على جناح السرعة
قلتُ: «أوصِلني إلى أي مكانٍ يا آرشي لأتناول الإفطار، فأنا أتضور جوعًا.»
دلفنا إلى صندوق الشاحنة، وأخرجنا السائق من المحطة بسرعة، قبل أن نصعد منحدرًا طويلًا. كان السير آرشي ملازمًا أول في كتيبتي القديمة، هايلاندرز لينوكس، ثم انفصل عنها قبل معركة السوم لينضم إلى الفيلق الجوي. سمعتُ أنه صار طيَّارًا بارعًا وأبلى بلاءً حسنًا قبل معركة أراس، وهو الآن يُدرِّب الطيارين في بريطانيا. أذكُره شابًّا مرحًا تحمَّل قدرًا كبيرًا من التقريع من جانبي على أخطائه وهفواته. لكن هذا الشاب العَفْوي هو ما أحتاج إليه الآن.
رأيتُه يختلس النظر إلى ملابسي في استمتاع.
سأل باحترام: «هل مررتَ بظروفٍ صعبةٍ يا سيدي؟»
أجبتُ: «الشرطة تطاردني.»
قال: «الأوغاد القذرون! لكن لا تقلق يا سيدي؛ سأساعدك في الهرب. فقد واجهتُ المأزق نفسه من قبلُ. يمكنك الاختفاء بكوخي الخشبي، وسيحفظ جيبينز العجوز سِرَّك. أو يمكنك الاختباءُ عند خالتي التي تقطن بالجوار، وهي امرأةٌ ذات روحٍ رياضيةٍ مغامرة. ستدعك تختبئ في قصرها الريفي المُحصَّن حتى يملَّ رجال الشرطة من البحث عنك.»
كان تقبُّل آرشي الهادئ لموقفي وكأنه أمرٌ طبيعيٌّ ومتوقعٌ هو ما أعاد إليَّ رباطة جأشي. منعَتْه أخلاقه الرفيعة من سؤالي عن الجريمة التي ارتكبتُها، ولم أنوِ شرح الموقف له. لكن فيما كنَّا نتأرجح صاعدَين المرج، أخبرتُه أنني أخدم الحكومة، لكن من الضروري أن أتظاهَر بالعكس؛ لذا لا بد أن أتجنَّب الشرطة. فأطلق صفيرًا تعبيرًا عن إعجابه.
قال: «يا لها من استراتيجيةٍ عبقرية! هل هذا تمويه؟ انطلاقًا من تجربتي، قد تنطوي المبالغة في مثل هذه الحِيَل على بعض المخاطرة. عندما كنتُ في «ميسيو»، بدأ الفرنسيون يُخفون المقطورات التي يحتفظون فيها بالحمام، وقد نجحوا في ذلك نجاحًا ساحقًا، حتى إن الكائنات المسكينة عجزَت عن العثور عليها، وباتت بالخارج.»
عبَرنا بواباتٍ بيضاءَ لمهبطِ طائراتٍ كبير، ومرَرْنا بمجموعةٍ من الخيم والأكواخ، ثم توقفنا عند كوخ في آخِر المكان. كانت الساعة الرابعة والنصف صباحًا؛ فلم يكن أحدٌ قد استيقظ بعد. أومأ آرشي تجاه حظيرة طائرات، ورأيتُ ذيل طائرة من فتحته.
علَّق آرشي: «سأُحلِّق غدًا إلى قرية فارنتون. هذا هو الموديل الأخير من طائرات «شارك جلاداس». لها مقدمةٌ ضخمةٌ ناتئةٌ مثل ظُلَّة الشجرة.
عندها خطرَت لي فكرة.
قلتُ: «ستذهب اليوم.»
هتف: «كيف عرفتَ ذلك؟ كان صيد الطيهوج في كيثنس مغريًا للغاية، فاحتلْتُ للحصول على إجازة ليومٍ آخر. لا يمكن أن يتوقَّعوا مني الذهاب إلى جنوب إنجلترا بعدما عُدتُ من رحلةٍ شاقة.»
قلتُ: «مع ذلك ستكون رجلًا ذا بأسٍ وستنطلق في غضون ساعتَين. وستأخذني معك.»
حملَق آرشي في الفراغ، ثم انفجر ضاحكًا. وقال: «أنتَ خيرُ رفيقٍ يصحبه المرء في مغامراته. لكن ماذا عن قائدي؟ إنه رجلٌ صالح، لكنه مُتحفِّظ بعض الشيء. لن يتفهَّم الموقف.»
قلتُ: «ليس بحاجةٍ إلى أن يعرف بالأمر. بل يجب ألا يعرفه. هذه مسألةٌ بيني وبينك إلى حين انتهائها. أؤكِّد لك أنني لن أستغل الفيلق الجوي. انقلني إلى فارنتون قبل حلول المساء، وستكون قد أديتَ خدمةً جليلةً للوطن.»
قال: «حسنًا! لنغتسِل أولًا ونتناول طعام الفطور، وسأكون طوعَ أمرك بعد ذلك. سأُصدر أوامري بتجهيز الطائرة.»
