برتراند رسل
لبرتراند رسل تأثير يكاد يكون ساحرًا في عالم الفلسفة الإنجليزية الأمريكية امتد إلى نصف قرن من الزمان. ويرجع ذلك، إلى حد ما، إلى قدرته على أن يكتب كالملك الكريم، ولكنه الملك الذي يجرؤ — بالرغم من ذلك — على أن يستعير النكتة اللاذعة من المصادر الشيطانية، كما يرجع ذلك إلى حد أكبر إلى إضافته الضخمة إلى الفلسفة الرياضية في كتابه المشهور «مبادئ الرياضة» الذي يقع في ثلاثة مجلدات، وهو الكتاب الذي ألَّفه مع نوث ألفرد هوايتهد. وبظهور هذه المجلدات فيما بين عامَي ١٩١٠ و١٩١٣م اكتسب رسل الشهرة التي جلبت له القراء لمؤلفاته التالية. وهذه المؤلفات التي واصل فيها اهتمامه بالرياضة والمنطق الرمزي، كانت تجول في ميادين نظرية المعرفة، والفلسفة الاجتماعية. ومن الحقائق العجيبة الصادقة عن هذا الفيلسوف الخفيف الروح الذكي اللامع أنه في الوقت الذي يدرس فيه زملاؤه في العلم وخريجو الجامعات كتبه دراسةً دقيقة، نجد فيه الطبعات الرخيصة من كتبه التي أُعيد طبعها في موضوعات مثل الزواج والتربية والأخلاق مودعة إلى جوار شطائر الطعام في حقائب الغداء التي يحملها العمال؛ لكي يلتهموها مسرورين في الوقت الذي يلتهمون فيه هذه الشطائر. وفي منتصف الثلاثينيات من هذا القرن حينما تقرر أن يلقي رسل إحدى محاضراته العامة في نيويورك في «معبد مكة» توقفت حركة المرور حول الأبنية المجاورة لهذا المكان عندما أقبل جمهور ضخم من المستمعين ليستمتعوا بموكب من مواكب العلم اللامع البراق.
وفي عام ١٩٥٠م أصبح لورد رسل الفيلسوف الثالث الذي ظفر بجائزة نوبل في الأدب «اعترافًا بمؤلفاته الهامة المتعددة الجوانب، التي ظهر فيها دائمًا مدافعًا عن الإنسانية وحرية الفكر». وتشير هذه العبارة إشارةً دقيقة إلى عنصر أساسي في كتابات رسل الفلسفية غير الفنية، منذ العهد الباكر الذي نشر فيه مقاله المشهور «عبادة الرجل الحر» في إذاعته من محطة الإذاعة البريطانية في مناسبة عيد ميلاده الثمانين، وإلى كتبه في الموضوعات الأخلاقية والسياسية التي ما فتئت تتدفق من سن قلمه؛ لأن رسل قد يخطئ كثيرًا في بعض ما يفترض من آراء، وقد يشتبك في جدل عاصف عنيد مدفوعًا بحماسة التأثر السياسي، إلا أنه قد تمكن في جميع الحالات من تذكير الناس بتقاليد المدنية والعدالة التي يتميز بها الروح الحر في الحضارة الغربية من عهد بركليز حتى يومنا هذا.
وبأسلوبه الذي لا يحاكى كتَب رسل عن حياته يقول: «ماتت أمي ولم أبلغ من العمر عامين، ومات أبي وأنا في الثالثة من عمري، فتربَّيت في بيت جدي، لورد جون رسل، الذي أصبح فيما بعدُ إيرل رسل، ولم أكَد أسمع شيئًا عن والدي، اللورد والليدي آمبرلي، وكل ما ترامى إليَّ كان من الضآلة بحيث أحسست إحساسًا غامضًا بوجود سر غامض، ولم أتعرف إلى الخطوط الرئيسية في حياة أبويَّ وآرائهما إلا عندما بلغت الحادية والعشرين من عمري. عندئذٍ تبيَّن لي — في شيء من الحيرة — أني مررت بنفس المراحل العقلية والعاطفية تقريبًا التي مر بها أبي.» وما يشير إليه رسل هنا خاصةً هو أن أباه — طبقًا للتقاليد العائلية — كان يُرجى له أن يشتغل بالحياة السياسية، ولكن معتقداته المتحررة وميوله التي لا يرعى فيها المألوف كانت لا تتفق والنجاح السياسي، وكان أبواه صديقين وتلميذين لجون ستيوارت مل، وقد رفضت كلاهما أن يساير الحشمة التي كان يتطلبها الفضلاء في عهد فيكتوريا. ويستطرد رسل قائلًا: «وأراد أبي لي ولأخي أن ننشأ على التفكير الحر، وعيَّن اثنين من أحرار الفكر ليتولَّيا أمرنا، إلا أن محكمة تشانسري — نزولًا على ما طلب أجدادنا — أهملت الوصية، وتهيَّأت لي نشأة مسيحية أستمتع بما فيها من فوائد.» وقد يكون في هذا التعليق الأخير سخرية بمعنًى من المعاني؛ إذ إننا نجد رسل يصدر في شبابه نشرة تحت عنوان: «لماذا أنا لست مسيحيًّا؟» وبمعنًى آخر، كان تقدير الحياة، والحب، والتسامح، والنزاهة الخلقية التي نعتقد أنها من ثمار هذه التربية، من القضايا التي خدمها رسل خلال حياته العملية كلها.
كان إنتاج رسل العقلي ضخمًا جدًّا، وجانب من ثبت مؤلفاته ومقالاته ينيف على أربعين صفحة مطبوعة. وهناك ما لا يقل عن خمسين كتابًا من هذا الإنتاج العلمي الضخم تُمثِّل أهم مؤلفات رسل، وكثير منا يعرف هذه الكتب معرفة الأصدقاء القدامى المألوفين: مشكلات الفلاسفة (١٩١٢م)، معرفتنا بالعالم الخارجي (١٩١٤م)، التصوف والمنطق ومقالات أخرى (١٩١٨م)، الطريق إلى الحرية (١٩١٨م)، مقدمة للفلسفة الرياضية (١٩١٩م)، تطبيق البلشفية ونظريتها (١٩٢٠م)، تحليل العقل (١٩٢١م)، تحليل المادة (١٩٢٧م)، مقالات في الشك (١٩٢٨م)، الزواج والأخلاق (١٩٢٩م)، النظرة العلمية (١٩٣١م)، التربية والنظام الاجتماعي (١٩٣٢م)، الحرية والنظام، من ١٨١٤م إلى ١٩١٤م، (١٩٣٤م)، السلطان: تحليل اجتماعي جديد (١٩٣٨م)، بحث في الصدق والمعنى (١٩٤٠م)، تاريخ الفلسفة الغربية (١٩٤٥م)، آمال جديدة في عالم متطور (١٩٥١م)، والمجتمع البشري في الأخلاق والسياسة (١٩٥٥م). وقد تشمل هذه القائمة غير ذلك من الكتب.
