رينولد نيبور
إذا كان هناك خيط واحد يربط بين المؤلفات العويصة الفصيحة التي أسهم بها نيبور فيما كُتب متعلقًا بالفلسفة الحديثة وبالدفاع عن البروتستانتية، فمن الجائز أن ننعته بأنه حرب صليبية موجَّهة ضد التفاؤل الشديد الذي ساد عصر العقل والعلم، وذلك بالرجوع إلى فكرة الخطيئة الأولى وحالة الإنسان التي تدعو إلى الأسف والأسى. وتصف صفحات إحدى المجلات الواسعة الانتشار رينولد نيبور بأنه «رجل الدين الأول في بروتستانتية الولايات المتحدة». وفي عبارة أفضل انتقاءً وأقوى تبيانًا يقول المؤرخ آرثر شلنجر: «إنه لم يظهر في هذا الجيل واعظ له ما لنيبور من قوة الأثر، ولم يظهر واعظ له ما له من أثر في الدنيا العلمانية.»
ونيبور، الذي يشغل الآن منصب نائب رئيس اتحاد المعاهد الدينية بنيويورك، وُلد في مدينة رايت بميسوري يوم ٢١ من يونيو من عام ١٨٩٢م. وقد جاء أبوه مهاجرًا إلى هذه البلاد (أمريكا) من ألمانيا في سن السابعة عشرة. وعندما رُزق رينولد كان راعيًا للكنيسة الإنجيلية الطائفية في مدينة رايت. وربما كان لوفاة والده في سن مبكرة، وما ترتَّب على ذلك من ضيق مالي عانت منه أمه، التي كان عليها أن تواجه تربية أبنائها، شأن بالتحاق نيبور بكلية ألمهرست في ألينواز، وهو معهد تخرَّج فيه عام ١٩١٠م دون الحصول على درجة علمية، لكي يلحق بمعهد إيدن الديني، بجوار سنت لويس، ثم انتقل بعد ذلك بثلاث سنوات إلى مدرسة ييل للاهوت، ومنها حصل على درجة البكالوريوس في اللاهوت عام ١٩١٤م، وعلى درجة الأستاذية في عام ١٩١٥م.
وفي عام ١٩١٥م عندما نُصِّب قسيسًا في كهنوت الكنيسة الإنجيلية الطائفية بشمال أمريكا، تولَّى نيبور أول وآخر وظيفة له كراعٍ في كنيسة بثل الإنجيلية بدترويت. وتميَّزت خبرة السنوات الثلاثة عشرة في دترويت باهتمام حماسي بحركة العمال، وبنوع من الوعظ الثائر الذي كان يعطف على الاشتراكية وعلى القادة المجاهدين في صفوف عمال السيارات بتلك المدينة الهامة. وقد شاع بين الناس أن رجال الصناعة تنفَّسوا الصعداء عندما غادر نيبور دترويت لكي يلتحق بهيئة اتحاد المعاهد الدينية. وبعد عامين عُيِّن نيبور أستاذًا لكرسي وليم رودج، وهي أستاذية في المسيحية التطبيقية في اتحاد المعاهد الدينية. وبمرور السنين اشتد ارتباطه وزادت مسئولياته إزاء هذه المؤسسة.
وقد أدرك نيبور منذ أيام دترويت أن الأزمة العالمية في عصرنا الحاضر تتعلق بالمشكلات الأساسية للخلق السياسي. وكتابه «الإنسان الخلقي والمجتمع غير الخلقي» لا يزال بيانًا قويًّا عن الحاجة إلى نظام اجتماعي عادل قبل أن نتوقع ﻟ «الإنسان الخلقي» أن ينتعش. وفي كتابه «أبناء النور وأبناء الظلام» يهاجم نيبور تخلي «أبناء النور» عن المسئولية الخلقية، فهم يعجزون عن اللحاق بوقائع السلطة المعقدة، بالرغم من نبل نواياهم وطهارتها. وفي هذا الصدد ألَّف نيبور أن ينقد مرةً كل أسبوعين الكنائس الأمريكية والزعماء الدينيين، ويصمهم بأنهم إنما يلقون المواعظ والنصائح الخطرة التي ليست لها بواقع الحياة صلة. وبسبب هذا النقد المتواصل اكتسب نيبور بعض الأعداء الأقوياء في الدوائر الأمريكية المسيحية. أمَّا في شئون السياسة فقد نادى نيبور بضرورة التزام الحكمة التي تخلو من التعصب، وهي الحكمة التي تطابق المذهب البراجمي (العملي) المتحرر. وتدل بعض مؤلفاته الأخيرة مثل «المسيحية وسياسة السيطرة» و«الواقعية المسيحية والأزمة السياسية»، ومقالاته العديدة التي نشرها في صحف الرأي مثل «الرائد الحديث»، على عادته في وزن الأمور على أوجهها الواقعية المختلفة وزنًا دقيقًا، ووزن النتائج الخلقية للقرارات السياسية.
