الفصل الحادي عشر
اليوم رأيت زان للمرة الأولى منذ ثلاث سنوات. لم أجد صعوبة في تحديد موعد معه، مع أن الوجه الذي ظهر على شاشة الهاتف المرئي لم يكن وجهه، بل وجه أحد معاونيه، أحد أفراد فرقة حرس الجرينادير برتبة رقيب. كان يَحمي زان، ويطهو طعامه، ويقود سيارته، ويخدمه جماعةٌ صغيرةٌ من أفراد جيشه الخاص؛ حتى منذ البداية لم تُوَظَّف أي سكرتيرات أو مُساعَدات شخصيات أو مدبِّرات منزل أو طاهيات في بلاط الحاكم. كنت أتساءل إذا ما كان سبب ذلك هو تجنُّب حتى أي إيعاز بفضيحة جنسية، أم أن نوع الولاء الذي كان يَطلُبُه زان ولاء ذكوري بحت، قائم على أساس التسلسل القيادي، مُطلَق، لا تشوبه العواطف.
أرسل سيارةً لتُقلَّني. أخبرت فرد حرس الجرينادير أنني أفضِّل أن أذهب إلى لندن بسيارتي، لكنه لم يَزِد على أن قال بحزم غير صارم: «سيُرسل لك الحاكم سيارة بسائق يا سيدي. سيكون أمام بابك في تمام التاسعة والنصف.»
بطريقة ما كنتُ قد توقعتُ أن يكون ذلك السائق هو جورج، الذي كان سائقي المعتاد عندما كنتُ مستشار زان. كنت أحب جورج. كان له وجه بشوش سمح، وأذنان ناتئتان، وفم واسع وأنف عريض أقعى. نادرًا ما كان يتكلم، ولم يكن يتحدث قط إلا إذا ابتدأتُ أنا الحديث. أظن أن السائقين جميعهم يلتزمون بتلك القاعدة، لكن جورج كانت تشعُّ منه روح من الألفة، وربما حتى الاستحسان — أو هكذا شعرت — جعلت رحلاتي بالسيارة معه فاصلًا مريحًا لا توتر فيه بين إحباطات اجتماعات المجلس وتعاسة البيت. أما ذلك السائق فكان أنحف جسدًا وكان يبدو شديد الأناقة في زيه الموحد الذي يبدو أنه كان جديدًا ولم تفصح عيناه التي التقت بعينيَّ عن أي شيء، ولا حتى عن الجفاء.
قلت: «ألم يعد جورج يقود؟»
«لقد تُوفي جورج يا سيدي، إثر حادث على طريق «إيه ٤». اسمي هيدجز. وسأكون سائقك في رحلتَي الذهاب والعودة.»
كان يصعب تصوُّر أن جورج، ذلك السائق المُخضرَم الشديد الحرص، قد تعرض لحادث مميت، لكني لم أطرح المزيد من الأسئلة؛ فشيء ما أخبرني بأن فضولي لن يُشبَع وأن التمادي في الاستفسار ليس أمرًا حكيمًا.
لم يكن ثمَّة جدوى من محاولة التدرب على ما سأقوله في المقابلة أو التنبؤ بكيفية استقبال زان لي بعد ثلاث سنوات من الصمت. لم نَفترِق غاضبَين أو حانقَين، لكني كنت أعرف أن ما فعلته كان في نظره لا يُبرَّر. وتساءلت إن كان يراه أيضًا لا يُغتفَر؛ فقد اعتاد أن يَحصُل على مراده دائمًا، وكان مراده أن أكون إلى جانبه، ولقد تركت جانبه. لكنه وافق على مقابلتي الآن. في غضون أقل من نصف الساعة سأعرف ما إذا كان يريد لذلك الصدع أن يكون دائمًا. أتساءل إن كان قد أخبر أيًّا من أعضاء المجلس الآخرين أني قد طلبتُ مقابلته. لا أتوقع رؤيتهم ولا أرغب في ذلك؛ فقد طُويَت تلك الصفحة من حياتي، لكني فكرت فيهم بينما كانت السيارة تقطع الطريق بسرعة وسلاسة وصمت في اتجاه لندن.
