الفصل الخامس والعشرون
اختار ثيو ورولف النوم على الأرض بينما اختار الثلاثة الآخَرُون النوم في السيارة؛ فاحتلَّ لوك المقعد الأمامي وتكوَّرت المرأتان في المقعد الخلفي. جرف ثيو أكوامًا صغيرة من أوراق شجر الزان وفرش فوقها معطَف مطر جاسبر وتغطَّى ببطانية وبمعطفه. كان آخر ما وعاه هو الأصوات البعيدة للمرأتَين بينما كانتا تتحضَّران للنوم، وصوت تكسر الغُصينات تحته بينما كان يتململ ويَغُوص أكثر في فراشه الذي صنعه من أوراق الشجر. قبل أن يَستغرق في النوم، كانت الرياح قد بدأت تشتد، ليس لدرجة كافية لإهاجة أغصان الزان المُنخفِضة فوق رأسه، لكنها كانت تثير أصواتًا بعيدة وكأنما كانت الحياة تدبُّ في الغابة.
في الصباح التالي فتح عينيه فرأى أشعة الضوء الخافت تتخلَّل أوراق شجر الزان البرونزية والمصفرة. وشعر بخشونة الأرض من تحته، وأتته الرائحة النفَّاذة التي تبعث على الراحة للتربة وأوراق الشجر. جاهد ليَنهض من تحت ثقل البطانية والمعطف اللذين كانا يُغطيانه، وتمدد، فشعر بألم في كتفيه وفي أسفل ظهره. أدهشه أن نام نومًا عميقًا فوق ذلك الفراش الذي كان في البداية غضًّا للغاية، لكنه ما لبث أن انضغط بفعل وزنه فصار كاللوح الخشبي.
بدا أنه كان آخر من استيقظ؛ فقد كانت أبواب السيارة مفتوحة ومقاعدها خاوية. كان شاي الصباح مُعدًّا. وعلى الجانب المستوي من جذع شجرة مقطوع ارتصَّت خمسة أكواب من مجموعة أكواب جاسبر المطبوع عليها شعارات التتويج، وإبريق شاي معدني. بدت الأكواب الملونة مبهجة للغاية.
قال رولف: «تفضل.»
كانت ميريام تُمسك بوسادتين وتنفضهما بقوة، ثم أعادتهما إلى السيارة حيث كان رولف قد شرع بالفعل في إصلاح الإطار. شرب ثيو الشاي، ثم مضى ليساعده، فعملا معًا بكفاءة وتآلف. كانت يدا رولف الكبيرة ذات الأصابع المربعة ماهرتين للغاية. استطاعا معًا فك البراغي التي استعصى عليهما فكها من قبل، ربما لأن كليهما نال قسطًا من الراحة فخف قلقه ولم يَعُد ضوء الكشاف هو مصدرَ الضوء الوحيد الذي يعتمدان عليه.
سأل ثيو وقد اغترف حفنة من أوراق الشجر ليَمسح يده بها: «أين جوليان ولوك؟»
كان رولف هو من أجاب: «يَتلُوان صلواتهما. فهما يفعلان ذلك كل يوم. سنفطر عندما يعودان. لقد جعلت لوك مسئولًا عن حصص الطعام. علَّه يفعل شيئًا أنفع من تلاوة الصلوات مع زوجتي.»
«لماذا لم يُصلِّيا هنا؟ يجب ألا نفترق.»
«لم يبتعدا كثيرًا. لكنها يُحبان أن يَحظيا بالخصوصية. على كل حال، ليس بيدي أن أمنعهما؛ فجوليان تحب ذلك، وميريام تقول إنني يجب أن أحرص على أن تظل هادئة وسعيدة. وظاهر الأمر أن الصلاة تجعلها هادئة وسعيدة. إنها تمثل لهما نوعًا من الطقوس. ولا ضرر منها. لماذا لا تنضمُّ لهما إن كنت قلقًا؟»
قال ثيو: «لا أظن أنهما سيرحبان بي.»