وقد أظهر نيبور مرةً أخرى عند اقتراب الحرب العالمية الثانية الشجاعة والنزاهة التي دفعته من قبلُ إلى أن ينضم إلى الاشتراكيين في الفترة التي تقع بين عام ١٩٣٠ و١٩٤٠م، وذلك حينما انفصل عن الاشتراكيين في يونيو من عام ١٩٤٠م، واختلف معهم بشأن الحرب الأوروبية، التي أدرك أنه لا مناص للولايات المتحدة من دخولها، والتي ينبغي لها من الناحية الخلقية أن تتدخل فيها. ولما كان نيبور يعتقد «أن قدرة الإنسان على العدالة تجعل الديمقراطية ممكنة، غير أن ميل الإنسان إلى الظلم يجعل الديمقراطية ضرورة»؛ فقد اهتم اهتمامًا بالغًا بالقضايا الملموسة في السياسة الخارجية، كما اهتم بالسياسة الداخلية الوطنية في أمريكا. وبينما نراه يلجأ إلى نوع من الوعظ المسهب بشأن الأخطاء الأمريكية في كتابه «سخرية التاريخ الأمريكي»، نجد أنه يعتقد بشدة في قدرة أمريكا على أن تحدد مصالحها الوطنية في إطار سمح يسمح بحقوق الأمم الأخرى.
وفي كتابه «النفس ومسرحية التاريخ» يرتد نيبور إلى الاهتمام الذي سيطر عليه في محاضرات جفورد التي ألقاها بأدنبرة في عام ١٩٢٩م، حينما اختار موضوع «الطبيعة ومصير الإنسان» للمحاضرة. وهنا نراه يذكر في عبارة بليغة تقديرَه للعنصر العبري في المدنية الغربية، كما أنه يحتفظ بالتقاليد الهلينية، وهو فوق ذلك يقدم لنا في قوة مؤثرة فلسفةً عامة في النفس، سواء من ناحية تقيدها بظروف خلقها أو من ناحية أمجادها الخلَّاقة.
(١) الواقعية المسيحية والأزمة السياسية
(١-١) الجذور العلمانية لورطتنا
إن الميل الطبيعي عند المسيحي المؤمن حينما ينظر إلى الوقائع المؤسفة في حياتنا المعاصرة، هو أن يرى الحق في المسيح إزاء ما نستعيض به عن الإيمان المسيحي، وهو استبدال الباطل بالحق، الأمر الذي ربما عاون على إيجاد هذا العالم المفجع الذي نعيش فيه اليوم. ألم يهدم هذا الذي استبدلناه بالإيمان المسيحي الإحساسَ بالسياسة المقدسة التي نخضع لها جميعًا؟ ألم يخترع وسائل للتخلص من الشر جعلت الشعور بالندم أمرًا لا ضرورة له؟
هذا الميل قد يحدد أيضًا مسئوليتنا. غير أني أشك فيما إذا كانت هي مسئوليتنا الأولى؛ فالفرصة سانحة لنا كذلك لكي نجعل لصدق كلمة الله أثرًا في الجذور الدنيوية للورطة التي نحن فيها اليوم؛ لأن تاريخنا الجاري هو في الواقع مثل رائع للوسيلة التي يباغت بها إله الانتقام كبرياء الإنسان، وللطريقة التي يوقع بها الحكم الإلهي العقوبة على الأفراد والشعوب الذين يرفعون أنفسهم فوق مستواهم.
