الفصل الثاني عشر
كان ثيو يعرف جندي فرقة حرس الجرينادير الذي كان يُداوم الوقوف خلف الباب. قال: «صباح الخير يا سيدي.» وابتسم كما لو أنه لم يمرَّ ثلاث سنوات منذ آخر مرة رأى ثيو وأنه يدخل ليأخذ مكانه الطبيعي. تقدم جندي آخر، هذه المرة لم يكن ثيو يعرفه، وأدى التحية العسكرية. وصعدا معًا الدرجَ المزخرف.
رفض زان أن يتَّخذ من المنزل رقم عشرة بشارع داونينج مكتبًا ومسكنًا له، واختار عوضًا عنه مبنى وزارة الخارجية وشئون الكومنولث القديم المطلَّ على متنزَّه سانت جيمس. هنا كان له شقة خاصة في الطابق العلوي يعرف ثيو أنه يعيش فيها بأسلوب بسيط مريح ومُنظَّم لا يتحقَّق إلا بمُساعَدة المال وطاقم الخدمة. كانت الغرفة التي في مقدمة المبنى والتي كان يشغلها منذ خمس وعشرين سنة وزير الخارجية، قد صارت منذ البداية مكتب زان وغرفة اجتماعات المجلس.
فتح جندي الجرينادير الباب دون أن يطرقه وأعلنَ اسمه بصوتٍ عالٍ.
وجد نفسه يقف ليس أمام زان فحسب، بل أمام أعضاء المجلس كلهم. كانوا يجلسون على نفس الطاولة البيضاوية الصغيرة التي يتذكَّرها، لكن على جانب واحد فقط منها وكان بعضهم أقرب إلى بعضٍ من المعتاد. كان زان يجلس في المنتصف وتحيط به فيليشيا وهارييت، ومارتن على أقصى اليسار، وعلى يمينه كارل. وُضِع كرسي واحد شاغر في مواجهة زان مباشَرة. كانت حيلة مدبَّرة من الواضح أن الهدف منها إرباكه، ولوهلة نجحَت في ذلك. عرف أن العيون العشر التي تراقبه بتمعن لم يفتْها تردُّده التلقائي عند الباب، واحمرار وجهه ضيقًا وخجلًا. لكن صدمة المفاجأة فجَّرت غضبه، وكان الغضب نافعًا. كانوا قد أخذوا زمام المبادرة، لكن لم يكن يوجد سبب يَجعلهم يَحتفظون بها.
كان زان يضع يدَيه بخفة على الطاولة وقد قوَّس أصابعهما. رأى ثيو فيها الخاتم وصُدِم عندما ميَّزه وأدرك أن رؤيته له مقصودة؛ فهو خاتم يصعب إخفاؤه. كان زان يرتدي في وُسطَى يده اليسرى خاتم التتويج، خاتم الزواج الملكي لإنجلترا المرصَّع بياقوتة زرقاء ضخمة يُطوِّقها الألماس ويعلوها صليب من الياقوت الأحمر. نظر إليه وابتسم قائلًا: «تلك فكرة هارييت. قد يرى المرء مظهرَه مُبتذلًا ومنفِّرًا إن كان لا يعرف أنه أصلي. الناس يحتاجون لرؤية حُليِّ ملوكهم. لا تقلق، فأنا لا أنوي أن أجعل مارجريت شيفنهام تُباركني في دير وستمنستر. أشكُّ في قدرتي على إتمام المراسم بالجدية المطلوبة؛ فمظهرُها يبدو مضحكًا للغاية وهي ترتدي تاج رئيس الأساقفة. لعلك تقول في نفسك إنني فيما مضى ما كنتُ لأرتديه.»
قال ثيو: «فيما مضى ما كنتَ ستَشعُر بحاجةٍ إلى ارتدائه.» وكان بوسعه أن يضيف: «ولا الحاجة لأن تُخبرَني بأن ارتداءه كان فكرة هارييت.»