اغتسلتُ في غرفة نوم آرشي، وحلقتُ شعري، واستعرتُ قبعةً خضراءَ من التويد، ومعطفًا واقيًا من المطر جديدًا. غطى المعطف ملابسي الممزَّقة، وبعدما استوليتُ على قفَّازَين، شعَرتُ أن مظهري صار لائقًا نوعًا ما. طهى جيبينز المُتعدِّد المواهب لحم الخنزير المقدَّد والبيض، وراح آرشي يروي لي قصصًا فيما يتناول طعام الفطور. عندما كان آرشي في الكتيبة، دارت نقاشاتُه حول سباقات الخيل ومسرَّات حياة المدينة المتروكة، لكنه الآن لم يعُد يتحدث عن هذه الموضوعات، وراح يسترسل بحماسة عن «الصنعة» مثل جميع الطيَّارين البارعين الذين أعرفهم. أكن احترامًا كبيرًا لفيلقنا الجوي، لكنه يميل إلى تغيير مُصطلحاته الفنية كل شهر، ما يجعل من الصعب على غير المتخصِّصين فهمَ النقاشاتِ الدائرة حوله. كان آرشي في غاية الحماسة بشأن الحرب التي رآها كليةً من منظور طيَّارٍ. من منظوره كانت معركة أراس قد انتهت حتى من قبلِ عبورِ قواتِ المشاة الجبهة، وكانت ذروة معركة السوم في شهر أكتوبر لا سبتمبر. في تقديره، لم يَحِن موعد المعركة الجوية الكبرى بعدُ، وكل ما يأمله أن يُسمَح له بالخروج من فرنسا للمشاركة فيها. وجدتُه متواضعًا جدًّا بشأن قدراته مثل الطيارين الأكفاء. قال: «مارستُ سباقات الحواجز والصيد من قبلُ، كما أنني أحسِن السيطرة على الخيل؛ لذا يمكنني السيطرة على الطائرات بكل سهولة. مناط الأمر هو الأيدي الماهرة. لا يُواجِه الطيار بالأعلى نصف الخطر الذي يواجهه جنديُّ المشاة بالأسفل، بالإضافة إلى أن الطيران أمتعُ ملايينَ المراتِ من القتال على الأرض. أنا في غاية السرور أنني انتقلتُ إلى الفيلق الجوي يا سيدي.»
تحدَّثنا عن بيتر الذي كان آرشي يراه أفضل الطيارين. رأى أن الطيَّار الألماني الوحيد الذي يمكنه منافسته هو فوس؛ لأنه لم يحسم رأيه بعدُ في لينش. أما الطيَّار الفرنسي جوينيمير فهو يراه كفؤًا لكن في جوانبَ مختلفة. أتذكَّر أنه لم يُكِنَّ أي احترام لريشتهوفن ولا سربه العسكري الشهير.
في تمام الساعة السادسة صباحًا كنَّا على استعداد للانطلاق. أخرج اثنان من ميكانيكيي الطائرات الطائرة من مخبئها، وارتدى آرشي معطفه وقفازه، وركب في مقعد الطيَّار، فيما حشرتُ نفسي في الخلف في مقعد المراقب. بدأ أفراد المطار يستيقظون، لكن لم أرَ ضباطًا في الأنحاء. وما إن جلسنا في مقاعدنا حتى جذب جيبينز انتباهَنا إلى سيارة في الطريق، وسرعان ما سمعنا صيحةً عاليةً ورأينا رجالًا يلوِّحون في اتجاهنا.
قلتُ: «يُستحسَن أن تُقلِع يا ولدي. يبدو أن هؤلاء أصدقائي من الشرطة.»
بدأ محرك الطائرة يعمل وابتعد الميكانيكيان. وفيما تحرَّكَت الطائرة فوق العشب، نظرتُ خلفي فرأيتُ عدة رجالٍ يركضون في اتجاهنا. لكن سرعان ما ارتفعَتِ الطائرة عن الأرض غير المستوية وحلَّقَت بسلاسة في الهواء.
سبق أن حلَّقتُ بالطائرة عدَّة مرات، لكن فوق خطوط العدو في الأغلب، لاستكشاف تضاريس الأرض بنفسي. في تلك المرات كنَّا نُحلق على ارتفاعٍ منخفض، وتعترضُنا مضادَّات الطائرات الألمانية بقوة، ناهيك عن استهدافنا من حينٍ لآخر بمدافع الرشاشات. لكني لم أختبر من قبلُ مُتعة الطيران في مسارٍ مستقيمٍ في طائرةٍ سريعةٍ وفي طقسٍ مُواتٍ. لم يُهدِر آرشي الوقت. وسرعان ما انكمشَت مخابئ الطائرات في الخلفية إلى أن صارت في حجم لعب الأطفال، وفرَّ العالم من تحت أقدامنا حتى بدا كوعاءٍ ذهبيٍّ عظيمٍ يفيض بالأشعة المتلألئة. كان الجو باردًا، فسرى الخدَر إلى يديَّ، لكن لم ألحظ ذلك على الإطلاق. ترجرجنا واندفعنا إلى الجنوب، نرتطم بالمطبَّات الهوائية تارةً، ونسبح بانسيابيةٍ في الهواء الساكن تاراتٍ أخرى، فتساقطَت عني همومي وكأني عُدتُ صبيًّا. نسيتُ كل ما يتعلق بمتاعب مِهنتي فلم أرَ إلا جانبها المرِح المسلِّي. أحسستُ أنه لا شيء على الأرض سيُصيبني بالقلق مرةً أخرى. في أقصى اليسار رأيتُ رقعةً فضيةً على هيئة مثلث وبجوارها مجموعة من المنازل الصغيرة. لا بد أنها إدنبرة حيث ترقدُ حقيبة سفري وتبحثُ عني أكفأ قوات الشرطة. عندما خطرَت لي تلك الفكرة ضحكتُ بصوتٍ عالٍ حتى إن آرشي سمِعَني من مقعده. استدار، ورأى ابتسامةً عريضةً على وجهي، فابتسم بدوره. ثم أشار إليَّ كي أضع حزام الأمان. أطعتُه، فشرع في تأدية بعض «الحركات البهلوانية»، مثل الالتفاف الحاد والهبوط العمودي الدوَّار وغيرها من الحركات التي أجهل أسماءَها. كان الأمر في غاية المتعة، وداعب آرشي الطائرة، مثلما يداعب فارسٌ متمرسٌ فرسه المضطربة قبل أن يقفز من فوق حاجزٍ مرتفع. كان آرشي يتمتع بتلك المَلَكة الفطرية التي تجعله طيَّارًا بارعًا.