وإذا كان رسل في هذه الرحلة العقلية التي كان الذهن فيها قويًّا والبصر ثاقبًا لا يتقلب في رأيه، بل ولا يتناقض، ولا يتنكر لما آمن به، ولا يؤمن بما تنكر له، إذا كان رسل لا يفعل ذلك لثارت في نفوسنا الدهشة والعجب. والمحاضرات العلمية التي تُلقى في موقف رسل من الفلسفة تعاني دائمًا من بسط الموضوع في نفس الوقت الذي قد يكون رسل منكبًّا فيه على تأليف كتاب يهدم فيه موقفه السابق. ونسوق هنا مرةً أخرى تعليقًا لرسل يلائم هذه الصفة فيه، قال: «إنني لا أخجل البتة من تغيير آرائي. أي عالم طبيعي كان نشطًا في عام ١٩٠٠م يحلم بالفخر بأن آرائه لم تتغير في نصف القرن الماضي … ولكن الفلسفة في عقول الكثيرين تتشابه مع الدين أكثر مما تتشابه مع العلم، وعالم الدين ينطق بالحق الأبدي، والمذاهب باقية كما هي منذ «مجلس نيقوه»؛ فحيثما لا يعرف المرء شيئًا، فليس هناك ما يدعو إلى تغيير الرأي.»
كان رسل جادًّا في اهتمامه بالتاريخ والسياسة، وإن كان يتصف فيهما بالتقلب والتناقض نفسيهما اللذين نلمسهما في فلسفته للمعرفة. كان رسل من دعاة السلم في الحرب العالمية الأولى، ولبث في السجن من أجل ذلك ستة أشهر، وكان وسيطًا قبل الحرب العالمي حينما شهد ظهور الحكم الدكتاتوري المستبد، ثم أمسى في السنوات القلائل الماضية قائدًا من قواد الحملة العالمية التي تستهدف تحريم صناعة القنابل الهيدروجينية في أية دولة ما عدا الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، مع إرغام الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على تحريم الأسلحة النووية وتحطيمها تحت رقابة دولية. وقد قال رسل في أحد بياناته إنه لو أُرغم على أن يختار بين شيوعية العالم وإبادة الجنس البشري في حرب نووية، اختار الأولى. وصاحب هذا البيان بنصيحة خطرة قال فيها إن الاتحاد السوفيتي إذا لم يوافق على رقابة نزع السلاح، فواجب الديمقراطية البريطانية والأمريكية أن تبدأ بالتخلي عن الأسلحة النووية من جانبها. ودار عقب ذلك جدل بين رسل وسدني هوك على صفحات «القائد الجديد» في عام ١٩٥٨م، وهو جدل لا يزال من أقيم المناقشات في قيم الحرية المنشودة والبقاء المطلوب في الأدب المعاصر.
(١) التعقل الفلسفي في عالم متغير
(١-١) أسباب الحيرة في عصرنا الحاضر
إن الإحساس السائد في عصرنا الحاضر هو الشعور بالحيرة العاجزة؛ فنحن نرى أنفسنا سائرين نحو حرب يكاد لا يرغب فيها أحد من الناس، وهي حرب — كما نعلم — لا بد أن تنتهي بالكارثة على الأكثرية العظمى من الناس. ولكنا نحدق في الخطر دون أن نعلم ماذا نصنع لكي نتفاداه، كالأرانب التي تقف مذهولةً أمام الحية، نتبادل الحديث عن القصص المفزعة للقنابل الذرية والقنابل الهيدروجينية، وعن إبادة المدن، والحشود الروسية، والمجاعة والوحشية في كل مكان. ولكن بالرغم من أن العقل يهدينا إلى وجوب الفزع من مثل هذا المصير، فإن هناك جانبًا في نفوسنا يستمتع به، فلا نجد العزيمة الثابتة لتفادي الكارثة، كما أن هناك هوة سحيقة في نفوسنا تفصل بين الجانب العاقل والجانب غير العاقل. وقد يهجع الجانب غير العاقل في أوقات الهدوء خلال النهار ولا يتيقظ إلا في الليل. أمَّا في أوقات مثل هذا الوقت فقد يغزو هذا الجانب ساعة اليقظة أيضًا، ويفتر كل تفكير عاقل وينفصل عن الإرادة. وعندئذٍ ترتكز حياتنا على فرض حاد كالصراط المستقيم. إن اشتعلت الحرب كانت طريقة من طرق الحياة معقولة، وإن لم تشتعل كانت طريقة أخرى من طرق الحياة معقولة كذلك. وهذا الوجود الفرضي مقلق للضمير غير محتمَل للغالبية العظمى من الناس، فنراهم في حياتهم العملية يتخذون أحد الغرضين، دون الإيمان التام به، فالشاب الذي يجد التربية المدرسية مُملة يقول لنفسه: «فيمَ الاهتمام؟ فسوف أُقتل في إحدى المعارك في وقت قريب.»
إن في استعمال القنبلة الذرية والقنبلة الهيدروجينية خطرًا جديدًا، خطرًا ليس جديدًا في نوعه فقط، ولكنه أعظم من أي خطر سبق في أية حرب سالفة؛ فنحن لا نعرف تمامًا ماذا عسى أن تكون آثار إطلاق تيارات ضخمة من النشاط الإشعاعي. هناك من يعتقدون أنه قد يؤدي بنا إلى إبادة الحياة كلها فوق هذا الكوكب، ومن هؤلاء أينشتين. فإذا لم يكن هذا، فقد تتحول مساحات شاسعة خصبة من الأراضي إلى أراضٍ قاحلة لا تُسكَن، فيُمحى من الوجود سكانٌ كثير من البلاد. ولا أقول بأن ذلك سوف يحدث إذا استُخدم النشاط الذري في الحرب، فليس هناك حتى اليوم من يعرف أهذا سوف يقع أم لا يقع، غير أن خطر وقوعه ماثلٌ أمامنا، ولات ساعة مندم إن هو وقع.