أشار زان إلى الكرسي الشاغر. جلس عليه ثيو وقال: «لقد طلبتُ مقابلة شخصية مع حاكم إنجلترا وما فهمتُه هو أن ذلك هو ما سأَحصُل عليه. فأنا لا أقدم طلبًا لشغلِ وظيفة، ولست ماثلًا أمام لجنة اختبار شفهي.»
قال زان: «لقد مضَت ثلاث سنوات منذ أن تقابلنا أو تحدَّثنا. ظنَنَّا أنك قد تود مقابلة — ماذا كنتِ لتَقُولينَ يا فيليشيا — أصدقاء، رفقاء، زملاء قدامى؟»
قالت فيليشيا: «كنتُ سأقول معارف. فأنا لم أفهَم وظيفة الدكتور فارون بالتحديد عندما كان مُستشارًا للحاكم ولم تتَّضح لي بعد غيابه الذي مرَّت عليه ثلاث سنوات.»
رفع ولفينجتون عينَيه عن رسوماته العبثية. لا بد أن المجلس منعقد منذ مدة؛ فقد انتهى بالفعل من رسم جماعة من جنود المشاة. قال: «لم تكن وظيفته واضحة قط. لكن الحاكم طلب أن يكون موجودًا وكان ذلك كافيًا لي. هو لم يُشارك بالكثير حسبما أتذكر، لكنَّه أيضًا لم يَعُق عملنا.»
ابتسم زان لكن ابتسامته لم تتَّسع لتَشمل عينيه. «كان ذلك فيما مضى. أهلًا بعودتِك. قل ما جئتَ لتقوله. نحن جميعًا أصدقاء هنا.» نطَق تلك الكلمات البريئة بنَبرة جعلتها تبدو كأنها تهديد.
لم يكن ثمةَ داعٍ للمواربة. قال ثيو: «لقد حضرت فعالية الراحة الأبَدية التي أقيمَت في ساوثولد يوم الأربعاء الماضي. وما شهدته كان قتلًا متعمدًا. المُنتحِرات نصفهن بَدَوْن مُخدَّراتٍ وأولئك اللواتي كنَّ واعيات لم يذهبن كلهن طواعية. رأيت نسوة تُجَرُّ إلى السفينة وتُصَفَّد. إحداهن ضُرِبت حتى الموت على الشاطئ. هل صِرنا نذبح مُسنِّينا كالحيوانات غير المرغوب فيها؟ أهذا الموكب الدموي هو ما يعنيه المجلس بالأمان والراحة والمتعة؟ أهذا هو الموت بكرامة؟ لقد جئتُ إلى هنا لأني ارتأيت أنكم يجب أن تعرفوا ما يحدث باسم المجلس.»
قال في نفسه: «لقد انجرفت في حماستي، وأثرت عداوتهم من قبل حتى أن أبدأ فعليًّا. لأحافظْ على هدوئي.»
قالت فيليشيا: «لقد أُسيئت إدارة فعالية راحة الموت تلك بالتحديد. خرجت الأمور عن السيطرة. لقد طلبت تقريرًا بما حدث. من المحتمل أن يكون بعض الحراس قد تجاوَزُوا حدود واجباتهم.»
قال ثيو: «أحدٌ ما تجاوز حدود واجباته. أليسَت تلك هي الذريعة التي تُستخدَم دائمًا؟ وما الحاجة إلى حراس مسلَّحين وأصفاد إن كانت تلك النسوة قد ذهبن للموت طواعية؟»
كرَّرت فيليشا تفسيرها بنَفاد صبر عجزت عن إخفائه: «لقد أُسيئت إدارة فعالية راحة الموت تلك بالتحديد. ستُتَّخذ الإجراءات الملائمة ضد المسئولين عن ذلك. سيأخذ المجلس مسألتَك بعين الاعتبار، مسألتك المنطقية والمحمودة بالتأكيد. أهذا كل شيء؟»
قال زان الذي بدا كأنه لم يسمع سؤالها: «عندما يَحين دوري سأبتلع كبسولتي المميتة وأنا مرتاح في سريري داخل بيتي وسأُفضِّل أن أفعل ذلك بمفردي. لم أفهم قطُّ المَغزى من فعاليات الراحة الأبدية، مع أنك تبدين متحمِّسة لها يا فيليشيا.»