في غضون فترةٍ وجيزة، استحالَت رقعة الشطرنج ذات اللونَين الأخضر والبني بالأسفل إلى لونٍ أرجوانيٍّ داكنٍ تزينه خيوطٌ فضيةٌ رفيعةٌ مثل العروق في الصخور. كنا نعبُر التلال الحدودية التي قطعتُها سيرًا على الأقدام في رحلةٍ مرهقةٍ دامت عدة أيام عندما تورطتُ في مسألة «بلاك ستون». إن الهواء لهُو عنصرٌ مذهل، يرفع المرء عاليًا، فيسمو فوق متاعب الإنسانية! لقد وُفِّق آرشي عندما قرَّر تغييرَ تخصُّصه. لقد أظهر بيتر حكمةً واسعةً عندما صار طيَّارًا. أحسستُ بشفقةٍ عارمةٍ تجاه صديقي العزيز الذي يعرُج على ساقٍ واحدةٍ الآن في فناء أحد السجون الألمانية بعدما كان يُحلِّق مثل الصقر. شعَرتُ أن كل ما مضى من حياتي راح هدرًا. ثم تذكَّرتُ أن كل هذه العظمة لها هدفٌ واحدٌ في الحرب وهو مساعدة ضابط المشاة البريطاني الوحل في إسقاط خصمه الألماني. في النهاية، ضابط المشاة هو من يحدِّد مصير المعركة، وهذا ما جعلني أشعر بالراحة.
ولأن العادة جرت أن الأفراح تتلوها الأتراح، كانت مُصيبتي هي الهبوط الاضطراري. اقتربنا من منتصف الظهيرة وتوغلنا في أعماق إنجلترا — حسبما قدَّرتُ من الأنهار التي حلقنا فوقها — في مكانٍ ما من شمال يوركشاير، وفجأةً بدأَت أصواتٌ غريبةٌ تصدُر من المحرك، واهتزَّت الطائرة بصورةٍ مفاجئةٍ في الجو الهادئ تمامًا. هبَطنا وصعِدنا لكن لم تسكُن ثورة المحرِّك اللعين. ناولني آرشي في الخلف ملاحظةً كتب فيها: «تعطل المحرك. سأهبط في قرية مِيكلجيل. آسف جدًّا.» وهكذا، حلَّقنا على ارتفاعٍ منخفض؛ حيث استطعنا رؤية المنازل والطرق والمنحدرات الطويلة أسفلنا بوضوح. لم أستطع تبيُّن وجهتي مهما حاولت، لكن عين آرشي المتمرسة كانت على درايةٍ بالمعالم كلها. أصبحنا نحلِّق ببطءٍ شديد، وسرعان ما رأيتُ حظائر طائرات داخل مهبطٍ كبير.
هبطنا في ميكلجيل، لكن بشِق الأنفس. كنا نُحلِّق على ارتفاعٍ منخفضٍ جدًّا، حتى إن مداخن مدينة برادفيلد الداكنة التي تبعُد عنا سبعة أميال باتجاه الشرق كانت تحجُبها جزئيًّا عنا رابيةٌ مغطَّاة بالحشائش. هبط آرشي بنجاح وسط رقعةٍ طويلةٍ من أشجار التنوب، وخرج من الطائرة وهو يسبُّ ويلعنُ محرك «جلاداس». قال: «سأتجه إلى المعسكر، للإبلاغ عما حدث، وسأرسل مهندسي الطائرات لإصلاح هذا المحرك المُزعج اللعين. يُستحسَن أن تتجول في الأنحاء يا سيدي. فأنا لا أريد أن يسألني أحدٌ عنك حتى نستعد للانطلاق مرةً أخرى. أظن أن هذا الأمر سيستغرق ساعةً من الزمن.»
كانت البهجة التي اكتسبتُها في المجال الجوي لا تزال تملأ صدري. جلستُ في خندق، كفتًى خالٍ من الهموم، وأشعلتُ غَليونًا. تملَّكَتني روحٌ طفوليةٌ مغامرة، وانتظرتُ ما سيجلبه الحظ في الفترة القادمة في بهجةٍ مثيرة.
لم أنتظر لفترةٍ طويلة. وسرعان ما ظهر آرشي متهدج الأنفاس.