في فن الحرب ذبذبة بين قوة الهجوم وقوة الدفاع. والعصور السعيدة هي تلك التي يقوى فيها الدفاع، والعصور التعسة هي تلك التي يتغلب فيها الهجوم. وفي عصرنا العلمي خطرٌ دائم بأن يكتسب الهجوم في أية لحظة من اللحظات الغلبة القاصمة حقًّا؛ فالحرب البكتيريولوجية — على سبيل المثال — قد تبيد العدو، ولكنها قد تبيد في الوقت عينه البادئين بها. وازدياد المهارة العلمية يجعل الحرب خطرة في جملتها، حتى إن كانت أقل فتكًا في أية لحظة من اللحظات.
والحرب الحديثة — بغضِّ النظر عن شدة فتكها — أسوأ في كثير من الوجوه من أكثر الحروب التي نشبت في سالف الأزمان. وبالنظر إلى إنتاج العمل المتزايد، فمن المحتمل أن نستغني عن جانب أكبر من السكان ليختص في تبادل القتال، كما أنَّ تفكك الحياة اليومية أشد في العالم الحديث عما كان عليه في أكثر الحروب التي نشبت في سالف الزمان. وقد جعل الخوف من القنبلة الذرية سكنى المدن الكبيرة أمرًا غير معقول … أمَّا في الحروب المسلية المطمئنة التي وقعت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فكان المحاربون أساسًا هم الذين يتعرضون للآلام. أمَّا هذه الآلام فيتزايد وقعها اليوم على المدنيين. وقد بلغت من العمر عتيًّا، ولكن أذكر ذلك الوقت الذي كانت فيه الحرب التي تصيب النساء والأطفال أمرًا لا يقع في الحسبان. غير أن هذا العصر السعيد قد مضى وفات.
لكل هذه الأسباب كانت الحرب اليوم أشد خطرًا مما كانت عليه فيما سلف. ولقد بات تحريم الحرب أمرًا لا مفر منه إذا أردنا لحياة المدينة أن تبقى، بل إذا أردنا لأي نوع من أنواع الحياة أن يبقى. ولقد بلغ هذا الأمر من الخطر حدًّا يحتم علينا ألا نتقاعس عن الأخذ بصور التفكير السياسي الجديد أو عن إدراك المشكلات الجديدة التي كان بالإمكان تجاهلها فيما سلف دون التعرض في النهاية لكارثة من الكوارث، وإن لم يكن دون تعرض للجزاء.
(١-٢) الحكومة العالمية
قد نتجنب الحرب بالعلاج المؤقت، أو بالحلول الطارئة والدبلوماسية الذكية لوقت ما، ولكن خطرها يظل محلقًا فوق رءوسنا. وما دام نظامنا السياسي قائمًا كما هو، فيكاد يكون من المؤكد أن الحروب العظمى سوف تقع بين الحين والحين. ولا مفر من حدوث ذلك ما دامت هناك دول مختلفة لكلٍّ منها سيادتها، ولكلٍّ منها قواتها المسلحة، ولكلٍّ منها حكمها المطلق فيما يختص بحقوقها في أي نزاع ينشب. وليس هناك سوى طريق واحد يمكن أن يأمن به العالم من الحرب، وذلك هو إنشاء سلطة عالمية واحدة، تحتكر لنفسها جميع الأسلحة الخطرة.
وإذا أردنا للحكومة العالمية أن تمنع وقوع الحروب الخطرة، فلا بد لها من امتلاك قدر معين من القوة. لا بد لها — أولًا وقبل كل شيء — من احتكار كل أسلحة الحرب العظمى، ولا بد لها من قدر كافٍ من القوات المسلحة لاستخدام هذه الأسلحة، ولا بد من اتخاذ أية خطوات ضرورية لكي تضمن أن تكون القوات المسلحة في جميع الظروف مُوالية للحكومة المركزية. ومن واجب الحكومة العالمية أن تضع قواعد معينة تتبعها في استخدام قواتها المسلحة، وأهم هذه القواعد هو أن تخضع كل دولة في نزاع مع غيرها لقرار الحكومة العالمية، وأي استخدام للقوة من جانب أية دولة من الدول ضد غيرها يجعل من هذه الدولة عدوًّا للناس، ولا بد أن ينزل بها العقاب من القوات المسلحة التابعة للحكومة العالمية. هذه هي القوى الضرورية إذا أردنا أن يكون حفظ السلام أمرًا ممكنًا، فإن سلَّمنا بذلك، تتابعت بعدئذٍ غيرها من السلطات. عندئذٍ تظهر الحاجة إلى هيئات تتولى السلطات القضائية والتشريعية. وسوف تنمو هذه السلطات بطبيعة الحال إذا تحققت الشروط الحربية. أمَّا الأمر الحيوي الشاق فهو وضع قوة لا تقاوم في أيدي السلطة المركزية.
وقد تكون الحكومة المركزية ديمقراطية أو دكتاتورية، وقد تنشأ عن رضًا أو عنوة، وقد تكون هي الحكومة الوطنية لدولة انتصرت في غزو عالمي، أو قد تكون سلطة يكون فيها لكل دولة — أو بالتالي لكل كائن بشري — حقوق متساوية. وأعتقد من جانبي أن هذه الحكومة إذا أُنشئت سوف تقوم على أساس من الرضا في بعض البقاع، وعلى أساس من الإرغام في البعض الآخر، فقد تنشب حرب عالمية بين مجموعتين من الأمم، فتنزع المجموعة الظافرة السلاح من المجموعة المنهزمة، ثم تشرع في حكم العالم عن طريق توحيد المؤسسات التي تطورت خلال الحرب. وبانطفاء جذوة الخصومة الحربية تنضم المجموعة المنهزمة تدريجًا إلى النظام الجديد. ولست أعتقد أن الجنس البشري يملك من الدهاء السياسي أو من القدرة على التسامح المتبادل ما يمكنه من إنشاء حكومة عالمية على أساس من الرضا وحده. ومن أجل هذا أعتقد أن عنصر القوة مطلوب في إنشاء هذه الحكومة وفي الإبقاء عليها خلال السنوات الأولى من وجودها.
