الفصل الثلاثون
انطلق فور أن حلَّ الظلام، متلهفًا للذهاب، كارهًا إضاعة أي لحظة. كانت سلامتهم تعتمد على سرعة تحصُّله على سيارة. سارت جوليان وميريام حتى حافة الغابة وراقبتاه وهما متواريتان عن الأنظار. عندما التفت ليُلقي عليهما نظرة أخيرة، جاهد كي يدفع عن ذهنه الاعتقاد الذي راوَدَه للحظات بأن تلك قد تكون آخر مرة يراهما. تذكَّر أنه رأى أضواء قرية أو بلدة صغيرة غرب الطريق. قد يكون أقصر طريق هو عبور الحقول، لكنه كان قد ترك الكشاف مع المرأتين، ومحاولة شق طريقه وسط الحقول في الظلام في بلدة لا يعرفها قد يكون لها عواقب كارثية. انطلق يعدو، ثم سار في الطريق الذي سلَكُوه أثناء سفرهم وهو يمشي تارة ويعدو تارة أخرى. بعد نصف ساعة وصل إلى مفترق طرق، ووقف يفكر لبرهة ثم سلك الطريق الأيسر.
بعد نصف ساعة أخرى من المشي السريع، وصل إلى أطراف البلدة. كان الطريق الريفي المعتم محفوفًا من جهة بسور من الشجيرات العالية المنتشرة بغير نظام وبدغل غير كثيف من الجهة الأخرى. كانت تلك هي الجهة التي سار فيها، وعندما سمع سيارة تَقترب، انسل ليتوارى في ظل الأشجار، مدفوعًا برغبة غريزية في الاختباء من ناحية، ومن ناحية أخرى بخوفه المبرر من أنه قد يُثير الانتباه كونه رجلًا وحيدًا يسير مُسرِع الخطى في الظلام، لكن ما لبث أن حلَّ محل سور الشجيرات والدغل منازل معزولة تقف بعيدة عن الطريق وسط حدائق واسعة. لا بد أنه سيجد بمرأب أحد تلك المنازل سيارة أو ربما أكثر. لكن من شأن المنازل ومرائبها أن تكون مؤمنة جيدًا؛ فتلك المنازل المترفة الفاخرة لن تُتْرَك دون تحصين من لص عابر عديم الخبرة. كان يبحث عن ضحايا يسهل إثارة خوفهم.
وعندما وصل إلى البلدة أبطأ الخطى. شعر بنبضه يتسارع، بالدقات القوية المنتظمة بين ضلوعه. لم يكن يريد أن يتعمق في البلدة ويقترب من مركزها كثيرًا؛ فقد كان من المهم أن يعثر على ما يحتاجه في أقرب وقت مُمكن ثم يجد طريقًا للهرب. حينها رأى، في زقاق إلى يمينه، صفًّا من الفيلات شبه المُنفصلة، المكسوة حوائطها بكُسَارة الحصباء. كان كل منزلين متصلَين متطابقين شكلًا، ولهما نافذة مُشرِفة بجوار الباب ومرأب متصل بالحائط الجانبي. دخل وهو يكاد يسير على أطراف أصابعه كي يتفحص أول منزلين قابلاه. كان المنزل على اليسار خاويًا، ونوافذه موصدة بالألواح الخشبية ومعلَّق على بوابته الأمامية لافتة كُتب عليها «للبيع». كان من الواضح أنه خاوٍ منذ وقت طويل؛ فقد كان العشب أمامه طويلًا وغير مشذب، وكان مرقد الأزهار الدائري الوحيد بمنتصف حديقته عبارة عن كومة من شجيرات الورود التي نمت نموًّا مفرطًا وتشابكت أغصانها الشائكة، وتدلت آخر ورودها المتفتحة على آخرها متهدلة ذابلة.