ولقد أدى بنا تحرير الثقافة إلى الظن بأن الفكرة المسيحية التي تقول بميل الناس جميعًا نحو الإثم إنما هي فكرة عتيقة انقضى عهدها وفات، وأحللنا مكانها فكرة حب الذات حبًّا بريئًا لا ضرر منه؛ إما بسبب اهتمام الفرد بمصلحته مع مراعاة الحكمة والاعتدال، وإما بسبب توازن القوى الاجتماعية جميعًا، توازنًا يحول حب الذات عند الناس أجمعين إلى انسجام اجتماعي أسمى. غير أن بُطلان هذه الفكرة قد ثبت بازدياد المفارقة المستمرة في التناسب بين القوى في مجتمعنا، كما ثبت أيضًا باطراد التدهور بين الناس في مجتمعٍ قوامه الوسائل التكنولوجية. وأدى بنا تحرير الثقافة أيضًا إلى الظن بأن الخلاص يكون عن طريق النمو والتطور؛ فالناس — كما يُقال — لا يعانون من الإثم بمقدار ما يعانون من العجز. غير أن سير التاريخ كله — لحسن الحظ — كان في حد ذاته مخلصًا للإنسان؛ فقد حوَّل الإنسان من حالة العجز إلى حالة القدرة، ومن الجهل إلى العلم، ومن الحالة التي يكون فيها فريسة لحكم التاريخ إلى الحالة التي يكون فيها سيدًا له. غير أنَّ وهم هذه الفكرة لا يقل مأساةً عن وهم الفكرة الأولى. وما دامت خطيئة الإنسان ترجع إلى فساد إرادته ولا ترجع إلى ضعفه، فإن احتمالات الشر تنمو مع اطراد الزيادة في حريته وقدرته، التي كان مفروضًا أن تعمل على تحريره.
وهذه الأوهام الواضحة في العالم الحر عجَّلت بثورة ماركسية ضد الثقافة الحرة بأسرها، فنادت بالإيمان بنوع جديد من انسجام المجتمع عن طريق التحطيم الثوري للملكية، ليحل محل الإيمان بالتناسق البسيط بين القوى الاجتماعية جميعًا؛ وبذلك رأت أن النظام الاجتماعي هو أساس الشر عند الإنسان، وبشَّرت بخلاصه عن طريق تحطيم هذا النظام، وبشَّرت بالخلاص عن طريق القضاء على النظام القديم وظهور نظام جديد، بدلًا من فكرة الخلاص عن طريق النمو والتقدم الذي لا يقف عند حد. ولم يكن معنى ذلك الموتَ المستمر للنفس الذي ورد في الكتاب المقدس، إنما كان تبشيرًا بحياة جديدة لنا نحياها بإماتة أعدائنا.
وقد ازدادت مأساة هذا العصر فجيعةً لسببين؛ أولهما أن هذا الرأي الجديد الذي نستبدله بالحرية الدنيوية قد دل من وجوه كثيرة على أنه أكثر وهمًا وأشد خطأً، وثانيهما أن هاتين الصورتين من الخطأ قد أوقعتا العالم في حرب أهلية مريرة تحطم المجتمع قوميًّا كان أو دوليًّا.
وهذا الاتجاه الجديد أثبت أنه أشد خطأً؛ لأن دعاة هذا الدين الجديد تحوَّلوا إلى ملوك مقدَّسين مستبدين، فقدوا كل إحساس بصفة الترابط بين كل المصالح والأفكار البشرية، فأشاعوا في العالم طرًّا تعصبهم الذميم لصواب تفكيرهم دون سواهم. وقد أثبت هذا الاتجاه الجديد أنه كذلك أشد خطأً؛ لأن مذهب اشتراكية الملكية حينما يتحول إلى مذهب خلاص ديني، بدلًا من اكتفائه بأن يكون حلًّا عمليًّا، إنما يجمع بين القوى الاقتصادية والسياسية في أيد أوليجاركية واحدة واحدة؛ مما يؤدي إلى الظلم والتعسف. وهذا الشر الواضح وهذا الاستبداد في الرأي قد أعطى لمؤيدي النظام القديم حجةً قوية، لا لكي يتوبوا عن خطاياهم، بل ليكتفوا بتوجيه الانتباه إلى أخطار الرأي الجديد.
(١-٢) آثام الكنيسة
وليس من شك في أنه من واجبنا أن نشهد ضد هذين اللونين من الوهم الدنيوي من وجهة نظر الحق الذي لا نراه من تلقاء أنفسنا، إنما نستمده من الكتاب المقدس، وبهذه الشهادة يكون موقفنا الراهن دعامةً قوية للحق الذي جاء في الكتاب المقدس. وينبغي لنا أن نبشر بالكتاب المقدس في الوقت الذي يتردى فيه الإنسان الحديث — الذي كان على ثقة شديدة أنه يستطيع أن يسيطر على مصيره — في مصير تاريخي، يبدو فيه أن إرادة الإنسان قد أمست عاجزةً كل العجز فاقدة لكل رجاء. إن ما يباهي به كل فريق من فضائل ليس إلا شرورًا من وجهة نظر الفريق الآخر، وآثامًا في نظر الإله. وإن هذه العبارة التي جاءت على لسان صاحب المزامير تنطبق على موقفنا تمام الانطباق: «لقد ثار الكفار وتصوَّر الناس أمورًا باطلة، ولكن ذلك الذي يستوي على عرش السماء سوف يَسخر منهم ويضحك.»