(١-٣) قيمة الذكاء
إن كراهية الذكاء أحد الأخطار العظمى في العالم الحديث؛ لأن كل تقدم جديد في الوسائل الفنية العملية يصاحبه ازدياد الحاجة إلى الذكاء؛ فتقدم الوسائل الفنية في الصناعة يتوقف على المخترعين، والتقدم في الحروب يتوقف على علماء الطبيعة المختصين في الذرة الذين ما كان لأحد منهم أن يظفر بالاحترام «الجدي» لمعاصريه. والحكمة في الشئون الدولية تتطلب معرفة الجغرافيا، والتعرف إلى عادات الأمم المختلفة، والقدرة على رؤية صورة الدنيا من وجهة نظر أخرى غير وجهة نظر الرائي، ولا يمكن تحصيل أية صفة من هذه الصفات بغير ذكاء. وما برحت الديمقراطيات الكبرى في عصرنا الحاضر تميل إلى الاعتقاد بأن الرجل الغبي أقرب إلى الإخلاص من الرجل الذكي. ويستغل ساستنا هذا الميل بتظاهرهم بغباء أشد مما أعطتهم الطبيعة.
وهذا الخوف العام من الذكاء هو أحد الأخطار الكبرى في عصرنا الحاضر، وهو — كغيره من الميول الأخرى التي تحدثت عنها — من الأمور التي يجب أن تعالجها المدارس قبل غيرها؛ فلو أن المعلمين والسلطات التربوية كانوا أشد إدراكًا لنوع الشخص الذي يحتاج إليه العالم الحديث، لاستطاعوا خلال جيل واحد أن يكوِّنوا الرأي الذي يقلب وجه الأرض، ولكن مثلهم الأعلى في الشخصية لا يزال عتيقًا؛ فهم أشد ما يكونون إعجابًا بالصفات التي تُكسِب صاحبها القيادة في عصابة لصوص. وإن قلت إن التجارة شيء آخر غير القرصنة، قالوا إنك ليِّن وأعلنوا ضلالك. ويرجع ذلك كله إلى قوة الآراء العسكرية التي انحدرت إلينا من الأزمنة السحيقة. وأعيد القول هنا بأن هذه الآراء كانت تتلاءم مع عصر لم يكن فيه مفر من القحط، ولكنها لا تنطبق على العصر الذي نعيش فيه، حيث إن القحط أينما وُجد إنما يرجع إلى غباء الإنسان ولا يرجع إلى أي شيء آخر. وبالرغم من أن هذه هي الحقيقة، فإن أكثرنا لا يزال يؤثر حكم الهوى على حكم العقل؛ فنحن نحب أن تُثار عواطفنا، ونحب أن نستحسن ونستهجن، ونحب أن نعجب وأن نبغض، نحب أن نرى الأشياء إمَّا سوداء وإمَّا بيضاء. وجهازنا العقلي كله يتلاءم مع تحريضنا على الاندفاع إلى القتال مرددين صيحات الحرب الهمجية.
فإن أنت نظرت إلى تطبيق مثل هذه العقلية على أعمال البنوك الدولية، فلن تُدهَش للتدهور الذي سببته حينما كانت لها السيادة دون قيد، ولن تُدهَش لاعتقاد النازيين أن التدهور يمكن أن يحد لو أمكن إبادة عدد كافٍ من اليهود، ولن تُدهَش لما يعتقده الروس أنَّا سوف نصبح جميعًا من الأغنياء لو أمكن تصفية الرجال الأغنياء. وما كان لمثل هذه الأخطاء أن تقع من قومٍ الذكاء عندهم قادر على أن يسيطِر على الهوى، وما كان لمثل هذه الأخطاء أن تقع من قوم يدركون أن اختلاف المصالح باختلاف المجموعات البشرية إنما يرجع إلى الأهواء التي لا تخضع للعقل، ولا يرجع إلى أية حقيقة طبيعية.
(١-٤) الصراع بين الغرب والعالم السوفيتي
هناك أسباب قوية تدفعنا إلى الخوف من أن تمرَّ الحضارة الغربية — إن لم يكن العالم بأسره — في المستقبل القريب، على الأرجح، بفترة من الآلام والأحزان والمصائب، فترة قد ننسى فيها الأشياء التي نحاول الاحتفاظ بها وسط المرارة والفقر والفوضى، إذا نحن لم نحرص على تذكر هذه الأشياء. فإن أردنا أن ننجو من هذا العهد المظلم بنفوس سليمة، فلا بد لنا من أن نتحلى بالشجاعة والأمل والإيمان الذي لا يتزعزع. وجدير بنا قبل أن يدهمنا الخطر أن نستجمع أفكارنا، ونبعث آمالنا، وأن نبث في قلوبنا إيمانًا قويًّا ثابتًا في مُثلنا العليا.
هناك صورتان عن الحياة البشرية مختلفتان جد الاختلاف تتصارعان في سبيل السيطرة على العالم. ففي الغرب نرى عظمة الإنسان في الحياة الفردية، فالمجتمع العظيم عندنا مجتمع يتألف من أفراد، سعداء، متحررين، خلاقين، بمقدار ما يستطيع الإنسان ذلك. ونحن لا نعتقد أن الأفراد يجب أن يتشابهوا، إنما نحن نتصور المجتمع كالفرقة «الجوقة» الموسيقية التي يلعب فيها كل عازف دورًا مختلفًا ويضرب على آلة مختلفة، ولكن التعاون يحدث من الوعي بغرض مشترك. إننا نعتقد أن لكل فرد الحقَّ في الاعتزاز بنفسه بالقدر المناسب، ويجب أن يكون له ضميره الشخصي وأهدافه الشخصية، التي يملك الحرية في إنمائها، اللهم إلا إذا ثبت أنها تلحق الأذى بالآخرين. ونحن نعلق أهمية كبرى على تخفيف الآلام والفقر، وعلى زيادة المعرفة وإنتاج الفن والجمال. والدولة عندنا سبب من أسباب الراحة، وليست شيئًا معبودًا.