أما المنزل على اليمين فكان مأهولًا وكان يبدو مختلفًا عنه تمامًا؛ فقد كان الضوء يظهر من خلف ستائر غرفته الأمامية المسدلة، وكان عشب حديقته الأمامية مجذوذًا بعناية ويحفُّ الدرب مرقد من أزهار الأقحوان والأضاليا. ثُبِّت سياج جديد ليفصل بين المنزلين، ربما في محاولة لحجب وحشة المنزل المجاور، أو كي لا تتسلل إليه الحشائش الضارة. بدا مثاليًّا لغرضه. فدونَ جيران، لن يتلصص أو يتسمع عليه أحد، وبقربه من الطريق سيكون بإمكانه أن يلوذ بالفرار سريعًا. لكن هل توجد بمرأبه سيارة؟ سار إلى بوابته وأمعن النظر في الممر المفروش بالحصى فتبين علامات إطارات سيارة وبقعة زيت صغيرة. أثارت بقعة الزيت قلقه، لكن المنزل الصغير كان في حالة جيدة للغاية، وكانت الحديقة بلا شائبة، فلم يتخيَّل ألا يجد السيارة تعمل مهما كانت صغيرة وقديمة. لكن ماذا إن كانت لا تعمل؟ حينها سيكون عليه أن يبدأ مرة أخرى وخطر محاولة ثانية سيكون مضاعفًا. درس عقله الاحتمالات بينما كان يقف بجوار البوابة يتلفت يمينًا ويسارًا ليتأكد من أن لا أحد يراقب تلكؤه أمامها. بإمكانه أن يمنع سكان ذلك المنزل من الإبلاغ عنه؛ سيتعين عليه أن يقطع سلك الهاتف وأن يُكبِّلهم. لكن ماذا إن فشلت محاولته للعثور على سيارة في المنزل التالي الذي سيبحث فيه أو الذي يليه؟ كانت فكرة تكبيل مجموعة متتابعة من الضحايا فكرة هزلية وخطيرة في الوقت نفسه. في أفضل الظروف سيحظى فقط بمحاولتَين. إن فشل في إيجاد سيارة هنا فقد تكون أفضل خطة هي أن يوقف سيارة على الطريق ويُجبر سائقها وركابها على الخروج منها. بتلك الطريقة سيضمن على الأقل أن تكون سيارة تعمل.
تلفَّت حوله بسرعة مرة أخيرة ثم فتح مزلاج البوابة بهدوء ودخل يمشى بخطًى سريعة، ويكاد يخطو على أطراف أصابعه، نحو الباب الأمامي للمنزل. حينها تنفس الصعداء. كانت الستائر غير مسدلة بالكامل على اللوح الزجاجي الجانبي للنافذة البارزة وكانت توجد فرجة عرضها حوالي ثلاث بوصات بين حافة الستارة وإطار النافذة استطاع أن يراقب خلالها بوضوح ما يجري داخل الغرفة.
لم يكن بها مدفأة وكان جهاز تلفاز قديم يشغل حيزًا كبيرًا منها. أمام التلفاز كان يوجد مقعدان بمسندي ذراع وكان بوسعه أن يرى رأسَين أشيبَين لعجوزين، على الأرجح رجل وزوجته. كانت الغرفة مفروشة بأثاث بسيط فكان بها طاولة وكرسيان وُضعت بجوار نافذة جانبية، ومكتب صغير من خشب الزان. لم يرَ بها أي صور أو كتب أو تحف أو أزهار، لكن على أحد حوائطها عُلقَت صورة فوتوغرافية ملوَّنة كبيرة لطفلة واستقر تحتها كرسي أطفال مرتفع عليه دب لعبة يرتدي رابطة عنق ضخمة منقطة.
حتى من وراء الزجاج، كان بوسعه أن يسمع صوت التلفاز بوضوح. لا بد أن ذينك العجوزَين أصمان. عرف البرنامج المعروض على التلفاز: كان اسمه «الجيران»، وهو مسلسل تلفازي بميزانية منخفضة من أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات أُنتِج في أستراليا، وكانت أغنية مقدمته تافهة لدرجة لا تقارن. من الواضح أن المسلسل حصد نسبة متابعات ضخمة عندما عُرِض للمرة الأولى على أجهزة التلفاز القديمة، والآن أعيد تهيئته ليناسب أجهزة التلفاز الحديثة ذات الوضوح العالي، وأصبح له جمهور معجبون. وكان سبب ذلك لا يخفى على أحد؛ فقد كانت أحداثه التي تقع في إحدى الضواحي المشمسة النائية تُثير الاشتياق والحنين إلى عالم وهمي من البراءة والأمل. لكن الأهم من ذلك أن أحداثه كانت تدور حول الصغار؛ فقد كانت الصور المشرقة لوجوه الصغار وأطرافهم وأصواتهم، مع أنها غير ملموسة، تخلق شعورًا وهميًّا بأنه في مكان ما تحت سماء موازية لا يزال ذلك العالم اليافع المؤنس موجودًا ويُمكن للمرء الدخول إليه إن أراد. بالدافع نفسه وللحاجة نفسها، كان الناس يبتاعون مقاطع فيديو لولادات، أو لأناشيد أطفال، وبرامج أطفال مثل «رجلا أصيص الزهور»، و«بلو بيتر».
