سارفيبالي رادا كرشنان
وُلد رادا كرشنان في اليوم الخامس من شهر سبتمبر عام ١٨٨٨م، وتلقَّى علومه في كلية مدراس المسيحية. وفيما بين عامَي ١٩١١ و١٩١٦م كان أستاذًا مساعدًا للفلسفة في كلية الرياسة بمدراس، ثم أستاذًا جامعيًّا للفلسفة في ميسور فيما بين عامَي ١٩١٨ و١٩٢١م، وشغل بعد ذلك كرسي جورج الخامس للفلسفة في جامعة كلكتا، كما شغل كذلك مناصب كبرى في إدارة التعليم في وطنه، منها تسع سنوات نائبًا لرئيس جامعة بنارس الهندية. وفي أُخريات العقد الثالث من القرن العشرين رحل إلى أمريكا، وزار العاصمة الصاخبة بالغرب الأوسط، حيث ألقى محاضرات هاسكل في الديانة المقارنة بجامعة شيكاغو، ثم ألقى فيما بعدُ محاضرات هبرت.
ونظرًا لتفوقه العقلي، دُعي رادا كرشنان ليقوم بعدة خِدمات في السياسة الدولية، وكان عضوًا في اللجنة الدولية للتعاون الثقافي بجمعية الأمم بجنيف فيما بين عامَي ١٩٣١ و١٩٣٩م، كما لعب دورًا هامًّا في الأمم المتحدة التي خلقت عصبة الأمم، وكان رئيسًا للمجلس التنفيذي باليونسكو في باريس عامَي ١٩٤٨ و١٩٤٩م، ثم أصبح عضوًا في لجنة الدستور الهندي في الفترة التي تقع بين عام ١٩٤٧ وعام ١٩٤٩م، وفي عام ١٩٤٩ عُيِّن سفيرًا للهند لدى الاتحاد السوفيتي، وفي عام ١٩٥٢م تقلد منصب نائب رئيس جمهورية الهند.
وفي مجال التنظيم التربوي كان رادا كرشنان كذلك من الرواد. وقد كان رئيسًا لمؤتمر التعليم لدول جميع آسيا الذي عُقد في بنارس في عام ١٩٣٠م. وفي عام ١٩٤٩م عُيِّن رئيسًا للجنة الجامعات في حكومة الهند.
وبالرغم من كل هذه الأعمال المتنوعة في مجال السياسة والسفارات، استطاع رادا كرشنان بطريقةٍ ما — نظرًا لحيويته الكبرى — أن يكون باحثًا مبدعًا كثير الإنتاج، فأمكنه أن يُدبج عشرات المقالات والخطب والمحاضرات والتقارير، كما أخرج مجلدات خاصة ضمَّها إلى كتبه العديدة الهامة المطولة. ومن بين مؤلَّفاته الرئيسية كتابه الضخم «فلسفة الهند»، وهو يقع في مجلدين كبيرين، كرَّس لهما المؤلف زهاء عشرين عامًا من البحث والكتابة. وله كتابان آخران لهما أثرهما البالغ، وهما: «نظرة مثالية إلى الحياة»، وهي محاضرات هبرت، و«الديانات الشرقية والتفكير الغربي». وتلمس في كل ما كتب رادا كرشنان روح البحث في الديانة المقارنة والفلسفة المقارنة. وهي روح يمكن إدراكها على أحسن وجه بالنحو الذي صاغ به سؤالًا رئيسيًّا هو: «هلَّا جاهدنا في سبيل فلسفة تجمع بين خير ما في الإنسانية الأوروبية والديانة الآسيوية، فلسفة أعمق وأكثر حيوية من هذه وتلك، مزوَّدة بقوة روحانية وخلقية أكبر، تغزو قلوب الناس وتُرغِم الشعوب على الاعتراف بسلطانها؟» وما دامت الفلسفة عند رادا كرشنان هي أسلوبًا للحياة وتعودًا على متابعة الحق حتى يعرف الإنسان نفسه ويسترشد خلقيًّا، فهو لا يرى إمكان استبعاد السياسة والشئون الدولية مما يهتم به الفيلسوف. ولقد قال: «إن الدين يتضمن الإيمان بالأخوة البشرية، والسياسة هي أفعل الوسائل التي ترسمها في صورة مرئية؛ فليست السياسة إلا تطبيق الدين.»