أمَّا الحكومة الروسية، فلديها صورة أخرى عن أهداف الحياة؛ فالفرد عندها غير ذي أهمية، ويمكن التصرف فيه. والمهم هو الدولة التي يُنظَر إليها كشيء يكاد يكون مقدَّسًا، ولها رفاهيتها الذاتية، وهي رفاهية لا تنحصر في رفاهية المواطنين. وهذا الرأي الذي استمده ماركس من هيجل يتعارض في أساسه مع الأخلاق المسيحية، التي يؤمن بها في الغرب أحرار الفكر كما يؤمن بها المسيحيون، وليس للكرامة الإنسانية في العالم السوفيتي أية قيمة، وهناك يُعد من الحق ومن الملائم أن يكون الناس عبيدًا أذلاء، يُطأطئون الرءوس أمام أولئك النفر الذين تتجسد فيهم عظمة الدولة، ويكادون يكونون أنصاف آلهة. وحينما يخدع المرء أعز أصدقائه ويكون سببًا في الزج به في غياهب الفزع المبهَم في معسكر من معسكرات العمل في سيبريا، عقوبةً له على زلة من الزلات انزلق فيها في لحظة، وحينما يكون الطالب سببًا في الحكم بالإعدام على والديه، نتيجةً للتعاليم التي تلقاها من معلمه، وحينما يقدم إلى المحاكمة رجل ذو شجاعة نادرة بعد جهاده في كفاح الرذيلة، ثم يُدان، ويضطر إلى أن يقرَّ في ذلة وخنوع أنه كان آثمًا حينما عارض السلطة «الإلهية» لأصحاب النفوذ، حينما يحدث ذلك، فإن الخداع والاعتراف بالإثم لا يسببان أي إحساس بالعار لمن اقترف الذنب؛ لأنه إنما أن يعمل في خدمة الإله الذي يقدسه.
هذه هي الصورة التي ينبغي لنا أن نكافح ضدها، وهي صورة — في رأيي ورأي أكثر أولئك الذين يقدِّرون ما يمثله الغرب من عقائد — تسلب الحياة، إن هي سادت، كل ما يكسبها قيمتها، ولا تترك فيها سوى مجموعة مجندة من الحيوانات الذليلة. ولا أستطيع أن أتصور قضية أضخم أو أعمق من هذه نكافح من أجلها. أمَّا إذا أردنا أن نحقق النصر — لا في ميدان القتال وحده، ولكن في قلوب الناس كذلك وفي النظم التي يؤيدونها — فلا بد أن يكون تفكيرنا واضحًا فيما نقيم له وزنًا، ويتحتم علينا — كما فعل بوثيس — أن نعزز شجاعتنا ضد ما يحيق بنا من أسباب الشدة والضيق.
وإن كانت روسيا لا تقدِّر الفرد حق قدره، فهناك في الغرب من يبالغ — في غير حق — في انفصال الأفراد كلٍّ عن الآخر. إن الذات الفردية ينبغي ألا تنحصر داخل جدران من الجرانيت، بل يجب أن تكون أطرافها شفَّافة تنمُّ عما تحتها. إنما الخطوة الأولى نحو الحكمة — بل ونحو الأخلاق الكريمة — هي أن نفتح النوافذ للذات على مصاريعها بقدر ما نستطيع. إن أكثر الناس يجدون قليلًا من الصعوبة في إدخال أبنائهم في دائرة رغباتهم، وهم يستطيعون ذلك بدرجة أقل مع أصدقائهم، وإزاء وطنهم إن ألمَّ به خطر. وكثير جدًّا من الناس يحس أن ما يؤذي بلدهم يؤذيهم. عرفت في عام ١٩٤٠م بعض الفرنسيين الذين يعيشون في أمريكا عيشةً رغدة يتألمون لسقوط فرنسا كما يتألمون لو بُترت سيقانهم. غير أنه لا يكفي أن نتوسع في دائرة عطفنا حتى تشمل وطننا، ولو أردنا للعالم سلامًا وجب علينا أن نتعلم كيف نشمل الجنس البشري بأسره بنفس العطف الذي نُحسه اليوم إزاء مُواطنينا. وإن أردنا أن نحتفظ بالهدوء والسكينة في الأوقات العصيبة، عاوننا على ذلك كثيرًا أن تشتمل المعارف التي تحتويها عقولنا على العصور الماضية والمستقبلة.
قل من الأشياء ما يُطهر تصورنا للقيم مثل ما يُطهره تأملنا في ارتفاع الإنسان التدريجي من بداياته الغامضة الشاقة إلى عظمته الراهنة. عند ظهور الإنسان في أول أمره … كان نوعًا نادرًا من السهل اصطياده؛ إذ لم تكن له سرعة الغزال، ولا خفة القرد، عاجزًا عن الدفاع عن نفسه ضد الوحوش الضارية، لا يحميه فراء دافئ من البرد والمطر، يعيش عيشةً غير مستقرة على الطعام الذي يجمعه، ليس عنده سلاح أو حيوان أليف، ولا يعرف الزراعة.
ولكن الميزة الوحيدة التي كانت لديه، وهي الذكاء، كفلت له الأمن في نهاية الأمر، فتعلم استخدام النار، واستخدام القوس والنشاب، واللغة، والحيوان الأليف، ثم تعلم الزراعة أخيرًا، وتعلم أن يتعاون في جماعات، وأن يبني القصور والأهرام الشاهقة، وأن يكتشف العالم من جميع الجهات، وأخيرًا تعلم كيف يواجه الفقر والمرض، ودرس النجوم، واخترع الهندسة، وتعلم كيف يستعيض بالآلات عن العضلات في العمل الضروري، وبعض من نواحي التقدم هذه حديث جدًّا، ولا يزال مقصورًا على الأمم الغربية.