- (١)
ليس هناك شر اجتماعي، وليست هناك صورة من الظلم — سواء من النوع الإقطاعي أو من النوع الاجتماعي — لم تؤيَّد بشكلٍ ما بالشعور الديني؛ ومن ثَم أصبحت أشد صلابةً ضد التغير. وإن ما قاله ماركس في هذا الصدد صادق إلى حدٍّ ما، وهو «أن بداية كل نقد هي نقد الدين؛ لأن ادعاءات الناس تبلغ أضل صورة لها عند هذا المستوى النهائي، والإثم النهائي يُرتكب دائمًا باسم الدين.»
- (٢)
أعلن جانب من الكنيسة — خشيةَ الاشتباك في متاهات السياسة — أن مشكلات السياسة لا تمتُّ إلى الحياة المسيحية بصلة؛ فترك الإنسان الحديث في حيرة المجتمع الحديث، كما رأى الإخاء يتحطم في المجتمع التقني دونما تأنيب من الضمير، بل إن هذا الحياد كثيرًا ما لا يلتزم بنزاهة وإخلاص. والكنيسة المحايدة حليف في العادة للقوة الاجتماعية القائمة.
- (٣)
وجانب من الكنيسة اكتفى — عند مواجهة مركبات النظام السياسي — بنظرة عاطفية لا تحتمل، فأعلن أن هذه المشكلات ما كانت لتظهر لو أن الناس تبادلوا فيما بينهم المحبة، وأصرَّ على أن قانون المحبة سهل ممكن، في حين أن تجاربنا كلها تدل على أن المشكلة الحقيقية في وجودنا هي أننا ينبغي أن نتحابَّ ولكنا لا نفعل. وكيف نستطيع أن نقيم مجتمعًا محتملًا في حين أن الناس جميعًا — وفيهم المسيحيون — يميلون إلى أن يستغل كلٌّ منهم الآخر؟ وحتى يومنا هذا نجد كثيرًا من المسيحيين يأملون في بلاهة أن ينطق المجتمع المسيحي ذات يوم بكلمة خلقية يسيرة تنهي بالمحبة الصراعَ الأليم بين أفراد المجتمع الإنساني. وإن أشد رجال السياسة انتهازًا للفرص — الذي يدرك الأمور المعقدة التي يواريها هذا الشعور العاطفي — هو برغم فساده أقرب إلى أن يدخل مملكة السماء قبل ذلك المنافق الذي يستطيع أن يتصور أنه بوسعنا أن نرتفع بأنفسنا فوق المتناقضات الخلقية المفجعة الكائنة في وجودنا بعمل يسير من أعمال الإرادة.
- (٤) وجانب من الكنيسة — لوعيه بهذه الأمور المحيرة — تأهَّب لوضع مشروعات مسهبة مفصلة للعدالة وللقانون لتنظيم الحياة السياسية والاجتماعية للإنسان تحت مستوى المحبة والشعور النبيل. ولكن هذا الجانب جرَّ نفسه إلى وضع تشريع صارم لا ينطوي على سماحة الشعور، فهو لا يعرف أن كل قانون قد يكون الوسيلة إلى ارتكاب الإثم، وأن أحكام العدالة الصارمة — وبخاصة في الظروف السريعة التغير التي تلازم التطور التكنولوجي الحديث — أقرب إلى أن تعوق منها إلى أن تعين على تنفيذ العدالة الحقة. ومما ينبغي للمسيحية قطعًا أن تسهم به في مشكلة العدالة السياسية هو أن تخضع كل أحكام العدالة لقانون المحبة، وتنهي بذلك هذا الجدل العقيم بين أتباع الفلسفة البراجمية (العملية) وأتباع مذهب الحق المشروع، وأن توجد الحرية والقدرة على المراوغة التي لا مناص منها لتحقيق درجة من التوافق المقبول بين الأفراد والشعوب في العلاقات الإنسانية الآخذة في التعقيد. إننا بحاجة إلى نظرة براجمية نحو كل نظام من نظم الملكية ونظم الحكم، فندرك أنه ليس من بين هذه النظم نظام يبلغ من التقديس الحد الذي تريد بعض القوانين المسيحية المزعومة أو القوانين الدنيوية أن تخلعه عليه، وأن كل هذه النظم عرضة للفساد، وأن إلغاءها هو كذلك عرضة للفساد. ولا يمكن أن تنحط هذه الحرية إلى حد الفوضى لو عرف الإنسان «أن كل شيء له، وأنه للمسيح، والمسيح لله».٢