هم أربعة؛ مارتن ولفينجتون، المسئول عن الصناعة والإنتاج، وهارييت ماروود، المسئولة عن الصحة والعلوم والترفيه، وفيليشيا رانكن، التي تتضمَّن حقيبتها الوزارية المتنوِّعة المهام وزارات الداخلية والإسكان والنقل، وكارل إنجلباتش، وزير العدل والأمن الوطني. كان ذلك التوزيع للمسئوليات طريقة مريحة لتقسيم أعباء العمل أكثر منه تخصيصًا للسلطة المطلقة. فلم يُمنع أحد منهم، على الأقل عندما كنت أحضر اجتماعات المجلس، من التعدِّي على مجال اختصاص غيره وكان المجلس بأكمله يتَّخذ القرارات حسب أصوات الأغلبية في تصويت لم أكن أشارك فيه باعتباري مجرد مستشار لزان. أتساءل الآن هل كان هذا الاستبعاد المهين وليس إدراكي لعدم جدوى وجودي هو ما جعل منصبي غير محتمَل؛ فالنفوذ ليس بديلًا للسلطة.
صرت متأكِّدًا من فائدة وجود مارتن ولفينجتون لزان والمبرر لوجوده في المجلس الذي لا بد أنه صار أقوى منذ تَرْكي له. فهو عضو المجلس الأقرب إلى زان، وهو على الأرجح أقرب ما يكون لصديق. كانا في نفس الكتيبة وخدَما معًا برتبة ملازم، وكان ولفينجتون ضمن أول من عيَّنهم زان للعمل في المجلس. كانت حقيبة الصناعة والإنتاج من أثقل الحقائب الوزارية، فهي تتضمن الزراعة والغذاء والطاقة وإدارة العمالة. كان تعيين ولفينجتون في مجلس معروف عن أعضائه الذكاء الحاد مفاجئًا لي في البداية. لكنه ليس غبيًّا؛ فالجيش البريطاني توقف عن تقدير صفة الغباء في قادته قبل التسعينيات بفترة طويلة، ومارتن كان يستحق مركزه تمامًا لما يمتلكه من ذكاء عمَلي غير معرفي وقدرة غير عادية على العمل الدءوب. وهو لا يتحدَّث كثيرًا في اجتماعات المجلس لكن مشاركاته دائمًا ما تكون سديدة ورشيدة. وولاؤه لزان مُطلَق. خلال اجتماعات المجلس، كان هو الوحيد الذي يرسم رسومات عبثية. كنتُ أظن دومًا أن الرسومات العبثية علامة على توتُّر خفيف، وحاجة لإبقاء اليدين مشغولتَين، وحيلة مفيدة لتجنُّب الْتِقاء عينيه بعيون الآخرين. كانت رسومات مارتن فريدة. كان يُعطي انطباعًا بأنه يكره إضاعة الوقت. فبإمكانه أن يستمع بذهن شارد بينما يَرسُم على الورق خطوط معركته، وخطة مناوراته، وحتَّى جنوده الصغار المتقنين الذين عادة ما كان يَرسمُهم مُرتدين أزياء الحروب النابليونية. وكان يُغادر تاركًا أوراقه على الطاولة، فكانت تُدهشني دقة رسوماته وبراعتها. كنتُّ أحبه لأنه كان دمثًا على الدوام ولم يبدُ عليه أي تأفف مضمَر من وجودي كنتُ أستشعرُه لدى جميع الأعضاء الآخرين كوني شديد الحساسية للجو العام حولي. لكنِّي لم أفهمه قطُّ، وأشك أنه خطر بباله يومًا أن يُحاول أن يفهمني. إن كان وجودي هو إرادة الحاكم، فذلك كان سببًا كافيًا له. بنيته أطول من المتوسط بقليل، وله شعر فاتح مموَّج، ووجه مرهَف جميل الملامح كان يُذكِّرُني بشدة بصورة فوتوغرافية كنتُ قد رأيتها لنجم أفلام الثلاثينيات ليزلي هوارد. بمجرد أن أدركت الشبه بينهما، تعزَّز لديَّ، وأضفى عليه في نظري صبغة من رهافة الحس والتأثير الدرامي كانت غريبة عن طبيعته العملية في الأساس.