ونحن أبناء العالم الغربي — حينما واجهتنا الشيوعية بنقدها المُعادي — وقفنا موقف المتواضع المدافع أكثر مما ينبغي. إن طرائق التطور، خلال العصور الطويلة منذ بداية الحياة كما كرَّرنا من قبل، استلزمت الآلام القاسية، والنضال المستمر في سبيل لقمة العيش، بل والموت جوعًا — في نهاية الأمر — في أكثر الحالات. هذا هو ناموس مملكة الحيوان، وقد بقي هو ناموس الكائنات البشرية كذلك حتى القرن الحاضر، ثم اكتشفت بعض الأمم في نهاية الأمر كيف تتخلص من الفقر المُدقِع، وكيف تتخلص من الألم والأسى والإسراف في المواليد التي لا فائدة منها التي يُحكَم عليها بالموت قبل النضج، وكيف تستعيض بالعقل والحرص عن استهتار الطبيعة الأعمى.
(١-٥) القواعد الخلقية للسعادة
تحدثت حتى الآن عن الأمور التي تُحيِّر الجماهير، ولكن ليست هذه الأمور وحدها هي التي تزعج العقول في الغرب؛ فلم يعد للمذاهب التقليدية في العقائد ولم يعد للنواميس التقليدية للأخلاق والسلوك سلطانُها الذي كان لها من قبل. وكثيرًا ما يقع الرجال والنساء في شك حقيقي مما هو حق ومما هو باطل، بل حتى في شك من أن الحق والباطل شيء فوق الخرافات القديمة. وعندما يحاولون أن يروا لأنفسهم رأيًا في هذه الأمور، يجدون مشقةً كبرى لا يطيقونها، فلا يستطيعون الكشف عن أي غرض واضح يسعون نحوه، أو أي مبدأ واضح يهتدون بهداه. وقد تكون لدى المجتمعات المستقرة مبادئ تبدو للبعيد سخيفةً باطلة، ولكن ما دامت المجتمعات مستقرة فإن مبادئها تفي بالغرض وفاءً ذاتيًّا. ونعني أنها تكون مقبولة من كل امرئ تقريبًا دون تساؤل، وأنها تجعل قواعد السلوك واضحة محددة وضوح قواعد النَّظم والنغم. بَيْد أن الحياة الحديثة في الغرب لا تشبع البتة في شيءٍ قواعد النَّظم والنغم، وإنما هي أشبه شيء بالشعر المرسَل الذي لا يميزه عن النثر إلا الشاعر. وهناك مجموعتان كبيرتان من العقائد أمام الرجل الحديث عندما يكون منهوك القوى الروحية، وأقصد نظام روما ونظام موسكو، وكلاهما لا يخلق مجالًا للعقل الحر، وهو فخر الرجل في الغرب وسبب عذابه في آنٍ واحد، وهو مصدر العذاب بسبب الآلام المتزايدة. إن الرجل الحر — إذا اكتمل نموه — كان مليئًا بالسرور والنشاط والصحة العقلية، ولكنه يعاني في الوقت ذاته الآلام.
إن العالم — لا في الحياة العامة وحدها، ولكن في الحياة الخاصة كذلك — بحاجة إلى طرق للتفكير والشعور تتلاءم مع ما نعرف، ومع ما نستطيع أن نعتقد فيه، وما نشعر أننا مُرغَمون على عدم الإيمان به. وهناك طرائق للشعور تقليدية لها كل ما للرأي القديم الموزون من كرامة، ولكنها في الوقت عينه لا تتلاءم مع العالم الذي نعيش فيه، الذي جعلت فيه الوسائل الفنية الحديثة بعض الفضائل الجديدة ضرورية وبعض الفضائل القديمة غير ضرورية. إن أنبياء اليهود — عندما أطاحت بهم الأمم المعادية، وعزموا على ألا يبتلع الغزاة الكفار شعبهم — ابتدعوا مذهبًا قاسيًا الفكرة الأساسية فيه هي الخطيئة؛ فالكفار يُخطئون دائمًا في كل ما يفعلون، ولكن اليهود — بكل أسف — كانوا مهيَّئين لأن يقعوا في الخطيئة هم أنفسهم. وعندما فعلوا ذلك انهزموا في المعركة، كان عليهم أن يذرفوا الدمع عند مياه بابليون. وهذا هو النمط الذي استمد منه رجال الأخلاق وحيهم من ذلك الحين، فصوَّر الرجل الفاضل بأنه رجل بالرغم من إحاطته دائمًا بأسباب الإغراء، وبالرغم من تحريضه بشدة على ارتكاب الذنوب، يفلح — بقوة إرادته التي تكاد تكون فوق القدرة البشرية — في السير على الطريق الضيق المستقيم، ملتفتًا في الوقت عينه بازدراء عن يمينه وشماله إلى تلك الكائنات الدنيا التي تلكأت لتلتقط ما يعترض طريقها من أزهار. والفضيلة بهذه الصورة شاقة، سلبية، قاحلة، مُجدِبة، وهي متزمِّتة متشكِّكة في السعادة، وهي مدفوعة إلى الاقتناع بأن دوافعنا الطبيعية سيئة، وأن المجتمع لا يمكن أن يتماسك إلا عن طريق النواهي الصارمة. ولست أريد أن أزعم أن المجتمع يحتفظ بتماسكه إذا ارتكب الناس جرائم القتل والسرقة، وإنما أريد أن أقول إن نوع الرجل الذي أحب أن أراه في هذا العالم رجل ليس لديه دافع إلى القتل، ولا يمتنع عنه لتحريمه، وإنما يمتنع عنه لأن أفكاره ومشاعره تباعد بينه وبين دوافع التخريب، وكأن فكرة الذنب كلها قد اندثرت فيما يتعلق على الأقل بالتفكير والشعور الواعي. وأكثر الناس لم يفكر في أي نظام آخر من نظم الأخلاق، وربما لم ينبذ من الوجهة النظرية النظام القديم. غير أن هذا النظام القديم قد فقد سلطانه عليهم؛ فهم لا يقتلون ولا يسرقون عادةً؛ لأنه ليس من مصلحتهم أن يفعلوا ذلك، ولكن موقفهم يختلف عن ذلك إزاء «الوصية السابعة»، وهم في الواقع لا يحبون أن يسايروا النمط القديم. والرجل العادي يحمد الله على أنه ليس مثل هذا المتزمِّت، ويتصور أنه بسلوكه العادي يدرك فحوى ما جاء في الوصية، ولا يطرأ على ذهنه أن شعوره بالسمو هو موضع الملامة، وأنه سواء أكان هذا الشعور من جانب الرجل العادي أم الرجل المتزمِّت، فإن ذلك من التفصيلات التي ليست لها أدنى أهمية.