قالت فيليشيا: «لقد بدأت عفوية. فقد قرَّر حوالي عشرين مسنًّا بعمر الثمانين في دار رعاية بسوسيكس تنظيم رحلة بالحافلة إلى إيستبورن، ثم قفَزُوا من فوق جرف بيتشي هيد، ممسكٌ بعضهم بيد بعض. ثم ما لبث الأمر أن تحوَّل إلى صرعة. بعد ذلك رأت بضعة مجالس محلية أنها يجب أن تستجيب لذلك الإقبال الواضح وتُنظِّم الأمر بطريقة لائقة؛ فالقفز من فوق جرف قد يكون طريقة موت سهلة للمُسنِّين، لكن سيتعيَّن على أحد ما أن يتولى جمع جثثهم وهي مُهمَّة بغيضة. وأعتقد أن عددًا قليلًا منهم بقيَ على قيد الحياة لفترة وجيزة. كان الأمر برمته فوضويًّا وغير مُرضٍ؛ لذا كان سحبهم إلى داخل البحر خيارًا أكثر منطقية.»
مالت هارييت إلى الأمام وقالت بصوت مُقنِع وعقلاني: «الناس يحتاجون إلى طقوس الرحيل ويُريدون أن يحظوا برفقة عندما تحين النهاية. أنت تملك القوة كي تموت وحيدًا أيها الحاكم، لكن معظم الناس يجدون سكينة في الشعور بلمسة يد إنسان.»
قال ثيو: «المرأة التي ماتت أمام عيني لم تحظَ بلمسة يد إنسان عدا لمسة يدي التي استمرَّت للحظة. كان ما حظيَت به هو ضربة كعب سلاح هشَّمت جُمجمتَها.»
تمتمَ ولفينجتون دون أن يتكبَّد عناء رفع عينيه عن رسمه: «جميعنا سنموت وحيدين. علينا أن نُقاسيَ موتنا كما قاسينا ولادتنا. كلتا التجربتَين لا يُمكن مشاركتهما.»
التفتَت هارييت ماروود إلى ثيو قائلة: «بالطبع راحة الموت أمر اختياري تمامًا. وتُتخذُ جميع الاحتياطات التي تضمَن ذلك. فيتعيَّن على المشاركين توقيع استمارة؛ من نسختين. أليس كذلك يا فيليشيا؟»
قالت فيليشيا باقتضاب فظ: «بل من ثلاث نسخ؛ نسخة للمجلس المحلي، ونسخة لأقرب أقرباء المسنِّ تُخوِّله المطالبة بدية وفاته، ونسخة يحتفظ بها المسن نفسه وتؤخَذ منه قبل أن يصعد على متن القارب. وتلك تئول إلى مكتب الإحصاء السكاني وتعداد السكان.»
قال زان: «كما ترى، فيليشيا تُبقي الأمر كله تحت السيطرة. أهذا كل شيء يا ثيو؟»
«كلا. مُستعمَرة مان العقابية. أتدرون ما يحدث هناك؟ أتدرون بعمليات القتل والتجويع والانفلات التامِّ للأمن والنظام؟!»
قال زان: «أجل، ندري. السؤال هو كيف تَعرف أنت بذلك؟»
لم يُجبه ثيو، لكنَّ وعيَه الذي صار أكثر حدَّة أدرك أن ذلك السؤال يدق ناقوس خطر جلي.
