الروبوتات والحياة الاصطناعية
تحاكي الحياة الاصطناعية الأنظمة البيولوجية. ومثل الذكاء الاصطناعي بوجه عام، فإن لها أهدافًا تكنولوجية وعلمية. الحياة الاصطناعية مكملة للذكاء الاصطناعي؛ لأن كل أنواع الذكاء التي نعرفها توجد في الكائنات الحية. في الحقيقة، يعتقد كثيرون أن العقل لا ينشأ إلا من الحياة (انظر الفصل السادس). لا يقلق اختصاصيو التكنولوجيا الواقعيون بشأن ذلك السؤال. ولكنهم بالفعل يلتفتون إلى علم الأحياء عندما يريدون ابتكار تطبيقات عملية ذات أنواع متعددة. ومن تلك التطبيقات الروبوتات والبرمجة التطورية والأجهزة الذاتية التنظيم. الروبوتات أمثلة نموذجية على الذكاء الاصطناعي؛ فهي تتمتع بمكانةٍ بارزة، وتمتاز بذكاء ألمعي، كما أنها مهمة للغاية على المستوى التجاري. وعلى الرغم من الاستخدام الواسع النطاق للذكاء الاصطناعي التطوري، فإنه ليس معروفًا بقدر ما تُعرف الروبوتات. كذلك الآلية الذاتية التنظيم أقلٌّ شهرةً (باستثناء التعلم غير الموجَّه؛ انظر الفصل الرابع). ولكن سعيًا لفهم التنظيم الذاتي، فقد أفاد الذكاء الاصطناعي علم الأحياء كما استفاد منه.
الروبوتات الكائنة والحشرات الشائقة
بُنيت الروبوتات منذ قرون على يد ليوناردو دافنشي وغيره. ظهرت إصدارات الذكاء الاصطناعي في خمسينيات القرن العشرين. أذهلت «سلحفاة» ويليام جراي وولتر فيما بعد الحرب المراقبين وهي تتفادى العقبات وتبحث عن الضوء. ومن بين أهم أهداف مختبر الذكاء الاصطناعي الذي أقامه معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا حديثًا هو بناء «روبوت معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا»، بحيث يجمع بين الرؤية الحاسوبية والتخطيط واللغة والتحكم الحركي.
تحقق تقدمٌ كبير منذ ذلك الحين. والآن، بإمكان الروبوتات تسلق التلال أو السلالم أو الجدران، وبعضها بإمكانه الجري بسرعة أو القفز عاليًا، وبعضها بإمكانه حمل الأحمال الثقيلة ورميها. روبوتات أخرى بإمكانها تفكيك نفسها وتجميع أجزائها مرة أخرى، وأحيانًا تتحول إلى شكل جديد، كأن تتحول إلى دودة (قادرة على اجتياز أنبوب ضيق) أو كرة أو كائن متعدد السيقان (يمشي على أرض مستوية أو وعرة). ما حفز هذا التقدم هو التحول من علم النفس إلى علم الأحياء.
الروبوتات في الوقت الحالي مختلفة تمامًا. تحول التركيز من الإنسان إلى الحشرات. ربما لا تكون الحشرات ذكية بالقدر الكافي لنمذجة العالم أو للتخطيط. ولكنها تقدر الآن على ذلك. فسلوكها — السلوك وليس الفعل — ملائم وتكيفي. لكنه في الأساس انعكاسي وليس متعمدًا. إنها تستجيب للموقف الحالي من دون تفكير، ولا تستجيب لاحتمال تخيلي أو حالة مستهدفة. ومن هنا جاءت التسميات: الروبوتات «الكائنة» أو «القائمة على السلوك». (السلوك الكائن ليس محصورًا على الحشرات؛ حدَّد علماء النفس الاجتماعي العديد من السلوكيات المرتبطة بالمواقف لدى البشر).
في محاولات إعطاء ردود فعل منعكسة يمكن مقارنتها بأجهزة الذكاء الاصطناعي، يفضل علماء الروبوتات الهندسة على البرمجة. وإذا أمكن، تتجسد ردود الفعل الحسية الحركية ماديًّا في تشريح الروبوت، ولا تتوافر في صورة كود برمجي.
إلى أي مدًى يجب أن يتطابق تشريح الروبوت مع تشريح الكائنات الحية؟ لأغراض تكنولوجية، تُقبل الحيل الهندسية المبتكرة. تحتوي الروبوتات اليوم على العديد من الحيل غير الواقعية. ولكن هل يُحتمل أن تتمتع الآليات البيولوجية بكفاءة خاصة؟ لا شك أنها تتمتع بما يكفي من الكفاءات. ولذا يدرس علماء الروبوتات الحيوانات الحقيقية؛ ما الذي يمكنها فِعله (بما في ذلك الاستراتيجيات الملاحية المختلفة)، وما الإشارات الاستشعارية والحركات المحددة المتضمنة، وما الآليات العصبية المسئولة عن ذلك. يوظف علماء الأحياء بدورهم نمذجة الذكاء الاصطناعي لدراسة هذه الآليات؛ وهو مجال بحثي يُسمى «علم الأعصاب الحاسوبي».