«لا أعرف، ربما يفعلان. وقد يُحاولان حتى دعوتك لاعتناق المسيحية. هل أنت مسيحي؟»
«كلا، لست مسيحيًّا.»
«بماذا تؤمن إذن؟»
«أومن بشأن ماذا؟»
«بشأن تلك الأمور التي يعتبرها المتدينون مهمة. هل يوجد إله؟ كيف تفسر وجود الشر؟ ماذا يحدث لنا بعد الموت؟ لماذا خُلقنا؟ كيف ينبغي أن نعيش حياتنا؟»
قال ثيو: «السؤال الأخير هو الأهم، بل هو السؤال الوحيد الذي يهم حقًّا. لا يلزم أن تكون متدينًا كي تعتقد ذلك. ولا يلزم أن تكون مسيحيًّا كي تجد إجابة عليه.»
التفت رولف إليه وسأله، وكأنما يهمه حقًّا أن يعرف: «لكن بماذا تؤمن؟ ولا أعني الدين فحسب. ما الذي تؤمن به يقينًا؟»
«إنني يومًا كنت عدمًا لكني موجود الآن. ويومًا ما سأصير عدمًا.»
ضحك رولف ضحكة مُقتضَبة حادَّة تشبه الصيحة. «هذا يصعب دحضه. لا يستطيع أحد أن يجادلك في ذلك. وبماذا يؤمن حاكم إنجلترا؟»
«لا أدري. لم نُناقش هذا الأمر قطُّ.»
جاءت ميريام وجلست مسندة ظهرها إلى جذع شجرة، ومددت ساقَيها، وأغمضت عينيها، ورفعت رأسها للأعلى وابتسَمت بلطف للسماء، تستمع إلينا دون أن تتكلم.
قال رولف: «كنتُ أومن بالرب وبالشيطان، ولكنِّي فقدت إيماني ذات صباح عندما كنت في الثانية عشرة من عمري. استيقظتُ ذات يوم فوجدتُ أني لم أعد أومن بأيٍّ من الأمور التي لقَّنني إياها الإخوان المسيحيون. كنتُ أحسب أنني سأخشى أن أتابع حياتي إن حدث ذلك، لكنه لم يُمثِّل أي فرق. يومًا ما نمت مؤمنًا، ثم استيقظتُ في الصباح التالي فلم أجد في قلبي إيمانًا. لم يسعني حتى أن أتأسَّف للرب، فهو لم يَعُد موجودًا. ومع ذلك، لم أكترث. ومنذ ذلك الحين، وأنا لا أكترث.»
قالت ميريام دون أن تفتح عينيها: «وماذا أحللت مكانه بعد أن صار شاغرًا.»
«لم يَعُد له مكان حتى يصبح شاغرًا. هذا ما أعنيه.»
«ماذا عن الشيطان؟»
«أومن بحاكم إنجلترا؛ فهو حقيقي، وكفى به شيطانًا.»
ابتعد ثيو عنهما وسار في الممرِّ الضيق بين الأشجار. كان غياب جوليان لا يزال يُضايقه ويُغضبه. يجب أن تُدرك أنهم يجب ألا يَفترقوا، ويجب أن تدرك أن شخصًا ما، ربما عابر سبيل أو حطاب أو عامل في ضيعة، قد يَسلك ذلك المسار ويراهم؛ فليس رجال شرطة الأمن الوطني والحرس الملَكي وحدهم الذين كانوا يُشكلون خطرًا عليهم. كان يعرف أنه يغذي ضيقه بتلك المخاوف غير المنطقية. فمن الذي سيباغتهم في ذلك المكان المهجور وفي تلك الساعة؟ تراكَمَ الغضب بداخله لدرجة مخيفة.