وأودُّ أن أقنع أولئك الذين ماتت في نفوسهم الأخلاق التقليدية، والذين يُحسون الحاجة في الوقت عينه إلى غرض جِدِّي يسمو على اللذة الوقتية، أودُّ أن أقنعهم أن هناك طريقة للتفكير والشعور لا تشقُّ على أولئك الذين لم ينشئوا على نقيضها، وهي ليست طريقة كبح النفس وإنكار الذات وإدانتها؛ فالحياة الطيبة — كما أتصورها — حياة سعيدة. ولست أقصد أن الرجل الطيب رجل سعيد، وإنما أقصد أن الرجل السعيد لا بد أن يكون طيبًا. إن البؤس عميق الجذور في نفوس أكثر الناس؛ فكم من الناس — كما نعرف جميعًا — يسير في حياته متظاهرًا بالسرور، وهو مع ذلك دائم السعي وراء التخدير سواء بالخمر أو بغيرها من الوسائل. أمَّا الرجل الطيب فلا يحب التخدير، ولا يحسد جاره فيَمقته، وهو يستطيع أن يعيش بدوافعه الطبيعية كالطفل؛ لأن السعادة تجعل دوافعه مُثمِرة غير مدمَّرة. وكم من رجل وامرأة يتخيلان نفسَيهما متحرِّرين من أصفاد النواميس القديمة، ولكنهما في الواقع لم يتحررا إلا في الطبقات العليا من عقولهم، وتحت هذه الطبقات يختفي الإحساس بالذنب قابعًا كالحيوان المفترِس في انتظار لحظات الضعف أو عدم الانتباه، ويُزمجِر بأصوات الغضب الصاخبة التي تطفو على السطح في صور غريبة شائهة، أمثال هؤلاء الناس يخسرون الدنيا والآخرة.
(١-٦) الحب وقوة النفس
إذا كانت الأيام مُظلِمةً أمامنا، فيجب أن نذكر وهي ماثلةٌ أمام أعيننا مسيرَ الإنسان البطيء الذي كانت تعترضه في الماضي الكوارثُ والتخلف، ولكنه يواصل دائمًا حركته نحو التقدم. وقد نصح اسبينوزا — الذي كان من أحكم الناس، والذي عاش حياةً متفقة مع حكمته — نصح الناس أن ينظروا إلى الحوادث الجارية «من زاوية الخلود». وأولئك الذين يستطيعون أن يتعلموا ذلك سوف يجدون الحاضر الأليم أكثر في نفوسهم احتمالًا منه لو تغيرت زاوية النظر. إنهم يرونه برهةً «عابرة»، يرونه مشكلة تحل، وقناة تعبر. إن الطفل الصغير الذي يجرح نفسه يبكي كأن الدنيا ليس فيها غير الأحزان؛ لأن عقله ينحصر في الحاضر. أمَّا الرجل الذي تعلم الحكمة من اسبينوزا فيستطيع النظر إلى حياته حتى لو كانت كلها آلامًا باعتبارها لحظةً عابرة في حياة الإنسانية. والجنس البشري نفسه من بدايته الغامضة حتى نهايته المجهولة ليس إلا حادثًا ضئيلًا في حياة الكون.
إننا لا نعرف ما قد يكون حادثًا في مكان آخر غير الكون، ولكن ليس من المحتمل ألا يحتوي الكون شيئًا أفضل من أنفسنا. وبازدياد الحكمة تكتسب أفكارنا مجالًا أفسح في المكان والزمان. إن الطفل يعيش في لحظته، والصبي في يومه، والرجل الغرزي في عامه، والرجل الذي يعي التاريخ يعيش في حقبته. ولا يريد اسبينوزا أن نعيش في اللحظة أو اليوم أو العام أو الحقبة، وإنما يريدنا أن نعيش في الأبدية. وأولئك الذين يتدرَّبون على ذلك سوف يجدون أنه يزيل صفة الهلع من سوء الحظ، ويحول دون الاتجاه نحو الجنون الذي يجيء مع الكوارث المُلمَّة. ولقد قضى اسبينوزا آخر يوم من أيام حياته يروي لضيوفه أبهج القصص، وكتب يقول: «إن الرجل الحر يفكر في الموت أقل مما يفكر في أي أمر آخر، وحكمته تأمل في الحياة لا في الموت.» ولقد قام بتنفيذ هذا المبدأ حينما أقبل عليه الموت.
ولست أعني أن الرجل الذي يتحرر من عسف الجهالة يخلو من العواطف، كلا؛ فهو على العكس من ذلك يُحس الصداقة وفعل الخير والرأفة على مستوًى أعلى من الرجل الذي لم يحرر نفسه من الهموم، ولن تقف ذاته حائلًا بينه وبين بقية البشر، ولكنه سوف يُحس كما أحس بوذا أنه لن يكون كامل السعادة ما دام هناك فرد بائس، وسوف يُحس الألم — وهو ألمٌ واسع وأكثر انتشارًا من ألم المحب لِذاته — ولكنه لن يجد هذا الألم مما لا يمكن احتماله، ولن يدفعه الألم إلى اختراع قصص خرافية مطمئنة تؤكد له أن آلام الآخرين وهمية، ولن يفقد الاتزان والتحكم في النفس، وسوف يردد قول ملتون:
وسوف يذكر — فوق كل ذلك — أن كل جيل مسئولٌ أمام الأجيال المقبلة عن الكنوز العقلية والخلقية التي جمعها الإنسان خلال العصور الماضية. حينما جُن جنون الملك لير الْتَقى بإدجار الذي تظاهر بالجنون، ولم يرتدِ سوى خرقة يتستر بها، وتجري الحكمة على لسان لير حينما يقول: «إذا جُن جنون المرء فلا يعدو أن يكون حيوانًا مسكينًا، عاريًا، بادي الساقين مثلما تبدو لي.»
وهذا بعض الحق فقط، أمَّا بعضه الآخر فيجري على لسان هاملت حين يقول: «ما أعجبَ صُنع الإنسان! وما أنبله في عقله! وما أعظم قدراته التي لا تُحَد! إنه يدعو إلى الإعجاب والدهشة في صورته وفي حركته! ما أشبهه بالملاك وهو يعمل! وما أشبهه بالإله وهو يفكر!»