من الأمثلة على ذلك، روبوتات الصرصور الذي طوَّرها راندال بير. تمتلك الصراصير ست سيقان متعددة الأجزاء، وهو ما يشير إلى وجود ميزات وعيوب. الحركة على ستة أرجل مستقرة أكثر من الحركة على رجلين (ومفيدة بوجه عام أكثر من العجلات). ولكن يبدو أن التنسيق بين ستة أطراف أصعب من التنسيق بين طرفين. بالإضافة إلى تقرير الساق التي ينبغي أن تتحرك تاليًا، فلا بد للمخلوق أن يجد المكان الصحيح والقوة الكافية والوقت المناسب. وكيف تتفاعل السيقان؟ لا بد أن تكون السيقان مستقلة إلى حد كبير في حركتها؛ لأنه قد لا توجد حصاة إلا عند ساق واحدة. ولكن إذا ارتفعت تلك الساق أعلى، فلا بد للسيقان الأخرى أن تكافئ ذلك الارتفاع للحفاظ على التوازن.
تعكس روبوتات بير التشريح العصبي وأدوات التحكم الحسية للصراصير الحقيقية. إنها تستطيع تسلق السلالم والسير على الأرض الوعرة وتجاوز العقبات (بدلًا من مجرد التفادي) والنهوض من بعد السقوط.
تنظر عالمة الروبوتات باربرا ويب إلى صرصور الليل، وليس إلى صرصور المنازل. لم يكن تركيزها على الحركة (ومن ثَم تستطيع الروبوتات التي طوَّرتها استخدام العجلات). بل أرادت من أجهزتها أن تتعرف على أنماط أصوات محددة، وتحدد موقعها وتقترب منها. لا ريب أن هذا السلوك (الاستجابة للصوت) قد ينطوي على العديد من التطبيقات العملية.
بإمكان أنثى صرصور الليل أن تفعل ذلك عند سماع أغنية الذكر من فصيلتها. ومع ذلك، لا يمكن لصرصور الليل أن يتعرف إلا على أغنية واحدة لا تغنى إلا بسرعة واحدة وتردُّد واحد. تتفاوت السرعة والتردد حسب أنواع صراصير الليل المختلفة. ولكن الأنثى لا تختار بين الأغاني المختلفة، فهي لا تمتلك أدوات استكشاف تشفر مجموعة من الأصوات. إنها تستخدم آلية لا تكون حساسة إلا تجاه تردُّد واحد. إنها ليست آلية عصبية، مثل أدوات الاستكشاف السمعية في دماغ الإنسان. إنها أنبوب ذو طول ثابت في الصدر ومتصل بالأذنين في سيقانها الأمامية وبفتحات التنفس. طول الأنبوب هو نسبة دقيقة من الطول الموجي لأغنية الذكر. تؤكد الفيزياء أن عمليات إزاحة الطور (بين الهواء في الأنبوب والهواء الخارجي) لا تحدث إلا في الأغنيات ذات التردد الصحيح، ويعتمد هذا الفرق في الكثافة اعتمادًا كاملًا على اتجاه مصدر الصوت. أنثى الحشرة مرتبطة عصبيًّا بالتحرك في ذلك الاتجاه؛ فالذكر يغني وهي تتحرك نحوه. إنه السلوك الكائن بالفعل.
اختارت ويب خاصية الاستجابة للصوت لدى صرصور الليل؛ لأن علماء الأعصاب درسوها من كثب. لكن كانت هناك العديد من الأسئلة التي لم يجب عليها؛ هل تتم معالجة اتجاه الأغنية والصوت كلٌّ على حدة أم لا (وكيف)، وهل التعرف على الصوت مستقل عن تحديد مكانه، وكيف تتحفز الحركة لدى الأنثى، وكيف يُتحكم في اتجاهها المتعرج. اخترعت ويب أبسط آلية ممكنة (أربع خلايا عصبية فقط) يمكن أن تولِّد سلوكًا مشابهًا. بعد ذلك، استخدم نموذجها المزيد من الخلايا العصبية (بناءً على البيانات التفصيلية من الحياة الواقعية)، وتضمنت المزيد من الخصائص العصبية (مثل زمن الاستجابة ومعدل الإطلاق والجهد الغشائي)، وتكامل السماع مع الرؤية. أوضح عملها العديد من المسائل العلمية العصبية، وقد أجاب على بعضها وأثار أسئلة أخرى. ومن ثَم أفادت علم الأحياء كما أفادت علم الروبوتات.
(على الرغم من أن الروبوتات أشياء مادية، فإن كثيرًا من أبحاث الروبوتات أُجريت بطريقة المحاكاة. على سبيل المثال، روبوتات بير يتم تطويرها «برمجيًّا» قبل بنائها. وبالمثل، تُصمَّم روبوتات ويب في صورة «برامج» قبل اختبارها في العالم الواقعي).
على الرغم من التحول إلى الحشرات في مجال الروبوتات السائد، لم تتوقف الأبحاث بشأن الروبوتات على شكل الإنسان. بعض تلك الروبوتات مجرد دُمًى. وبعضها الآخر عبارة عن روبوتات «اجتماعية» — أو مرافقة — مصمَّمة كي يستخدمها كبار السن والمعاقين في تنفيذ المهمات المنزلية (انظر الفصل الثالث). ليس الهدف من تصميم هذه الروبوتات أن يكونوا عبيدًا يؤدون مهمات ثانوية، بل أن يكونوا مساعدين شخصيين مستقلين. بعضها له مظهر «جميل» ورموش طويلة وأصوات جذابة. يمكنها أن تتواصل بالعين مع المستخدمين، وتتعرف على وجوه الأشخاص وأصواتهم. كذلك يمكنها — إلى حد ما — أن تُجري محادثات غير مكتوبة، وتفسِّر الحالة العاطفية للمستخدم، وتولد ردود فعل «عاطفية» (بحيث تظهر تعبيرات وجه أو أنماط كلام مشابهة للبشر) بأنفسها.