قال: «انتبه يا سيدي، الوضع خطير بالأعلى. بلَّغ «أصدقاؤك» عنك في جميع أنحاء البلد، ويعلمون أنك كنتَ في صحبتي. لقد أرسلوا في طلب الشرطة، وستقبض عليك في غضونِ خمسِ دقائق، إن لم تلُذ بالفرار في الحال. حاولتُ أن أكذب بصورةٍ مقنعة، فأخبرتُهم أنني لم أقابلك من قبلُ، لكنهم سيأتون للتأكد بأنفسهم. اهرب بحق السماء … يُستحسَن أن تتوارى في ذلك الغور، وتلتفَّ من خلف هذه الأشجار. سأبقى هُنا وأحاول الإنكار أنكَ كنتَ معي بوقاحةٍ وإصرار. سيكون للموقف عواقبُ وخيمةٌ على أي حال … لكني آمُل أن تنقذني من هذه الورطة يا سيدي.»
قلتُ: «لا تقلق يا ولدي. سأضع الأمور في نصابها عندما أعود للمدينة. سأتجه إلى برادفيلد لأن هذه المنطقة لا توفِّر مكانًا للاختباء. إلى اللقاء يا آرشي. أنت فتًى صالح، سأتأكد ألا تقع في أي مشكلات.»
اندفعتُ باتجاه غور في المرج، أحاول أن أجعل سرعتي تعوِّض غياب الاستراتيجية؛ إذ كان من الصعب معرفة مدى الرؤية الذي تتيحه المرتفعات لمطارديَّ. ولا بد أنهم رأَوني لأنني سمعتُ دوي الصفَّارات وصيحات الرجال. عثرتُ على طريق، فسلكتُه، واجتزتُ حافةً جبليةً رأيتُ منها قرية برادفيلد على بُعد ستة أميال. ركضتُ وأنا أفكر أن هذه المطاردة لن تدوم طويلًا. سيُقبَض عليَّ حتمًا في غضون نصف ساعة إذا لم أُربكهم. لكن هذه المساحة الخضراء العارية لا توفِّر أي غطاء، وبدا أن فُرصتي في النجاة مثل فرصة أرنبٍ بريٍّ يُطارده كلبُ صيدٍ في مرج مكشوف.
فجأةً سمعتُ صوتًا أحفظه قادمًا من أمامي. كان ذلك هدير المدافع الميدانية ومدافع الهاوتزر الصغيرة. تساءلتُ ما إذا كنتُ قد فقدتُ عقلي. واصلتُ التقدُّم دون أن أُخفِّف من سرعتي، وفي أثناء ذلك أُضيفت جلجلة الرشاشات إلى تلك الجلبة، ورأيتُ غبار وأبخرة القذائف المنفجرة تتصاعد على الحافة الجبلية. تيقَّنتُ أن عقلي لا يزال سليمًا، وأن الألمان يشنُّون هجومًا حتمًا. صعِدتُ المنحدر الأخير زاحفًا على بطني، ناسيًا تمامًا أمر مطاردِيَّ.
لم أُصدِّق عينيَّ عندما نظرتُ بالأسفل ورأيت معركةً حقيقيةً دائرة.
كانت هناك مجموعتان متقابلتان من الخنادق تُحيط بهما الأسلاك الشائكة وغيرها من المعدات اللازمة، إحداهما تمتلئ بالجنود والأخرى فارغة. كانت القذائف تنفجر على المجموعة الفارغة التي لم يكن بها أي أثَر للحياة. بدا أن غالبية أفراد الكتيبتَين في الجبهة المقابلة التي كان أول خندق فيها مُمتلئًا بجنود يحملون بنادق ذات حِراب. أوَّل ما خطر لي أن القوات البريطانية فقدَت عقلها؛ لأن مثل هذا العرض عديم القيمة لا يصلُح حتى لأغراض التدريب. ثم لاحظتُ عناصرَ أخرى مثل معدات التصوير ومصورين يقفون على منصاتٍ في الزاوية، وخلفَهم رجالٌ يحملون مكبِّرات صوتٍ على سقَّالات. أحد هذه المكبِّرات كان يُدوِّي بصوتٍ عالٍ طيلة الوقت.
فهمتُ مغزًى من تلك التمثيلية في نهاية المطاف. لا بد أن أحد منتجي الأفلام عقد صفقةً مع الحكومة نتج عنها تعبئة الجنود لتصوير فيلم عن الحرب. خطر لي أنني لو شاركتُ في هذه العملية فلربما أحصُل على الغطاء الذي أريده. هبطتُ المنحدر بسرعة واقتربتُ لأوَّل مصور في الساحة.
ركضتُ في التوقيت نفسه الذي زحفَت فيه أول موجة من الجنود إلى جبهة العدو. كان أداء الجنود استثنائيًّا؛ إذ أحسَنوا تلبُّس روح القتال، ورأيتُهم يتقدَّمون بوجوهٍ متجهِّمة وخطواتٍ واسعةٍ ثابتةٍ بطيئة، مثلما كان رفقائي يفعلون في معركة أراس. كانت قنابل الدخان تنفجر وسطهم، ومن حينٍ لآخر يتدحرج مُمثلٌ بارعٌ على الأرض متظاهرًا بالإصابة. على وجه العموم، كان ذلك أفضل عرض رأيتُه على الإطلاق. كانت آلات التصوير تُطقطِق والمدافع تُدوِّي، وفي الخلفية يصفِّق فتيان الكشافة في استحسان، وتتصاعد سحائب الغبار إلى السماء.