(١) ديانة الروح وحاجات الدنيا
(١-١) وظيفة الفلسفة
إن الطالب الهندي للفكر الفلسفي الذي يعيش في هذه الفترة التاريخية ذات المعنى العميق أمامه واجبات وعليه مسئوليات. إن أهم ظاهرة في عصرنا ليست هي الحروب أو الدكتاتوريات التي تشوه وجه الدنيا، إنما هي تأثير الثقافات المختلفة بعضها في بعض، وتفاعلها، وظهور مدنية جديدة تقوم على أساس حقائق الروح ووحدة البشرية. إن المآسي والكوارث التي تشغل جانبًا كبيرًا من أبرز ما في وعينا إنما ترمز إلى انهيار الاتجاهات الانفصالية والسير نحو اتحاد الجماعات القومية في وحدة عالمية. وفي اضطرابات الفترة المعاصرة ينبغي لهذا الجيل، الذي وقع في الخطأ وعانى طويلًا وأمسى عاجزًا، ألا يغضَّ الطرف عن الحركة الكبرى التي ترمي إلى الوحدة التي يُسهِم فيها.
(١-٢) تدهور الدين
أخَذ الإنسان يسير سيرًا حثيثًا منذ عام ١٥٠٠م نحو تكوين جماعة واحدة. وقد أدَّت الحربان العالميتان إلى انكماش المسافات وضمور العالم. وهذه الوحدة الطبيعية للعالم تتطلب لبقائها وحدةً سيكولوجية. غير أن الحواجز التي تقيمها الديانات المتزمِّتة تصيب بالعقم جهود الناس التي تُبذل في سبيل التنسيق بين قُواهم في تشكيل المستقبل؛ فكل ديانة تُنافِس الديانات الأخرى. وهناك أمور أخرى أكثر أهميةً مما يحمله كلٌّ منا من ولاء خاص نحو عقيدة معينة: الحق والإنسانية، وذلك الوعي الديني العالمي الذي تمتلكه الكائنات البشرية جميعًا ملكًا مشتركًا بفضل ما أُوتيت من روحانية. وما دام ولاؤنا الطائفي قويًّا غلَّابًا فلا يمكن أن ننتمي إلى الجماعة الإنسانية العامة.
إن الدين — بوظيفته التي يؤديها حتى الآن — لا يقوم على أساس علمي أو أساس اجتماعي. ونظرًا لهذه المميزات للديانة التقليدية، فإن قطاعات كبيرة من البشرية تقع فريسةً للكفر رغمًا عنها. ونحن نعيش في عصر تفكُّك من الأفكار وتردُّد في العمل، وقيمنا غامضة، وتفكيرنا مضطرِب، وأهدافنا متغيرة، ومستقبلنا غير واضح. هناك معارف متناثرة هنا وهناك، ولكن ليست هناك صورة واحدة مرئية. وقد أشار الشاعر الإنجليزي و. ب. بيتس إلى حالتنا هذه في كلمات خالدة يجدُر بنا أن نتدبرها جيدًا، قال:
(١-٣) الحاجة إلى تماسك الرأي
إن العقل العالمي بحاجة إلى التماسك، وهذه النظرة البلهاء التي ننظرها اليوم إلى غير هدف تحتاج إلى أن نستبدل بها هدفًا جماعيًّا معقولًا. وإذا كنا نودُّ ألا تؤدي بنا حالة التردد الراهنة إلى اليأس، فلا بد لنا من فلسفة، ومن اتجاه وأمل. إن العقيدة قد تكون عسيرة، بَيد أنه ليس من الحاجة إلى الاعتقاد مفر. إننا نبحث عن دين روحاني، يصلح للدنيا بأسرها، دين حيوي، واضح المعالم، دين يدرك المعنى الجديد للحق والشعور الاجتماعي المتيقظ، وهما من الصفات البارزة في موقفنا من الدين في الوقت الحاضر. ويجب ألا نهمل النزاهة العقلية الصارمة والميل الشديد نحو العدالة الاجتماعية؛ فهما تعبير عن الإخلاص الروحي. إن الدين الذي نعتنقه يجب أن يمدنا بنشاط فكري لا يحاول أن يراوغ مع نفسه، ويجرؤ على الإخلاص، ونشاط إرادي يمدنا بالقدرة على أن نقول ما نعتقد، ونفعل ما نقول. وكثيرًا ما دل الشك وإنكار الله على أنَّا نمرُّ بلحظة من لحظات الجدل في تاريخ الدين، وعلى أنهما من الوسائل التي استخدمها الإنسان ليستزيد من معرفته بالله، ويحرر نفسه من الآراء الدينية المعوجة.