على الرغم من أن بعض الروبوتات كبيرة الحجم (لحمل الحمولات الثقيلة أو للمشي على الأرض الوعرة)، فإن معظمها صغير الحجم. وبعضها الآخر بالغ الصغر، حيث تُستخدم داخل الأوعية الدموية على سبيل المثال. وكثيرًا ما ترسَل للعمل بأعداد كبيرة. وعندما تشترك عدة روبوتات في مهمة، تثار الأسئلة بشأن طريقة تواصلها (إذا أمكن)، وكيف يمكِّن ذلك المجموعة من إنجاز مهمات لا يمكن أن ينجزها فرد واحد.
للإجابة على هذه الأسئلة، غالبًا ما يفكر علماء الروبوتات في الحشرات الاجتماعية مثل النمل والنحل. تلك الأنواع تُضرَب مثالًا على «المعرفة الموزعة» (انظر الفصل الثاني)، وتلك الخاصية تتوزع فيها المعرفة (والعمل الملائم) على المجموعة بكاملها بدلًا من أن تتوافر لحيوان واحد.
إذا كانت الروبوتات بالغة البساطة، فقد يتحدث مطوِّروها عن «ذكاء السرب»، ويحللون أنظمة الروبوتات التعاونية باعتبارها إنسانًا آليًّا خلويًّا. الإنسان الآلي الخلوي عبارة عن نظام لوحدات فردية، وكل وحدة تأخذ حالة من عدد حالات باتباع قواعد بسيطة؛ إذ تعتمد على الحالة الحالية للوحدات المجاورة. قد يكون النمط الكلي لسلوك الإنسان الآلي الخلوي معقدًا إلى حد الذهول. التماثل الأساسي هو الخلايا الحية المتعاونة لدى الكائنات المتعددة الخلايا. تتضمن العديد من إصدارات الذكاء الاصطناعي الخوارزميات المتدفقة التي تُستخدم في حشود الخفافيش أو الديناصورات في أفلام الرسوم المتحركة بهوليوود.
ينطبق مفهوم المعرفة الموزعة ومفهوم ذكاء السرب على الإنسان أيضًا. يُستخدم مفهوم ذكاء السرب عندما لا تكون المعرفة المعنية شيئًا يمكن أن يحوزه فرد واحد من المجموعة (مثل السلوك العام للحشود الضخمة). وغالبًا ما يُستخدم مصطلح المعرفة الموزعة عندما يمكن للأفراد المشاركين أن يحوزوا كل المعرفة ذات الصلة، ولكن لا يتفرد بها أحد. على سبيل المثال، أوضح عالم الأنثروبولوجيا إدوين هاتشين كيف أن معرفة الملاحة يتشاركها أفراد طاقم السفينة، كما أنها تتجسد في أشياء مادية مثل الخرائط (وموقع) جداول الرسوم البيانية.
الحديث عن تجسيد المعرفة في أشياء مادية قد يبدو غريبًا أو مجازيًّا في أفضل الحالات. ولكن هناك الكثير اليوم ممن يزعمون أن عقول البشر تتجسد حرفيًّا، ليس فقط في أفعال الناس الجسدية، ولكن أيضًا في المصنوعات الثقافية التي يتعاملون معها في العالم الخارجي. تأسست نظرية «العقل المتجسد/الخارجي» جزئيًّا في عمل أنجزه رائد تحول الروبوتات من شكل الإنسان إلى الحشرات، ألا وهو رودني بروكس من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
الآن، بروكس من مطوِّري الروبوتات الأساسيين في الجيش الأمريكي. وفي ثمانينيات القرن العشرين، كان لا يزال عالم روبوتات ناشئًا، ولكن أُحبط من عدم جدوى مخططي نمذجة العالم في الذكاء الاصطناعي الرمزي. تحول إلى الروبوتات الكائنة لأسباب تكنولوجية بحتة، ولكن سرعان ما حول نهجه إلى نظرية عن السلوك التكيفي بوجه عام. تلك النظرية ذهبت إلى ما هو أبعد من الحشرات؛ وقد احتج قائلًا إنه حتى أعمال الإنسان لا تتضمن تمثيلات داخلية. (أو يقول ضمنًا إنها لا تنطوي على تمثيلات عادةً).
نقده للذكاء الاصطناعي الرمزي أعجب علماء النفس والفلاسفة. بعضهم أبدى تأييدًا كبيرًا. سبق أن أشار علماء النفس إلى أنه كثيرًا ما يكون سلوك الإنسان مرهونًا بالموقف، كأن يكون له دور في بيئات اجتماعية مميزة. كذلك ألقى علماء النفس المعرفي الضوء على الرؤية المتحركة، وفيها تكون الحركة الجسدية للعامل هي المفتاح. واليوم، أصبح لنظريات العقل المجسد تأثير كبير في غير الذكاء الاصطناعي (انظر الفصل السادس).
لكن البعض الآخر أمثال ديفيد كيرش كانوا — ولا يزالون — يعارضون بشدة، بحجة أن التمثيلات التركيبية ضرورية في أنواع السلوكيات التي تتضمن مفاهيم. ومن الأمثلة على ذلك التعرف على عدم التباين الإدراكي، وفيه يمكن التعرف على كائن من عدة مشاهد مختلفة، وإعادة تعريف الأفراد بمرور الوقت، وضبط النفس الاستباقي (التخطيط)، والتفاوض بشأن الأهداف المتضاربة وليس مجرد جدولتها، والتفكير المنطقي في الواقع المضاد، واللغة. تعترف هذه الانتقادات أن الروبوتات الكائنة تُظهر سلوكًا خاليًا من المفاهيم لدرجة أنها انتشرت بدرجة أكبر مما اعتقد العديد من الفلاسفة. وعلى الرغم من ذلك، يتطلب كلٌّ من المنطق واللغة والتصرفات البشرية المدروسة الحوسبة الرمزية.