لكن رغم كل ذلك كانت هناك مشكلةٌ ما. أتصور أن ذلك العرض احتاج إلى الكثير من الإعداد من منظور المنتج لأن غرضه يختلف عن الضابط المسئول. مثلما يحدُث مع المصورين الفوتوغرافيين، هم يولون اهتمامًا جمًّا بالتفاصيل، وقد لا تُعجبهم وضعيةُ مَن يصوِّرونه حتى إذا كان هو نفسه راضيًّا عنها. من وجهة نظري كان العرض المسرحي رائعًا، من شأنه أن يسلب قلوب المتفرجين، لكن المنتج الواقف على السقَّالة بجواري كان له رأي آخر. سمعتُ تذمُّره عَبْر مكبِّر الصوت الذي يحمله يُدوِّي عاليًا مثل نئيج جاموسٍ يُحتضَر. كان يريد تغيير شيءٍ ما ولا يدري كيف يفعل ذلك. رأيته يقفز على ساقٍ واحدة، ثم أبعد مكبر الصوت عن فمه ليطلق السباب؛ بعد ذلك لوَّح بالمكبر مثل الراية وهو يتحدَّث بصوتٍ حادٍّ غاضبٍ إلى شخصٍ آخرَ في الزاوية المقابلة. في النهاية نفِد صبرُه فنزل السُّلَّم قافزًا، فأسقط مكبِّر الصوت، وتجاوز المكان الذي يقف فيه المصوِّرون متقدمًا إلى ساحة القتال.
كانت هذه هي نهايته. اصطدم بالموجة الثانية من الجنود، فابتلعَتْه كورقة شجر في سيلٍ جارف. رأيتُ وجهه المُحتقن وحلَّته الزاهية اللون المربعة التصميم هُنيهة ثم لم يعُد له أثَر. لا أدري هل جرفَتْه الموجة إلى التل أم تدحرج إلى خندق العدو، لكنه اختفى من أمامي في كل الأحوال.
أخذتُ مكبِّر الصوت، وصعِدتُ المنصة واثبًا. أخيرًا، حصَلتُ على تمويهٍ ممتاز، لا سيما مع معطفِ آرشي وقُبعته اللذَين منحاني مظهرًا لائقًا، فبدوتُ مثل منتجي الأفلام. كانت الموجة الأولى والثانية قد بلغتا الجبهة بالفعل، وصوَّر فريقُ التصوير الذي كان يعمل بجدٍّ ونشاطٍ المشهدَ بأكمله. لكن كان لا يزال هناك عددٌ كبير من الجنود يُمكنني العبث معهم، وعزمت على تعطيل أنشطتهم، فينشغل بهم مطارديَّ عني.
منحَتْني قدرتي على القيادة وإصدار الأوامر الأفضلية. فقد لاحظتُ ارتباك نظيري الواقف في الطرف المقابل؛ إذ وقف عاجزًا أمام الخطأ الذي أودى برِجلي إلى السقوط في حفرة قذيفة. بدا أن القوات تقع تحت إمرة ضباطِ الصف بشكلٍ أساسي (الذين أتخيل أنهم حاولوا التملُّص من هذا الأمر) وضباط الصف يميلون للالتزام بالتعليمات بحذافيرها. وهكذا بدأتُ تغيير نظام المعركة مستعينًا بمكبِّر الصوت.
جُلِبَت موجةٌ ثالثة من الجنود إلى الخنادق الأمامية. في غضونِ ثلاثِ دقائق، لاحظ الجنود النبرةَ السلطوية التي أستخدِمها فاستجابوا لأوامري بدقة. ظن الرجال أن هذا جزءٌ من العرض، وانهمَك المصوِّرون المطيعون في تصوير كل ما يحدُث في مجال رؤيتهم. كنتُ أهدفُ إلى نشر القوات على جبهةٍ ضيقةٍ للغاية، حتى يُضطَروا للانتشار في جميع الجهات في أثناء خروجهم، وكان لا بد من تنفيذ ذلك بسرعة؛ لأنني لا أعلم متى سيُستعاد المنتج التعيس الحظ من ساحة القتال ويتنازع معي على السلطة.
إصلاح الأمور وتنظيمها عادةً ما يستغرق وقتًا طويلًا، ولكنه ليس كذلك عند تعقيدها، لا سيما عندما يتعلق الأمر بجهازٍ دقيقٍ مثل الجنود المنضبطين … في غضون ثماني دقائقَ خُلِقَت حالة من الفوضى. توسَّعَت الجنود على الجانبَين بشكلٍ جنوني، على الرغم من إرشادات الضباط، وأحاطت أطراف التنظيم بالمصوِّرين. انقلبَت الكاميرات بحواملها مثل قناني البولينج. كان من المُحزن رؤية وجوه المصوِّرين المفزوعة الذين باغتَهم ما يحدث وهم يتوسَّلون إلى قوات المشاة التي تزحف بخطواتٍ ثابتة، قبل أن تبتلعَهم فتخبو أصواتهم.
لم يكن هناك مجالٌ للانتظار؛ لذا تخلصتُ من مكبِّر الصوت، واختلطتُ مع الجنود في مؤخرة الموجة الثالثة. جرفَتْني الموجة، ورسوتُ في خنادق الأعداء؛ حيث وجدتُ منتج الأفلام البذيء اللسان الذي حللتُ مكانه يجلس مُتهدج الأنفاس مثلما توقَّعت. لم يكن لديَّ ما أقوله؛ لذا سِرتُ في الخندق إلى حيث انتهى عند مُنحدَر التل.