وليس نقيض الدين انعدام الدين، وإنما نقيضه دين آخر؛ ولما أنكر بوذا آلهة الفيدا، فإنما فعل ذلك باسم دين أسمى؛ ولما حُكم على سقراط بالموت بتهمة الإلحاد، كان دفاعه أنه إنما نبذ دينًا ناقصًا. ولما جيء بالمسيحيين إلى البهو الروماني ليستشهدوا في سبيل معتقداتهم، صاح الرعاع من الوثنيين قائلين: «ادفعوا بالملحدين إلى الأُسد الضارية.»
(١-٤) جذور الدين
إن توتُّر الطبيعة البشرية هو الذي يجعل الإنسان شائقًا؛ فبغير هذا التوتر لا يعي الإنسان تفاهته وعجزه، وأنه كمية مهملة، معتمد على غيره، خاوٍ، ضعيف. ولضِيقه وآلامه نتيجة إيجابية. وجذور الدين تمتد إلى هذا العذاب الباطني الذي لا بد من تبديده. ولا مناص للإنسان من الكفاح في سبيل الوحدة مع الطبيعة ومع غيره من الناس ومع نفسه، ولا تتحقق له الكرامة البشرية إلا إذا انتصر في هذا الكفاح. إننا نبحث عن عالم لا بد أن ينشأ، ونحن حُجاج في رحلة إلى هذا العالم المرتقب؛ إذ إننا قوم رُحَّل في هذه الدنيا. ولا بد لنا من تخطي حدود وعينا الثنائي المنقسم، ولا نستطيع أن نبقى قائمين في عزلة مصمَتة من رغباتنا المكبوتة، ولا نستطيع أن نبقى دائمًا في حالة من حالات النقص التي يجب أن تسد، بل إن أدنى صورة من صور الحياة لتجاهد في سبيل التلاؤم والتكيف.
ولقد لعب أسلاف الإنسان دورًا هامًّا في هذه المسرحية الكبرى التي تمثل التطور الكوني، بالرغم من أنهم لم يفهموا المسرحية كما لم يفهموا دورهم فيها. وعلى الإنسان أيضًا أن يلعب دوره، ولكن مع العلم بتكوين المسرحية ومغزاها، ولا بد له أن يفهم بذكائه الخطة الكونية، وأن يعمل بإرادته على دفعها إلى الأمام. إن التقدم البشري لا يتوقف على فعل القوانين الطبيعية والبيولوجية البطيء. ويمكن أن نسارع به بجهدنا، إذا نحن حرَّرنا أنفسنا من العبودية، وإذا نحن تحاشينا الحياة الجزية، ودخلنا في الحياة الكلية. إن دعاء الأوبانشاد الذي يقول «اللهم أخرجْني من غير الواقع إلى الواقع، ومن الظلام إلى الضياء، ومن الموت إلى الخلود»؛ هذا الدعاء يفترض أنَّا نعيش في عالم من الخوف والهم والعزلة والموت والعدم، وأنَّا نسعى إلى عالم من الوجود، وعدم الخوف، والحرية والروح والخلود. إننا نسعى إلى أن نتجاوز نهائية الوجود البشري لكي نظفر بالحياة الأبدية.
إننا نتوق أحيانًا إلى أن نعود القهقرى، إلى أن نصبح بغير تفكير وبغير خيال، إلى أن نغرق في بساطة الوجود البيولوجي، إلى أن نهبط إلى مستوى الحيوان البدائي. غير أن هذا الاتجاه معناه التضحية المقصودة بسلامة كياننا، والتخلي عن محاولة بلوغ الكمال. إننا لا نستطيع أن نقلب الأوضاع ونلقي ميراثنا عن كواهلنا. والإنسان الواعي بنفسه لا يمكن أن يتحول إلى الحيوان الغرزي. وحتى إنْ هو أبى أن يفيد من وعيه العاقل، فإنه لن يستطيع أن يستردَّ الوحدة الأولى مع الطبيعة؛ فذكرى الماضي وتوقُّع المستقبل يحُولان دون ذلك. لقد أراد أيوب أن يجد مأواه في النوم ولكنه لم يفلح. «وحينما أقول إن فراشي سيُريحني، وإن سريري سيُخفِّف من بلواي، عندئذٍ تزعجني بالأحلام وتدخل في نفسي الرعب بالرؤى.» إننا لا نستطيع أن نتخلى عن عقولنا، ولا نستطيع أن نفرَّ من وعينا بأنفسنا. والعلاج من اضطراب نفوسنا لا يكون بالارتداد إلى ظلمة اللاوعي، وإنما يكون بالتقدم نحو الوعي الخلاق. إنَّ ما نستهدفه هو استنارة الحكيم، لا سذاجة الوليد الجديد وعدم خبرته.