دق جرس الباب ووقف ينتظر. خمن أنهما سيُجيبان الباب معًا بعد أن حل الظلام. من وراء خشب المنزل الضعيف، جاءه صوتُ وقع أقدام ثقيلة ثم صوت خشخشة رتاج الباب. فُتِح الباب بينما ظلَّت سلسلة رتاجه مربوطة، ومن خلال الفرجة الصغيرة كان بوسعه أن يرى أن الزوجين كانا أكبر سنًّا مما توقع. تطلعت إلى عينيه عينان مليئتان بالقذى بنظرة شك لا قلق.
كانت نبرة الرجل حادَّة لدرجة لم يتوقعها. «ماذا تريد؟»
خمن ثيو أن صوته الهادئ الراقي سيَبعث على الاطمئنان. قال: «أنا من المجلس المحلي. نحن نُجري استبيانًا حول هوايات الناس واهتماماتهم. معي استمارة أحتاج منك أن تملأها. لن يستغرق ذلك وقتًا طويلًا. لكن من الضروري أن تقوم بذلك الآن.»
تردَّد الرجل للحظة قبل أن يحلَّ سلسلة الرتاج. بدفعة واحدة سريعة، صار ثيو داخل المنزل، ظهره إلى الباب وبيده المسدس. قبل أن يتكلَّما أو يصرخا قال: «لا بأس. أنتما لستما في خطر. لن أوذيكما. ستكونان بأمان إن حافظتما على هدوئكما وفعلتُما ما أطلبه منكما.»
بدأت المرأة تَرتعد بشدة وهي متشبثة بذراع زوجها. كانت تبدو شديدة الوهن، وضئيلة الجسد، وكانت سترتها الصوفية تتدلى من كتفيها اللتين بدوتا أضعف من أن تتحملا ثقلها.
نظر ثيو إلى عينيها فرأى نظرتها المذعورة المدهوشة، وقال مستحضرًا كامل قدراته الإقناعية: «أنا لست بمجرم. أحتاج إلى المساعدة. أحتاج إلى استخدام سيارتكما وإلى طعام وشراب. هل تَملكان سيارة؟»
أومأ الرجل برأسه إيجابًا.
تابع ثيو سؤاله: «من أي طراز؟»
«سيتزن.» سيارة الشعب، رخيصة واقتصادية. كان عمر جميع السيارات من ذلك الطراز عشر سنوات، لكنها كانت متقنة الصنع ويُعتمد عليها. كانت أفضل من غيرها.
«في خزانها وقود؟»
أومأ الرجل برأسه إيجابًا مرة أخرى.
قال ثيو: «أهي بحالة جيدة؟»
«أجل، فأنا حريص على صيانتها.»
«حسنًا. الآن أريدكما أن تصعدا لأعلى.»
أرعبهما ذلك الطلب. ماذا ظنَّا؟ هل ظنا أنه ينوي قتلهما في غرفة نومهما؟
قال الرجل متوسلًا: «لا تقتلني. فليس لديها أحد سواها. وهي مريضة. قلبها عليل. إن متُّ فسيكون مصيرها إلى الراحة الأبدية.»
«لن يؤذيكما أحد. لن يكون ثمة راحة أبدية.» كرَّر بحدة: «لا راحة أبدية!»
صعدا الدرج ببطء، خطوة بخطوة، والمرأة لا تزال متشبثة بذراع زوجها.
بالأعلى، تبين له من نظرة سريعة أن تخطيط المنزل بسيط؛ فالجانب الأمامي كان يحوي غرفة النوم وقبالتها كان الحمام، وبجواره مرحاض منفصل. بينما كان الجانب الخلفي يضم غرفتي نوم صغيرتين. أشار إليهما بالمسدس أن يدخلا إلى غرفة النوم الخلفية الأكبر. كان بها سرير فردي، وعندما أزاح عنه المفرش رأى أنه كان مُرتَّبًا.
قال موجهًا كلامه للرجل: «مزق تلك الملاءة إلى شرائط.»
