الفصل السابع عشر
اليوم زارني رجلان من رجال شرطة الأمن الوطني. كوني استطعت كتابة تلك الكلمات يعني أنني لم أُعتقَل وأنهم لم يجدوا دفتر اليوميات. أعترف أنهم لم يبحثُوا عنه، بل لم يبحثوا عن أي شيء. يعلم الرب أن دفتر اليوميات يُجرِّمُني كفاية في عين من يبحث عن النواقص الأخلاقية والعيوب الشخصية، لكنَّهم كانوا يبحثون عن جرائم أكثر مادية. كما ذكرت، كانا اثنين؛ شابًّا، من الواضح أنه من الأوميجيين — كم هو غريب أن المرء يستطيع أن يُميِّزهم دائمًا — وضابطًا كبيرًا، يصغرني بقليل، وكان يحمل معطف مطر وحقيبة أوراق جلدية سوداء. قدم نفسه على أنه مفتِّش أول جورج رولينجز وعرف رفيقه بأنه النقيب أوليفر كاثكارت. كان كاثكارت عابسًا، أنيقًا، ذا تعبيرات جامدة، كسائر الأوميجيين. أما رولينجز فكان ممتلئًا، وأخرق في حركاته بعض الشيء، وكان له شعر كثيف أشيب مصفف بعناية، وكأنما عمد إلى قصه لدى حلَّاق باهظ الثمن ليبرز تموجاته المعقوصة على جانبَي رأسه وفي خلفها. كانت ملامح وجهه غليظة وعيناه ضيقتان غائرتان لدرجة أن حدقتَيهما كانتا غير ظاهرتَين، وكان له فم واسع وشفة علوية مدببة كالسهم، وبارزة كمنقار. كان كلاهما يرتدي ملابس مدنية، وكانت بذلتاهما مُتقنتَي الصنع للغاية. في ظروف أخرى، كان من الممكن أن أشعر برغبة في سؤالهما إذا كانا يقصدان الخيَّاط نفسه.
كانت الساعة الحادية عشرة عندما وصَلا. أدخلتهما إلى غرفة الجلوس بالطابق الأرضي وسألتهما إذا ما كانا يودان شرب القهوة. أجابا بالنفي. عندما عرضت عليهما الجلوس، جلس رولينجز مسترخيًا في مقعد بالقرب من المدفأة، بينما جلس كاثكارت بعد لحظة من التردُّد قبالته بتكلف فاردًا ظهره. جلست أنا في الكرسي الدوَّار أمام المكتب ودرت به لأواجههما.
قال رولينجز: «إحدى بنات أختي، وهي أصغر بناتها، فاتَها أوميجا بعام واحد فحسب، حضرت سلسلتك القصيرة من الندوات حول «الحياة الفيكتورية والعصر الفيكتوري». ليست امرأةً فائقة الذكاء، وعلى الأرجح لن تتذكَّرها. لكنَّك قد تتذكرها. اسمها ماريون هوبكروفت. أخبرتني أن عدد الحاضرين كان قليلًا، وظل يقل كل أسبوع. الناس يفتقرون إلى القدرة على المواظَبة. فهم يُقبلون على الأمور التي يتحمَّسون لها، لكن سرعان ما تخور عزيمتهم، خصوصًا إن لم يُستثَر اهتمامهم باستمرار.»
في بضع عبارات، كان قد جعل مجموعة المحاضرات تبدو سلسلة من الندوات المملة يحضرها عدد متضائل من الطلاب العديمي الذكاء. لم تكن تلك الحيلة ماكرة لكني أشك في أنه يقصد استخدام المكر. قلت: «يبدو الاسم مألوفًا لكني لا أذكرها.»
««الحياة الفيكتورية والعصر الفيكتوري». اعتقدت أن كلمة «العصر الفيكتوري» زائدة. لمَ ليسَ «الحياة الفيكتورية» فحسب؟ أو كان من الممكن أن تسميها «الحياة في إنجلترا الفيكتورية».»
«لم أختر عنوان الدورة الدراسية.»
«حقًّا؟ هذا غريب. كنت أفترض أنك فعلت. أعتقد أنك يجب أن تُصِر على اختيار عنوان سلسلة ندواتك.»
لم أَردَّ. لم يُساورني أي شك في أنه يعرف جيدًا أني توليت تلك الدورة الدراسية نيابة عن كولين سيبروك، لكن إن كان لا يعرف، فلا أنوي إيضاح ذلك له.
