مغامرات بائع متجول
قال آيموس: «أتيتَ في موعدك بالضبط يا سيد براند. لكن يا إلهي! ماذا حدث لسروالك؟ وحذائك؟ تبدو رثَّ الهيئة.»
لقد تركَت تلالُ كويلن اللعينة بصمتَها على حذائي الذي لم أُنظِّفه منذ أسبوعٍ بالمناسبة، كما شقَّت معطفي عند الكتف، ومزَّقَت سروالي أعلى الركبة اليُمنى، ولطَّخَت كل جزءٍ من ملابسي بالخث والطحالب.
ألقيتُ نفسي على الضفة بجوار آيموس وأشعلتُ غَليوني. سألتُ: «هل بلغَتكَ رسالتي؟»
قال: «نعم. هي في طريقها لوجهتها المعروفة تحملُها يدٌ أمينة. أحسنتَ التصرُّف يا سيد براند، لكن أتمنَّى لو أنك تعود إلى لندن.» أخذ يستنشقُ الدخان من غَليونه، فيما تقطَّب حاجباه الكثيفان بشدة حتى أخفى عينَيه الحذرتَين. ثم شرع يفكِّر بصوتٍ عالٍ.
«لا يُمكنك العودة عَبْر ميناء ماليج. لا أفهم السبب حقًّا، لكنهم يبحثون عنكَ في ذلك الاتجاه. أشعُر بالانزعاج عندما يبذل أصدقاؤك، أعني الشرطة، جهدَهم لإحباط خُطَطِك، فيما أنت عاجزٌ عن شرح حقيقة الأمر لهم. يُمكِنني إرسالُ رسالةٍ إلى رئيس الشرطة حتى يضمنَ وصولكَ إلى لندن مباشرةً مثل حمولةِ سمكٍ قادمةٍ من أبردين، لكن هذا من شأنه أن يكشف الشخصية التي تكبَّدْتَ العَناء في تقمُّصها. لا، لا! يجب أن تُجازِف وتُسافِر عَبْر منطقة مويرتاون دون أوراقِ إثباتِ الهُوية.»
قاطعته: «لن تكون مخاطرةً كبيرة.»
قال: «لستُ واثقًا. لقد غادر جريسون السفينة توبرموري. وعَبَر من هنا قادمًا على متنِ عبَّارة ماليج بالأمس، في صحبةِ رجلٍ داكنِ البشرةِ ضئيلِ الجسمِ نزل في كايل. لا يزال هذا الرجل هناك يُقيم في أحد الفنادق. يَدْعونه «لينكليتر» ويُسافِر لأغراض تجارة الويسكي. لم أطمئن إليه.»
سألتُ: «لكن جريسون لا يشُك بي، أليس كذلك؟»
أجاب: «قد لا يشُك بك. لكن من الأفضل ألا يراك هُنا. هؤلاء الرجال لا يُحبون المجازفة. تأكَّد أن كل شخصٍ في جماعة جريسون يعرف كل شيءٍ عنك، ولديه أوصافُك كاملةً حتى تلك الشامة على ذقَنك.»
أجبتُ: «إذن فهي أوصافٌ خاطئة.»
قال آيموس: «أتحدَّث على سبيل المجاز. فكَّرتُ فيما قد تحتاجُه طيلة أمسِ تقريبًا، وأحضرتُ ما استطعتُ في العربة. ليتَ ملابسَك في حالةٍ جيدة، لكنَّ معطفًا خفيفًا جيدً سيُخفي حالتَها البالية.»
أخرج آيموس حقيبةً جلديةً قديمةً من مؤخرة العربة وكشَف عن محتوياتها. كان بداخلها قُبعةٌ مستديرةٌ بدت شعبيةً وقديمةَ الطراز، كما كان هناك معطفٌ تجاريٌّ طويلٌ داكن، من ذلك النوع الذي يرتديه الموظفون في طريقهم إلى العمل، ووجدتُ أيضًا كُمَّين قابلَين للفصل من الباغة، وياقةً من الكتَّان، ورابطةَ عنق. أحضر آيموس بالإضافة إلى ذلك حقيبةَ يدٍ كالتي يحملها الباعة المتجوِّلون في جولاتهم.
قال آيموس بافتخار: «هذه حقيبتُك. ستجدُها مليئةً بالكُتيِّبات. ستُلاحِظ أنني انتبهتُ لمقاساتِ جسدكَ في جلاسكو لذا ستُلائمكَ الملابس. لديك اسمٌ جديدٌ يا سيد براند، وقد استخدمتُه في استئجار غرفة لك في الفندق. اسمك هو أرتشبولد مكاسكي، وتُسافِر من شركة «تود صانز آند براذر» من أدنبره. أتعرفها؟ إنها تختصُّ ببيع الكتب الدينية وأنت تُحاوِل بيع تلك الكُتب لقساوسة الكنيسة في جزيرة سكاي لمنحها لطلبة المدرسة السبتية المتميِّزين.»
أعجبَت آيموس الفكرة، فقَهقَه قهقَهتَه الفاترةَ المعهودة حين يضحك.
وضعتُ قُبعَتي ومِعطَفي الواقي من المطر في الحقيبة وارتديتُ القُبعةَ المستديرةَ والمعطفَ الطويل. وجدتُهما مناسبَين تمامًا. كما ارتديتُ الكُمَّين والياقة، لكن واجهَني عائق؛ لأنني فقدتُ وشاحي في مكانٍ ما في كويلن، ووجد آيموس نفسَه مدفوعًا، بطبعه السخي، لأن يُعطيَني وشاحَه الأسودَ البالي الذي كان يزينُ عنقه. بدا مظهري غريبًا، وشعَرتُ بعدم الراحة، لكن كان آيموس راضيًا عن إنجازه.
قال: «تبدو يا سيد ماكسكي مثل مندوب دور النشر تمامًا. يُفضَّل أن تراجع بعض التفاصيل عنك ربما غابت عن ذاكرتك. أنتَ قادم من إدنبرة، لكنك في لندن منذ عدة سنوات، وهذا يفسِّر لكنتَك. تعيش في ٦ شارع راسيل، بالقرب من المروج، وأنتَ شيخٌ في الكنيسة المتحدة الحرة في نيثرجيت. ألديك هوايةٌ معينةٌ يمكنك الإسهاب في الحديثِ عنها إن تحدَّث إليك أحد؟»
اقترحتُ الكلاسيكياتِ الإنجليزية.