إننا لا نستطيع أن نعالج المحنة التي نعانيها من جرَّاء العقل والانعزال وحالة القلق والضيق، بتعاطي المخدرات، أو بأساطير الدين، أو بالمعتقدات السياسية. إن هذه الخطط التي نرسمها للفرار من سجن حياتنا قد تعين القليلين منا لفترة وجيزة؛ فإذا نحن تناولنا الأفيون فقد نجد بضع لحظات جميلة هادئة إذا قيست إلى العالم الذي يعجُّ في الخارج، ولكنها لا تدوم طويلًا. وكذلك العقائد التي لا تستند إلى العلم، والخرافات الساذجة تنبئنا عن عقل الإنسان أكثر مما تنبئنا عن تكوين الحقيقة والواقع، ولا يمكن أن تنقذ الإنسان من الشك.
وإذا كان الفرد المنعزل يتشبث بشيء خارج عنه، فقد يظفر بالطمأنينة، غير أنه يظفر بها على حساب كرامته كفرد. وقد ننبذ حرية البحث ونعصب أعيننا عن مواصلة البحث برباط مذهب حاسم من المذاهب؛ وبهذه الطريقة قد نتخلص من إصدار القرارات أو تحمل المسئولية عن المستقبل. بَيد أنَّا نُحس في أعماق نفوسنا بالقلق والاضطراب؛ لأن ظهور الذات الفردية لا يمكن أن يُوءَد. إن السعادة في الحرية، والحرية في عظمة الروح.
وقد يُقال إن التقدم العلمي سيقضي على الشعور بالعزلة التي ننظر بها إلى العالم الخارجي، وسوف ينهي عجز الإنسان عن أن يحدد مصيره بنفسه.
وقد نُسلم بأنَّا نستطيع أن نتنبأ بمجرى الظواهر الطبيعية، بل ونستطيع إلى حد ما أن نتحكم فيها، ولكن الطبيعة لا يمكن أن تروض على تنفيذ إرادة الإنسان، وسوف تستمر أهواؤها العمياء وعواصفها وزوابعها وأعاصيرها وزلازلها في تحطيم عمله وتدمير أحلامه. ولا يستطيع الإنسان أن يغير من حدود حياته أو جسمه.
«أيها الغافل! إنك في حاجة إلى روحك هذا المساء!»
(١-٥) إخاء في الدين لا اندماج
إن العالم لا يسعى إلى اندماج الأديان بمقدار ما يسعى إلى المؤاخاة بينها، تلك المؤاخاة التي تقوم على أساس الصفة الأساسية في تجربة الإنسان الدينية. يقول وليم بليك: «كما أن الناس جميعًا متشابهون (برغم تعدد الأفراد تعددًا لا حصر له) فكذلك جميع الديانات، ككل المتشابهات، تنبع من مصدر واحد.» تستطيع الديانات المختلفة أن تحتفظ بشخصياتها وبتعاليمها الخاصة وطقوسها المميزة، ما دامت لا تضعف الإحساس بالإخاء الروحاني. إن ضياء الأبدية يعشي أبصارنا إذا سطع في وجوهنا بكل قوته، وهو يتحلل إلى ألوان حتى تستطيع أعيننا أن تدرك شيئًا منه. وكذلك التقاليد الدينية المختلفة تشكل الحقيقة الواحدة في صور مختلفة، ويمكن لهذه الصور أن تتقابل وتخصب كلٌّ منها الأخرى، فتكسب الجنس البشري الكمال المتعدد الجوانب، من إشعاع الهندوكية الروحاني، إلى طاعة اليهودية المخلصة، إلى حياة الجمال في الوثنية الإغريقية، إلى سمو الرأفة في البوذية، إلى صورة المحبة المقدسة في المسيحية، إلى روح الاستسلام لإله المسلمين جل جلاله؛ كل ذلك يمثل أوجهًا مختلفة من الحياة الروحانية الباطنية، وهي صورة ذهنية بارزة لتجارب الروح البشرية التي يعجز عن وصفها اللسان.