قالت فيليشيا: «أتذكر أنك كنت حاضرًا لاجتماعنا بصفتك المبهَمة عندما كنا نناقش تجهيز مستعمَرة مان العقابية. ولم تَعترض إلا لصالح السكان الذين كانوا مُقيمين بها حينها، والذين اقترحنا إعادة توطينهم في البر الرئيسي. وقد أُعيد توطينهم على نحوٍ مُريح ومواتٍ في الأماكن التي اختاروها في الدولة. ولا نتلقَّى منهم أي شكاوى.»
«افترضت أن المستعمرة ستُدار كما ينبغي، وأن الضروريات الأساسية لحياة مقبولة ستَتوفَّر بها.»
«وهي كذلك بالفعل. المأوى والمياه والحبوب لإنبات الغذاء.»
«افترضت كذلك أن المستعمرة ستخضع للحراسة وسيكون ثمة من يديرها. حتى في القرن التاسع عشر عندما كان المدانون يُرحَّلون إلى أستراليا، كان لكل مستعمرة حاكم، بعضهم كان متساهلًا والبعض الآخر كان متشددًا، لكنهم جميعًا كانوا مسئولين عن حفظ السلام والنظام داخلها. لم تُتْرك المستعمرات تحت رحمة أقوى المساجين وأعتاهم إجرامًا.»
قالت فيليشيا: «أولم يكونوا كذلك؟ تلك مسألة تقديرية. لكن الوضع هنا مختلف. أنت تعرف منطق نظام العقوبات. إن اختار الناس أن يعتدُوا على الآخرين ويسرقوهم ويُرهبوهم ويُؤذوهم ويَستغلوهم، فدعهم يعيشون مع من يُشبهونهم فكرًا. إذا كان ذلك هو المجتمع الذي يُريدونه، فلينعموا به إذن. إن كان فيهم شيء من الصلاح، فسيُنظِّمون أنفسهم على نحو معقول ويتعايشون بسلام. وإلا فسينهار مجتمعهم وتسودُه الفوضى التي لا يتورعون عن فرضها على الآخرين. الخيار متروك لهم تمامًا.»
تدخلت هارييت قائلة: «وفيما يتعلَّق بتعيين آمر أو ضباط سجون لفرض النظام، فمن أين ستأتي بأولئك الأشخاص؟ هل أتيتَ إلى هنا للتطوُّع للقيام بذلك؟ وإن لم تتطوَّع أنت فمَن سيُريد ذلك؟ لقد ضاق الناس ذرعًا بالمجرمين والإجرام. وليسوا مستعدِّين في الوقت الحالي لأن يقضوا حياتهم خائفين. لقد ولِدتَ عام ١٩٧١، أليس كذلك؟ لا بد أنك تذكر التسعينيات، حينما كانت النساء يخشين السير في شوارع مُدنهنَّ، وارتفع معدل جرائم العنف والانتهاك الجنسي، وكان المسنُّون يحبسون أنفسهم داخل شُققهم — بعضهم مات محروقًا في محبسه ذلك — وكان المشاغبون السكارى يُقلقون سلام بلداتنا؛ ولم يكن أطفالهم أقل خطورة من كبارهم، ولم تأمن من شرِّهم أيُّ ممتلكات إلا تلك التي كانت تحميها أجهزة إنذار وشبكات حماية من السرقة الباهظة الثمن. حاولنا بشتى الطرقِ شفاءَ البشر من إجرامهم، بكل أنواع ما يُسمى علاجًا نفسيًّا، وطُبِّق كل نظام في سجوننا. لم تجدِ القسوة والشدة نفعًا، ولا الرِّفق والتسامُح. منذ أوميجا والناس يقولون لنا «طفح الكيل». لم يستطع القساوسة ولا الأطباء النفسيون ولا الاختصاصيون النفسيُّون ولا علماء الجريمة إيجاد الحل. ما نضمنُه هو التحرُّر من الخوف والعوز والملل. والتحرر من الأمرَين الأخيرين لا معنى له دون التحرُّر من الخوف.»