قال: «ممتاز. لا بأس في الحديث عن السياسة أيضًا. يُفضَّل أن تُصرِّح أنك مؤيدٌ للتجارة الحرة متأثرًا بسياسات جورج لويد بعد أن كنتَ رافضًا لها. لن يستغربَ ذلك أحد، ويجب أن تتظاهر بأنك شخصٌ عادي … لو كنتُ مكانك، لتجوَّلتُ في الأنحاء قليلًا، حتى أصل إلى الفندق بعد حلول الظلام. حينها، يمكنك تناول العشاء والخلود للنوم. يغادر القطار المتجه إلى مويرتاون في السابعة ونصف صباحًا … لا، لا يمكنك الذهاب معي. لن يكون من الجيد أن يرانا أحدٌ معًا. لو قابلتُك في الطريق، فسأتظاهر أنني لا أعرفك.»
ركب آيموس في عربتِه وانطلَق صوبَ منزله. اتجهتُ إلى الشاطئ وجلستُ بين الصخور، وبحلول آخر النهار أنهيتُ ما تبقَّى معي من طعام. حلَّ الغسَق بهدوئه، وسِرتُ إلى القرية الصغيرة، واستأجرتُ قاربًا كي ينقلَني إلى الفندق. وجدتُ الفندق مريحًا، تُديره عجوزٌ عطوفةٌ أرشدَتني إلى غرفتي ووعدَتني بتحضير عجَّة اللحم والسالمون البارد على العشاء. اغتسلتُ جيدًا؛ إذ كنتُ في حاجةٍ ماسةٍ إلى ذلك، وحاولتُ أن أُهَندمَ ملابسي قَدْر الإمكان، ثم نزلتُ للطابق السفلي لتناوُل العَشاء في غرفة القهوة التي لا يُضيئُها إلا مصباح كيروسين خافت.
كان الطعام ممتازًا، وكلما تناولتُ لقمة، تحسَّنَت معنوياتي. في غضون يومَين سأكون في لندن بجوار بلنكيرون وعلى بُعد مسيرة يومٍ من ماري. صرتُ لا أتخيَّل مكانًا إلا وأراها فيه. وجدتُ بيجلزويك ساحرة؛ لأنني رأيتُها هناك. لا أدري إن كان هذا هو الحب، لكنه شعورٌ لم أختبِره من قبلُ، شعورٌ تشبَّثتُ به بشدة. أضفى هذا الشعورُ بهجةً على كل شيء، وأضاف معنًى للحياة حتى إني صِرتُ متشبثًا بما تبقَّى من أيامي.
ما إن أنهيتُ وجبةَ العَشاء حتى انضَم لي ضيفٌ آخر. بدا الرجل في ضوءِ المصباحِ الخافتِ ضئيلَ الجسم نبيهًا، له شاربٌ أسودُ كث، وشعرٌ أسودُ صفَّفه على جانبَي رأسه. كان قد تناول طعامه بالفعل، وتراءى لي أنه يشتهي الرفقة.
سرعان ما أخبرني الرجل عن قدومه من مدينة بورتري وأنه في طريقه إلى منطقة لِيث. بعد ذلك أخرج بطاقةً مُدوَّنًا فيها اسم «جيه جيه لينكليتر»، واسم «هاثرويك بروس» في الزاوية. كشفَت لهجتُه أنه من الغرب.
قال: «لقد كنتُ أزور مصانعَ تقطيرِ الكحول. لكنها صناعةٌ غيرُ مجدية هذه الأيام بسبب هجوم مقاطعي الخمر عليها ووصفَها بأنها عارٌ قومي وأنها تضُر بجهودها الحربية. أنا رجلٌ معتدل، لكن أرى أنه لا يصح إفسادُ تجارة رجال الأعمال المُحترَمين. لو أرادت الدولة منع استهلاك الخمر، فلا بد لها أن تعوِّض مصانع التقطير عن خسارتها. لقد سمحَت لنا باستثمار أموالٍ طائلةٍ في هذه التجارة، فلا بد أن تضمن لنا استرداد ما استثمرناه. سيؤدي عكس ذلك إلى الإضرار بالاستقرار المالي للدولة. هذا هو رأيي. هَبْ أن حكومة حزب العمال ارتأت أن الصابون يضُر بالمواطنين، ماذا ستفعل حينها؟ هل ستُغلِق بلدة بورت سانلايت الصناعية؟ أم مصانع الملابس الفاخرة؟ أم مصانع القُبعات الرسمية؟ لا يمكن تخيُّل نهاية هذه الحماقة، إن اتخذَت الدولة هذا المسار. أرى أن التجارة القانونية لا تتغيَّر حقيقتُها، وإن وضعها تحت رحمةِ حفنةٍ من المُتعصِّبين لهو مخالفةٌ للسياسة العامة. ألا تتفق معي أيها السيد؟ بالمناسبة، ما هو اسمك؟»
أخبرتُه باسمي، فواصل ثرثرته.
«نحن صانعو خمور ونُنتج أصنافًا فاخرة، نُصدِّر أغلبها إلى خارج البلاد. أضرَّت الحربُ بتجارتنا الخارجية لكن ليس بقَدْر ما أضرَّت بصناعاتٍ أخرى. في أي مجالٍ تعمل يا سيد مكاسكي؟»
أثارت إجابتي اهتمامه بشدة.
قال: «حقًّا؟ أنت تعمل في شركة «تود»! عملتُ في تجارة الكتب في الماضي قبل أن أتركها وأتَّجه إلى تجارة أخرى أكثر ربحًا. عملتُ مندوبًا لدار «أندرو ماثيسون» لثلاث سنوات. تقع في شارع «باترنستر رو» لكن لا أذكُر رقم المبنى تحديدًا. كنتُ أطمحُ في السابق إلى فتحِ متجرِ كتُب، وأن أجعل لينكليتر من بيزلي اسمًا كبيرًا في هذا المجال. لكن حصَلتُ على عرض العمل ذلك من هيثرويك، وكنتُ أرغب في الزواج، فرجَّحتُ كفَّة المال على كفَّة الطموح. لا أشعُر بالندم على هذا الخيار. لولا هذه الحرب، لكوَّنتُ ثروةً طائلةً من راتبي والعمولات … انطفأ غَليوني. ألديك عود ثقاب يا سيد مكاسكي؟»
كان الرجل مرحًا، وظل يُثرثر حتى أعلنتُ عن رغبتي في الذهاب إلى الفِراش. لو كان هذا الرجل التاجر الذي تحدَّث عنه آيموس، ورآه في صحبة جريسون، فقد اختبرتُ كيف يُخطئ الرجال الحاذقون في أحكامهم في بعض الأحيان. ربما يكون الرجل انضَم إلى جريسون في أثناء قدومِه بعبَّارة سكاي، وأرهَق ذلك العَبوس بثرثرته ليس إلا.
