ كبرياءَه المجروحة.
لكن ماء البحر المالح صفَّى كدره. فلا يمكن للمرء أن يظل نكدًا وهو يسبح في ذلك البحر المتلألئ الساحر. سابقَ أحدنا الآخر إلى البحر المفتوح خارج الخليج الصغير، الذي تموَّج سطحُه بنسيم الصباح المنعش. ثم عُدنا إلى صخرةٍ ناتئةٍ مُغطَّاة بنباتات الخلنج، حيث جفَّفَتْنا أوَّل أشعة الشمس التي سطعَت من خلفِ تلال كويلن. جلس ويك مُنحنِيَ الظهر يُحملِق في الجبال، فيما جلستُ أفحصُ الصخورَ عند الحافة. رأيتُ في مضيق مينش مُدمِّرتَين تُسرعان ناحية الجنوب، وتساءلتُ عن مكان السفينة التي قَدِمَت إلى هُنا في أثناء حراستنا بالليل في هذه المياه الزرقاء الشاسعة.
وجدتُ أثَر أقدام الرجل الذي قَدِم من البحر لا يزال واضحًا على الحصى فوق خط المدِّ.
قلتُ: «ها هو أثَرُ صديقِنا من الليل.»
أجاب ويك وعيناه مثبَّتتان على شقوقِ جبلِ سكور ديارج: «أرى أن الأمر برُمَّته مجرَّد موقفٍ عابر. قد يكون الرجلان من سكان المنطقة، ربما كانا صائدَين غيرَ شرعيَّين أو غجريَّين.»
علَّقتُ: «لكن سكان تلك المنطقة لا يتحدَّثون الألمانية.»
قال: «ربما كانت اللغة التي استخدماها الغيلية.»
قلتُ: «ماذا تقول في هذا إذن؟» واقتبستُ العبارتَين اللتَين عن الطيور اللتَين استخدمهما الرجلان في تحية أحدهما الآخر.
أثار كلامي اهتمامَ ويك. قال: «إنها قصيدة «فوق كل القمم هدوء» من الشعر الألماني. هل قرأتَ شِعرَ جوته من قبل؟»
أجبتُه: «لا. وماذا تقول في تلك الصخرة المسطَّحة تحت خط المد المغطَّاة بكتلةٍ متشابكةٍ من الأعشاب البحرية؟ تبدو لينةً مقارنةً ببقية الحجارة في التلال، كما أن شخصًا ما كشط نصف الأعشاب البحرية وجزءًا من الجانب. لم يحدُث هذا صباح الأمس، لأنني اغتسلتُ في هذا المكان.»
نهض ويك من مكانه وفحص الأرجاء. فتَّش الشقوق الموجودة في الصخور التي تصطفُّ على طول الخليج، وغاص في الماء مرةً أخرى كي يفتِّش الأعماق جيدًا. ثم انضَم إليَّ بابتسامةٍ على شفتَيه. قال: «أعتذرُ عن تشكيكي في كلامك. لقد مرَّت سفينةٌ ذاتُ محرِّك يعمل بالبنزين من هُنا في الليل. يُمكِنني شمُّ رائحة البنزين، فأنا أتمتَّع بحاسةِ شمٍّ قويةٍ مثل كلاب الصيد. دعني أقول إنك تسيرُ على الدرب الصحيح. على أي حال، على الرغم من معرفتك الضئيلة باللغة الألمانية إلا أنني لا أتخيَّل أن تجودَ قريحتُك بهذا الشعر السرمدي.»
نقَلنا أمتعتَنا إلى منعطف الجدولِ الأخضرِ وتناولنا وجبةَ إفطارٍ مشبعة. لم يكُن في حقيبة ويك سوى بسكويتِ اللبن المُجفَّف والزبيب؛ إذ ذلك هو زاد مُتسلقي الجبال حسب قوله، لكنه لم يكره أن يتذوق عينةً بسيطةً من طعامي المعلَّب. تراءى لي أن حجم ويك قد اختلف وسط التلال فلم يعُد ذلك المُفكِّر الهزيل من بيجلزويك. نسي حياءه الشديد وتحدَّث عن هوايته بشغفٍ بالغ. بدا من كلامه أنه تسلَّق جبال أوروبا طولًا وعرضًا من القوقاز إلى جبال البرانس. تيقَّنتُ من براعته؛ إذ لم يتفاخر ببطولاته ومآثره. كانت الجبال هي ما يُحب لا عملية التسلق الشاقة نفسها. وكانت تلال كويلن حسبما قال هي منطقته المفضَّلة؛ إذ يبلغ ارتفاع بعضها ألفَي قدم في الارتفاع. وجَّهْنا منظارَينا إلى واجهة سكور ألسدير، وأرشدَني ويك إلى العديد من الطرق لبلوغ قمته القاتمة. قال لي إنه صار يُفضِّل تلال كويلن وسلسلة جبال دولوميت لشعوره بالضجَر من شامونيه إيجويه. أتذكَّر حماستَه الشديدةَ وهو يحكي لي مُتعةَ شهود مطلعِ الفجرِ في منطقة تيرول، بعدما صَعِد خلال فدادين من المروج المزهرة ليبلغ قمةً جيريةً بيضاءَ ناصعةً تلقاءَ السماء الزرقاء الصافية. تحدَّث أيضًا عن التلال الوَعْرة في سلسلة فترشتاينجبرج الجبلية في ألمانيا، وعن المرشد الذي التقى به هناك ودرَّبه على مهارة التسلق.