بعد برهة من الصمت لم يَبدُ أنها أشعرته بالحرج هو أو كاثكارت، تابع قائلًا: «أعتقد أني قد أحضر إحدى دورات البالغين تلك. لكن في التاريخ لا في الأدب. لكنِّي لن أختار دورة حول العهد الفيكتوري في إنجلترا. بل أفضل أن أعود للوراء أكثر، لعهد أسرة تيودور. طالَما كانت تلك الأسرة تبهرني، وبخاصة إليزابيث الأولى.»
قلت: «ما الذي يَجذبك إلى تلك الحقبة؟ العنف والمجد، وعظمة إنجازاتهم، والشِّعر المشوب بالعنف، وتلك الوجوه الماكرة الحاذقة التي تعلو الياقات المنتفشة، والمحكمة المهيبة التي كانت تقوم على استخدام آلات التعذيب الوحشية؟»
بدا أنه يفكر في السؤال للحظة، ثم قال: «لا أظن أن عصر تيودور كانت تميزه وحشية تفوق المعتاد يا دكتور فارون. كان الناس يموتون في أعمار صغيرة في تلك الأيام، وأظنُّ أن معظمهم كان يموت متألِّمًا. كل عصر وله جوانبه الوحشية. وإذا نظرنا إلى الألم، فالموت بسبب السرطان دون أي أدوية، الذي طالَما اختبره البشر على مر العصور، كان أبشع من أي آلات تعذيبٍ كان بإمكان أسرة تيودور ابتكارها. خصوصًا في حالة الأطفال، ألا تعتقد ذلك؟ من الصعب أن ترى الغاية من ذلك، أليس كذلك؟ أعني من اختبار الأطفال للعذاب.»
قلت: «ربما لا ينبغي أن نفترض أن للطبيعة غاية من أفعالها.»
تابع حديثه وكأنما لم أتكلم: «جدي — الذي كان أحد أولئك الواعظين الذين يُنذرون بعذاب الجحيم — كان يعتقد أن كل شيء له غاية، حتى الألم. وُلِد جدِّي في الزمان الخاطئ، كان سيغدو أسعد في القرن التاسع عشر. أذكر أني عندما كنت في التاسعة انتابني ألم أسنانٍ شديد بسبب خُرَّاج. لم أُخبر به أحدًا خشية الذهاب إلى طبيب الأسنان، لكني استيقظتُ ذات ليلة وأنا أشعر بألم مبرح. قالت أمي إنها ستأخُذُني إلى العيادة فور أن تُفتَح، لكني ظللت مستلقيًا حتى الصباح يُنازعني الألم. أتى جدِّي ليطمئن عليَّ. وقال لي: «بوسعنا أن نفعل شيئًا لتخفيف آلام الدنيا البسيطة، لكن ليس بوسعنا تخفيف آلام الآخرة الأبدية. تذكَّر ذلك يا فتى.» كان حتمًا موفَّقًا في اختيار الوقت المناسب لقول ذلك. ألم أسنانٍ أبدي. كانت تلك فكرة مُرعِبة لطفل في التاسعة من عمره.»
قلت: «أو حتَّى لشخص بالغ.»
«لقد تركنا وراءنا ذلك الاعتقاد، عدا روجر الراعد. فهو لا يزال له أتباع.» صمت لبرهة كأنما يُمعن التفكير في عظات روجر الراعد المفعَمة بالتقريع، ثم تابع قائلًا دون أن تتغيَّر نبرة صوته: «المجلس منزعج، أو ربما قلق هي الكلمة الأنسب، من نشاطات جماعة من الناس.»
ربما كان يَنتظر منِّي أن أسأله: «أي نشاطات؟ أي ناس؟» لكني قلت: «يجب أن أغادر بعد أكثر من نصف ساعة بقليل. إن كان زميلك يريد تفتيش المنزل، فبإمكانه أن يبدأ بذلك الآن بينما نتحدث. يوجد بضعة أغراض ذات قيمة خاصة لديَّ، معالق غرف الشاي الموضوعة في خزانة العرض الجورجية، وقطع ستافورد شاير الفيكتورية التذكارية في غرفة الاستقبال، والإصدارات الأولى من بضعة كتب. عادةً أتوقع أن أكون حاضرًا أثناء عملية التفتيش لكنِّي أثق تمام الثقة في نزاهة شرطة الأمن الوطني.»
قلت تلك الكلمات الأخيرة وأنا أنظر مباشَرة إلى عيني كاثكارت. فلم تطرفا حتى.