استيقظتُ مبكرًا، وتناولتُ فطورًا مكوَّنًا من عصيدة الشوفان وسمك الحدوق الطازج، ثم سرتُ إلى محطة القطار التي كانت على بُعد مسافةٍ قريبةٍ من الفندق. كان الصباح دفيئًا رطبًا، خاليًا من أشعة الشمس، تكاد لا تتبيَّن فيه تلال سكاي من كثرة الضباب. كانت مقصوراتُ القطار الثلاث مُمتلئةً تقريبًا عندما اشتريتُ تذكرة القطار، واخترتُ عربةً من الدرجة الثالثة، تسمح بالتدخين، على متنها أربعةُ جنودٍ عائدين من عطلتهم.
بدأ القطار يتحرك من مكانه عندما ركض مسافرٌ مُتأخرٌ على المحطة وقفز إلى العربة بجواري. قال بصوتٍ مبتهج: «صباح الخير يا سيد مكاسكي»، فعلمتُ أنه الرجل الذي تعرَّفتُ إليه في الفندق.
تَرجْرجَ القطار مُبتعدًا عن الساحل وسالكًا وادِيًا عريضًا خرج منه إلى أرضٍ مُستنقعيَّةٍ شاسعة، تلُوح في شمالها تلالٌ مرتفعة. كان الطقس في ذلك اليوم يبعث على الاسترخاء، ومع اهتزاز القطار والازدحام البشري داخله، شعرتُ أن جفنَيَّ ينسدلان. حظيتُ بقيلولة، استيقظتُ منها لأجد أن السيد لينكلاتر قد غيَّرَ مقعده وصار يجلس بجواري.
قال: «لن نستطيع الحصول على صحيفة «سكوتسمان» قبل أن نصل إلى محطة مويرتاون. ما رأيك أن تعطيني أحد الكُتيبات التي تحملُها لقراءتها؟»
كنتُ قد نسيتُ أمر عينات الكتب. فتحتُ الحقيبة ووجدتُ أغرب مجموعة من الكُتيبات، جميعها لها أغلفةٌ زاهية. بعضُها كانت دينيةً مثل «ندى جبل حرمون» و«عين سلوان النضاحة»؛ والأخرى قصص أطفالٍ بريئة مثل «كيف ادخر تومي بنساته» و«المُبشِّر الصغير في الصين» و«الصغيرة سوزي وعمها». كما وجدتُ «حياة ديفيد ليفينجستون» وكتابًا للأطفال عن المحار ونسخةً مذهبةً فاخرةً لقصائد جيمس مونتجمري. عرضتُ هذه المجموعة على السيد لينكليتر، فابتسم واختار «المُبشِّر الصغير في الصين». قال: «ليس هذا نوع الكُتب الذي أقرؤه في العادة، أنا أفضِّل الكتبَ التي تتناول موضوعاتٍ جريئةً كأعمال هول كين وجاك لندن. بالمناسبة كيف توفِّق بين التعامل مع المكتبات والبيع المباشر؟ عندما كنتُ أعمل مع دار ماثيسون واجهتُ متاعبَ عند التعامل مع الزبائن مباشرة مثلما تفعل الآن.»
بدأ اللعينُ يتحدث عن تفاصيل تجارة الكتب التي أجهلها. أراد أن يعرف المعايير التي نتبعُها في بيع «كتب النشء»، ونسبة الخصم التي نمنحُها لبائعي الجملة، ونوعية الكتب التي نطرحُها في قسم «الخصومات». لم أفهم أيًّا من مفردات المهنة التي استخدَمها، ولا بد أنني كشفتُ عن جهلي، لأنه سألني عن شركاتٍ لم أسمع اسمها من قبلُ ولم أستطع التهرُّب من الإجابة. حدَّثتُ نفسي أن هذا الغبي لا ضرَر منه، وأن رأيه بشأني عديم الأهمية، لكن في أول فرصةٍ سنحَت لي تظاهرتُ بانشغالي بقراءة رواية «سياحة المسيحي»؛ إذ كانت تتوافر نسخةٌ منها فاقعةُ الألوان وسط الكتيبات. انفتحَت الرواية على الفصل الذي يروي دخول المسيحي والراجي الأرض المسحورة، وفي تلك العربة الخانقة سرعان ما حذوتُ حذو شخصيتَي «المتهامل» و«المتجاسر» في «سياحة المسيحي» وغططتُ في النوم. أيقظَتْني قرقعة القطار عند تقاطعٍ صغيرٍ في المرج. جلستُ بعينَين مغلقَتَين، في راحةِ بالٍ مُمتعة، واختلستُ النظر إلى رفيقي. وجدتُه ترك كتيب «المُبشر الصغير»، وانهمك في قراءة كتابٍ ذي غلافٍ بنيٍّ ضارب إلى الرمادي، وراح يضع إشاراتٍ على الفقرات بقلم رصاص. بدا مُستغرقًا في مهمته على نحوٍ غيرِ معهود؛ إذ اختفت تلك النظرة المرحة الفارغة لذلك البائع المتجول الثرثار وحلَّت محلها فطنةٌ وعزمٌ ووقار. ظلِلتُ مُنحنِيَ الرأس كأنني لا أزال نائمًا، وحاولتُ تخمين موضوع الكتاب. لكن عجزَت عيناي، رغم حدَّتهما، عن فهم أي شيءٍ من النص أو العنوان، باستثناء أنْ رجَّحتُ أن لغة الكتاب ليست الإنجليزية.