(١-٣) الحق المسيحي في عصرنا
لقد تحدثت حديثًا سلبيًّا، وقلت إن الكنيسة المسيحية ينبغي أن تستنكر كل صورة من صور الكبرياء والغرور، سواء في الثقافة الدنيوية أو المسيحية، وأن تركز اهتمامها في خطايانا خشيةَ أن نجعل المسيح حكمًا على غيرنا وليس حكمًا علينا. غير أن الشعور بالندم لا يكفي وحده، فهو جزء من شعور عام بالخلاص، وواجبنا من الناحية الإيجابية هو أن نقدم إنجيل الخلاص المسيحي للأمم كما نقدمه للأفراد. ونحن — طبقًا لما نؤمن به — كثيرًا ما نقع في الإثم وفي وهدة الموت؛ لأننا نحاول مستيئسين أن نحيا، وأن نحتفظ بكبريائنا، وأن نبقى على مكانتنا العالية. غير أنه بالإمكان أن نحيا حياة صادقة إذا نحن أنكرنا الحياة على ذواتنا، وإذا حد الإنسان من غروره بأن يأخذ بالحكم الإلهي الذي يقضي بأن الحياة تصلح حقًّا بالبركة الإلهية. وهذا الوعد بالحياة الجديدة موجَّه إلى الأفراد، ولكن من ذا الذي يستطيع أن ينكر ارتباطه كذلك بالأمم والدول، وبالمدنيات والثقافات بالرغم من أن هذه الصور الجماعية من الحياة ليس لها ما لروح الفرد من صفاء كامل، ولا يمكنها أن تتصل اتصالًا مباشرًا بالحكم الإلهي وبالبركة الإلهية؟
إن الموقف في الحياة الجماعية للإنسان في الوقت الحاضر يدل على أننا حطمنا حياتنا العامة عن طريق القوى الجديدة والحرية التي قدمتها المدنية التكنولوجية لنا ووضعتها بين أيدينا. وهذه الحياة المحطمة، التي تتبدى في بؤس العالم كله وقلقه، هي حكم تاريخي موضوعي علينا، وهي الموت الذي ترتَّب على حياة الغرور التي تحياها الأمم والشعوب، وهي بغير إيمان ليست إلا فناءً، وبغير إيمان تولَّد الحزن والأسى للدنيا بأسرها، وهذا هو اليأس. وبغير إيمان يكون هذا الاضطراب دليلًا على انعدام المعنى الذي يترتب على تدمير النظم المبسطة لمعنى الحياة التي تجعلنا وتجعل شعوبنا وثقافتنا مركزًا لها. غير أن الموت — عن طريق الإيمان بالله الذي تكشَّف في ذلك الذي مات ثم رُفع إلى السماء — قد يصبح أساسًا لحياة جديدة، كما أن انعدام المعنى قد ينقلب إلى معنًى، وكذلك الحكم قد يكون بركة ونعمة. وواجبنا أن نوسط الحكم الإلهي والبركة حتى تستطيع الشعوب والطبقات والدول والثقافات، وكذلك الأفراد، أن ترى السبب السماوي في جراحهم، وحتى تستطيع كذلك أن تدرك إمكان قيام حياة جديدة سليمة. وفي يوم من أيام الرضاء والأمن يجب على الكنيسة المسيحية أن تتوقع القضاء الذي لا بد أن يحل، وأن تعلن أن يوم القيامة سوف يكون ظلامًا ليس به بصيص من نور، وفي يوم القضاء ووقوع القدر تكون رسالة الكتاب المقدس هي الأمل لأولئك الذين يعلنون الندم.