قال زان: «لكن النظام القديم لم يكن عديم النفع تمامًا، أليس كذلك؟ فقد كان أفراد الشرطة يَتلقون رواتب جيدة. وكانت الطبقات الوسطى من المجتمع تنتفع من ورائه كثيرًا، ضباط المراقبة، والعاملون بالخدمة الاجتماعية، وحكام الصلح والقضاة وموظفو المحاكم، كانت صناعةً مُربِحة تقوم بالكامل على مخالفي القانون. وكان المُشتغلُون بمهنتكِ يا فيليشيا يتربَّحون جيدًا بممارسة مهاراتهم القانونية الباهظة التكاليف لإدانة المتهمين كي يتسنَّى لزملائهم نقض الحكم في الاستئناف. لكن في الوقت الحالي تشجيع المجرمين يُعدُّ رفاهية لا نستطيع تحمل كلفتها، حتَّى إن كانت ستُوفِّر حياة كريمة للليبراليين من الطبقة المتوسِّطة. لكني لا أظن أن مُستعمَرة مان العقابية هي آخر مشكلاتك.»
قال ثيو: «يوجد انزعاج من أسلوب التعامل مع العمال الوافدين. فنحن نستقدمهم كالرقيق ونُعاملهم معاملة العبيد. ولماذا يُوجد حصة محددة لأعدادهم؟ دعهم يأتون ويُغادِرُون كيفما أرادوا.»
كان ولفينجتون قد انتهى من رسم أول صفَّين من الخيالة الذين كانوا يختالون بزهوٍ على ورقته. رفع عينيه وقال: «أتقترح أن نفتح باب الهجرة دون قيود؟ أتذكر ما حدث في أوروبا في التسعينيات؟ لقد ضاق الناس ذرعًا بالحشود التي اجتاحت بلادنا قادمة من بلاد لا تقلُّ مواردها الطبيعية عن مواردنا، ولكنهم سمحوا لحكامهم بأن يسيئوا حكمهم لعقود طويلة بسبب جبنهم وتكاسلهم وغبائهم، وجاءوا متوقِّعين أن يستغلوا منافعنا التي اكتسبناها على مدى قرون بذكائنا وعرقنا وشجاعتنا، بينما يُشوِّهون ويُدمِّرون عرَضًا الحضارة التي كانوا يتلهفون أن يصيروا جزءًا منها.»
رأى ثيو أنهم جميعًا صاروا يتحدثون بلسان رجل واحد. وأيًّا كان من يتحدث منهم، فهو يتحدث بلسان زان. قال: «نحن لا نتحدث عن الماضي. نحن الآن لا نعاني نقصًا في الموارد، أو الوظائف أو المساكن. وسياسة تقييد الهجرة في عالم يُحتضَر ويعاني نقصًا في السكان ليست سياسة كريمة على الإطلاق.»
قال زان: «هي لم تكن يومًا كذلك؛ فالكرم فضيلة تصلح للأفراد لا الحكومات. عندما تكون الحكومات كريمة فإنها تجودُ بأموال الآخرين وأمنِهم ومستقبلهم.»