ثم رآهما. كانا جاثيَين على ركبتَيهما فوق رقعة صغيرة تغطيها الطحالب على بعد خمسين ياردة فقط من الفسحة والسيارة. كانا مُنهمكَين تمامًا فيما يفعلانه. كان لوك قد جهَّز هيكله؛ الذي كان قد صنعه من علب قصدير مقلوبة فرش عليها منشفة صحون، ووضَع فوقه شمعة واحدة ثبَّتها في صحن فنجان. وبجواره وُضِع صحن آخر به قطعتا خبز صغيرتان وبجانبه كوب صغير. كان يَرتدي وشاح قسيس ذا لون أبيض مصفر. تساءل ثيو إن كان يحمله مطويًّا في جيبه طوال الوقت. لم يَشعُرا بوجوده، وذكَّره منظرهما بطفلين مستغرَقَين تمامًا في لعبة طفولية؛ إذ كانت ظلال أوراق الشجر تَنعكِس على وجهَيهما. وقف يراقبهما بينما رفع لوك طبق الفنجان، الذي به قطعتا الخبز، بيده اليُسرى، وغطاه بيده اليمنى. أحنت جوليان رأسها أكثر فبدَت كأنها جاثية على الأرض.
سمع ثيو بوضوح الكلمات التي يذكر بعضًا منها من طفولته البعيدة، مع أنها قيلَت بصوت خافت. «نتضرَّع إليك بكل خضوع يا أبانا الرحيم، فاسمع نداءنا؛ وهبنا ونحن نتناوَل مخلوقَيكَ هذَين من الخبز والنبيذ، على العهد المقدس ليسوع المسيح ابنك ومُخلصنا، استذكارًا لموته وآلامه، لعلنا نتناول جسده ودمه المقدسَين: الذي في الليلة التي أُسْلِم فيها أخذ خبزًا وشكر فكسر وأعطى تلاميذه وقال: خذوا كلوا؛ هذا هو جسدي الذي يُبذَل عنكم. اصنعوا هذا لذِكْري.»
وقف يراقبهم مستترًا وراء الأشجار. عاد بذاكرته إلى الكنيسة الصغيرة الكئيبة في سوري وحلته الكحلية التي كان يَرتديها للكنيسة يوم الأحد، والسيد جرينستريت وهو يُرافق المصلين في كل مقعد إلى حاجز المذبح كابحًا اعتداده بذاته. وتذكر رأس أمه المحني. كان يشعر أنه مستبعد حينها كما كان يشعر الآن.
انسل من بين الأشجار وعاد إلى الفسحة وقال: «كادا ينتهيان. لن يتأخرا كثيرًا.»
قال رولف: «لا يتأخَّران قط. لا مانع من أن نؤخر الإفطار من أجلهما. أعتقد أننا يجب أن نكون شاكرين لأن لوك لا يشعر بالحاجة لأن يلقي عليها عظة.»
كانت نبرة صوته وابتسامته تحملان ترفقًا. تساءل ثيو عن طبيعة العلاقة بينه وبين لوك الذي يَبدو أنه يتحمَّله وكأنه طفلٌ حسن النية لا يُنتظَر منه أن يُشارك مشاركة كاملة كالكبار لكنه يَبذل أقصى وسعه ليكون مفيدًا ولا يتسبب في أي مشاكل. هل يلبي رولف ما يراه رغبة زوجته الحُبلى لا أكثر؟ وإن كان ما أرادته جوليان هو أن تحظى بخدمات قسيس خاص، فلم يُمانع في ضم لوك إلى «السمكات الخمس» مع أنه لم يكن يملك أي مهارات عملية ينفعهم بها. أم أن رولف، مع رفضه التام للدين الذي تعلمه في طفولته، ظل محتفظًا ببقايا معتقدات خرافية؟ هل يعتقد في عقله الباطن أن لوك صانع معجزات بإمكانه أن يُحوِّل فتات الخبز الجافة إلى لحم، أو جالب للحظ، أو صاحب قدرات خفية وسحر قديم، وأن مجرد وجوده بينهم يُسَكِّن غضب آلهة الغابة والليل الخطيرة.