والرجل السوفيتي — وهو يزحف على ركبتَيه ليخدع أصدقاءه وأسرته ويقودهم إلى مجزرة بطيئة — ليس البتة جديرًا بكلمة هاملت، وإن كان بالإمكان أن يكون الإنسان جديرًا بها، ويستطيع كلٌّ منا أن يكون قمينًا بها؛ ففي إمكان كلٍّ منا أن يُوسِّع من أفق عقله، وأن يُطلِق خياله، وأن ينشر محبته وفعله للخير. وإنما تتطلع البشرية في نهاية الأمر إلى أولئك الذين يفعلون ذلك؛ فالشرق يقدس بوذا، والغرب يقدس المسيح، وكلاهما بشَّر بالمحبة باعتبارها سر الحكمة. وكانت حياة المسيح على الأرض معاصرة لحياة الإمبراطور تيبريس الذي قضى حياته في أعمال القسوة والاستهتار الشنيع، وكان تيبريس يتمتع بمظاهر العظمة والنفوذ، ترتعد فرائص الملايين إذا أومأ برأسه، ولا يذكره اليوم غير المؤرخين.
إن أولئك الذين يعيشون عيشةً نبيلة — حتى إن كانوا يعيشون في عهدهم مغمورين — لا يخشون أن تذهب حياتهم هباءً؛ فإن ضياءً يشع من حياتهم نورًا يهدي إلى الطريق أصحابهم وجيرانهم، وربما كان ذلك إلى عصور طويلة مقبلة. كم من رجل أقابل اليوم ممن يُحس بوقع العجز شديد على نفسه، ويشعر بأنه ليس هناك في متسع المجتمعات الحديثة شيء ذو أهمية يستطيع الفرد أن يؤديه. وهذا خطأ؛ لأن الفرد إذا امتلأ قلبه بمحبة الناس، واتصف ببعد النظر، وبالشجاعة والصبر، يستطيع أن يفعل الشيء الكثير.
وبمرور العصور الجيولوجية يتضح لنا أنه لم تنقضِ إلا برهةٌ منذ ظهر الجنس البشري، ولم تمرَّ سوى طرفة عين منذ اخترع الإنسان فنون الحضارة. ولا يحتمل أن يبيد الجنس البشري نفسه تمامًا بالرغم مما يشعر به بعض الناس من مخاوف. وما دام الإنسان موجودًا، فنحن على يقين من أنه سوف ينجو عاجلًا أو آجلًا مهما كان ما يقاسيه في فترة ما، ومهما انطفأ ما لديه من بريق، وربما نجا وهو أكثر قدرة وأشد قوة بعد فترة من فترات الركود العقلي؛ فالكون فسيح، وليس الناس سوى ذرَّات دقيقة فوق كوكب عديم الأهمية. ولكنا كلما أدركنا صغارنا وعجزنا إزاء قوى الكون، ازددنا إعجابًا بما أنجزه الإنسان.
ويجب أن يشتد إيماننا بما يستطيع الإنسان أن يؤديه. وبهذه العقيدة نستطيع أن نحتمل المتاعب اليسيرة التي يعانيها هذا العصر المضطرِب الذي نعيش فيه. ما أعظم الحكمة التي يجب أن نتعلمها، وإذا كنا لا نتعلمها إلا عن طريق المِحن، فيجب أن نحاول احتمال المِحن بكل ما لدينا من جلَد. أمَّا إذا استطعنا اكتساب الحكمة عاجلًا، فقد لا تصبح للمحنة ضرورة، وقد يمسي مستقبل الإنسان أسعد من أي وقت مضى من حياته.
(١-٧) التعقل الفلسفي
كنت آمل في شبابي أن أجد في الفلسفة ما يشبعني من الناحية الدينية … وكنت دائمًا شديد الرغبة في أن أجد تبريرًا للعواطف التي تثيرها بعض الأشياء التي كانت تبدو منفصلة عن الحياة البشرية، وتستحق الشعور بالرهبة. ويحضرني في هذا الصدد أشياء غاية في الوضوح، كالسماء ذات النجوم، والبحر العاصف على الشاطئ الصخري. ويحضرني من ناحية أخرى اتساعُ عالم العلوم، سواء في الزمان والمكان، إذا قُورِن بحياة الإنسان. ويحضرني أيضًا بناء الحقيقة غير الشخصية، وبخاصةٍ تلك الحقيقة التي لا تكتفي بوصف العالم الذي وُجد بالمصادفة كالحقيقة الرياضية مثلًا. إن أولئك الذين يحاولون أن يجعلوا من الإنسانية دينًا لا يعترف بشيء أعظم من الإنسان لا يُشبِعون عواطفي، ولكني — برغم ذلك — لا أستطيع أن أصدِّق أن هناك شيئًا — في العالم كما نعرفه — بوسعي أن أجعل له قيمةً خارج الكائنات البشرية، وخارج الحيوان بدرجة أقل بكثير. إن السماء ذات النجوم ليست لها روعة إلا بمقدار ما لها من أثر في الإنسان المدرك، والإعجاب بالكون لضخامته سخفٌ وصغار، والحق المجرد غير البشري وهمٌ من الأوهام. وهكذا ترى أن عقلي يساير الإنسانيين، في حين أن عواطفي تثور عليهم بعنف وشدة. و«عزاء الفلسفة» في هذا الصدد لا يشفي غلتي.
المصادر
-
١ من كتاب «آمال جديدة في عالم متغير».
-
٢ من كتاب «آمال جديدة في عالم متغير».
-
٣ من كتاب «آمال جديدة في عالم متغير».
-
٤ من كتاب «آمال جديدة في عالم متغير».
-
٥ من كتاب «آمال جديدة في عالم متغير».
-
٦ من كتاب «آمال جديدة في عالم متغير».
-
٧ من كتاب «آمال جديدة في عالم متغير».
-
٨ من كتاب «آمال جديدة في عالم متغير».
-
٩ من كتاب «أثر العلم في المجتمع».
-
١٠ من كتاب «فلسفة برتراند رسل».
-
١١ من كتاب «تاريخ الفلسفة الغربية».
-
١٢ من كتاب «فلسفة برتراند رسل».