قال: «يَدْعونه سيباستيان بوخفيزر. إنه ألطف فتًى يمكن أن تُقابله في حياتك، ويتنقل بين الأجراف برشاقة مثل ظبي الشمواة. ربما مات الآن، مات في كتيبة ياغر القذرة. بسببك أنتَ وحربك اللعينة.»
قلتُ: «حسنًا، لنعمل ونُنهِها بالطريقة الصحيحة. ولا بد أن تُساعدَني في ذلك أيها الشاب.»
كان ويك بارعًا في رسم المُخطَّطات، وتمكَّنتُ عَبْر مساعدته من رسم خريطةٍ مبدئيةٍ للتجويف الذي بِتْنا فيه الليلة الماضية، وتحديدِ موقعِه بدقةٍ بالنسبة للجدول والبحر. بعد ذلك، دوَّنتُ كل التفاصيل المُتعلقة بجريسون واليهودي البرتغالي مع الإسهاب في وصف الأخير حتى أدق التفاصيل. تعرَّضتُ أيضًا لوصف موضع المخبأ الذي اتفق الاثنان على وضع الرسائل فيه بدقةٍ بالغة. أنهى الأمرُ الأخيرُ مخزوني من الورق، وأرجأتُ تسجيلَ العباراتِ الغريبةِ التي التقطتها فيما كنتُ أسترق السمع لحديث الرجلَين لوقتٍ لاحق. وضعتُ الأوراق في حقيبةِ سجائرَ جلديةٍ قديمةٍ كنتُ أحملها معي، وأعطيتُها لويك.
قلتُ: «اذهب إلى قرية كايل مباشرةً دون إهدار الوقت. لن يشُك بك أحد؛ لذا اسلُك أيَّ سبيلٍ شئت. عندما تصل إلى هناك، اسأل عن السيد أندرو آيموس الذي يعمل في وظيفةٍ حكوميةٍ في المنطقة السكنية. أعطِه هذه الأوراق. سيعرفُ ما يفعلُه بها على الفور. أخبِره أنني سأصل إلى كايل بطريقةٍ ما قبل منتصف النهار بعد الغد. أنا مُضطَر لأن اتخفَّى؛ لذا لن أستطيع مرافقتَك، وأريدُك أن تُسلِّم هذه الأوراق إلى آيموس بأسرعِ ما يمكنك. إن حاوَل أحدٌ سرقتَها منك، فلا تُمكِّنه من بُغيتِه. أنتَ تعلم مدى خطورتها.»
قال: «سأعود إلى إنجلترا في غضون ثلاثة أيام. هل تريد أن أحمل أي رسائل لأصدقائك الآخرين؟»
قلتُ: «انسَ كل ما يتعلق بي. لم ترَني هُنا أبدًا. لا يزال اسمي براند، مجرَّد إمبرياليٍّ ودودٍ يدرُس الحركات الاجتماعية لا أكثر. إن قابلتَ أفري، فأخبره أنك سمعتَ عن انغماسي في التحريضِ على السلطة في كلايد. لكن إن رأيتَ الآنسة ماري لامنتون، فلا بأس في أن تُخبرها أني تجاوزتُ «جبل الصعوبة». سأعودُ متى تشاءُ الأقدار، وسأنضَم إلى النشطاء في بيجلزويك. لكني تلك المرة سأكون أكثر نضجًا في آرائي … لا تنزعج. أنا لا أقول شيئًا يُخالِف مبادئك. نحن الاثنان نتفق في كراهيتنا للخيانة القذرة.»
وضع ويك الحقيبةَ الجلديةَ في جيب صدريَّته. قال: «سأدور حول جبل جاربيهين وأجتاز خليج كاماسيوناري. وسأُبلغ كايل قبل حلول المساء بفترةٍ طويلة. على أي حال أنوي المبيت في قرية برودفورد … إلى اللقاء يا براند، لأنني نسيتُ اسمك الأصلي. لستَ شخصًا سيئًا، لكنك ورَّطتَني في مؤامرةٍ لأول مرة في حياتي البعيدة عن الإثارة. لا أغفرُ لك أنك ربطتَ تلال كويلن بالمؤامرات الدنيئة. لقد دنَّستَ قداستَها.»
قلتُ: «لديك فكرةٌ مغلوطةٌ عن الرومانسية. مَرْحَى يا رجل، لقد قاتلتَ الليلةَ الماضيةَ على الجبهة حيث يلتحِم جيشنا مع العدو. بوقوفك على تلك القمة كنتَ تُحارب في قلب المعركة.»