استيقظتُ بغتةً وانحنيتُ نحو الرجل. فوضع القلم الرصاص في جيبه بسرعة البرق، ونظر إليَّ بابتسامةٍ بلهاء.
قال: «ما رأيك في هذا يا سيد مكاسكي؟ اشتريتُه في مزاد مع خمسين كتابًا أخرى. ودفعتُ خمسةَ شلناتٍ ثمنًا لها. يبدو الكتابُ مكتوبًا بالألمانية، لكن لم أتعلم اللغات الأجنبية في الطفولة.»
تناولتُ الكُتَيب وقلَّبتُ صفحاته، وحاولتُ المحافظة على دلائل عدم الفهم على وجهي. كانت لغة الكُتيب الألمانية، وهو عبارة عن دليلٍ إرشاديٍّ عن الجغرافيا المائية، ليس مدوَّنًا عليه اسم دار النشر. كان شبيهًا بالكُتب التي تُوزِّعها الحكومة على موظَّفيها.
أعدتُ الكُتَيب لصاحبه. قلتُ: «إنها الألمانية أو الهولندية. لستُ خبيرًا، غير أنني تعلمتُ شيئًا من الفرنسية واللاتينية في مدرسة هريوت … هذا قطارٌ في غاية البطء يا سيد لينكليتر.»
كان الجنود يلعبون ببطاقاتِ اللعبِ واقترح البائعُ المتجولُ أن ننضَم لهم. تذكَّرتُ في الوقت المناسب أنني شيخٌ في كنيسة نيثرجيت الحرة المتحدة، فرفضتُ المشاركةَ بشيءٍ من الانفعال. بعد ذلك، أغمضتُ عيني مجددًا؛ إذ أردتُ تحليلَ هذه المعطياتِ الجديدة.
كان لينكليتر يعرف الألمانية بلا شك. ورُؤي في صحبةِ جريسون. لا أعتقد أنه يشُك بي، لكني أشُك به بشدة. كانت مهمَّتي هي الالتزام بالدور الذي أؤديه وألا أثير شكوكه. كان من الواضح أنه يؤدي أمامي دور الشخصية التي يتنكَّر بها، ولا بُد لي أن أسايره. على الفور فتحتُ عيني وأشركتُه في نقاشاتٍ مثيرةٍ للجدل عن أخلاقية بيع المشروبات الكحولية القوية. وتحدَّث هو بطلاقةٍ مدافعًا عن الكحوليات دفاعًا عقلانيًّا شديدًا. أثار النقاشُ اهتمام الجنود، فأخرج أحدُهم قنينةً من الخمر وقدَّمها للينكليتر دلالةً على تأييده لموقفه. ختمتُ بتعقيبٍ حزينٍ أن البائع المتجول كان أكثر صلاحًا حينما كان يبيع الكتب لصالح دار ألكسندر ماثيسون، فوضع هذا حدًّا لنقاشنا.
حطَّم القطار الرقم القياسي في بطئه. توقَّف في كل محطة، وبعد الظهيرة أنهكه السير فقبع وسط أرضٍ مُستنقعيةٍ مدةَ ساعةٍ يستريح. كنتُ أخرج رأسي من النافذة من حينٍ لآخر، فأشم رائحةَ المُستنقعات الطينية، وعندما توقَّفنا فوق جسر، تأمَّلتُ سمك التروتة السابح في بِرك النهر البُني. بعد ذلك، تناوبتُ بين النوم والتدخين، وبدأ الجوع ينهش أحشائي.
ذات مرةٍ استيقظتُ لأجد الجنود يتناقشون في الحرب. كان هناك جدلٌ بين جندي أول في فوج المشاة الاسكتلندي وجندي ألغام حول حادثةٍ تافهةٍ في معركة السوم.
قال الجندي الأول: «أؤكِّد لك أني كنتُ هناك. تسلمنا زمام الأمور من الكتيبة الثالثة من الفوج الملكي الاسكتلندي، فيما انهمَك الألمان في قصف الطريق، ولم نصل إلى الجبهة حتى الواحدة صباحًا. وكانت المسافة بين قرية فريكورت وأقصى جنوب منطقة هاي وود لا تقل عن خمسةِ أميال.»
قال جندي الألغام بنبرةٍ قاطعة: «بل لا تزيد عن ثلاثة أميال.»
قال الجندي الأول: «لقد سِرتُ هذه المسافة بنفسي.»
قال جندي الألغام: «وأنا أيضًا. كنت مسئولًا عن إزالة الأسلاك الشائكة كلَّ ليلةٍ لمدة أسبوع.»
نظر الجندي الأول إلى رفقته بتجهُّم. قال: «أتمنَّى لو أن معنا شخصًا آخر يعرف المكان جيدًا. حينها سيؤكِّد ما أقوله. هؤلاء الجنود لا يعرفون؛ إذ لم ينضَموا للحرب إلا في وقتٍ لاحق. أؤكَّد لكم أن المسافة تبلغ خمسة أميال.»
قال جندي الألغام: «بل ثلاثة.»
احتدَّ النقاشُ بين الجنديَّين المتنازعَين؛ إذ شَعَر كلٌّ منهما أن رفيقَه يُشكِّك في مصداقيته. كان الجو حارًّا إلى حدٍّ يجعل المرء لا يُطيقُ حدوث شجار، وكنتُ أشعُر بالنُّعاس الشديد فتخلَّيتُ عن حذَري.
قلتُ: «اصمُتا أيها الأحمقان. المسافة بين الميدان والغابة ستة أميال؛ لذا كلاكما مخطئان.»
كانت نبرة صوتي مألوفةً للغاية للجنديَّين، فتوقَّفا عن النزاع، لكنها كانت بعيدةً كل البُعد عن نبرةِ مندوبِ دار نشر. أرهفَ السيد لينكليتر السمع.
سأل بلا اكتراث: «كم تبلُغ تلك المسافةُ بالأميال سيد مكاسكي؟»
قلتُ: «اضرب المسافة في خمسة ثم اقسم على ثمانية وستحصل عليها بالميل.»
عُدتُ إلى حذري، وحكيتُ قصةً طويلةً عن ابن أخي الذي قُتل في معركة السوم، وعن مراسلاتي مع مكتب الحرب بخصوصه. قلتُ: «بالإضافة إلى ذلك أنا مطلعٌ جيدٌ على الصحف، وقرأتُ كل الكتب التي تُناقِش مسألة الحرب. هذا وقتٌ عصيبٌ على الأمة، واتباع سير العمليات العسكرية يُساعِد في تجاوُز هذه المحنة. أعني بذلك دراسةَ المواقعِ على الخريطة وقراءةَ تقاريرِ المشير الميداني هيج.»