أمسك بها الرجل بيديه المتجعدتين وحاول دون جدوى أن يمزق نسيجها القطني. لكن صعُب عليه تمزيق طرفها.
قال ثيو بنفاد صبر: «نحتاج إلى مقص. فأين أجده؟»
كانت المرأة هي من تكلمت: «في الغرفة الأمامية، على منضدة الزينة.»
«رجاءً أحضريه.»
خرجت من الغرفة بخطوات مترنحة جامدة وعادت بعد بضع ثوانٍ وهي تحمل مقص أظافر. كان صغيرًا لكنه كان كافيًا ليؤدي الغرض. لكنه كان سيُضيِّع لحظات ثمينة إن ترك تلك المهمة ليدَي الرجل المرتعشتين.
قال بخشونة: «تراجعا وقفا جنبًا إلى جنب أمام الحائط.»
أطاعاه، فوقف قبالتهما يفصل بينه وبينهما السرير الذي ترك فوقه المسدس بالقرب من يده اليمنى. ثم بدأ يُمزِّق الملاءة. أحس أن الصوت عالٍ على نحو غير طبيعي. وخُيِّل له أن ما يمزقه هو الهواء أو نسيج البيت نفسه. بعدما انتهى، قال للمرأة: «تعالي واستلقي على السرير.»
نظرت إلى زوجها وكأنما تطلب إذنه فمنحها إيماءة سريعة.
«افعلي ما يقول يا عزيزتي.»
وجدت صعوبة في الصعود إلى السرير فاضطر ثيو إلى حملها. كان جسدها خفيفًا للغاية فارتفعت يده التي وضعها تحت فخذها لأعلى بسرعة جدًّا وكادت تنقلب عن السرير وتسقط أرضًا. خلع حذاءها وربط كاحليها أحدهما بالآخر بقوة، ثم كبل يديها خلف ظهرها.
قال: «هل أنتِ بخير؟»
أومأت برأسها إيماءةً خفيفة. كان السرير ضيقًا فتساءل إذا كان سيتسع لزوجها أيضًا، لكن الزوج استشف ما يدور بذهنه فبادره بسرعة قائلًا: «لا تفصلنا. لا تأخذني إلى الغرفة الأخرى. لا ترديني.»
قال ثيو بنفاد صبر: «لن أرديك. فالمسدس ليس ملقمًا حتى.» صار من المأمون أن تَنكشِف كذبته الآن. فقد أدى المسدس الغرض منه.
قال بدماثة: «استلقِ بجوارها.»
كان يوجد متسع له لكنه بالكاد كان كافيًا. أوثق يدي الرجل خلف ظهره وربط كاحليه، ثم بقطعة أخيرة من النسيج القطني ربط ساق كل منهما بساق الآخر. كانا مستلقيين على جانبهما الأيمن متلاصقين.
كان يعرف أن يديهما لم تكونا مرتاحتين وهما مكبلتان خلف ظهريهما، لكنه لم يجرؤ على تكبيلها أمامهما فحينها قد يتمكن الرجل من فك قيده بأسنانه.
قال: «أين مفاتيح المرأب والسيارة؟»
قال الرجل هامسًا: «في المكتب بغرفة الجلوس. داخل الدرج العلوي إلى اليمين.»
ذهب فلم يجد صعوبة في العثور على المفاتيح. ثم عاد إلى غرفة النوم مرة أخرى. «أحتاج إلى حقيبة سفر كبيرة. هل لديكما واحدة؟»
كانت المرأة هي من أجابته: «تحت السرير.»
مد يده وسحبها. كانت كبيرة الحجم لكن خفيفة، مصنوعة من الورق المقوى المدعوم فقط في الأركان. تساءل إن كان ما تبقى من الملاءة الممزقة يستحق أن يأخذه معه. بينما كان يقف ممسكًا بها في يديه متردِّدًا، قال الرجل: «رجاءً لا تكممنا. أعدُكَ أننا لن نصرخ. رجاءً لا تُكممنا. زوجتي لن تستطيع التنفس.»
قال ثيو: «سأضطر لأن أبلغ شخصًا ما أنكما مكبَّلَين هنا. لن يتسنى لي أن أفعل ذلك إلا بعد مرور اثنتي عشرة ساعة على الأقل، لكني أعدكما أنني سأفعل. هل تتوقعون زيارة من أحد؟»
قال الرجل دون أن ينظر إليه: «السيدة كولينز، مساعدتنا المنزلية، ستأتي غدًا في السابعة والنصف. هي تأتي مبكرًا لأن لديها مهمة نهارية أخرى بعدنا.»