ضحك ويك. قال: «هذه ترجمةٌ أخرى للموقف»، ثم ابتعَد بخطواتٍ ثابتةٍ وظلِلْتُ أراقبُ هيئته الرشيقة حتى اختفى خلف منعطف التل.»
قضيتُ ذلك الصباح أُدخِّن بهدوء عند الجدول، فيما انشغل عقلي بتحليل المسألة برُمَّتها. حصَلتُ على ما أراده بلنكيرون بالضبط، وهي وسيلةُ تواصُل العدو. سيتطلب الأمر معالجةً حَذِرة، لكن أرى أكاذيبَ مثيرةً تسافر إلى مقرِّ العدو الرئيسي. لكن ظل يُلازمني شعورٌ مقلق، سببُه أنني نجحتُ في مهمَّتي بسهولةٍ بالغة، وأن أفري ليس بالرجل الذي يُمكِن خداعُه على هذا النحو لفترةٍ طويلة. وجدتُني مدفوعًا للتفكير في المحادثة الغريبة التي جرت بين الرجلَين في الفَلْق. على الأرجح كانت أبياتُ الشعر التي اعتبرتُها شفرةً عاديةً تتغير كل مرة. لكن من هما كيليوس وبوميرتس، وماذا تعني الطيور البرية والطيور المنزلية بحق السماء؟ تعرَّضتُ لمثل هذه الأحجية مرتَين في السنوات الثلاث السابقة؛ كانت الأولى عندما اضطُررتُ لفك طلاسم الملاحظات التي دوَّنها سكادر في دفتره الصغير، والأخرى عندما حاولتُ فهم كلمات هاري بوليفانت الثلاث. أتذكَّر أن التفكير الطويل فيهما هداني إلى حلهما، وتساءلتُ ما إذ كان القدَر سيُرشِدني إلى حلِّ هذه الأحجية أيضًا.
أما الآن فكان لا بد من العودة إلى لندن مُتخفيًا كما جئت. وقد لا يتحقق ذلك إلا بعد عناءٍ طويل؛ فلربما لا تزال الشرطة النشطة في مورفيرن تبحث عني، بالإضافة إلى أنه من الضروري أن أتجنَّب المشكلات وأُخفِي عن جريسون وأصدقائه ما يدُل على توغُّلي في الشمال. لكن سأتركُ هذا الأمر لتوجيهات آيموس، وعند حلول الظهر ارتديتُ معطفي الواقي من المطر بجيوبه المكتظَّة وانطلقتُ في مسارٍ ملتفٍّ طويلٍ بمحاذاة الساحل. طيلةَ هذا اليوم البديع، لم أقابل أحدًا تقريبًا. مررتُ بمصنع تقطير الكحول، بدا أنه متوقفٌ عن العمل، وفي المساء وصلتُ إلى بلدةٍ صغيرةٍ على البحر حيث حصلتُ على مكانٍ للمبيت ووجبةٍ للعَشاء في حانةٍ مريحة.
في اليوم التالي، تحرَّكتُ صَوبَ الجنوب، وحدثَت حادثتان مثيرتان للاهتمام. تفحَّصتُ ساحل جزيرة رانا، ولاحظتُ أن سفينة توبرموري رحلَت من الميناء. لقد جعلَها جريسون تنتظر لمدةٍ كافيةٍ لإنهاء مهمته؛ فهو يتحكَّم في الربان العجوز كخاتم في إصبعه. الحادثة الأخرى هي أنني رأيتُ ظهر اليهودي البرتغالي عند باب ورشة حدادة في قرية. كان يتحدَّث الغيلية، هذه المرة، بطلاقةٍ حتى لَيَحسبُه المرء مجرد خادمٍ عاديٍّ وسط تلك الزمرة من العاطلين.
لم يرَني، ولم أشأ ذلك، إذ كان لديَّ شعورٌ غريب أنَّ تعارُفَنا في المستقبل كغريبَين قد يُحقِّق لي النفع.
في تلك الليلة، تجرَّأتُ على المبيت في قرية برودفورد؛ حيث حصَلتُ على وجبةٍ كبيرةٍ من سمك التروتة الطازج القادم من البحر، وتذوَّقتُ للمرة الأولى مشروبًا كحوليًّا ممتازًا مصنوعًا من العسل والويسكي. في صباح اليوم التالي، واصلتُ السير على الأقدام في وقتٍ مبكِّر، وقبل منتصف اليوم بالضبط بلغتُ مشارف كايل والقريتَين الصغيرتَين المتقابلتَين على جانبَي المضيقِ البحري.
على بُعد ميلَين من منعطف الطريق مررتُ بعربةِ مزارعٍ متوقفةٍ على جانب الطريق، تقتات الفرس التي تجرُّها على حشائش المرج. ووجدتُ رجلًا يجلس على الضفة يدخِّن، لافًّا زِمام الفرس حول ذراعه اليسرى. كان الرجل متقدمًا في السن، قويَّ البنية قصيرًا، ويرتدي وشاحًا صوفيًّا حول عنقه.