أجاب بخشونة: «هذا صحيح»، ورأيتُ نظرةً غريبةً في عينَيه.
ثم طرأَت لي فكرة. هذا الرجل كان يرافق جريسون، كما أنه يفهم الألمانية، ولا يُمكِن أن يكون بائعًا متجولًا كما يدَّعي. ماذا لو أنه يعمل في جهاز المخابرات البريطاني؟ لقد ظهرتُ من العدَم في كايل، ولم أفلح في التظاهُر بأنني بائعٌ متجول؛ إذ كشفتُ عن جهلي بهذه التجارة. وأعرف معلوماتٍ محظورةً على المواطنين العاديين؛ لذا فإنه لديه من الأسباب ما يكفيه لمراقبة تحركاتي. هو يعزم على الذهاب إلى الجنوب، وأنا مثله؛ لا بد إذن أن نفترقَ بطريقةٍ ما.
سألت: «هل سنُغيِّر القطارَ في محطة مويرتاون؟ متى سيُغادر القطار المتجه إلى الجنوب؟»
تفقَّد الرجل كُتيبًا صغيرًا يحتوي على مواعيد القطارات. قال: «سيغادر القطار في ١٠:٣٣ مساءً. وقت الانتظار في العادة أربع ساعات؛ إذ من المقرَّر أن يصل قطارنا في ٦:١٥. لكن سنكون محظوظين إن وصل هذا القطارُ القديمُ إلى المحطة في ٩:٠٠.»
صحَّت توقعاته. فقد شَق القطار طريقَه عَبْر التلال إلى السهول الفيضية وأشرفَ على بحرِ الشمالِ لفترةٍ وجيزة. ثم توقَّف إلى أن عَبَر قطارُ بضائعَ طويلٌ على القضبان. كان الليل قد حلَّ تقريبًا عندما زحف إلى محطة مويرتاون أخيرًا، ولَفظَ حمولتَه من الجنود الذين يشعُرون بالحر والإنهاك.
ودَّعتُ لينكليتر بحفاوةٍ مبالغة. قلتُ: «سعدتُ جدًّا بلقائك. أراك لاحقًا في القطار المتجه إلى إدنبرة. سأتمشى قليلًا لأحرِّك ساقيَّ وأتناول العشاء.» كنتُ قد اتخذتُ قراري بأن أفوِّت قطار ١٠:٣٠ المتجه للجنوب.
كانت خطتي هي أن أعثُر على فندقٍ معزولٍ لأبيت فيه الليل وأتناوَل العشاء، ثم أسير إلى المحطة في صباح اليوم التالي وأستكمل رحلتي إلى الجنوب في قطارٍ بطيءٍ آخر. اختفى لينكليتر في اتجاهِ مقصورةِ الحراس؛ إذ ذهب يبحث عن حقيبة سفره، فيما جلس الجنود على حقائبهم يبدو عليهم أنهم تائهون ومُهمَلون إلى أقصى حدٍّ كعادة المحاربين البريطانيين في أثناء عطلاتهم. سلَّمتُ تذكرتي، ولأنني نازل من قطارٍ قادم من الشمال، دخلتُ شوارع المدينة بدون معوِّقات.
كانت ليلة السوق، فاكتظَّت الشوارع بالباعة والمشترين. ورأيتُ أفرادًا من البحرية البريطانية يتجوَّلون ببزَّاتهم الزرقاء، وأبناءً من البلدة يتسوَّقون، وعسكريين من مختلف الكتائب والرتب يحتشدون على الأرصفة. وضجَّت الشوارع بنداءاتِ باعةِ السمكِ على سلعهم، وبموسيقى تستقبحها الآذان لعازف ناي رث الثياب في الزاوية. اتخذتُ طريقًا ملتويًا طويلًا حتى وقع اختياري في النهاية على فندقٍ متواضعٍ في شارعٍ جانبي. وعندما دخلتُ لأسأل عن غرفةٍ شاغرةٍ للمبيت، لم أجد أحدًا في مكتب الاستقبال، لكن فتاة رثة المظهر أخبرَتْني بوجود غرفةٍ واحدة، وأنه يُمكنني تناوُل لحم عجة اللحم في الحانة. وبعد أن صدمتُ رأسي بشدةٍ بعارضةٍ خشبيةٍ نزلتُ الدرَج بخطواتٍ متعثرةٍ ودلفتُ إلى غرفةٍ صغيرةٍ خانقةٍ تفوح منها رائحة بيرةٍ مسكوبة وتبغٍ عطن.
تبيَّن أنه من المستحيل تناوُل عجة اللحم التي وعدَت بها الفتاة، بسبب عدم توفُّر البيض في مويرتاون تلك الليلة، وحصَلتُ بدلًا منها على لحم ضأنٍ بارد وكوبٍ من جعةٍ رديئة. كانت الحانةُ فارغةً باستثناء مزارعَين يحتسيان ويسكي ساخنًا وماء ويتناقشان بجدية بشأن ارتفاع أسعار علَف الماشية. تناولتُ عشائي، وتهيأتُ للبحث عن غرفتي، عندما دخل اثنا عشر جنديًّا إلى الحانة من الباب الرئيسي.
في غضون لحظةٍ تَحوَّل الهدوء إلى الفوضى. كان الجنود في حالةِ صحوٍ تامة، لكنهم كانوا في مزاجٍ رائقٍ يستدعي احتساءَ مشروبٍ مُسكِر من نوعٍ ما. عرض أحدُهم أن يدفع ثمن المشروبات؛ كان قائد هذه المجموعة، وقد أراد تسليةَ أصدقائه احتفالًا بانتهاء عطلته. لم أستطع رؤية وجهه من مكاني، لكن هيمَن صوتُه على الأجواء. قال: «ما الذي تريد تناوُله يا رجل؟ أترغب في الجعة يا أندرو؟ سأحصل على كوبٍ من البيرة وجرعةٍ من الويسكي. مذاقُه أفضل من النبيذ الأبيض والأحمر يا ديفيد. عندما أجلس في مثل هذه المنشآت كما يُسمُّونها، يأخذني الحنين للحانات الاسكتلندية ذات الجودة.»