وفي الحق إن موقف البشرية يجعل الندم مطلوبًا دائمًا؛ لأن الشر دائمًا في نمو وازدياد. غير أنه من الخطأ أن نُبشِّر بهذه الدعوى عامةً، كأن التاريخ لم تكن فيه فترات وعصور، وكأنه لم تحدث به وقائع خاصة معينة. ولن يكون من وراء تبشيرنا مغزًى إذا اقتصرنا على حث الأفراد والشعوب على الاعتراف بالخطيئة الأولى التي تلوثنا جميعًا، ولم نحثهم على الاعتراف بالخطايا الفردية التي ارتكبناها. وليس من أقل واجباتنا أن ننشر العطف والرحمة لكي نخفف وقْع الألم على الإنسان الضعيف. وهلا ينبغي لنا أن ننذر الأمم الظافرة أنها تخطئ إذا هي ظنَّت أن انتصارها دليل على فضيلتها، حتى لا يُكبِّلوا العالم بسلسلة جديدة من الشر بحبها للانتقام الذي ليس إلا الغضب لاسترداد حقها؟ ثم أليست الكلمة التي نوجهها إلى الأمم المهزومة من نوع آخر؛ إذ نذكرهم أن معركتهم هي أن يتبينوا بجلاء أنهم قد لاقَوا على يدَي بارئهم عقوبتهم على كل ما اقترفوا من إثم؟
وإن العقاب هو في الحقيقة من عند الله، حتى إن كان لا يتلاءم تمامًا مع الشر الذي أتوه. وهلا ينبغي لنا أن ننذر الأمم والطبقات القوية الآمنة ألا تثق ثقةً عمياء في أهميتها، وأنها عندما تقول إنها ﮐ «الملكة لا تعرف الحزن» يهبط عليها الحزن أكيدًا في لحظة مباغتة؟ وهلا ينبغي لنا أن نُذكِّر الضعاف والمخدوعين والمحتقَرين أن الله ينتقم للقساوات التي يعانون منها، ولكنه إلى جانب ذلك لن يغفر لهم قسوة الحقد التي توغر صدورهم؟ وهلا ينبغي لنا أن نقول لطبقات المجتمع الغنية الآمنة إن ولاءهم في زهو لقوانين المجتمع وأنظمته التي تكفل لهم مزاياهم إنما يصطبغ بالمصلحة الشخصية؟ وهلا ينبغي لنا أن نقول للفقراء إن حلمهم بقيام مجتمع لا ملكية فيه تتوافر فيه العدالة الكاملة ينقلب إلى كابوس من الظلم جديد؛ لأنه يقوم على إدراك الخطيئة التي يرتكبها غيرهم فحسب، ولا يدرك شيئًا عن الخطيئة التي يرتكبها الفقير عندما يزول عنه الفقر ويصبح من طبقة الحكام؟ إن الحياة تتحول إلى موت في كل مكان؛ لأنها محوطة بخداع النفس، ولأنها تحاول الفرار من الإله الحق بدلًا من أن تعمل على لقائه. والكنيسة تعاني في كل مكان هذا الموت؛ لأنها تسمح بإعلان التفاخر القومي والهوى العنصري، كما تسمح بصبغ رسالتها بالمبالغة في تقدير الذات وحب النفس، حتى لقد بدا التدين في عصرنا للمشاهد المتشائم (بل ربما بدا أيضًا للإله الحق) كأنه مجهود ضخم لاستجداء العلي القدير لكي نظفر منه بتأييد دعوانا بحكمه المقدس.
وإذا كنا نعني بدعوى أن الكنيسة ينبغي أن تكون للكنيسة شيئًا غير انسحابها من الدنيا، أفلا تعني الدعوة إذَن أنها بالصلاة والصيام خلصت نفسها على الأقل إلى حد ما من التحالف المحرج من هذه الطبقة أو تلك، أو مع هذا الجنس أو تلك الأمة، حتى تستطيع أن تنطق بكلمة الله وهي أكثر طهارةً وأشد استقامة، وتوجهها إلى كل رجل وكل أمة، بل إلى كل جيل وفقًا للحاجات الخاصة لكل فرد ولكل ساعة؟
(١-٤) العلاقة بين الديمقراطية والعقيدة الإنجيلية
إن الحكمة الديمقراطية التي تعرف كيف تتحاشى المذاهب المتصارعة وتلغي أثرها — تلك المذاهب التي تقوم على أساس من المصلحة — هذه الحكمة قد تكون بطبيعة الحالة نتيجة الخبرة لا نتيجة رأي خاص في العقيدة المسيحية. بَيد أنَّا لا نستطيع أن ننكر أن الإيمان بالإنجيل (الذي تستمد منه اليهودية والمسيحية) يتميز بإدراكه ثلاثة أمور في الموقف البشري لا غنى عنها للديمقراطية؛ فهو يفترض أولًا وجود مصدر من مصادر السلطة يستطيع الفرد من زاويته (أعني زاوية هذا المصدر) أن يتحدى سلطات هذه الدنيا (يجب علينا أن نطيع الله قبل الإنسان). والأمر الثاني تقدير القيمة الفذَّة للفرد، الأمر الذي يجعل من الخطأ أن نضعه في أي نظام سياسي باعتباره مجرد أداة. أمَّا الإنسانية العلمية فكثيرًا ما تسيء إلى كرامة الإنسان، التي تمجدها في ظاهر الأمر، وذلك بالنظر إلى الكائنات البشرية باعتبارها خاضعة للتجريب، وباعتبارها مجرد أدوات لغايات «يُقرُّها المجتمع». وهذا الميل في عصرنا العلمي هو الذي يوثق العلاقة بين هذا العصر وبين الحكم الجماعي المستبد، ويبرر حكمنا بأن الإنسانية العلمية لا تضرُّ لسبب واحد، وهو أنها لا تقوم على أساس برنامج سياسي يجعل السلطة حكرًا على الصفوة، والتي تفترض نظرياتها دائمًا وبغير إخلال حيازاتهم لها.