قال رولينجز بصوت يحمل نبرة عتاب خفيفة: «لم نأتِ على ذكر التفتيش يا دكتور فارون. لماذا تفترض الآن أننا نُريد تفتيش منزلك؟ وما الذي سنفتش عنه؟ أنت لستَ شخصًا يسعى لنشر الفتنة يا سيدي. لا، هذا مجرَّد حديث، أو سمِّه استشارة إن شئت. كما ذكرت لك، تحدث أمور تُثير قلق المجلس قليلًا. ما أُخبرك به بالطبع هو سرٌّ بيننا. هذه الأمور لم تُذَع علانية في الصُّحُف أو عبر الراديو أو التلفاز.»
قلت: «هذا تصرُّف حكيم من قِبَل المجلس. فمُثيرو القلاقل، على افتراض أنهم صاروا في قبضتكم، يعتمدون على الضجة الإعلامية. فلماذا إذن نمنحهم إياها؟»
«بالضبط. لقد استغرقت الحكومات وقتًا طويلًا كي تُدرك أنها ليست بحاجة للتلاعب بالأخبار غير السارة. كل ما عليها فعله هو ألا تُذيعها.»
«وما الذي لا تُذيعونه؟»
«حوادث صغيرة، غير مهمة في ذاتها، لكنها ربما تكون دليلًا على مؤامرة تُحاك. أعيقت فعاليتي راحة الموت الأخيرتَين. فقد فُجِّرَت منصات الصعود صباح اليوم الذي كان من المفترض إقامة المراسم فيه، قبل نصف ساعة فقط من موعد وصول الضحايا الافتدائيِّين — أو ربما «ضحايا» ليست الكلمة المناسبة، لنُسمِّهم الشهداء الافتدائيين.»
صمت لحظةً ثم أضاف قائلًا: «لكن ربما كلمة «شهداء» فيها مبالغة. لنقل قبل موعد وصول المُنتحِرين المرتقِبين. وقد تسبب لهم ذلك بانزعاج شديد. نفذ الإرهابي أو الإرهابية ذلك الهجوم في آخر لحظة. لو كان تأخَّر ثلاثون دقيقة، كان المسنُّون سيلقَون حتفهم بطريقة أكثر بشاعة مما كان مخططًا له. وردت مكالمة هاتفية تحذيرية — بصوت ذكَرٍ شاب — لكنها جاءت متأخِّرة جدًّا فلم يسعنا إلا إبعاد الحشد عن موقع الحدث.»
قلت: «يا له من إزعاجٍ مُثير للحنق. لقد حضرت إحدى فعاليات راحة الموت منذ حوالي شهر. كانت المنصة التي أبحرت منها السفينة حسبما أظن قد نُصِبت بسرعة نوعًا ما. لا أفترض أن ذلك الفعل الإجرامي التخريبي قد أخَّر الفعالية لأكثر من يوم واحد.»
«كما ذكرتُ يا دكتور فارون، هو مجرَّد إزعاج بسيط، لكن ربما يكون له دلالة. لقد زاد عدد تلك الإزعاجات البسيطة مؤخرًا. وثمة أمر آخر أيضًا وهو المنشورات. بعضها يُركِّز على معاملة العمال الوافدين. اضطُررنا للجوء إلى القوة لترحيل آخر مجموعة من العُمال الوافدين التي تضمُّ أولئك الذين بلغوا الستين أو أقعدهم المرض. وأدى ذلك لوقوع مشاهد مؤسفة عند رصيف الميناء. أنا لا أجزم أن ثمة صلة بين تلك الحادثة وبين المنشورات التي تُوزَّع، لكن الأمر قد يكون أكثر من مجرد صدفة بحتة. توزيع منشورات ذات محتوى سياسي بين العمال الوافدين أمر غير قانوني، لكنَّنا نعلم أن تلك المنشورات التحريضية تُوزَّع داخل المخيَّمات. كما وُزِّعَت منشورات أخرى على المنازل تتذمَّر من معاملة العمال الوافدين بصفة عامة، ومن الأوضاع على جزيرة مان، واختبارات الحيوانات المنوية الإلزامية والأمور التي من الواضح أن أولئك المتمرِّدين يرونها تمثل خللًا في العملية الديموقراطية. في منشور حديث أدرجوا جميع تلك الأمور التي تُثير سخطهم في قائمة مطالب. ربما تكون قد رأيته.»