يرفض العديد من علماء الروبوتات أيضًا ادعاءات بروكس الأكثر تطرفًا. مجموعة آلان ماكوورث واحدة من المجموعات العاملة في كرة القدم الروبوتية، وتشير إلى «المداولات التفاعلية» التي تتضمن الإدراك الحسي واتخاذ القرارات في الوقت الفعلي والتخطيط والتعرف على الخطة والتعلم والتنسيق. إنها تسعى إلى تكامل الذكاء الاصطناعي التقليدي الجميل ووجهات النظر الكائنة. (ولذلك، تبني المجموعة أنظمة مختلطة؛ انظر الفصل الرابع).
بوجه عام، التمثيلات بالغة الأهمية في عملية اختيار الإجراءات لدى الروبوتات، ولكن ليست بتلك الأهمية فيما يتعلق بتنفيذ الإجراءات. لذا، فإن المهرجين الذين قالوا إن «الذكاء الاصطناعي» يشير إلى «الحشرات الاصطناعية» لم يوفقوا في ذلك تمامًا.
الذكاء الاصطناعي التطوري
يعتقد معظم الناس أن الذكاء الاصطناعي يستلزم تصميمًا يراعي أدق التفاصيل. وبالنظر إلى طبيعة الكمبيوتر التي لا ترحم، فكيف يكون الأمر غير ذلك؟ حسنًا، قد يكون.
على سبيل المثال، نتجت الروبوتات التطورية (التي تتضمن قدرًا من الروبوتات الكائنة) من الجمع بين الهندسة/البرمجة الدقيقة والتباين العشوائي. تتلخص المسألة في تطورها غير المتوقع، وليس في العناية بتصميمها.
بوجه عام، يمتاز الذكاء الاصطناعي التطوري بهذه السمة. لقد بدأ في الذكاء الاصطناعي الرمزي، ولكنه يُستخدم أيضًا في الترابطية. تطبيقاته العملية المتعددة تتضمن الفنون (يمكن أن تنطوي على عدم القدرة على التنبؤ) وتطوير أنظمة حساسة تجاه السلامة مثل محركات الطائرات.
يمكن أن يغير البرنامج نفسه (بدلًا من أن يعيد المبرمج كتابته)، ويمكن أن يحسن من نفسه حتى عن طريق استخدام الخوارزميات الوراثية. إنها مستوحاة من علم الوراثة الواقعي، وإنها تمكِّن كلًّا من التباين العشوائي والانتقاء غير العشوائي. الانتقاء يتطلب معيار النجاح، أو «دالة الصلاحية» (المشابهة للانتقاء الطبيعي في علم الأحياء) التي تعمل جنبًا إلى جنب مع الخوارزميات الوراثية. تحديد دالة الصلاحية أمرٌ بالغ الأهمية.
في البرامج التطورية، لا يستطيع البرنامج الأولي الموجه حسب المهمة حل المهمة بكفاءة. قد لا يستطيع حلها على الإطلاق؛ فقد تكون مجموعة من التعليمات غير المتسقة أو شبكة عصبية ذات اتصالات عشوائية. لكن البرنامج الشامل يتضمن الخوارزميات الوراثية في الخلفية. وهذه الخوارزميات تغير القواعد الموجهة بالمهمات. تتشابه التغييرات التي تحدث عشوائيًّا مع الطفرة النقطية والعبور في علم الأحياء. لذا قد يتغير رمز واحد في تعليمة مبرمَجة، أو قد «تتبادل» سلسلة رموز قصيرة بين تعليمتين.
تعقد المقارنة بين برامج المهمات المتعددة ضمن أي جيل، وتُستخدم البرامج الأنجح لتوليد الجيل التالي. كذلك يمكن الاحتفاظ ببضعة برامج أخرى (تُختار عشوائيًّا) بحيث لا تُفقد الطفرات المفيدة التي لم يكن لها تأثير جيد حتى الآن. بمرور الأجيال، تزيد كفاءة برنامج المهمة. ويوجد الحل الأمثل في بعض الأحيان. (في بعض الأنظمة التطورية، تُحل مسألة إحالة الاستحقاق (انظر الفصل الرابع) بإدخال بعض التباينات في خوارزمية لواء الدلو، حيث إن تلك الخوارزمية لا تحدد إلا الأجزاء المسئولة عن النجاح في البرنامج التطوري المعقد).
بعض أنظمة الذكاء الاصطناعي التطوري آلية بالكامل؛ بمعنى أن البرنامج يطبق دالة الصلاحية في كل جيل، ويُترك كي يتطور من دون أن يشرف عليه أحد. وهنا، يجب أن تكون المهمة بالغة الوضوح؛ باستخدام فيزياء محركات الطائرة على سبيل المثال. وعلى الجانب الآخر، عادةً ما يكون الفن التطوري ذا درجة تفاعُل عالية (يختار الفنان الأفضل في كل جيل)؛ لأنه لا يمكن ذكر دالة الصلاحية — المعايير الفنية بوضوح — ذكرًا واضحًا.