حينها تكلم كارل إنجلباتش للمرة الأولى. كان يجلس جلسته التي اعتاد ثيو أن يراه عليها؛ إذ كان يميل إلى الأمام قليلًا في كرسيه، وقد أحكم قبضتَيه وأراحهما على الطاولة، إحداهما بمحاذاة الأخرى تمامًا ووجههما إلى الأسفل وكأنما يُخبِّئ داخلهما شيئًا قيمًا لكن ينبغي أن يعرف المجلس بامتلاكه له، أو ربما كما لو كان على وشك أن يلعب لعبة طفولية فيَفتح إحدى قبضتيه ثم الأخرى ليكشف عن عملة معدنية نقلها من يد إلى أخرى. كان يبدو كنسخة دمثة من لينين — والأرجح أنه ملَّ سماع ذلك — برأسه المدبَّب الأملس وعينيه السوداوين النبيهتين. كان يكره قيد ربطات العنق وأزرار الياقات، وعزَّز ذلك الشبه حُلَّته المصنوعة من الكتان ذات اللون البُني المصفر التي كان يرتديها دائمًا، والتي كانت متقنة الصنع ولها ياقة عالية وأزرار على الكتف اليسرى. لكنه اليوم كان يبدو مختلفًا للغاية. رأى ثيو منذ أن وقعت عيناه عليه أنه مريض بمرض مميت، بل ربما كان يقف على أعتاب الموت. كانت رأسه مجرد جمجمة يعلوها غشاء من الجلد مشدود بإحكام على عظامه الناتئة، ورقبتِه الهزيلة تَبرُز من ياقة قميصه مثل رقبة السلحفاة، وكان جلده المبقع مصابًا باليرقان. لكن تلك النظرة لم تكن غريبة عن ثيو. وحدهما عيناه لم تتغيَّرا، كانتا متقدتَين من محجريهما كنقطتي ضوء صغيرتَين. لكن عندما تحدث كان صوته قويًّا كعادته. بدا كأن ما تبقَّى من قواه كان مُركزًا في عقله وصوته الشجي والرنان الذي يُعبِّر به عما يدور في خلده.
«أنت رجل تاريخ. وتعرف أي شرور ارتُكِبَت على مرِّ العصور لضمان استمرارية شعوب وطوائف وأديان بل حتى عائلات مُنفرِدة. أيًّا كان ما يفعل الإنسان من خير أو شر فإنه يفعله وهو يدرك أن التاريخ هو ما جاء به، وأن حياته هو قصيرة وغير مضمونة وواهية، لكن سيكون دائمًا مستقبلًا لأمته أو لعرقه أو لقبيلته. هذا الأمل زال أخيرًا إلا من أذهان الحمقى والمتطرِّفين. سيهلك الإنسان إن عاش دون أن يعرف ماضيَه؛ وسيتحوَّل إلى وحشٍ إن لم يكن لديه أمل في مستقبل ما. نرى انعدام ذلك الأمل في كل دول العالم، نرى نهاية العلوم والابتكارات، باستثناء الاكتشافات التي قد تُطيل عمر الإنسان أو تزيد راحته ومتعته، نرى نهاية اهتمامنا بالعالم المادي وبكوكبنا. فما أهمية ما سنُخلِّفه وراءنا من إرث عن تلك الفترة القصيرة التدميرية التي قضيناها هنا؟ الهجرات الجماعية، والاضطرابات الداخلية الكبيرة، والحروب الدينية والقبلية التي شُنَّت في التسعينيات مهدت الطريق لانعدام القيم الأخلاقية على مُستوى العالم، فترك الناس البذر وحصْد المحاصيل، وأهملوا الحيوانات، وانتشرت المجاعات والحروب الأهلية، ونهب القوي الضعيف. نرى ارتداد الناس للأساطير والخرافات القديمة، بل حتى للتضحية بالبشر قرابينَ، وهو ما يحدث أحيانًا على نطاق هائل. من يقف وراء منع تلك الكارثة العالَمية من أن تنال هذا البلد بدرجة كبيرة هم الخمسة الأشخاص الجالسون على تلك الطاولة. وبالأخص حاكم إنجلترا؛ فلدينا نظام يمتد من هذا