«هل معها مفتاح؟»
«أجل، دائمًا ما يكون معها مفتاح.»
«ألا تنتظرون أحدًا آخر؟ أحد أفراد العائلة مثلًا؟»
«ليس لدينا عائلة. كانت لدينا ابنة لكنها توفيت.»
«هل أنتما متأكدان من أن السيدة كولينز ستكون هنا في السابعة والنصف؟»
«أجل، فهي جديرة بالثقة جدًّا. ستأتي حتمًا.»
وارب الستارة القطنية الخفيفة المنقوشة بالورود وتطلع إلى الظلام في الخارج. لم يرَ إلا حديقة ممتدة ووراءها تبين معالم تل مظلم. إن صرخا طوال الليل فعلى الأرجح لن يبلغ صوتهما الواهن مسامع أحد. على كل حال، سيترك التلفاز مفتوحًا ويرفع صوته إلى آخره.
قال: «لن أُكمِّمَكما. سأترك التلفاز يعمل بصوت مرتفع حتى لا يسمعكما أحد. فلا تهدرا قواكما في الصراخ. ستتحرَّران عندما تأتي السيدة كولينز غدًا. حاوِلا أن تَحصُلا على قسط من الراحة، أن تناما. أنا آسف لأني اضطررت لفعل ذلك. ستَستعيدان سيارتكما في النهاية.»
شعر أنه سخيف وغير صادق وهو ينطق بذلك الوعد. قال: «أتحتاجان لأي شيء؟»
قالت المرأة بصوت واهن: «الماء.»
ذكرته الكلمة بظمئه. كان من الغريب أنه، بعد أن ظل ظمآن لساعات طويلة، استطاع أن يَتناسى ظمأه لفترة وجيزة. دخل إلى الحمام وملأ كوب فرش الأسنان، دون حتى أن يتكبَّد عناء شطفه، وأخذ يتجرع الماء البارد حتى امتلأت بطنه عن آخرها. ثم ملأ الكوب وعاد به إلى غرفة النوم. رفع رأس المرأة على ذراعه ووضع الكوب على شفتَيها، فشربت بتعطش. انسال الماء على جانب وجهها وعلى سترتها الصوفية الرقيقة. كانت العروق الأرجوانية على جانبي جبهتِها تنبض بشدة وكأنها على وشك أن تنفجر، وكانت عضلات عنقها مشدودة على آخرها كالأوتار. بعد أن انتهت أخذ قطعة من الملاءة ومسح بها فمها. ثم ملأ الكوب مرة أخرى وساعد زوجها على الشرب. شعر بتردد عجيب في أن يتركهما. كونه زائرًا مؤذيًا غير مرحب به، لم يستطع أن يَصيغ عبارة وداع ملائمة.
عندما وصل إلى الباب التفت إليهما وقال: «أنا آسف لأني اضطررت لفعل ذلك. حاوِلا أن تَحصُلا على قسط من النوم. ستأتي السيدة كولينز في الصباح.»
تساءل إن كان قال ذلك ليطمئنهما أم ليطمئن نفسه. قال في نفسه: على الأقل هما معًا.
ثم أضاف قائلًا: «هل أنتما مرتاحان كفاية؟»
أدرك سخافة سؤاله ذلك بمجرد أن غادر شفتَيه. مرتاحان؟ كيف لهما أن يكونا مرتاحين وهما مُقيَّدان كالحيوانات على سرير ضيق قد يسقطان من عليه إن أتيا بأي حركة. همست المرأة بشيء لم تَستطع أذناه أن تلتقطه، لكن بدا أن زوجها فهمه. بصعوبة، رفع رأسه ونظر إلى عينَي ثيو مباشرة فرأى ثيو في عينيه الباهتتَين نظرة تستجدي تفهمه وعطفه.