(١-٥) نحو مجتمع عالمي
إن كل حجة نُسوِّغ بها قيام حكومة عالمية تستند إلى فرض بسيط، وهو أن الرغبة في نظام عالمي تدل على إمكان تحقيق الحكومة العالمية. غير أن موقفنا المزعزَع لا يدل — لسوء الحظ — على قدرة الإنسان الخلقية على إنشاء حكومة عالمية بعمل إرادي، كما لا يدل على القدرة السياسية لهذه الحكومة على إيجاد مجتمع عالمي قبل نمو «التماسك الاجتماعي» بصورة أكثر تدرجًا، ذلك التماسك الذي يحتاج إليه أي مجتمع أشد من حاجته إلى الحكومة.
إن أكثر الداعين إلى الحكومة العالمية يزعمون كذلك أن الأمم لا تحتاج إلا إلى أن تحذو حذو المثال الذي ثبتت صحته وسبقها إليه الأفراد في عصر آخر، أولئك الذين نعتقد أنهم حققوا تماسُك المجتمع بصياغتهم لما بينهم من اتفاق في صورة قانون وبإقامتهم أداة من نوع ما لتنفيذ القانون. غير أن هذا الزعم يتجاهل الحقيقة التاريخية التي تثبت أن الاحترام المتبادل لحقوق الأفراد في الجماعات المعينة يسبق صياغة أي قانون، وأن أداة تنفيذ القانون لا يمكن أن تكون فعالة إلا إذا كانت الجماعة عمومًا تطبع قوانينها بطبيعتها، بحيث لا يطبق القانون إجباريًّا إلا على الأقلية التي تعصي.
إن مغالطة الحكومة العالمية يمكن أن تُذكَر في عبارتين بسيطتين؛ الأولى هي أن الحكومات لا تنشأ بالقانون (وإن كان من الممكن أحيانًا فرضها بطريقة تعسفية)، وثانيتهما أن قدرة الحكومات على إيجاد التماسك بين أفراد المجتمع محددة.
والواقع أنَّ أحكم فن من فنون السياسة لا يستطيع أن يخلق التماسك الاجتماعي، إنه يستطيع أن يقيم — إلى حد ما — بناءً اجتماعيًّا، وأن يربط بين لبناته أو أن يعيد تصميمه، ولكن التصميم الأول للبناء الذي يعمل على إقامته لا بد أن يكون «مُعَدًّا» من قبل.
إن المجتمع الدولي لا يفتقر كليةً إلى التماسك الاجتماعي، ولكنه تماسكٌ واهٍ إذا قيس إلى ذلك التماسك الذي يوجد في حكومات معينة. ولْنذكُر الآن في إيجازٍ العوامل المختلفة التي تؤدي إلى هذا التماسك. إن أهم قوة تدعو إلى التماسك الاجتماعي في المجتمع العالمي هي اطراد الزيادة في اعتماد شعوب العالم بعضها على بعض من الناحية الاقتصادية. غير أنه من المهم أن نوازن موازنةً مباشرة بين هذا الاعتماد الاقتصادي وبين المفارقة الشديدة في القدرة الاقتصادية للأمم المختلفة.
وعامل آخر في التماسك الاجتماعي بين أفراد الجماعة العالمية هو الخوف من أن تُبيد الشعوب بعضها بعضًا، وقد اشتدت القدرة على الإبادة في السنوات الأخيرة بالقوة الجديدة التي أمدت بها المكتشفات الذرية سلاح الموت الذي يملكه الإنسان. وينبغي ألا نُهوِّن من شأن هذا الخوف كقوة اجتماعية، كما ينبغي أن ندرك أن بعض الجماعات في التاريخ الذي مضى من التي تعدَّدت فيها الثقافات قد حققت شيئًا من التماسك باعتقادها — ولو بقدر يسير — في فضل النظام على الفوضى. ولكن الخوف من الدمار في حد ذاته أقل قوةً من الخوف من خطر معين من عدو بذاته. وليس في التاريخ ما يدل على أن الشعوب قد أقامت مجتمعًا مشتركًا؛ لأن كلًّا منها كان يخشى الآخر، في حين أن التاريخ يمدنا بأمثلة كثيرة كان فيها الخوف من عدو مشترك عاملًا من عوامل قوة التماسك.