في تلك الزاوية، قبعَت زمرةٌ من فتيان الكشافة، في غاية الحماسة والإثارة. كانت مهمتي هي بلوغ برادفيلد بأقصى سرعة متواريًا عن الأنظار قَدْر الإمكان. لسوء الحظ صِرتُ مَحطَّ اهتمام هذه المجموعة من الأبطال اليافِعين. فكل فتًى من فتيان الكشافة عبارةٌ عن مُحققٍ هاوٍ متعطِّش للمعرفة. اتبعَني العديد من الفتيان، وراحوا يُمطرونني بوابل من الأسئلة، إلى أن أخبرتُهم أنني مُتجه لبرادفيلد لاستعجال جزءٍ من طاقم الفيلم. بدت كذبتي واهيةً إذ كان طاقم الفيلم ميئوسًا منه.
وصلنا إلى الطريق الرئيسي، وكانت هناك عدَّة دراجاتٍ متراصة على حائطٍ حجري. اخترتُ واحدةً وتهيَّأتُ لركوبها.
قال فتًى بنبرةٍ حادة: «إنها عجلة السيد إيموت. وقد طلب منِّي مُراقبتها.»
قلتُ: «يجب أن أستعيرَها يا ولدي. السيد إيموت صديقي العزيز ولن يُعارِض ذلك.»
وقفتُ في مكان يشرف على الجزء الخلفي من ميدان المعركة، ورأيتُ الضباط مجتمعِين قلقِين. كان قد انضَم إليهم آخرون لم تُعجِبني هيئتُهم. لاحظتُ أن هؤلاء لم يكونوا موجودين عندما استخدمتُ مكبِّر الصوت. لا بد أنهم هبطوا من المطار، بل هم على الأرجح المطاردون الذين حاولتُ الفرار منهم. بدأَت تخفتُ تلك النشوة التي تذوَّقتُها في المجال الجوي وحملَتني على حماقة نصف الساعة الماضية. طاردَني ذلك الشعور القديم من جديد، وانتقلتُ من مرحلة الشباب إلى منتصف العمر، وصِرتُ حذرًا من بعد طيشٍ. تأمَّلتُ إنجازات اليوم، فوجدتُها في غاية السوء بدايةً من إيقاع آرشي في ورطةٍ كبيرة وتعطيل عرضٍ سينمائيٍّ رسمي، ولا تنسجم مع مهام لواء في الجيش. والأهم من ذلك أنني لا أزال مضطرًّا للذهاب إلى لندن.
لم أُمضِ مسافة مائتَي ياردة عندما قاد فتًى من فتيان الكشافة درَّاجتَه بقوة حتى سار بمحاذاتي.
قال بأنفاسٍ لاهثة: «يأمر العقيد إيدجوورث بعودتك في الحال.»
قلتُ: «أخبِره أنني لا يمكنني الانتظار الآن. سأزوره في غضون ساعة.»
قال الرسولُ الأمين: «إنه يُصِر على قدومك في الحال. وهو غاضبٌ منك أشدَّ الغضب، وفي صحبته رجالُ شرطة.»
زدتُ من سرعتي، فتجاوزتُ الفتى. قدَّرتُ أنني أسبق مطارديَّ بمسافة مِيلَين تقريبًا، وأن بوسعي التغلُّب على الجميع باستثناء السيارات. لكن أعدائي من المُحتمَل جدًّا أن يكون لديهم سيارات؛ لذا يُستحسَن أن أبتعِد عن الطريق الرئيسي في أسرع وقتٍ ممكن. قدتُ الدراجة نازلًا تلًّا طويلًا، حتى وصلتُ إلى جسر يُغطي جدولًا صغيرًا مُتغير اللون يصبُّ في وادٍ صغيرٍ مُشجَّر. لم يكن هناك أحدٌ في اللحظة الراهنة على التل خلفي؛ لذا تسللتُ إلى المخبأ، ودفعتُ بالدراجة تحت الجسر، وأخفيتُ معطفَ آرشي وسط مجموعةٍ كثيفةٍ من أشجار العليق الأسود. انكشفَت حلَّتي المُمزقة من قماش التويد، وكنتُ آمُل بخلعي ذلك المعطف اللافت إرباكَ مطارديَّ إذا ما لحقوا بي.
لكن عقدتُ نيتي ألا يلحق بي أعدائي. قطعتُ الجدول بسرعةٍ بالغة، وخرجتُ إلى طريقٍ ضيقٍ يربط بين التلال المُنخفضة والبساتين التجارية المحيطة بالمدينة. حمدتُ الرب أنني تخلصتُ من المعطف؛ إذ كانت الأجواء دفيئة في فترة الظهيرة من شهر أغسطس، وكنتُ أسيرُ بسرعة. وكلما بلغتُ أرضًا معزولةً أخذتُ في الركض، وكلما لاح شخصٌ في الأفق استعضتُ عن الركض بالهرولة.
تابعتُ السير وأنا أفكِّر في أن برادفيلد ستشهد نهاية مغامراتي. فالشرطة تعلم أني سأقصدها؛ لذا ستُراقِب محطات القطار وستقبضُ عليَّ في الحال إذا نزلتُ في القرية. لا أعرف أحدًا هناك ولا أمَلَ في الحصول على تنكُّرٍ جيد. سرعان ما بدأتُ أفكر في خطورةِ بلوغِ شوارعِ القريةِ نفسها. في اللحظة الراهنة، عندما أقلَّني سمَّاكٌ في عربته واستترتُ بقماشها الخفَّاق، مرَّ شخصان على دراجتَين تبيَّن أن أحدَهما هو فتَى الكشافة الفضولي. ربما تُمشِّط دورياتُ الشرطة الآن الطريقَ الرئيسيَّ المؤدِّي إلى مهبط الطيارات. يبدو أنه سيُقبض عليَّ بصورةٍ مُهينةٍ في ضاحيةٍ من الضواحي.