تتمتع معظم الروبوتات التطورية بالقدرة على التفاعل في أوقات متقطعة. يتطور تشريح الروبوت (مثل أجهزة الاستشعار والتوصيلات الحسية الحركية) ووحدة التحكم (الدماغ) أو أحدهما تلقائيًّا، ولكن في مرحلة المحاكاة. وفي معظم الأجيال، لا يوجد روبوت مادي. لكن عند كل ٥٠٠ جيل، ربما يخضع التصميم المتطور لاختبار في جهاز مادي.
عادةً لا تحيا الطفرات التي لا فائدة منها. اكتشف فريق إنمان هارفي بجامعة ساسكس (عام ١٩٩٣) أن إحدى عينَي الروبوت وكل «شعيرات الاستشعار» قد تفقد اتصالاتها الأولية بالشبكة العصبية المتحكمة، إذا لم تكن المهمة بحاجة إلى أيٍّ من الرؤية المتعمقة ولا اللمس. (وبالمثل، في الحوسبة البصرية، تُستخدم القشرة السمعية في الأشخاص الذين يعانون صممًا وراثيًّا أو في الحيوانات المحرومة من حاسة السمع؛ بمعنى أن الدماغ يتطور على مدار الحياة، وليس عبر الأجيال فحسب).
قد ينطوي الذكاء الاصطناعي التطوري على مفاجآت عميقة. على سبيل المثال، يخضع الروبوت الكائن إلى تطويرات (بجامعة ساسكس أيضًا) لتوليد حركة تتحاشى العقبات تجاه هدف، وقد طور أداة لاستكشاف الاتجاهات مشابهة للتي توجد في الدماغ. تضمن عالم الروبوت مثلثًا أبيضَ من الورق المقوَّى. وعلى نحو غير متوقَّع، نشأت شبكة صغيرة متصلة عشوائيًّا في وحدة التحكم، وقد استجابت إلى تدرج ضوء/ظلام في اتجاه معين (جانب من المثلث). عندئذٍ، تتطور تلك الشبكة وتصبح جزءًا لا يتجزأ من آلية بصرية حركية واتصالاتها بوحدات الحركة (العشوائية في البداية)؛ مما يمكِّن الروبوت من استخدام الكائن باعتباره أداة مساعدة على الملاحة. لا تعمل الآلية مع المثلثات ذات اللون الأسود، ولا في الجانب المعاكس. كانت الآلية قائمة بذاتها، فلا يوجد نظام شامل لأدوات استكشاف التوجيه. ولكنها كانت مفيدة على أي حال. تكرَّرَت تلك النتيجة المحيِّرة كثيرًا. وباستخدام الشبكات العصبية من الأنواع المختلفة، وجد فريق جامعة ساسكس أن كل حل ناجح قد طور أداةً نشطة لاستكشاف الاتجاهات؛ لذلك لم تتغير الاستراتيجية السلوكية العالية المستوى. (تباينت تفاصيل التنفيذ الدقيقة، لكنها غالبًا ما كانت متشابهة جدًّا).
في مناسبة أخرى، استخدم فريق جامعة ساسكس الخوارزميات الوراثية لتصميم الدوائر الكهربية في الأجهزة. تمثَّلت المهمة في تطوير أجهزة ذبذبة. ومع ذلك، ما ظهر كان مستشعرًا بدائيًّا لموجات الراديو، وكان يلتقط الإشارة الأرضية من شاشة كمبيوتر قريبة. وقد اعتمد ذلك على معلمات فيزيائية غير متوقعة. كان بعضها متوقعًا (الخصائص الشبيهة بالهواء لجميع اللوحات الكهربية المطبوعة)، على الرغم من أن الفريق لم يفكر فيها مسبقًا. ولكن البعض الآخر كان عرضيًّا، ويبدو أنها ليست ذات صلة. تضمنت المعلمات القرب المكاني من شاشة الكمبيوتر، والترتيب الذي تُضبط به المفاتيح التماثلية، وحقيقة ترك مكواة اللحام على مقربة من طاولة عمل وهي موصَّلة بالتيار الكهربي. (لم تتكرر تلك النتيجة؛ ففي المرة التالية، قد يتأثر هوائي الراديو بكيمياء ورق الحائط).
مستشعر موجات الراديو مثير للإعجاب؛ لأن العديد من علماء الأحياء (والفلاسفة) يقولون إنه لا ينشأ شيء جديد جذريًّا من الذكاء الاصطناعي، حيث إن كل نتائج برامج الكمبيوتر (بما في ذلك النتائج العشوائية للخوارزميات الوراثية) يجب أن تقع ضِمن حيِّز الاحتمالات التي يحدِّدها البرنامج. يقولون كذلك إنه لا يمكن لغير التطور البيولوجي أن يولد مستشعرات إدراكية. إنهم يصرحون بأنه يمكن أن يتطور مستشعر بصري ضعيف للذكاء الاصطناعي ويتحول إلى مستشعر أفضل. لكنهم يقولون إن المستشعر البصري الأول لا يمكن أن ينشأ إلا في عالم مادي تحكمه السببية. فالطفرة الجينية العشوائية التي تدفع مادة كيميائية حساسة تجاه الضوء يمكن أن تُدخل الضوء — الموجود بالفعل في العالم الخارجي — إلى بيئة الكائن الحي. ولكن بالمثل، أدخل مستشعر راديو غير متوقع موجات الراديو إلى بيئة الجهاز. وبالفعل يعتمد الأمر جزئيًّا على السببية الفيزيائية (المكونات الإضافية وغيرها). لكنه كان تدريبًا في الذكاء الاصطناعي، وليس في علم الأحياء.