بدا صوتُه مألوفًا. حركَّتُ مقعدي لأسترقَ النظرَ إلى وجهه، وسرعان ما تراجعتُ للخلف. كان الجندي الاسكتلندي الذي لكمتُه في فكِّه دفاعًا عن جريسون بعد لقاء جلاسكو.
لكن الحظ التعيس مكَّنه من رؤيتي.
هتف: «من ذا الجالس في الزاوية؟» وترك المنضدة ليتفحصني بعينَيه. هذا غريب، لكنك إذا تعاركتَ مع رجل مرة، ولو لبضع لحظات، فلن تنسى وجهه، ولأن ذلك العِراك في جلاسكو تحت مصباحِ الشارع. لقد تعرَّف عليَّ الاسكتلندي جيدًا.
هتف: «يا إلهي! كم أنا محظوظ! هذا هو الرجل الذي تشاجرتُ معه في جلاسكو يا رفاق. لقد أخبرتُكُم عنه إن كنتم تذكُرون. لقد طرحَني أرضًا، وأتى دوري لآخُذ بثأري. كان بداخلي شعور أن هذه الليلة ستكون مُثيرة. لا أحد يضرب جوردي هاملتون ويُفلتُ بفعلتِه. انهض يا رجل لأُخلِّص حقي.»
نهضتُ من مقعدي استجابةً لأمره، ونظرتُ إلى وجهه مباشرةً بعدما بذلتُ وسعي للمحافظة على رباطة جأشي.
قلتُ: «أنتَ مخطئ يا صديقي. لم أرَكَ من قبلُ، ولم أذهب إلى جلاسكو أبدًا.»
قال الجندي الاسكتلندي: «يا لكَ من كذابٍ أشر. أنتَ الرجل المقصود، وحتى إن لم تكن هو، فأنت تُشبهه إلى حدٍّ يجعلك بحاجة لأن تلوذ بالفِرار!»
قلتُ: «كُف عن الهُراء! لم أتشاجر معك، كما أني مُنشغل بأمورٍ أهم من الشجار مع شخصٍ لا أعرفه في حانة.»
قال: «حقًّا؟ حسنًا، سأُلقنك درسًا. سأضربك ثم افعل ما تشاء. أمسِك سترتي، يا توماس، وتأكد ألا ينسكبَ مشروبي.»
أثار الموقف استيائي؛ إذ إن أي شجارٍ سيجذب أفراد الشرطة وسيفتضح أمري. فكَّرت في معاركته، لأنني كنتُ واثقًا من قدرتي على هزيمته مرةً أخرى، لكن الأسوأ في الأمر أنني لا أعلم ما ستئول إليه الأمور في النهاية. قد أضطَر إلى قتال المجموعة بأكملها، وسيُحدِث هذا ضجةً كبيرة. بذلتُ غايةَ ما في وسعي لإثناء الجندي الاسكتلندي عن عزمه. قلتُ له إننا أصدقاء وعرضتُ شراء مشروباتٍ للجميع. لكنه كان أبعدَ ما يكون عن المنطق، ومتلهفًا للقتال، يُشجِّعه في ذلك رفاقُه أيَّما تشجيع. نزعَ سُترتَه العسكرية، وراح يطرُق الأرض مكوِّرًا قبضتَيه.
فعلتُ أفضل شيءٍ هداني إليه تفكيري في هذا الموقف. كان مقعدي قريبًا من الدرَج الذي يؤدي إلى الجزء الآخر من النُّزُل. فانتشلتُ قُبعتي، وصَعِدتُ الدرَج بأقصى سرعة، وقبل أن يستوعب الجنود ما حدث أوصدتُ الباب خلفي بالمزلاج. فسمعتُ هرْجًا ومرْجًا في الحانة.
تسلَّلتُ عَبْر ممرٍّ مظلمٍ إلى ممرٍّ آخرَ يتقاطع معه، بدا أنه يربط بين المدخل الرئيسي للنُّزُل والجزء الخلفي من المبنى. سمعتُ أصواتًا في الردهة الصغيرة فتوقَّفتُ في مكاني بغتة.
ميَّزتُ من بين هذه الأصواتِ صوتَ لينكليتر، لكنه لم يكن يستخدمُ طريقتَه المعهودةَ في الكلام. سمعتُه يتحدث بلغةٍ إنجليزيةٍ جيدة. وتحدَّث الثاني بلهجةٍ اسكتلنديةٍ — خمَّنتُ أنه صاحبُ الفندق — والثالث بلهجةٍ متعاليةٍ بدت أنها لضابطٍ شرطيٍّ بسبب شدَّة التأهُّب والرسمية. سمعتُ أيضًا لينكليتر يقول: «يُسمِّي نفسه مكاسكي.» بعد ذلك توقَّفَت الأصوات؛ إذ انتقل صخَبُ الجنود من الحانة إلى الباب الأمامي. إذ جاء الجنديُّ الاسكتلنديُّ ورفاقُه يبحثون عن مكاني عَبْر المدخل الآخر.
تشتَّت انتباه الرجال الثلاثة في الردهة، فمنحَني ذلك فرصةَ الهرب. لم أرَ مخرجًا من هذا المأزِق سوى الباب الخلفي. تسلَّلتُ من خلاله إلى الفِناء، وكدتُ أتعثَّر في حوضِ ماء. وضعتُ الحوضَ عند الباب لعرقلة القادمين من هذا الاتجاه. قادني بابٌ إلى إسطبلٍ فارغ، ومنه خرجتُ إلى زقاق. كان الأمرُ في غاية السهولة، لكن ما إن خطوتُ إلى الزقاق حتى سمعتُ ضجةً عاليةً وأصواتًا غاضبة. سقط أحد المطارَدين في الحوضِ ورجوتُ أن يكون لينكليتر. في تلك اللحظةِ شعَرتُ بالتقدير تجاه ذلك الجندي الاسكتلندي.