إن العامل الحاسم وأهم العوامل في إيجاد التماسك الاجتماعي في المجتمع العالمي هو القوة الروحية. والأفراد المستنيرون في جميع الأمم يُحسُّون بعض الإحساس بالواجب نحو إخوانهم في البشرية، وهو إحساس يجاوز حدود الدولة التي ينتمون إليها. وهناك على الأقل إحساس خفيف بالواجب نحو المجتمع البشري قاطبةً الذي بدأنا نُحس وجوده إحساسًا طفيفًا. وقد عزَّز الإحساس بهذا الواجب الذي استقر في ضمير البشرية منذ ظهور الفلسفات والديانات العالمية لتحل محل نظائرها المحلية، الضرورة الحتمية لقيام مجتمع عالمي أشد تماسكًا. وهذا الإحساس المعنوي المشترك ذو أهمية قصوى لحياة الناس الخلقية والدينية، ولكن أثره السياسي المباشر لا يبلغ القدر الذي نظن أحيانًا. إن التماسك السياسي يتطلب عقائد مشتركة في أمور معينة تتعلق بالعدالة، ونحن نفتقر إلى هذه العقائد.
وموجز القول أن القوى التي تعمل على تماسك المجتمع العالمي محدودة. ولا تعني إشارتنا إلى هذه الحقيقة أن كل جهد يُبذل في سبيل تعزيز تماسك المجتمع العالمي وتوسيع رقعته عبث لا طائل تحته؛ فإن هذا الواجب ينبغي أن يشغل ضمير البشرية لعدة قرون مقبلة، ولسوف يحدث ذلك قطعًا. بَيد أن بناء الحكومة الذي سوف نشيده لن يكون سليمًا نافعًا إلا إذا تناسب ارتفاعه مع قوة المواد التي تقيمه منها. والموقف السياسي الراهن يتطلب منا ألا نسعى إلى السلام فحسب، بل نسعى كذلك إلى الاحتفاظ بحضارة نعتقد أنها أفضل من الاستبداد العالمي الذي يهددنا به الاعتداء السوفيتي، وهدفنا هو أن ننجح في هذا الواجب المزدوج، ولا ينبغي لنا أن نحيد عن هذا الهدف ونظن أنه بوسعنا أن نستبدل به غيره.
(١-٦) الله ومصير الإنسان
ربما فشل جيلنا، وربما أعوزَنا التواضع والمحبة والبر الذي يلزم لتحقيق هذا الهدف، بل إن هناك ما يُنذِر بإمكان فشلنا، بل وباحتماله. وفي الكتاب المقدس وعدٌ بحياة جديدة للأفراد والأمم، ولكن ليس هناك ما يضمن النجاح على مدى التاريخ. وليست هناك وسيلة إلى تحويل العقيدة المسيحية إلى نظام من التفاؤل يدوم ما دام التاريخ. إن الانتصار الحاسم على فوضى الإنسان يكون من عند الله ولا يكون من عند الإنسان، ولكنا مسئولون عن الانتصار المؤقت. والحياة المسيحية إذا خلت من الحس المرهَف بالمسئولية عن صحة مجتمعاتنا وشعوبنا وثقافاتنا تتدهور إلى تفكير في العالم الآخر لا يُطاق. ونحن لا نستطيع أن ننبذ موطننا فوق الأرض، ولا نستطيع أيضًا أن نزعم أن انتصاره أو هزيمته هو الذي يحدد المعنى النهائي لوجودنا.
ولقد بكى المسيح على بيت المقدس وأسف؛ لأن هذا البلد لم يعرف ما يتعلق بأمنه وسلامه. ولدينا في العهد القديم قصة إبراهيم المؤثرة وهو يجادل الرب في عدد الأفراد اللازمين لإنقاذ المدينة، هل يحتاج الأمر إلى خمسين أو أربعين أو ثلاثين؟ واتفق مع الرب في النهاية على عشرين. إن الأمر لا يحتاج إلا إلى خميرة صغيرة. إن مركزًا صغيرًا من الصحة قد يكون وسيلة إلى النقاهة لمجتمع بأسره. وتحدد هذه الحقيقة المسئولية الضخمة التي تقع على عاتق شعب الله في مدن الخراب في هذا العالم.
المصادر
-
١ الفصل الثامن «الحق المسيحي في النظام القومي والاجتماعي».
-
٢ نفس المصدر السابق.
-
٣ نفس المصدر السابق.
-
٤ الفصل السابع «الديمقراطية، والدنيوية، والمسيحية».
-
٥ الفصل الثاني «وهم الحكومة العالمية».
-
٦ من الفصل الثامن.