تتطلب الحداثة الجذرية تأثيرات خارجية بالفعل؛ لأنه صحيح أن البرنامج لا يمكنه تجاوز مساحة احتماليته. ولكن ليس بالضرورة أن تكون هذه المؤثرات مادية. فنظام الخوارزميات الوراثية المتصل بالإنترنت قد يطور تحديثات جوهرية عن طريق التفاعل مع العالم الافتراضي.
وقعت مفاجأةٌ أخرى قبل ذلك بكثير في مجال الذكاء الاصطناعي التطوري؛ مما شجَّع الأبحاث الجارية على التطور بالمعنى الحرفي للكلمة. استخدم عالم الأحياء توماس راي الخوارزميات الوراثية لمحاكاة بيئة الغابات الاستوائية المطيرة. لقد رأى التطور التلقائي للطفيليات، والمقاومة لتلك الطفيليات، والطفيليات الفائقة القادرة على التغلب على تلك المقاومة. اكتشف أيضًا أن «الطفرات» المفاجئة في التطور (الظاهري) يمكن توليده بتعاقب طفرات (جينية) كامنة. بالطبع يؤمن أتباع داروين الأرثوذكس بهذا. ولكن من غير البديهي أن يقول بعض علماء الأحياء مثل ستفين جاي جولد أن العمليات غير الداروينية لا بد أنها داخلة في تلك الطفرات هي الأخرى.
في الوقت الراهن، تتباين معدلات الطفرات المحاكاة تباينًا منهجيًّا، ويجري تتبعها، ويحلل باحثو الخوارزميات الوراثية «مشاهد الصلاحية» و«الشبكات العصبية» [منقولة من دون تعديل] و«الانحراف الجيني». هذا العمل يبين كيف يمكن الحفاظ على الطفرات على الرغم من أنها لم تزد صلاحية التكاثر (حتى الآن). ومن ثَم يساعد الذكاء علماء الأحياء على وضع نظريات تطورية بوجه عام.
التنظيم الذاتي
الميزة الأساسية في الكائنات الحية هي قدرتها على بناء نفسها. التنظيم الذاتي هو ظهور النظام تلقائيًّا من أصل ذي درجة نظام أقل. إنها خاصية محيِّرة، وتكاد تكون متناقضة. وليس واضحًا إن كان يمكن حدوثها في الجمادات أم لا.
بوجه عام، التنظيم الذاتي ظاهرةٌ إبداعية. تناولنا الإبداع النفسي (كلٌّ من التاريخي والفردي) في الفصل الثالث، والتعلم الترابطي (غير الموجَّه) الذاتي التنظيم في الفصل الرابع. ونركز في هذا الفصل على أنواع التنظيم الذاتي المدروس في الأحياء.
تتضمن الأمثلة تطور السلالات (ضرب من الإبداع التاريخي)، وتكوين الأجنة والتحور (المشابه للإبداع الفردي في علم النفس)، ونمو الدماغ (إبداع فردي يتبعه إبداع تاريخي)، وتكوين الخلايا (إبداع تاريخي عندما تدبُّ الحياة في الأوصال ثم يتحول إلى إبداع فردي). كيف يساعدنا الذكاء الاصطناعي على فهم تلك الأمور؟
شرح آلان تورينج التنظيم الذاتي عام ١٩٥٢ بأنه العودة إلى الأساسيات. تساءل كيف لشيء متجانس (مثل البويضة غير المتمايزة) أن يؤسس بنية. اعترف أن قدرًا كبيرًا من النمو البيولوجي يضيف تنظيمًا جديدًا إلى النظام الموجود مسبقًا؛ مثل سلسلة التغيرات التي تحدث في القناة العصبية للجنين. ولكن تولد النظام من التجانس هو الحالة الأساسية (وأبسطها رياضيًّا).
طرح علماء الأجنة بالفعل فكرة «أدوات التنظيم»؛ وهي مواد كيميائية غير معروفة توجه النمو بطرق غير معروفة. كذلك لم يستطِع تورينج تحديد أدوات التنظيم تلك. بل إنه درس مبادئ عامة عن الانتشار الكيميائي.
أظهر أنه إذا تقابلت الجزيئات المختلفة، فستعتمد النتيجة على معدلات الانتشار وتركيزاتها والسرعات التي يمكن لتفاعلاتها أن تهدم/تبني جزيئاتها بها. لقد فعل ذلك عن طريق تغيير الأعداد في معادلات كيميائية تخيلية ودراسة النتائج. لم تنتج بعض مجموعات الأرقام إلا مخاليط من المواد الكيميائية ولكن لا شكل لها. ولكن تولَّد نظام من مجموعات أخرى، مثل القمم المنتظمة لتركيز جزيء بعينه. قال إن هذه القمم الكيميائية يمكن التعبير عنها بيولوجيًّا بأنها علامات سطحية (شرائط)، أو بأنها أصول لبنيات متكررة مثل البتلات أو أجزاء الجسم. يمكن أن تؤدي تفاعلات الانتشار في ثلاثة أبعاد إلى تفريغ، مثل تكون المُعيدة عند الجنين.
أُعيد تنظيم هذه الأفكار على الفور باعتبارها مثيرة للاهتمام بدرجة كبيرة. لقد حلَّت لغزًا كان مستعصيًا فيما سبق بشأن تولد النظام من رحم أصل غير منتظم. في خمسينيات القرن العشرين، لم يستطِع علماء الأحياء أن يفعلوا الكثير إزاء هذا اللغز. فقد اعتمد تورينج على التحليل الرياضي. أجرى بالفعل قدرًا من المحاكاة (الشاقة للغاية) يدويًّا، وأتبعها بنمذجة على جهاز كمبيوتر بدائي. لكن لم يكن الجهاز به قوة حاسوبية كافية لإجراء المجاميع ذات الصلة، أو لاستعراض تباينات الأعداد بطريقة منهجية. كذلك لم تكن رسوميات الكمبيوتر متاحة كي تحول قوائم الأعداد إلى شكل واضح ومفهوم.