كان القمر هلالًا، لكن الزقاق الذي كنتُ فيه كان شديدَ الظلمة. ركضتُ ناحية اليسار؛ إذ بدا أن الاتجاه الآخر يؤدي إلى نهايةٍ مسدودة. وجدتُ نفسي في طريقٍ هادئٍ تصطَف فيه أكواخٌ من طابقَين وينتهي أحد طرفَيه بشارعٍ جيدِ الإضاءة. لذا سلكتُ الطرف الآخر؛ لأنني لا أريد أن يُلاحقَني جميع سكان مويرتاون. وصلتُ إلى طريقٍ ضيق، والتقيتُ بجماعة المطارِدين، التي لا بُد أنها سلكَت طريقًا مختصرًا. فور أن رآني الرجالُ أطلقوا الصيحات، لكن كانت لديَّ فرصةٌ صغيرة، فركضتُ في ذلك الطريق على اعتقاد أنه يؤدي إلى منطقةٍ مفتوحةٍ من الريف.
كنتُ مخطئًا في اعتقادي. قادني الطريقُ إلى الجانب الآخر من البلدة، وفي الوقت الذي بدأتُ أفكِّر فيه أني قد نجحتُ بالإفلات من المطارِدين، رأيتُ أمامي أضواءَ برج تحويل خطوط السكة ومصابيح المحطة على بُعد مسافةٍ غيرِ بعيدة ناحية اليسار. في غضونِ نصفِ ساعةٍ سيغادر قطار إدنبرة، لكن أن أصعد على متنه لهو ضربٌ من ضروب المستحيلات. كنتُ أسمع خلفي أصواتَ المطاردين التي صارت عاليةً جدًّا بعد أن جذبوا إليهم بعض السكارى. وقفتُ حائرًا لا أدري أين أذهب عندما لاحظتُ امتداد خَطٍّ طويلٍ من الأضواء الضبابية خارج المحطة التي لا يمكن أن تعني إلا قطارًا مُسدَلةً ستائر مقصوراته. كانت عربة المحرك مُلحقةً بالقطار في انتظار إضافة بعض العربات ليبدأ رحلته. كانت مجازفةً كبيرة، لكن لم أجد مخرجًا آخر. اندفعتُ عَبْر الخلاء، وتسلقتُ حاجزًا صناعيًّا، لأجد نفسي على خط السكة الحديدي. احتميتُ بالوصلات الرابطة بين العربات وسِرتُ تحتها حتى وصلتُ إلى الطرف الأقصى من القطار بعيدًا عن العدو.
ثم حدث أمران متزامنان. سمعتُ صيحات المطارِدين على بُعْد اثنتَي عشرة ياردة، وفي اللحظة نفسها تحرك القطار. ألقيتُ بنفسي على درَج إحدى المقصورات ونظرتُ إلى الداخل من خلال نافذةٍ مفتوحة. كانت المقصورة مكتظةً بالجنود؛ حيث يجلس ستة على الجانبَين واثنان على الأرض، ومُغلقة الباب. سارعتُ بإلقاء نفسي عَبْر النافذة فسقطتُ على عنق جنديٍّ منهكٍ غَطَّ لتوِّه في النوم.
سقطتُ على رأس الجندي، وأنا أفكِّر فيما سأقوله. قرَّرتُ التظاهر بالسُّكْر؛ إذ أعرف شفقةَ الجنود البريطانيين غير المحدودة بمن يتغلَّب عليهم السُّكر. ساعدوني على النهوض، فيما حكَّ الجندي الذي سقطتُ فوقه جُمجُمته وطلب توضيحًا بغضبٍ.
قلتُ فيما أتظاهر بالإفاقة: «أستميحكم عذرًا يا سادة. تأخَّرتُ على هذا القطار اللعين ولا بد من حضوري غدًا في إدنبرة وإلا فسأتعرض للطرد من عملي. لو آذيتُ رأس صديقي، فسأقبِّلها لتبرأ.»
انفجر الحاضرون ضاحكين. قال أحدهم: «ينبغي أن تُوافق يا بِيت. فلم يعرض أحدٌ من قبلُ تقبيلَ رأسِك القبيح.»
سألني ثانٍ مَن أكون، فتظاهرتُ بالبحث عن حافظة البطاقات.
تأفَّفتُ: أضعتُها، أضعتُ الحافظة وحقيبتي الصغيرة، وأفسدتُ قُبعتي المُتواضعة. مظهري لا يسُرُّ الناظرين أيها السادة، بل أنا عبرةٌ لمنْ يتأخَّر على قطاره. اسمي جون جونستون، وأعمل كاتبًا أول في شركة «ميسرز ووترز براون آند إلفاستون الكائنة في ٩٢٣ شارع تشارلوت، إدنبرة. جئتُ إلى الشمال لزيارة أمي.»
قال ثالث: «ينبغي أن تكون في فرنسا.»
أجبتُ: «ليتَني أستطيع لكنهم لم يسمحوا لي بالذهاب. قالوا: «لستَ في حالةٍ لائقةٍ يا سيد جونستون. فأنت تعاني تورُّمًا في الأوردة ولديك قلبٌ سقيم.» فأجبتُ: «إلى اللقاء يا سادة. لا يلومني أحدٌ إن خربتُ الدولة.» ولم أزد على ذلك.»
كنتُ قد شغلتُ المساحة المتبقية على أرضية المقصورة. تقبَّل الجنود وجودي بفلسفتهم العملية وعادوا إلى محادثتهم. زاد القطار من سرعته، وخمَّنتُ أنه من نوعٍ خاص؛ لذا توقعتُ ألا يتوقف في محطاتٍ كثيرة. لم تكن مقصورةً ذات ممَر، بل كانت من الطراز القديم؛ لذا شعَرتُ أنه لن يتعرَّض لي قاطع التذاكر لفترة من الوقت. مدَدتُ ساقيَّ تحت المقعد، وأسندتُ رأسي إلى ركبة جندي مدفعية مفتول العضلات، محاولًا الاسترخاء قَدْر المستطاع.