قال: «تريد الذهاب للحمام؟»
كاد ثيو يَضحك بصوت عالٍ. وشعر بأنه طفل في الثامنة من عمره يسمع صوت أمه الضجر. «كان يجب أن تُفكر في ذلك قبل أن نَنطلق.» ما الرد الذي يتوقعانه منه؟ «كان يجب أن تُفكِّرا بذلك قبل أن أكبلكما»؟ كان يجب أن يفكر أحدهما بذلك. لكن كان الأوان قد فات الآن. فقد أهدر الكثير من الوقت بالفعل عليهما. فكر في جوليان وميريام اللتَين تنتظرانه في قلق شديد وهما مختبئتان في ظلال الأشجار تترقب أذناهما صوت كل سيارة تقترب وتصور خيبة أملهما عندما تمر بهما فلا تتوقف. كما أنه لا يزال أمامه مهام كثيرة تنتظره؛ يجب أن يفحص السيارة، ويجمع المؤن. سيستغرق حل تلك العقد الكثيرة عدة دقائق لا يملك أن يضيعها. سيكون عليها أن تظلَّ مستلقية وسط فضلاتها حتى تصل السيدة كولينز في الصباح.
لكنه كان يعلم أنه لا يقدر على فعل ذلك بها. كانت تستلقي في خجل شديد مكبلة عاجزة تفوح منها رائحة الخوف، وعيناها كانتا تتحاشيان النظر إلى عينَيه، وكان بيده أن يجنبها تلك الإهانة على الأقل. بدأت أصابعه تحل النسيج القطني المحكم. كان حله أصعب مما توقع، فأمسك بمقص الأظافر وقطع به قيودها محررًا كاحليها ويدَيها، محاولًا أن يتجنب النظر إلى الأثر الذي تركته القيود على معصمَيها. لم يكن إنزالها عن السرير سهلًا كذلك، فجسدها الهش، الذي بدا له من قبل خفيفًا كجسد عصفور، كان متيبسًا من فرط الخوف. استغرقت دقيقة تقريبًا حتى استطاعت أن تجرَّ قدمَيها ببطء حتى المرحاض وهو يلف ذراعه حول خصرها ليسندها.
قال بصوت جعله التبرم والخجل غليظًا: «لا تغلقي الباب. اتركيه مواربًا.»
انتظر بالخارج محاولًا أن يقاوم رغبته في أن يجوب الممر جيئة وذهابًا، ودقات قلبه تسابق الثواني التي تحوَّلت إلى دقائق قبل أن يسمع صوت مدفق المرحاض وتعاود هي الظهور ببطء. همست: «شكرًا لك.»
عندما عادا إلى غرفة النوم ساعدها على الصعود للسرير ثم مزق بضع شرائط أخرى مما تبقى من الملاءة وكبلها بها مرة أخرى لكنه جعلها أقل إحكامًا تلك المرة. قال لزوجها: «من الأفضل أن تذهب أنت أيضًا. بإمكانك أن تثب حتى هناك إن ساعدتك. فالوقت لا يتسع إلا لأن أحرر يديك فقط.»
لكن ذلك لم يكن أسهل. فحتى بعد أن تحررت يداه ولف ذراعه حول كتف ثيو، كان العجوز لا يملك القوة أو القدرة على الاتزان ما يجعله يقفز قفزات صغيرة حتى، فاضطر ثيو إلى أن يجره جرًّا تقريبًا حتى الحمام.
أخيرًا عاد بالرجل المسن إلى السرير. والآن عليه أن يسرع. فقد أهدر بالفعل الكثير من الوقت. توجه بسرعة إلى الجزء الخلفي للمنزل حاملًا حقيبة السفر في يده. كان يوجد مطبخ صغير، نظيف ومرتب بعناية، به ثلاجة كبيرة للغاية، ومخزن مؤن صغير له باب من داخل المطبخ. لكن الغنائم التي وجدها كانت مخيبة للآمال. فالثلاجة مع حجمها الضخم لم يكن بها سوى علبة حليب وحزمة بها أربع بيضات، ونصف رطل من الزبد موضوع في طبق مغطى بورق الألمنيوم، وقطعة مغلفة من جبن الشيدر وعلبة بسكويت مفتوحة. وفي حجيرة التجميد أعلاها لم يجد سوى علبة صغيرة من البازلاء وقطعة مجمدة من سمك القد. كانت محتويات مخزن المؤن أيضًا مخيبة للآمال، فلم يكن به سوى كمية قليلة من السكر والقهوة والشاي. كان من السخيف أن يكون ثمة منزل تنقصه المؤن إلى ذلك الحد. شعر بفورة غضب تجاه الزوجين العجوزين وكأنهما المسئولان عن خيبة أمله نتيجة خطأ متعمَّد منهما. هما على الأرجح لا يذهبان للتسوق سوى مرة واحدة في الأسبوع وكان غير محظوظ في يوم مجيئه. أخذ كل ما وجده ودس المؤن في كيس بلاستيكي. كان يوجد أربعة أكواب معلقة على حامل. أخذ اثنين منها ووجد ثلاثة أطباق من خزانة الأواني المعلقة فوق الحوض. وأخذ سكينَ تشذيبٍ حاد، وسكين تقطيع لحم، وثلاثة سكاكين مائدة، وشوكات وملاعق، ودس علبة ثقاب في جيبه. ثم هُرع إلى الطابق العلوي، واتجه تلك المرة إلى غرفة النوم الأمامية حيث جاهد لحمل ملاءات وأغطية ووسادة وجدها على السرير. ستحتاج ميريام إلى مناشف نظيفة للولادة. ركض إلى الحمام فوجد ست مناشف مطوية في خزانة التهوية. ستكون كافية. دس جميع البياضات في حقيبة السفر. ووضع مقص الأظافر في جيبه، إذ تذكر أن ميريام كانت قد طلبت مقصًّا. وجد في خزانة الحمام زجاجة مطهِّر فضمها إلى غنائمه.