مد يده وتناول حقيبة الأوراق الجلدية السوداء، وضعها في حُجْره ثم فتحها. كان يلعب دور الزائر العابر الودود، غير الواثِق تمامًا من سبب زيارته، وكنت أتوقع نوعًا ما أن يتظاهر بالبحث ضمن أوراقه قبل أن يعثر على الورقة التي ينشدها. لكنه فاجأني عندما أمسك بها على الفور.
مرَّرَها لي وقال: «هل رأيتَ أحد تلك المنشورات من قبلُ يا سيدي؟»
نظرت إليها سريعًا وقلت: «أجل، رأيتها. دُفِع بإحداها تحت عَقِب باب منزلي منذ بضعة أسابيع.» لم يكن ثمة داعٍ للإنكار. فبكل تأكيد تعلم شرطة الأمن الوطني أن المنشورات وُزِّعَت على المنازل في شارع سانت جون، فلماذا سيكونُ منزلي استثناءً؟ أعدتها إليه بعد أن أعدتُ قراءتها.
«هل تلقَّى أي أحد آخر من معارفك واحدًا منها؟»
«على حد علمي لا. لكني أتصوَّر أنها وُزِّعت حتمًا على نطاق واسع. لم أهتم كثيرًا بسؤال أحد عنها.»
تفحَّصها رولينجز بنظره وكأنما يراها لأول مرة. ثم قال: ««السمكات الخمس». اسم حاذق لكن ليس ذكيًّا. أفترض أننا نبحث عن جماعة صغيرة من خمسة أشخاص. خمسة أصدقاء، أو خمسة أفراد من عائلة واحدة، أو خمسة زملاء عمل، أو خمسة متآمِرين. ربما استوحوا تلك الفكرة من مجلس إنجلترا. ألا تتَّفق معي يا سيدي أن ذلك عدد مفيد؟ فهو يضمن وجود أغلبية دائمًا في أي مناقشة.» لم أردَّ، فتابع قائلًا: ««السمكات الخمس». أتصور أن لكل منهم اسم حركي ربما يكون مستمدًّا من أول حرف من اسمه الأول؛ بحيث يسهل على الكل تذكُّره. مع أن حرف الألف سيكون صعبًا. فأنا لا يحضُرني الآن اسم سمكة يبدأ بحرف الألف. ربما لا يبدأ اسم أي منهم بحرف الألف. لديهم البلطي يبدأ بحرف الباء، والتونة بحرف التاء، والثاء ليس صعبًا؛ فهناك سمك الثعبان. الجريث سيكون ملائمًا لحرف الجيم. أما الحاء فقد يُمثِّل صعوبة. لكن ربما أكون مخطئًا، فأنا أحسب أنهم لم يكونوا ليختاروا اسم «السمكات الخمس» إن لم يكن بإمكانهم أن يجدوا أسماء سمكات يتماشى مع اسم كل عضو من أعضاء العصابة. ما رأيك في ذلك يا سيدي؟ أقصد عملية الاستدلال المنطقي تلك.»
قلت: «أراها عبقرية. من المشوق رؤية منهجيات تفكير شرطة الأمن الوطني وهي تُطبق على أرض الواقع. فهذه فرصة لم تتسنَّ إلا لقلة من المواطنين، على الأقل قلة من المواطنين المتمتِّعين بحريتهم.»
بدا وكأنه لم يسمع ما قلت. تابع تفحُّص المنشور بنظره، ثم قال: «هذه سمكة. وهي مرسومة بإتقان. لم يرسمها فنان مُحترِف حسبما أظن، بل رسمها شخص لديه حسُّ تصميمٍ جيد؛ فالسمكة رمز مسيحي. أتساءل إن كان من الممكن أن تكون تلك الجماعة جماعة دينية مسيحية.» ثم رفع بصره إليَّ وقال: «إذن أنت تعترف أنه كان بحوزتك إحدى تلك المنشورات يا سيدي لكنك لم تتَّخذ أي إجراء بخصوص ذلك؟ ألم تشعر أن من واجبك الإبلاغ عن الأمر؟»
«عاملت المنشور كما أعامل جميع رسائل البريد غير المهمَّة وغير المرغوب فيها.» حينها شعرت أن الوقت قد حان كي أُبادر أنا بالهجوم، فقلت: «عذرًا أيها المفتش الأول، لكني لا أفهم ما الذي يثير قلق المجلس بالضبط. لا يخلو أي مجتمع من الناقمين. ومن الواضح أن تلك الجماعة بالتحديد لم تتسبَّب في أذًى كبير عدا تفجير بضع منصات ركوب مؤقَّتة ضعيفة وتوزيع منشورات تتضمَّن نقدًا غير مُتمعَّن للحكومة.»