عَبرَت عربة السمَّاك، بعد أن حثَثتُ سائقها بنصف كراون، أمام البيوت الصغيرة النائية على مشارف القرية، وبين صفوفٍ طويلةٍ من بيوت العمال، إلى أن انتهت إلى حاراتٍ ضيقةٍ مرصوفة بالحجارة وضواحٍ تضُم مصانعَ كبيرة. فور أن رأيتُ الشوارعَ مزدحمةً بالمارة، خرجتُ من العربة، وترجَّلْت. ولا بد أنني بدوتُ كوكيلِ مراهناتٍ متواضعٍ أو تاجرِ خيولٍ رثِّ الهيئة بسبب ملابسي القديمة. أَثمنُ شيءٍ كنتُ أحمِله معي هو ساعتي الذهبية. تفقَّدتُها ووجدتُها تشير إلى الخامسة والنصف مساءً.
شعَرتُ بالجوع وبدأتُ أبحث عن مطعمٍ متواضع، عندما سمعتُ هدير دراجةٍ نارية، ورأيتُ في الناحية المقابلة من الطريق فتى الكشافة الذكي. رآني هو أيضًا، فضغَط على المكابح بقوة، ما أدى إلى انزلاقه وكاد أن ينتهي به المطافُ تحت عجلاتِ عربةٍ تحمل صوفًا. منحَني ذلك وقتًا للهرب، فاندفعتُ كالسهم في شارعٍ جانبي. راودَني شعورٌ بغيضٌ أنني على وشك أن أُحاصَر؛ لأنني في مكانٍ أجهله تمامًا؛ لذا لا يسعني استغلالُ مهاراتي.
أتذكَّر أنني عصرتُ عقلي في محاولةٍ للعثور على مخرج، ولا بد أن انشغالي بالتفكير أفقدَني حذَري. كنتُ قد بلغتُ حيًّا فقيرًا بحق، وعندما وضعتُ يدي في جيب صدريتي، وجدتُ ساعتي قد اختفت. كانت تلك الضربة القاضية لمعنوياتي. تركَتْني أحداثُ فترة الظهيرة المحمومة العاصفة فزعًا. ها قد سقطتُ في غياهب العالم السفلي مرةً أخرى دون أملٍ في أن يأتي شخصٌ مثل آرشي رويلانس لينتشلني منه. لكني أذكُر رائحةَ المصانعِ الكريهة وشبورةَ الدخان المنبعثة منها إلى هواء المساء. منذ ذلك الحين أشعُر بالكآبة كلما شممتُ تلك الرائحة.
بعد فترةٍ يسيرةٍ خرجتُ إلى سوقٍ. سمعتُ دوي الصفَّارات ورأيتُ تدافُع العمال في أثناء خروجهم من المصانع المجاورة. كان السوقُ شديدَ الازدحام، فمنحَني ذلك شعورًا لحظيًّا بالأمان، وكنتُ على وشك السؤال عن الطريق المؤدي إلى محطة القطار عندما أمسكَني شخصٌ من ذراعي بقوة.
وجدتُ بجواري رجلًا رثَّ الهيئة في زيِّ ميكانيكي.
همس: «يا صاح، لديَّ شيءٌ يخصُّك.» دهِشتُ عندما رأيتُه يدُس ساعتي في يدي.
قال: «لقد أُخذَت منك بسبيل الخطأ. نحن أصدقاؤك. يُستحسَن أن تفعل ما أخبرك به. انظر، هناك شرطيٌّ يراقبك. اتبعني وسأبعِدُك عن أنظاره.»
كانت ملامح الرجل لا تبعث على الارتياح، لكن لم يكن لديَّ خيارٌ آخر، كما أنه أعاد إليَّ ساعتي على أي حال. انسلَّ الرجل إلى زقاقٍ تحفُّه منازلُ طويلةٌ فاتبعتُه. ثم أخذ في الركض، وقادني في مسارٍ متعرجٍ عَبْر أزقةٍ كريهةِ الرائحةِ إلى مدبغة، قبل أن يدخل في حارةٍ ضيقةٍ تُفضي إلى الباحة الخلفية لأحد المصانع. في مرتَين عُدنا أدراجنا، وتسلَّقنا جدارًا في أحد المرات، ومشَينا بمحاذاة ضفةِ نهرٍ أسودَ أزرقَ تعلوه رغوةٌ قذرة. بعد ذلك، عرَّجنا إلى منطقةٍ متضعضعةٍ في المدينة، ودخلنا حديقةً متسخة، تتناثر فيها العلب الصفيح وأصائص الزهور المكسورة. تسلَّلنا إلى أحد الأكواخ من بابٍ خلفي قبل أن يُوصِده مُرشدي خلفي بحذَر.
أضاء الرجلُ مصباحَ الكيروسين، وأغلَق الستائرَ في ردهةٍ صغيرة المساحة، وتفحَّصَني بنظرةٍ متسائلة. ثم تحدَّث بلهجة المُتعلمين.
قال: «لن أسألكَ أيَّ سؤال، لكن من واجبي أن أقدِّم لك المساعدة. أنت تحملُ جواز السفر.»
حملقتُ في وجهه، فأخرج ساعتَه، وكشف عن صليبٍ لونه أبيضُ أرجوانيٌّ ملصقٌ داخل غطائها.