ازدحم عقلي بالأفكار الكئيبة. لقد تعقَّدَت ظروفي، وانتابني ذلك الشعورُ بالانفضاح الذي ينتاب المرء في حُلم يرى فيه أنه يخرج على خشبةٍ بملابس النوم. استخدمتُ ثلاثة أسماءٍ مستعارةٍ في ثلاثة أيام، وانتحلتُ ثلاث شخصيات. شعَرتُ أنني بلا منزل أو مأوى، بل مجرد كلبٍ شريدٍ يتخَطَّفه الأعداء من جميع الجهات. كان شعورًا بغيضًا لم يصرفه أيُّ هلع أو إدراك أنني وقعتُ في مأزقٍ لا مخرج منه. كنتُ أعلم أنه يمكنني الذهاب إلى إدنبرة بكل سهولة، وإذا أحدثَت الشرطة مشكلة، وهذا غيرُ مُستبعَد، فسأرسل برقيةً إلى شرطة سكوتلاند يارد، وستتولى معالجة الأمر خلال ساعتَين. لم يكن هناك حتى أي تهديد على سلامتي يحفظ لي ماء وجهي. بل أسوأ ما يمكن أن يحدُث هو أن يكتشف أفري علاقتي بالسلطات، وسينتهي بذلك الدور الذي أؤدِّيه. وسيكتشفها حتمًا. فجهاز الاستخبارات الخاص به جدير بكل الاحترام.
كان هذا سيئًا بما يكفي. حتى الآن أدَّيتُ عملًا ممتازًا. نجحتُ في تشتيت انتباه جريسون. ووجدتُ المعلومة التي يبحث عنها بوليفانت، وما عليَّ سوى الرجوع إلى لندن دون أن أجذب الانتباه لأفوز في اللعبة. حدَّثتُ نفسي بكل هذه الأمور، لكنها لم تفلح في التسرية عني. شعَرتُ أنني وضيعٌ مطارد ترتعد فرائصه.
لكني كنتُ عنيدًا لا أرضى الاستسلام حتى النفَس الأخير. كانت الظروف كلها ضدي. فالشرطة الاسكتلندية تبحث عني في كل مكان، وتنتظرني لتُرحِّب بي في نهاية الرحلة. وفسدَت قبعتي وتَلفَت ملابسي، بحسب وصف آيموس. كنتُ قد حلقت لحيتي التي لم أهذِّبها لأربعة أيام في الليلة السابقة، لكني جرحتُ وجهي في أثناء ذلك، ومع وجهي الذي لوَّحَته الشمس وشعري الملبَّد، بدوتُ مثل غجريٍّ لا مندوبٍ محترم. شعَرتُ بالحنين لحقيبة سفري في فندق بنتلاند، والحلة الصوفية الأنيقة الزرقاء، والملابس الكتَّان النظيفة. لم أعد أستطيع اللعب في الخفاء، إذ انكشفَت جميع أوراقي. لكني لا أزال عازمًا على المقاومة حتى آخر لحظة. لو توقَّف القطار في أي مكان، فسأغادره، وأترك البقية لِسعة حيلتي، وحظ الجيش البريطاني الذي لا ينضب.
أتت الفرصة المواتية بعد الفجر مباشرةً عندما توقف القطار في محطةٍ يلتقي عندها خطَّا سكة حديد. نهضتُ من مكاني، متثائبًا، وحاولتُ فتح الباب، قبل أن أتذكَّر أنه مغلق. أخرجتُ ساقي من النافذة بدلًا من ذلك، في الجانب غير المقابل للرصيف، عندما أمسَك بي جندي من كتيبة سيفورث لا يزال به أثَر النوم ظنًّا منه أنني أفكر في الانتحار.
قلتُ: «دعني أذهب. سأعود في لمح البصر.»
قال اسكتلندي آخر: «دعه يذهب. أنت تعرف كيف يكون حال المرء عندما يُفرِط في الشرب. سيساعده الهواء البارد على الصحو.»
أطلق الجندي سراحي، وقفزتُ هابطًا على خط السكة الحديدية، ثم شققتُ طريقي حول مؤخرة القطار. وصعِدتُ الرصيف، في الوقت الذي بدأ القطار فيه يتحرك، ورأيتُ وجهًا ينبثق من إحدى المقصورات الخلفية. كان ذلك لينكليتر وتعرَّف عليَّ. حاول الخروج، لكن سرعان ما أغلق الباب حمَّالٌ غاضب. سمعتُ احتجاجاته، وظلَّ ينظر خارج النافذة حتى توارى القطار عن الأنظار. أفسَد هذا فرصتي في النجاح تمامًا. لا بد أنه سيُرسل برقية إلى الشرطة من المحطة التالية.
في ذلك المكان النظيف، المُقفِر، البارد، وجدتُ مسافرًا واحدًا. كان رجلًا نحيفًا يحمل حقيبة ظهر وحقيبةً أخرى بداخلها بندقية. بدا في غاية الأناقة، بقُبعته المستديرة الخضراء، ومعطفه الطويل الصوفي الفاخر الذي كان لونُه يُشبه لونَ القبعة، وحذائه اللامع مثل كستناء الحصان. اختلستُ النظر إلى جانب وجهه وهو يُسلِّم تذكرته ولدهشتي تعرَّفتُ عليه.
تفحَّصَني ناظر المحطة بملابسي غير المرتَّبة وشعري الأشعَث في ارتياب. حاولتُ أن أستخدم نبرةً سلطويةً في الحديث.
سألتُ: «مَن هو الرجل الذي خرج للتو؟»
سأل: «أين تذكرتُك؟»
قلتُ: «لم يكن لديَّ مُتسع من الوقت لشراء واحدة في محطة مويرتاون، وتركتُ حقيبتي خلفي كما ترى. خذ جنيهًا، واخصِم منه ثمن التذكرة، وسأعود لآخُذ الباقي. أريد التأكد أن هذا هو السير آرشيبالد رويلانس.»
نظر الناظر بارتياب إلى العُملة الورقية. قال: «أظنُّ أن هذا هو اسمه. وهو مدرِّبٌ في الأكاديمية الجوية. ما الذي تريده منه؟»
عَبرتُ من مكتب التذاكر بسرعة، ووجدتُ رِجلي على وشك دخول سيارةٍ رماديةٍ كبيرة.
هتفتُ، وأنا أضربه على كتفَيه ممازحًا: «آرشي!»
استدار بحدة. سأل: «بحق الجحيم …! مَن أنت؟» ثم بدأَت دلائل الاستيعاب تسري إلى وجهه تدريجيًّا، فأطلق صيحةً مبتهجة. ثم قال: «مرحى! إنه اللواء متنكرًا في هيئة تشارلي تشابلن! أتريد أن أوصلَك يا سيدي؟»