اضطُر كلٌّ من الذكاء الاصطناعي وعلم الأحياء أن ينتظرا ٤٠ سنة قبل أن تتطور رؤى تورينج. استعرض خبير رسوميات الكمبيوتر جريج تورك معادلات تورينج، وكان في بعض الأحيان «يجمد» نتائج المعادلة قبل أن يطبق معادلة أخرى. يذكِّرنا هذا الإجراء بتشغيل/إيقاف تشغيل التبديل بين الجينات، ويضرب مثالًا على تولد النمط من النمط؛ وهو ما ذكره تورينج ولكن لم يستطِع تحليله. في نموذج الذكاء الاصطناعي الذي طوره تورك، لم تولِّد معادلات تورينج شرائط وعلامات الدلمطيق (كما فعلت عمليات المحاكاة اليدوية)، بل ولَّدت بقع النمر والفهد وشبكيات الزرافة وأنماط سمكة التنين.
استخدم باحثون آخرون سلاسل معادلات أعقد؛ ومن ثَم أدت إلى أنماط أعقد. بعضهم كانوا علماء في الأحياء النمائي ممن يعرفون المزيد عن الكيمياء الحيوية الفعلية.
على سبيل المثال، درس براين جودوين دورة حياة طحالب أسيتابولاريا. هذا الكائن الأحادي الخلية يحوِّل نفسه من نقطة لزجة لا شكل لها إلى ساق ممدود، وبعد ذلك تنمو قمة مسطحة، ثم تنمو حلقة من العقد حول الحافة، وبعدها تنمو هذه العقد إلى نتوءات جانبية وفروع، وفي النهاية تتحد النتوءات الجانبية وتكوِّن غطاءً يشبه المِظلة. أوضح خبراء الكيمياء الحيوية أنه يدخل في تلك العملية ما يزيد على ٣٠ معلمة أيضية (مثل تركيزات الكالسيوم، والتقارب بين الكالسيوم وبروتينات معينة، والمقاومة الميكانيكية للهيكل الخلوي). أجرى نموذج أسيتابولاريا الحاسوبي الذي طوره جودوين حلقات تغذية راجعة معقدة ومتكررة، حيث يمكن لتلك المعلمات أن تتغير ما بين لحظة وأخرى. نتج عن ذلك تحولات جسدية عديدة.
وعلى غرار تورينج وتورك، تلاعب جودوين بالقيم العددية كي يرى أي القيم التي ستولد أشكالًا جديدة بالفعل. إنه لم يستخدم سوى الأعداد ضمن النطاقات المرصودة في الكائن الحي، ولكنها كانت عشوائية.
قد وجد أن أنماطًا معينة يتكرر نشوءُها، مثل التبديل بين تركيزات الكالسيوم العالية/المنخفضة عند حافة الساق (التماثل الناشئ من الدوارة). لم تعتمد تلك الأنماط على خيار محدد من قيم المعلمات، ولكنها كانت تظهر تلقائيًّا إذا عُينت القيم في أي مكان ضمن نطاق كبير. إضافة إلى ذلك، بمجرد أن تبزغ الدوارة، فإنها تستمر. وعلى حد قول جودوين، فقد تصبح أساسًا لتحويلات تؤدي إلى ميزات متكررة الحدوث. قد يحدث هذا في تطور السلالات كما يحدث في التطور الفردي (إبداع تاريخي وكذلك إبداع فردي)، ومن الأمثلة على ذلك تطور ذوات الأربع.
لم ينشأ مطلقًا غطاء مظلة من هذا النموذج. من المحتمل أن يتطلب هذا معلمات إضافية، بحيث تمثل تفاعلات كيميائية غير معروفة حتى الآن داخل طحالب أسيتابولاريا الحقيقية. أو ربما تقع تلك الأغطية ضمن مساحة الاحتمالية للنموذج؛ ومن ثَم يمكن أن تنشأ منه من حيث المبدأ، ولكن فقط إذا كانت القيم العددية محدودة للغاية لدرجة أنه من غير المحتمل العثور عليها عن طريق البحث العشوائي. (لم تنشأ النتوءات الجانبية أيضًا، ولكن السبب في ذلك ببساطة راجع إلى ضعف القوة الحاسوبية؛ أي إن البرنامج بأكمله سيحتاج إلى أن ينفَّذ على مستوًى أقل لكل نتوء جانبي فردي).
رسم جودوين مغزًى نظريًّا مثيرًا للاهتمام. رأى الدوارات على أنها أشكال «شاملة» تحدث في العديد من الحيوانات والنباتات، وذلك على خلاف المظلة. هذا يقترح أن تلك الدوارات ليست ناتجة عن آليات كيميائية حيوية بالغة التحديد توجِّهها جينات تتطور بشكل مفاجئ، ولكنها ناتجة عن العمليات العامة (مثل انتشار التفاعل) الموجودة لدى معظم الكائنات الحية أو كلها. ربما تشكل هذه العمليات أساس علم الأحياء «البنائي»؛ وهو علم عام من علوم الأشكال، وتفسيراته ربما تسبق نظرية الانتقاء التي وضعها داروين، على الرغم من أنها تتسق معها تمامًا. (كان الاحتمال ضمنيًّا في مناقشة تورينج، وأكَّد عليها دارسو طومسون، وهو عالم أحياء استشهد بذلك الاحتمال، ولكن تورينج نفسه تجاهله).
