الفصل الثالث
بوسعِي أن أتذكَّر أول عطلة قضيتُها في وولكوم. تبعت زان صاعِدَين سلالم درج ثانٍ في نهاية الممرِّ حتى وصلنا إلى غرفة في أعلى طابق بالمنزل تطلُّ على الشرفة والمرجة الممتدة تجاه النهر والجسر. تساءلتُ في بادئ الأمر، بحساسية ولأني كنت مشبعًا بكراهية أمي، إن كنت سأُودَع في غرف الخدم.
ثم ما لبثَ زان أن قال: «أنا أسكن في الغرفة المجاورة. لدينا حمامنا الخاص، ستجده في نهاية الممر.»
ما زلت أذكرُ كل تفصيلة في تلك الغرفة. كانت غرفتي التي قضيت فيها عطلة الصيف كل عام منذ أن كنتُ طالبًا بالمدرسة وحتى تخرجت من أكسفورد. تغيرت أنا، لكنها لم تتغيَّر قط، وفي مخيِّلتي أرى مجموعة مُتتابِعة من الطلاب المدرسيِّين والجامعيين جميعهم يُشبهونَني بشدة، يفتحون ذلك الباب صيفًا بعد صيف، ويَدلفُون إلى إرثهم المشروع. لم أذهب إلى وولكوم منذ تُوفيَت والدتي قبل ثماني سنوات، ولا أنوي العودة إلى هناك مرةً أخرى. أحيانًا أتخيَّل أني سأعود إلى وولكوم عندما أصير كهلًا لأموت في تلك الغرفة، وأفتح بابها لآخر مرة لأرى السرير ذا القوائم الأربع المنقُوشة، والغطاء الباهِت المصنوع من الحرير المرقع، والكرسي الهزاز المصنوع من الخشب المَثني بوسادته التي طرزتْها إحدى نساء عائلة ليبيات الراحِلات منذ زمن بعيد، وسطح المكتب الجورجي البالي قليلًا لكنه مع ذلك متين وثابت وصالح للاستعمال، وخزانة الكتب التي حوَتْ طبعات القرن التاسع عشر والقرن العشرين من الكتب التي يُحبُّها الصبيان: كتب لهنتي وفينيمور كوبر ورايدر هاجارد وكونان دويل وسابر وجون بوشان، والخزانة ذات الأدراج المقوسة التي تعلُوها مرآةٌ عليها وَسَخ، والصور القديمة لمشاهدِ معارك؛ خيول مذعورة تشبُّ على قوائمها الخلفية أمام المدافع، وجنود خيالة بعيونٍ مُحملِقة، ومشهد احتضار نلسون. وعلى رأس كل ذلك أذكر اليوم الذي دخلتُها فيه لأول مرة، ومشيت إلى النافذة ونظرت خلالها إلى الشرفة والمرجة المنحدرة وأشجار البلوط، وبريق صفحة النهر، والجسر الصغير المقوَّس.
وقف زان عند الباب، وقال لي: «بإمكاننا أن نخرج إلى مكانٍ ما غدًا بالدراجة، إن شئت. لقد اشترى لك البارونيت دراجة.»
عرفت بعدها أنه نادرًا ما يَذكُر أباه بأي طريقة أخرى. قلت: «ذلك لطفٌ منه.»
«ليس حقًّا؛ فقد كان مضطرًّا إلى ذلك، إن كان يُريدُنا أن نقضيَ الوقت معًا، أليس كذلك؟»
«لديَّ دراجة؛ فأنا أذهب إلى المدرسة بالدراجة دائمًا، وكان يُمكنني أن أُحضرَها معي.»
«رأى البارونيت أنه من الأيسر الاحتفاظ بواحدة هنا. لست مجبرًا على استخدامها. أنا أحبُّ أن أخرج بالدراجة طوال النهار لكنَّكَ لست مجبرًا على مرافقتي إن لم تودَّ ذلك؛ فركوب الدراجات ليس إلزاميًّا. في الحقيقة لا يوجد شيء إلزامي في وولكوم سوى التعاسة.»
اكتشفت بعدها أنه يحبُّ إبداء هذا النوع من الملاحظات التهكمية التي تسبق سنَّه بهدف إثارة إعجابي، وبالفعل نجح في ذلك. لكنني لم أصدقه؛ ففي زيارتي الأولى تلك، ولما انتابني من انبهار بريء، كان من المستحيل أن أتخيل أن أحدًا يمكن أن يكون تعيسًا في منزل كهذا. وأنه حتمًا لا يقصد ما قاله.