(١-٦) دين عالمي
شريعة الدين تحتم على المرء أن يغير ما بنفسه حتى يجعل الجانب المقدس فيه غلَّابًا. الدين يدعو إلى القضاء على الإنسان كما نعرفه بكل ما لديه من رغبات دنيوية، وإلى ظهور الإنسان الجديد. وليست هذه هي تعاليم الأوبانشاد والبوذية فحسب، بل هي كذلك مما تدعو إليه الألغاز الإغريقية والأفلاطونية وتعاليم الكتب السماوية ومذاهب اللاأدرية. وهذه هي الحكمة التي يشير إليها أفلوطين حينما يقول: «ليس هذا المذهب جديدًا، بل لقد عبَّر عنه الإنسان منذ أقدم العصور، وإن لم يستطِع أن ينميه بصورة واضحة. ولا نريد إلا أن نكون شارحين للحكماء القدامى، وأن نُبين ببرهان من عند أفلاطون نفسه أنهم كانوا يعتنقون آراءً كآرائنا.» هذا هو الدين الذي يذكره أوغسطين في عبارته المشهورة: «إن ما نُسميه الدين المسيحي كان موجودًا بين القدامى، ولم يعدم وجوده قط، من بداية الجنس البشري حتى جاء المسيح في لحم ودم، وهذا هو الوقت الذي بدأ فيه الدين الحق — الذي كان موجودًا من قبل — أن يُسمَّى المسيحية.» إن هذه الحقيقة تطالعنا في لهجات مختلفة عبر القارات وعبر قرون التاريخ. وأولئك الذين يتجاهلون هذه الحكمة الأبدية، ذلك الدين الأبدي الذي يكمن وراء جميع الأديان، وتلك العقيدة الأزلية، الحكمة التي لم يبتدعها أحد، والتي هي اليوم كما كانت في كل وقت مضى، وكما سوف تكون في كل وقت آتٍ، أولئك الذين يتجاهلون هذا ويتشبثون بالأشكال الخارجية، ويختلفون فيما بينهم مسئولون عن المدنية الفوضوية التي نعيش فيها. ومن واجبنا أن نعود إلى هذا اللباب من الدين، إلى هذه الحكمة الأساسية التي طمستها وشوَّهتها التطورات العقائدية والدنيوية خلال التاريخ.
إننا في أبداننا وعقولنا، وفي قاماتنا وأمزجتنا، ومواهبنا وأذواقنا، نختلف كل الاختلاف أحدنا عن الآخر، ولكنا في أعمق أعماقنا، في أرواحنا التي هي الأساس الصحيح لوجودنا، يتشابه أحدنا مع الآخر. وإذا أردنا للدين أن يكون قوةً فعَّالة في شئون البشر، وأن يؤدي دور الأساس في نظام العالم الجديد، فلا بد له من أن يكون أكثر باطنية وأكثر عالمية، شعلة تطهر دخائل نفوسنا فتطهر بذلك العالم. ولمثل هذا الدين لا تكون التعابير التاريخية عن الحق الروحاني والمصطلحات النفسية التي تلجأ إليها الأديان ليحملوها الحق العالمي، لا تكون هذه الأمور صخورًا مؤذية في الطريق. وهكذا تنهار الحواجز التي تفصل بين الناس وتعود الوحدة بين البشر والاتحاد بين جميع الأفراد، وهي وحدة نسير فيها جميعًا سيرًا خلَّاقًا، ويأخذ كلٌّ منا فيها بنصيب؛ عندئذٍ يتحقق دعاء سنت جون الذي نادت به في ختام مسرحية برناردشو التي تحمل هذا الاسم، وهو: «يا إلهي، يا من خلقت هذه الدنيا الجميلة، متى تستطيع هذه الدنيا أن تفتح صدرها للقديسين الذين يتبعونك؟» وعندما يجيء الوقت الذي يقطن في هذه الدنيا عنصر من الناس، ليس في تكوينه نقص، ولا على عقله مأخذ، متحرر من نير المرض والحرمان، وكذلك من الكلمات الكاذبة، ومن المحبة التي انقلبت إلى عداوة. وعندما تبلغ الكائنات البشرية كمالها، وتبلغ ذلك العالم الذي لا يُرى، مملكة السماء، حينئذٍ تُبدي هذه الكائنات البشرية في العالم الخارجي تلك «المملكة» التي يُبطنون في أنفسهم. وفي هذا اليوم الموعود نكفُّ عن تعريف الله في عقائد جامدة، كما نكفُّ عن الجدل في طبيعته ونترك كل امرئ يعبد الله في قلبه، ويبحث عنه حتى يلتقي به.