لم يكن بوسعه أن يُمضي وقتًا أطول في المنزل، لكن بقيت أمامه مشكلة واحدة؛ الماء. كان معه علبة اللبن الصغيرة؛ لكن تلك لن تكون كافية حتى لترويَ ظمأ جوليان. بحث عن وعاء مناسب، فلم يجد أي زجاجة فارغة في أي مكان بالمنزل. كاد يسب الزوجين العجوزين بينما كان يبحث عن وعاء من أي نوع يصلح لأن يضع فيه الماء. لم يجد سوى قنينة حرارية صغيرة. على الأقل سيتمكن من أن يأخذ فيها لجوليان وميريام قهوة ساخنة. لا داعي لأن ينتظر حتى يغلي الماء في الغلاية. من الأفضل أن يصنعها من ماء ساخن من الصنبور مع أن مذاقها سيكون غريبًا. سيتلهفان لشربها على الفور. بعد أن فرغ من ذلك، ملأ الغلاية والقِدرين الوحيدين اللذين كان قد وجدهما واللذين كان لهما غطاء محكم. سيضطر لأن يحمل كلًّا منها على حدة إلى السيارة، مما سيهدر المزيد من الوقت. وأخيرًا، شرب من الصنبور ملء بطنه مرة أخرى مريقًا الماء على وجهه.
على الحائط خلف الباب الأمامي من الداخل كان يوجد صفٌّ من شماعات المعاطف. عُلِقت عليها سترة قديمة ووشاح صوفي طويل ومِعطفا مطر يبدوان جديدين. تردد لحظة قبل أن يأخذهم ويضعهم على كتفه. ستحتاجهما جوليان إن كان لا ينبغي أن تستلقي على أرض رطبة. لكنهما كانا الشيئَين الجديدين الوحيدين في المنزل وشعر أن سرقتهما ستكون الأسوأ بين النثريات التي نهبها.
فتح باب المرأب. كان صندوق السيارة السيتزن صغيرًا لكنه حشر الغلاية وأحد القدرين بعناية بين حقيبة السفر وملاءات السرير والمعطفين. ووضع القدر الآخر والكيس البلاستيكي الذي يحتوي على الطعام والأكواب وأدوات المائدة على المقعد الخلفي. عندما أدار محرك السيارة شعر بالارتياح إذ وجده يعمل بسلاسة. كان واضحًا أن السيارة كانت تُصان جيدًا. لكنه رأى أن خزان الوقود كان نصف مُمتلئ وأنه لا يوجد خرائط في درجها. على الأرجح لم يستخدم العجوزان السيارة سوى للرحلات القصيرة وللتسوق. بينما كان يرجع بالسيارة إلى الخلف بعناية ليخرجها إلى الممر ويغلق باب المرأب بعد أن خرج، تذكر أنه نسي أن يرفع صوت التلفاز. قال في نفسه إن ذلك الإجراء الاحترازي ليس مهمًّا. فمع كون المنزل المجاور خاويًا ووجود الحديقة الطويلة التي تمتد في الخلف، في الغالب لن تُسمع صرخات الزوجين الواهنة.