قلت: «أرغب في أخذ جولة بالمنزل في وقتٍ ما.» ثم احمرَّ وجهي خجلًا، خشية أن أكون قد بدَوتُ مثل مُشترٍ مُحتمَل أو سائح.
«يُمكنُنا القيام بذلك، بالطبع. إن كان بوسعِكَ أن تَنتظِرَ حتى يوم السبت، فستقومُ الآنسة ماسكِل من الأبرشية بهذه المهمَّة. سيُكلِّفكَ ذلك جنيهًا لكنه يَشمل جولةً بالحديقة. فالمنزل يُفتح للزوار كلَّ سبت لجمع التبرعات لصالح الكنيسة. ما تفتقر إليه مولي ماسكِل من معرفة تاريخية وفنية تَستعيض عنه بخيالها.»
«أُفضِّل أن تَصحبَني أنت في تلك الجولة.»
لم يُجِب، وإنما وقَفَ يُشاهدني وأنا أُجاهدُ لرفع حقيبة سفري على السرير وأبدأ في إفراغها. كانت أمي قد اشترَت لي حقيبة جديدة لهذه الزيارة الأولى. أدركت مغمومًا أنها كانت كبيرة وأنيقة وثقيلة أكثر من اللازم، وتمنَّيت لو أني أحضرت بدلًا منها حقيبة يدي القماشية القديمة. كنت، بالطبع، قد أحضرتُ معي ملابس زائدة عن الحاجة وغير مناسِبة لكنه لم يُعلِّق، ولا أعرف إن كان ذلك من باب الكياسة أو الذوق، أم لأنه ببساطة لم يُلاحِظ. دسستها بسرعة في أحد الأدراج، ثم سألته: «ألا تجد العيش في هذا المنزل غريبًا؟»
«أجده غير مُريح وفي بعض الأحيان مُضجِر، لكنِّي لا أجده غريبًا. فقد عاش أجدادي هنا لثلاثمائة سنة.» ثم أضاف قائلًا: «إنه منزل صغير للغاية.»
بدا وكأنه يُحاوِل ألا يُشعرَني بالحرج بتقليله من شأن إرثه، لكني عندما نظرت إليه رأيت، لأول مرة، نظرتَه التي ألفتُها فيما بعد، نظرة استمتاع داخلي خفية بدت في عينيه وعلى شفتَيه، لكنها لم تتحوَّل قط لابتسامة صريحة. لم أعلم حينها وما زلت لا أعلم حتى يومنا هذا كم كان يَعنيه قصر وولكوم. ما زال القصر يستخدم دارًا للعجزة والمتقاعِدين من النخبة القليلة؛ من أقرباء وأصدقاء المجلس، وأعضاء المجالس الإقليمية والمحلية ومجالس المقاطَعات، الأشخاص الذين يُعتبَر أنهم خدموا الدولة بشكلٍ أو بآخر. حتى وفاة والدتي، كنتُ أنا وهيلينا نذهب إلى هناك بانتظامٍ لتأدية واجب الزيارة؛ ما زلتُ أذكُر الأختَين وهما تَجلسان معًا في الشرفة، وقد التحفتا بما يَحميهما من البرد، إحداهما تُعاني من السرطان في مراحله النهائية، والأخرى من الرَّبو القلبي والْتهاب المفاصِل، وقد نسيتا الحقد والكراهية في مواجهة الموت المهيب الذي يُساوي بين الجميع. عندما أتصوَّر العالم وقد خلا من البشر، أتخيل — ومن منَّا لا يفعل؟ — الكاتدرائيات والمعابد العظيمة، والقصور والقلاع؛ والقرون غير المأهولة بالبشر تَتوالى عليها، والمكتبة البريطانية التي افتُتِحَت قبل أوميجا بفترة قصيرة، بمخطوطاتها وكتبها المحفوظة بعناية التي لن يفتحها أو يقرأها أحد مجددًا. لكن وحدها صورة وولكوم هي التي تمسُّ شغاف قلبي؛ عندما أتخيَّل رائحة العطن في غرفه المهجورة، وأرفف المكتبة المُهترئة، واللبلاب وهو يتسلَّق جدرانه المُتداعية، والحشائش والأعشاب البرية تُغطِّي الممرات المفروشة بالحَصى، وملعب التنس، والحديقة الرسمية، وذكرى حجرة النوم الخلفية الصغيرة تلك، وقد حُرِمت من الزوار وظلت على حالها حتى يتعفَّنَ مفرش سريرِها أخيرًا، وتتحوَّل كتبها إلى ترابٍ وتسقُط آخر صورة على حائطها.