إنني لم أنجذب قَط للرحلة من أجل الرحلة، ولكني قمت بكثير من الرِّحلات، وعشت في أماكن بعيدة عن أرض الوطن، في إنجلترا وفرنسا وأمريكا وروسيا، وقضيت فترات طويلة لبضع سنوات في إنجلترا، وأثَّرت في نفسي تأثيرًا حسنًا صفات الشعب الإنجليزي، كمحبتهم للعدل، وبغضهم للتعصب العقائدي، وعطفهم على الحيوان. وقد كانت «كلية جميع الأرواح» وطنًا ثانيًا طوال هذه السنين، وزوَّدتني ببصر نافذ في الحياة الثقافية الإنجليزية بما فيها من حرص واستقرار وثقة ومغامرة. ومهما يكن ما يُحسه المرء إزاء لون الحكومة الروسية، فإن الشعب هناك رقيق رحيم، وحياتهم — كحياة الناس في كل مكان — مليئة بالفكاهة والغيرة، والحب والبغضاء. وبالرغم من أني لم أستطِع أن أمد جذوري في أيٍّ من هذه البلدان الأجنبية، إلا أني التقيت بالكثيرين، من علية القوم وسفلتهم، واستطعت أن أصل إلى الجانب الإنساني في نفوسهم؛ إذ ليست هناك فروق أساسية بين شعوب العالم، فلديهم جميعًا المشاعر الإنسانية العميقة، وحب العدالة التي تسمو على مصالح جميع الطبقات، والفزع من إراقة الدماء ومن العنف. إنهم يسعون نحو دين يدعو إلى إمكان وضرورة اتحاد الإنسان بنفسه، وبالطبيعة، وبزملائه، وبالروح الأبدي، الذي ليس العالم المرئي إلا صورة منه، دين يعتقد في ظهور الوعي الكامل كغاية للإنسان ومصير له. إن دياناتنا التاريخية لا بد أن تتحول إلى إيمان عالمي أو تذوي وتنقرض. وقد يبدو هذا الأمل عند بعض الناس عجيبًا ولا يرحبون به، ولكنه أمل له صدقه وله جماله، وهو يعتمل في عقول الناس، وسرعان ما يمسي حقيقة واقعة. إن وحدة البشر لا تتوقف على الأصول القديمة، بل على هدف المستقبل واتجاهه على ما نحن سائرون إليه، وعلى الصوب الذي نُوليه وجوهنا. ولقد كانت الحضارات القديمة محدودة في مصادرها وآفاقها إذا هي قُورِنت بالحضارة التي تنتشر الآن فوق سطح الأرض بفضل العلم وتطبيقه. ويزعم العلماء أن الحياة العضوية ظهرت فوق هذا الكوكب منذ نحو ١٢٠٠ مليون عام، ولكن الإنسان ظهر إلى الوجود فوق الأرض خلال نصف المليون عام الذي سبق، ولم تظهر حضارته هنا إلا في العشرة الآلاف عام الماضية. إن الإنسان لا يزال في طفولته، وأمامه فوق هذا الكوكب أمد طويل، إنه سوف يعمل على تحقيق وحدة أسمى، وسوف ينجب رجالًا ونساءً ذوي عقول عالمية.
إن الدين الأبدي، الذي رُسمت خطوطه العريضة في هذه الصفحات، أمرٌ معقول يقوم على أساس علمي، وليس مهربًا للإنسان أو منافيًا لروحه الاجتماعية. وقبول هذا الدين يحل كثيرًا من مشكلاتنا التي يئسنا منها، ويعود بالسلام على أولئك الذين حسنت نياتهم.