لم أطمئن قط إلى فيليشيا رانكن. لو أن زان كان يريد زميلة شابة وكذلك محامية بارعة، فقد كان متاحًا أمامه خيارات تقلُّ عنها لذاعة. لم أفهم قطُّ سبب اختياره لفيليشيا. كان مظهرها غير عادي. كانت دائمًا تظهر على شاشة التلفاز أو في الصور الفوتوغرافية بجانب وجهِها أو بنصفِه، وكانت رؤيتُها كذلك تُعطي انطباعًا بجمال هادئ وتقليدي؛ فقد كان لها بِنية عظام كلاسيكية وحاجبَين مقوَّسين، وشعر أشقر تعقدُه خلف رأسها. لكن عند رؤية وجهها كاملًا، يتلاشى ذلك التناسق. كان وجهها يبدو كأنه مكوَّن من نصفين مختلفَين، كل منهما جذاب بمفرده، لكن بينهما، مُجتمِعَين، نشاز يبدو أقرب إلى التشوه في ظروف إضاءة معينة؛ فعينُها اليُمنى أوسع من اليسرى، وجبهتُها التي تعلوها تَبرُز قليلًا، كما أن أذنها اليمنى أكبر من أختها. لكن عينَيها مميزتان؛ إذ إن حدقتَيهما كبيرتان ورماديتان بصفاء. عندما كنت أنظر إليهما ووجهها مسترخٍ، كنت أتساءل كيف يشعر المرء عندما يفوته الجمال بذلك الفارق الدقيق. أحيانًا في المجلس، كنت أجد صعوبة في عدم النظر إليها، وكانت تُدير رأسها فجأة لتُقابل عينَيَّ بنظرتها الجريئة المزدرية قبل أن أُشيح بنظري عنها بسرعة. أتساءل الآن كم غذَّى هوسي المرَضيُّ بمظهرها الكراهية المتبادَلة بينَنا.
هارييت ماروود، التي تَبلُغ من العمر ثمانية وستين عامًا، هي أكبر الأعضاء سنًّا، وهي المسئولة عن العلوم والصحة والترفيه، لكن وظيفتَها الأساسية في المجلس اتَّضحَت لي بعد أول اجتماع حضرته، وكانت بالطبع واضحة للبلد بأكملِه. هارييت هي العجوز الحكيمة في القبيلة، وجدة الكل، الباعثة على الطمأنينة والسكينة، الموجودة دائمًا، المحافِظة على مبادئها الأخلاقية القديمة، والتي تَفترض أن أحفادها سيمتثلون لها. عندما تظهر على شاشات التلفاز لتشرح آخر التعليمات، كان يستحيل ألا يُصدِّق المرء أن هذا ما فيه الصالح العام. بإمكانها أن تجعل قانونًا يلزم بالانتحار العام يَبدو منطقيًّا للغاية؛ وسيَستجيب له على الفور، في ظنِّي، نصف سكان البلد. فيها تجسَّدت حكمة العجائز، بثقتِها وتعنُّتها واهتمامها. قبل أوميجا كانت ناظرة مدرسة فتيات عامة، وكان التدريس شغفها. حتى بعد أن صارت ناظِرة، استمرَّت في التدريس للمرحلة الثانوية. لكنها كانت تُريد التدريس للصغار. كانت تَزدري تنازلي بقبولي وظيفة في مجال تعليم البالِغين، أغذِّي عقول الكهول الضجرين للتاريخ المحبوب والأدب الأكثر شعبية. صار نشاطُها وحماسها، الذي كانت تمنحه طالباتها اليافعات أثناء التدريس، موجهًا الآن للمجلس. كانت تعتبر أعضاءه تلاميذها وأبناءها، وعلى نطاق أوسع، كانت تعتبر الشعب جميعه كذلك. أظن أن زان كان يرى لها فوائد لا أستطيع تخمينها. أعتقد كذلك أنها خطيرة للغاية.