يعمل انتشار التفاعل حسب القوانين الفيزيائية الكيميائية التي تحدد التفاعلات الموضعية بين الجزيئات؛ بمعنى أنه يمكن تمثيل تلك القوانين في الإنسان الآلي الخلوي. عندما حدَّد جون فون نيومان الإنسان الآلي الخلوي، أشار إلى أنه يمكن تطبيقه على الفيزياء من حيث المبدأ. وفي الوقت الراهن، يستخدم باحثو الحياة الاصطناعية الإنسان الآلي الخلوي في عدة أغراض، لا سيما جيل الأنماط البيولوجية ذات الصلة. على سبيل المثال، الإنسان الآلي الخلوي البالغ التبسيط (المحدد على بُعد واحد فقط) بإمكانه توليد أنماط مشابهة للحياة إلى حد كبير، مثل الأنماط في الصدف.
ربما يكون من المثير للاهتمام على وجه الخصوص استخدام الحياة الاصطناعية للإنسان الآلي في محاولة لوصف «الحياة كما يمكن أن تكون»، وليس فقط «الحياة كما نعرفها». استعرض كريستوفر لانجتون (الذي أطلق اسم «الحياة الاصطناعية» عام ١٩٨٧) العديد من الأناس الآليين المحددين عشوائيًّا، وأخذ يلاحظ ميلها إلى توليد النظام. ولكن العديد منها لم ينتج غير الفوضى. وبعضها الآخر شكَّل بنياتٍ متكررةً مملة أو حتى ثابتة. ولكن قلة منها ولَّد أنماطًا لا تنفكُّ عن التغيير وإن كانت ثابتة نسبيًّا، وهذا ما يميز الكائنات الحية على حد قول لانجتون (ويميز الحوسبة أيضًا). وما يثير الدهشةَ أن هؤلاء الأناس الآليين يتشاركون القيم العددية نفسها على قياس بسيط من التعقيد المعلوماتي للنظام. اقترح لانجتون أن «معلمة لامدا» تلك ربما تنطبق على كل الكائنات الحية، سواء على الأرض أو المريخ.
لا يشكِّل التنظيم الذاتي الأجسام الكاملة فحسب، بل أعضاء الجسم أيضًا. الدماغ على سبيل المثال يتطور بفضل عمليات تطورية (على مدار العمر وعبر الأجيال) كما يتطور بالتعلم غير الموجَّه. ربما يكون لذلك التعليم نتائج تمييزية إلى حد بعيد (إبداع تاريخي). لكن النمو المبكر للدماغ لدى كل فرد يخلق بنيات عصبية يمكن التنبؤ بها.
على سبيل المثال، تمتلك القرود الحديثة الولادة أدوات استكشاف للاتجاهات تدور في ٣٦٠ درجة دورانًا منهجيًّا. وما كانت لتتعلم ذلك من التجربة في العالم الخارجي؛ لذا من الطبيعي أن يُفترض أنها مشفرة في الجينات. لكن الأمر ليس كذلك. بل إنها تنشأ تلقائيًّا من شبكة عشوائية في البداية.
لم تظهر تلك الخاصية بالنمذجة الواقعية الأحيائية باستخدام الكمبيوتر على يد علماء الأعصاب، بل أيضًا باستخدام الذكاء الاصطناعي «الخالص». عرَّف الباحث رالف لينسكر من شركة آي بي إم شبكات التغذية الأمامية المتعددة الطبقات (انظر الفصل الرابع)، وأوضح أن قواعد هيب البسيطة — في ضوء عشوائية النشاط — (مثل الضوضاء داخل دماغ الجنين) يمكن أن تولِّد مجموعات منظمة من أدوات استكشاف الاتجاهات.
لم يعتمد لينسكر على الشروحات العملية وحدها، ولم يركز على أدوات استكشاف الاتجاهات وحدها؛ وتنطبق نظرية «إنفوماكس» التجريدية التي وضعها على أي شبكة من هذا النوع. إنها تنص على أن اتصالات الشبكة تتطور لتعظيم كمية المعلومات المحفوظة عند تحويل الإشارات في كل مرحلة معالجة. تتشكل كل الاتصالات في ظل قيود تجريبية معينة، مثل القيود البيوكيميائية والتشريحية. ولكن الرياضيات تضمن أن يظهر نظام تعاوني من الوحدات المتواصلة. ترتبط نظرية إنفوماكس بتطور السلالات أيضًا. إنه يجعل من غير البديهي أن يكون هناك طفرة واحدة تكيفية في ظل تطور نظام معقد. تتبخر الحاجة الواضحة للعديد من الطفرات المتزامنة إذا كان كل مستوًى يمكن أن يتكيف تلقائيًّا مع تغيير طفيف في مستوًى آخر.
بالنسبة إلى التنظيم الذاتي على المستوى الخلوي، فقد تم نمذجة كلٍّ من الكيمياء الحيوية داخل الخلايا وتكوين الخلايا/جدار الخلايا. وهذا العمل يستغل عمل تورينج في انتشار التفاعل. ولكنه يعتمد على المفاهيم الأحيائية أكثر من اعتماده على الأفكار المترسخة في الحياة الاصطناعية.
باختصار، يقدم الذكاء الاصطناعي العديد من الأفكار النظرية المتعلقة بالتنظيم الذاتي. وكذلك تكثر الأعمال الفنية الذاتية التنظيم.