المجلس وحتى المجالس المحلية، وهو يحتفظ بآثار من الديموقراطية لأولئك الذين لا يَزالون يَكترثُون لها. لدينا إدارة بشرية للعمالة لا تزال تُولي بعضًا من العناية للرغبات والمواهب الفردية، وتضمن أن يستمر الناس في العمل حتى إن كانوا لن يتركوا وراءهم ذريةً تَرِث ثمار مجهوداتهم. حتى مع وجود رغبة ملحَّة في الإنفاق، والتملُّك، وإشباع الرغبات الآنية، ما زلنا نملك اقتصادًا قويًّا ومعدَّلَ تضخُّمٍ مُنخفضًا. لدينا خطط ستضمن أن يتوفر لدى آخر جيل، يملك من الحظ ما يكفي لأن يسكن في ذلك النُّزُل المتعدد الأعراق الذي نسميه بريطانيا، مخزونًا من الغذاء والأدوية الضرورية والإضاءة والمياه والطاقة. مقابل تلك الإنجازات، هل يكترث الشعب كثيرًا بكون بعض العمال الوافدين غير راضين عن أوضاعهم، أو أن بعض المسنِّين يختارون الموت في جماعة، أو أن السلام لا يسود داخل مستعمَرة مان العقابية؟»
قالت هارييت: «ألم تنأ بنفسك عن تلك القرارات؟ ليس من الشرف أن تتخلَّى عن المسئولية ثم تأتي لتتذمَّر عندما لا تعجبك نتيجة مجهودات غيرك. أنت من اخترت الاستقالة، أتذكُر؟ على أي حال أنتم علماء التاريخ تحبون أن تحيوا في الماضي؛ لذا لِمَ لا تبقون هناك؟»
قالت فيليشيا: «الرجوع إلى الوراء هو ما يألفه بالتأكيد. حتى عندما قتل ابنته، كان يرجع إلى الوراء.» أعقب ذلك التعليق فترة قصيرة من الصمت المتوتر استطاع ثيو أن يكسره قائلًا: «أنا لا أنكر إنجازاتكم، لكن هل حقًّا سيضير إجراء بعض الإصلاحات بالنظام المُستتِب، والراحة والأمان، تلك الأمور التي تُوفِّرونها للناس؟ أوقفوا فعاليات راحة الموت. إن أراد الناس قتْلَ أنفسهم — وأتفق على أن تلك طريقة منطقية لإنهاء الحياة — فأرسلُوا لهم حبوب الانتحار اللازمة، لكن دون إقناع أو إرغام جماعي. أرسلوا قوةً إلى مستعمرة مان العقابية وأعيدوا إليها بعض النظام. أوقفُوا اختبارات الحيوانات المنوية الإجبارية، والفحوص الدورية للسيدات المتمتعات بصحة جيدة؛ فهي مُهينة ولا جدوى منها على أي حال. أَغلِقُوا المحالَّ الإباحية الحكومية. عاملوا العُمال الوافدين معاملة البشر لا العبيد. بإمكانكم أن تفعلوا كل تلك الأمور بسهولة. بإمكان الحاكم أن يجعلَها تتحقَّق بتوقيع واحد منه. هذا كل ما أطلبه منكم.»
قال زان: «وما تطلبه كثير في نظر المجلس. كنا لنُعطيَ وزنًا أكبر لمطالبك لو كنت جالسًا على جانبنا من الطاولة، وقد كان بإمكانك أن تختار ذلك. لكن موقعك الآن لا يختلف عن سائر أفراد الشعب البريطاني. أنت تريد تحقيق الغاية لكنك تغضُّ الطرف عن الوسيلة. تريد للحديقة أن تكون غَنَّاء دون أن تطول رائحةُ السماد إلى أنفك المُتأفِّف.»
هبَّ زان واقفًا وحذا حذوَه باقي أعضاء المجلس واحدًا تلو الآخر. لكنه لم يمدَّ يده للمصافحة. أدرك ثيو أن جنديَّ الجرينادير الذي اصطحبه إلى الداخل قد تحرَّكَ بهدوء ليقف بجواره وكأنما استجاب لإشارة خفية ما. وتوقع أن يشعر بيد تُمسك بكتفه. دون أن يَنطِق بكلمة استدار وتبعه خارج غرفة المجلس.