يقول مَن يتكبَّدون عناء دراسة شخصيات أعضاء المجلس إن كارل إنجلباتش هو عقله المدبر، وإنَّ التخطيط والإدارة البارعين للمُنظَّمة المحكمة التي تسيطر على البلاد هما نتاج رأسه المدبب، وإنه بدون عبقريتِه الإدارية كان حاكم إنجلترا سيصبح عديم النفع. هذا ما يُقال دائمًا عن ذوي السلطان، وقد يكون حتى هو مَن حرض على نشر تلك الأقاويل، مع أني أشكُّ في ذلك. فهو لا يتأثَّر بالرأي العام. مبدؤه بسيط. ثمة أمور تحدث حولَنا لا يُمكننا القيام بأي شيء بصددها، ومحاولة تغييرها ستكون مضيعة للوقت. وثمة أمور يجب تغييرها، وفور اتخاذ القرار بذلك، يجب الشروع في تنفيذه دون تسويف أو أَناة. هو أخبث عضو في المجلس وأعلاهم سلطة بعد الحاكم.
لم أتحدث إلى سائقي حتى وصلنا إلى ميدان شيباردز بوش، حينها ملتُ إلى الأمام ونقرتُ على الزجاج الفاصل بيننا وقلت: «أريدك أن تسلُكَ شارع هايد بارك ثم تنعطف إلى شارع كونستيتيوشن هيل وتسير فيه حتى نهايته ثم تسلك شارع بيردكيدج ووك من فضلك.»
قال، دون أن أدنى حركة لكتفَيه أو أي تعبير في صوته: «هذا هو الطريق الذي أمرني الحاكم بالسير فيه يا سيدي.»
مررنا من أمام القصر ذي النوافذ المغلَّقة، وسارية العلم التي ينقصها علمها، وأكشاك الحراسة الخاوية، والبوابة الضخمة المقفولة والموصَدة بقفل حديدي. بدا متنزه سانت جيمس مُهمَلًا أكثر من آخر مرة رأيته فيها. كان أحد المتنزهات التي قرَّر المجلس صيانتها جيدًا، ورأيت بالفعل من بعيد مجموعة من الأشخاص الكادحين، يَرتدُون ثياب العمل الخاصة بالعمال الوافدين ذات اللونين الأصفر والبني، يَجمعون القمامة ويقلمون، على ما يبدو، حواف مراقد الأزهار التي لا تزال عارية من الأزهار. أضاءت شمس الشتاء صفحة البحيرة التي برز فيها بوضوح الريش ذو الألوان الزاهية لبطتَين من فصيلة المندرين بدتا كلعبتين ملونتين. تحت الأشجار كانت توجد طبقة رقيقة من الثلوج التي تساقطت الأسبوع الماضي، وأثار اهتمامي، ولكن ليس بهجتي، أنْ رأيت أنَّ أقرب رقعة بيضاء ما هي إلا شطء زهور اللبن الثلجية.
كانت حركة سير السيارات خفيفة جدًّا في ميدان البرلمان، وكانت البوابة الحديدية المؤدِّية إلى مدخل قصر وستمنستر مغلَقة. مرة كل عام ينعقد هنا البرلمان الذي انتخَبَت مجالس المقاطعات والمجالس الإقليمية أعضاءه. لا تُناقش أي قوانين أو تسن أي تشريعات؛ فمجلس إنجلترا هو الذي يحكم بريطانيا بموجب مرسوم. والوظيفة الرسمية للبرلمان هي تلقِّي المعلومات ومناقشتها وتقديم الاستشارات وإعطاء التوصيات. يقدم كل عضو من أعضاء المجلس الخمسة تقريرَه شخصيًّا فيما يصفه الإعلام بالرسالة السنوية للأمة. تدوم دورة البرلمان شهرًا فقط، والمجلس هو من يضع جدول أعماله. وتكون القضايا التي يُناقشها غير مهمَّة. وتُصعَّد القرارات التي يُوافَق عليها بأغلبية ثلثَي الأصوات إلى مجلس إنجلترا الذي يُمكن أن يُوافقَ عليها أو يرفضها حسب ما يشاء. يتميَّز ذلك النظام بالبساطة، ويَرسُم وهمَ الديموقراطية لشعبٍ لم يَعُد لديه طاقة لأن يأبه بمَن يحكمه أو كيف يحكمه ما دام يحصل على ما وعد به الحاكم، وهو التحرر من الخوف، ومن العوز، ومن الضجر.