«قد يصف البعض تلك المنشورات بأنها موادُّ تحريضية يا سيدي.»
«سمِّها ما شئت، لكنك بالكاد تستطيع رفع ذلك الأمر لمرتبة المؤامرة الضخمة. بكل تأكيد لن تحشد شرطة الأمن الوطني فرقها لأنَّ بضعة ناقمين يشعرون بالملل يُفضِّلُون تسلية أنفسهم بممارسة لعبة أخطر من الجولف. فما الذي يُثير قلق المجلس بالضبط؟ إن كان يوجد جماعة منشقَّة بالفعل، فستكون أعمار أعضائها صغيرة إلى حدٍّ ما، أو على الأقل سيكونون في منتصف عمرهم. لكن الزمن سيُدركهم كما سيدركنا جميعًا. هل نسيت الأرقام؟ لا ينفكُّ مجلس إنجلترا يُذكِّرُنا بها. فقد انخفض تعداد السكان من ثمانية وخمسين مليونًا عام ١٩٩٦ إلى ستة وثلاثين مليونًا هذا العام، منهم ٢٠ بالمائة أعمارهم فوق السبعين. جنسنا في طريقه إلى الفناء أيها المفتش الأول. النُّضج والهرم يُطفئ أي حماسة، حتى حماسة المؤامرة المغوية. لا يوجد أي معارضة حقيقية لحاكم إنجلترا. وتلك هي الحال منذ أن تولى السلطة.»
«من واجبنا يا سيدي أن نتأكد من ذلك.»
«بالطبع ستفعل ما تراه ضروريًّا. لكني سآخذ ذلك على محمل الجد فقط إن كنتُ أعتقد أنه جدي بالفعل؛ كأن يكون معارضة منبثقة ربما من داخل المجلس نفسه لسلطة الحاكم.»
كانَ تلفظي بتلك الكلمات مخاطرة محسوبة وربما حتى خطيرة، لكني رأيت أنها أربكته. وكان ذلك هو مقصدي.
بعد لحظة من الصمت العفوي، الذي لم يكن محسوبًا، قال: «إن كان يوجد أي شك في ذلك، فلن يكون الأمر بيدي يا سيدي. سيتُعامَل معه على مستوى أعلى كليًّا.»
قلت وأنا أنهض واقفًا: «حاكم إنجلترا هو ابن خالتي وصديقي. عاملَني بلطف في طفولتي، حينما كان للطفِ أهمية كبيرة. لم أعُد مستشاره في المجلس لكن هذا لا يعني أني لم أَعُد ابن خالته وصديقه. لو كنت أملك دليلًا على مؤامرة تحاك ضده، فسأخبره هو شخصيًّا. لن أخبركَ أنت أيها المفتش الأول، ولن أتواصلَ مع شرطة الأمن الوطني. بل سأُخبِرُ الشخص المعني، سأخبر حاكم إنجلترا.»
كانت تلك تمثيلية بالطبع وكلانا كان يُدرك ذلك. لم نتصافح أو نتكلم بينما رافقتهما للباب، لكن هذا ليس لأني كسبتُ عدوًّا. فرولينجز لم يسمح لنفسه بالانغماس في عداوات شخصية مثلما لن يسمح لنفسه بالشعور بالتعاطف، أو لمشاعره بأن تتحرَّك بالإعجاب أو الشفقة تجاه ضحاياه الذين يزورهم ويستجوبهم. ظننت أني أفهم طبيعة هذه الفئة؛ الموظفين البيروقراطيين التابعين لحكومات الاستبداد، الرجال الذين يتلذَّذون بالمقدار الضئيل المحسوب بعناية من السلطة الممنوحة لهم، والذين يحتاجون لأن يسيروا وحولهم هالة من الخوف المصطنع، ولأن يشعروا بأن الخوف يسبقهم إلى أيِّ غرفة يدخلونها ويظلُّ ماكثًا فيها مثل رائحة كريهة بعد أن يغادروها، لكنهم لا يملكون السادية ولا الشجاعة اللازمة للوصول لأقصى درجات الوحشية. مع ذلك يحتاجون إلى دورهم في الأحداث. لا يكفيهم أن يقفوا ليُراقبوا المشهد من بعيد مثل أغلبنا.