قال بابتسامةٍ عريضة: «لا أدَّعي أن جميع من نوظِّفهم أفاضل. فالوطنيةُ لا تعني بالضرورة حُسنَ الخلق. سلَب أحدُ عملائنا ساعتَك، وعندما رأى ما بداخلها أبلغَني بالأمر. وسرعان ما اقتفَينا أثرك ولاحظنا أنك في ورطةٍ كبيرة. لن أوجِّه لك أي أسئلةٍ كما ذكَرت. كيف يمكنني مساعدتُك؟»
قلتُ: «أريد الذهاب إلى لندن دون أيِّ معوِّقات. تعرفُ الشرطة أوصافَ ملابسي؛ لذا يتعيَّن عليَّ تغييرها.»
قال: «هذا أمرٌ في غاية السهولة. استرِح قليلًا وسأُزوِّدك بثيابٍ أخرى. يتحرَّك قطار المساء في ١١:٣٠ … ستجد سجائر في خزانة الصحون، وعدَد الأسبوع من جريدة «كريتيك» على الطاولة هناك. يتضمَّن هذا العدَد مقالةً شيقةً عن كونراد إن كنتَ مهتمًّا بمثل هذه الأمور.»
أخذتُ سيجارًا وقضيتُ نصفَ ساعةٍ في قراءةٍ مفيدةٍ عن مفاسد الحكومة البريطانية. ثم عاد مُضيفي وطلب مني الصعودَ إلى غرفة نومه. قال: «أنتَ الجندي هنري تومكنز من كتيبة جلوستر الثانية عشرة، وستجد ملابسك جاهزة. إن أعطيتَني عنوانك، فسأُرسِل لك ملابسك الحالية.»
استجبتُ لأوامره، وسرعان ما خرجتُ من الغرفة في كامل زيِّ جنديٍّ بريطاني وحذائِه القبيح ولفافةِ ساقِه المُنتفخة. أخذَني صديقي من يدي ووضَع اللمسات الأخيرة. فشذَّب شعري بالمقص ثم صفَّف خصلةً فوق جبهتي، تتجعَّد عند دهنها جيدًا بالزيت. كانت يداي قويتَين خشنتَين لذا أضفى عليهما القليل من الوسخ وقلَّم أظافري بما يتوافق مع معاييرِ فحصِ المُجنَّدين. كنتُ نموذجًا حيًّا لجنديٍّ بريطانيٍّ عائدٍ من عطلته، بالقبعة المائلة على رأسي، والحقيبة على ظهري، والبندقية العسكرية بين يدَيَّ، والصحف المصوَّرة الرخيصة تملأ جيوبي. تزوَّدتُ من أجل رحلتي بعُلبة سجائر من ماركة «وودباين»، وقطعةٍ كبيرةٍ من الخبز بالجبن. وحصَلتُ على ترخيصٍ باسمي يسمَح لي بركوب القطار الذاهب إلى لندن.
بعد ذلك قدَّم لي صديقي وجبةَ عَشاء، مكونةً من الخبز واللحم البارد وزجاجةٍ من نبيذ «باس»، التهمتُها بشراهةٍ إذ لم أتناول شيئًا منذ وجبة الإفطار. كان شخصًا غيرَ عادي، كتومًا كالقبر، يتحدَّث بحماسةٍ عن موضوعاتٍ عامة، دون أن يقترب من المسألة الحسَّاسة التي تربط بيني وبينَه، بل تربط بينه وبين كثيرين اللهُ أعلمُ بهم من خلال الصليبِ الأبيضِ الأرجوانيِّ في غطاء الساعة. أتذكَّر أننا تحدَّثنا عن موضوعاتٍ كانت محلَّ اهتمامِ الناسِ في بيجلزويك، وهي القضايا السياسية العظيمة ذات الأسماء الرنانة. كان صديقي يشارك آيموس في رأيه بشأن عقلانية العامل البريطاني لكنه قال شيئًا أثار اهتمامي. كان يعتقد بوجود شبكةٍ جاسوسيةٍ ضخمةٍ تعمل لصالح الألمان معظمُها من العملاء الأبرياء. قال: «لا يميل المواطن البريطاني العادي للخيانة، لكنه يفتقر إلى الفطنة. الذكيُّ في هذه المهنة يستطيع استغلال الحمقى أكثر من الخائنين.»
قدَّم صديقي لي نصيحةً وهو يودِّعني. قال: «انتزِع هذه الملابسَ فور أن تبلُغ لندن. سيُخرجك تنكُّر الجندي تومكنز من برادفيلد بكل سهولة، لكنه قد يعرِّضُك للخطر في العاصمة.»
في الحاديةَ عشرةَ والنصف، كنتُ أجلسُ في القطار في أمان، أستخدمُ مفرداتِ الجنود العائدين للتوِّ من عطلتهم في الحديث مع أقراني البالغ عدَدُهم ستةً في مقصورةٍ من الدرجة الثالثة مُمتلئةٍ بدخان السجائر. كنتُ محظوظًا في محاولتي للهرب؛ إذ رأيتُ العديدَ من الرجال الذين يتضح جليًّا من هيئتهم أنهم أفرادُ شرطةٍ بملابسَ مدنيةٍ في مدخل محطة القطار وعلى الرصيف. وأظن أنني لمحتُ في وسط الحشد البائعَ المتجوِّلَ الذي يُسمِّي نفسه لينكليتر أو قد يكون ما رأيتُه من محض الخيال.