في بضع السنوات التي تلَت أوميجا، افتتح الملك، الذي لم يكن قد تُوِّج بعد، البرلمان بمظاهر الأبهة القديمة نفسها، لكن سيارته كانت تسير في شوارع شبه فارغة؛ فقد تحوَّل من كونه رمزًا للاستمرارية والتقاليد لكونه رمزًا قديمًا بطل استخدامه وصار بلا معنًى يُذكِّرنا بما فقدناه. والآن لا يزال يفتتح البرلمان، لكن دون جلبة، مرتديًا حلَّة رسمية عادية، آتيًا إلى لندن ومغادرًا لها خلسة دون أن يلاحظه أحد تقريبًا.
أتذكَّر حديثًا خُضْتُه مع زان قبل استقالتي من منصبي بأسبوع. «لماذا لا تُتوِّج الملك؟ اعتقدتُ أنك حريص على الحفاظ على نظامية الوضع.»
«ما الجدوى من ذلك؟ الشعب لا يكترث. وسيكره النفقات الضخمة التي ستتكلفها مراسم التتويج الجوفاء.»
«صرنا لا نسمع عنه إلا نادرًا. أهو تحت الإقامة الجبرية في منزله؟»
ضحك زان ضحكته المكتومة. «ليس منزله. بل قل في قصره أو قلعته. لديه سبل الراحة الكافية. على كل حال لا أعتقد أن كبيرة أساقفة كانتربري ستُوافِق على تتويجه.»
وأذكر ردي حينها: «هذا ليس مفاجئًا؛ فعندما عَيَّنت مارجريت شيفنهام في منصب رئيسة أساقفة كانتربري كنتَ تعلم أنها متعصِّبة للحزب الجمهوري.»
داخل المتنزَّه وبالقُرب من سوره، أتت جماعة من المتسوطين تسير في صف على العشب. كانوا عُراة حتى الخصر، ولا يَرتدون، حتى في طقس فبراير البارد، سوى أُزُر صفراء وصنادل في أقدامهم العارية. بينما كانوا يسيرون، كانوا يُأرجِحون حبال سياطهم الثقيلة المعقودة إلى الوراء لتُمزِّق ظهورهم الدامية أصلًا. حتى من خلف زجاج نافذة السيارة، كان بوسعي أن أسمع صفير جِلد السياط وهو يشق الهواء وقرعَها على جلودهم العارية. نظرت إلى مؤخر رأس السائق، إلى نصف الدائرة من الشعر الداكن المقصوص قصًّا قصيرًا بعناية الذي يظهر من قبعته، والشامة التي تعلو ياقة قميصه التي أزعجَتْني فلم أستطع رفع عيني عنها خلال معظم رحلتنا الصامتة.
حينئذٍ، مُصمِّمًا على أن أحمله على إعطائي أي رد، قلت له: «كنت أظنُّ أن القانون صار يمنع ذلك النوع من الاستعراضات العامة.»
«فقط على الطرق السريعة أو الأرصفة العامة يا سيدي. أتصوَّر أنهم يعتبرون أنه يحق لهم السير داخل المتنزَّه.»
سألته: «ألا تجد ذلك المشهد مريعًا؟ أعتقد أن ذلك هو السبب في حظر المتسوطين. الناس يَكرهون منظر الدم.»
«بل أجده سخيفًا يا سيدي. إن كان ثمة وجود للإله، وكان يرى أنه ضاق بنا ذرعًا، فلن يُثنيه عن رأيه بضعة همج عديمو النفع يَرتدُون الأصفر ويجولون المتنزَّه مُنتحِبين.»
«هل تؤمن به؟ هل تؤمن بوجوده؟» كنا قد توقفنا أمام باب وزارة الخارجية القديم. قبل أن يترجَّل من السيارة ليفتح لي الباب، التفت إليَّ وثبت بصره على وجهي قائلًا: «ربما فشلت تجربته فشلًا ذريعًا يا سيدي. ربما أربكته رؤية تلك الفوضى، ولا يعرف كيف يتداركها. أو ربما كان لا يريد أن يتداركها. ربما لم يعد لديه طاقة تكفي إلا لأن يتدخل تدخلًا نهائيًّا. وها قد فعل. أيًّا من كان، وكيفما كان، أتمنى أن يحترق في جحيمه.»
خرجت منه تلك الكلمات بمرارة بالغة، ثم ما لبث أن وضع قناع البرود والجمود مرة أخرى. وقَف وقفةَ تأهُّب وفتح لي باب السيارة.