بينما كان يقود السيارة، فكر مليًّا في الخطوة التالية. هل يتابعون طريقهم أم يعودون أدراجهم؟ سيعرف زان حتمًا من رولف أنهم كانوا يخططون لعبور الحدود إلى ويلز ويجدون منطقة غابات ريفية. وسيتوقع أن تتغير تلك الخطة. سيتوقع أن يكونوا في أي مكان في غرب البلاد. سيستغرق البحث وقتًا طويلًا حتى إذا أرسل زان فرقة بحث كبيرة من رجال شرطة الأمن الوطني أو حرس الجرينادير. لكنه لن يفعل، فتلك طريدة فريدة. إن نجح رولف في الوصول إليه دون أن يكشف عن المعلومات التي لدَيه حتى مقابلته الأخيرة الحاسمة مع زان، فسيتكَّتم زان أيضًا على الأمر حتى يتأكد من حقيقته. لن يُخاطر بوقوع جوليان في يد رجل طموح أو غير نزيه من رجال شرطة الأمن الوطني أو حرس الجرينادير. لن يعرف زان أنه لا يملك متسعًا من الوقت إن كان يريد أن يكون حاضرًا عند الولادة. فرولف لن يخبره بأمر لا يعلمه هو نفسه. إلى جانب ذلك، ما مدى ثقته في أعضاء المجلس الآخرين؟ كلا، سيأتي زان بنفسه، في الغالب برفقة فرقة صغيرة مختارة بعناية. وسينجحون حتمًا في النهاية؛ فذلك أمر محتم. لكن ذلك سيستغرق وقتًا. فأهمية مهمتهم وطبيعتها الحرجة، والسرية المطلوبة، وحجم فرقة البحث، كلها أمور من شأنها أن تبطئهم.
إذن إلى أين يذهبون وأي اتجاه يسلكون؟ لوهلة تساءل إن كانت عودتهم إلى أكسفورد والاختباء في غابة ويثام التي تطل على المدينة، والتي ستكون آخر مكان قد يخطر لزان أن يبحث فيه، ستكون حيلة مجدية. أم أنها ستكون رحلة بالغة الخطورة؟ لكن أي طريق سيكون خطيرًا وسيتضاعف الخطر بعد أن يُكتشف العجوزان في الساعة السابعة والنصف ويرويان ما حدث معهما. فما الذي يجعل العودة تبدو أخطر من المضيِّ قدمًا؟ ربما لأن زان موجود في لندن. كما أن لندن نفسها مكان اختباء بديهي لأي هارب عادي. فلندن، مع تناقص أعداد سكانها، لا تزال مجموعة من القرى والأزقة السرية والأبراج السكنية التي تكاد تكون خاوية. لكن لندن فيها أعين كثيرة وليس لديه هناك شخص يُمكن أن يأمن اللجوء إليه، ولا منزل يستطيع دخوله. كان حدسه ينبئه، وخمن أن جوليان ستوافقه على ذلك، بأن يبتعد قدر الإمكان عن لندن وأن يلتزم بالخطة الأصلية بالاختباء في عمق الريف البعيد المعزول. فكلما ابتعدوا عن لندن كان ذلك أكثر أمنًا.
بينما كان يقود بحرص في الطريق المهجور، لحسن حظه، آخذًا في التعود على السيارة، داعب خياله حلم حاول أن يقنع نفسه بأنه هدف منطقي وقابل للتنفيذ. تخيل كوخ حطاب، عذب الرائحة، لا تزال حوائطه المصنوعة من الخشب الصمغي محتفظة بدفء شمس الصيف، يقف راسخًا كشجرة وسط غابة بعيدة تحت مظلة من غصون الأشجار القوية الكثيفة الأوراق، مهجورًا منذ عدة سنوات وصار باليًا، لكنه، بوجود البياضات، وأعواد الثقاب، والطعام المعلب، سيكون كافيًا لثلاثتهم. سيكون بجواره ينبوع ماء عذب، وحطب يُمكنهم أن يجمعوه لإشعال النار عندما يفسح الخريف المجال للشتاء. بإمكانهم أن يَمكُثوا هناك لثلاثة أشهر إن اضطرُّوا لذلك، بل ربما حتى لسنوات. كانت تلك هي الصورة الشاعرية التي كان قد سخر منها وازدراها بينما كان يقف بجوار سيارته في سواينبروك، لكنها الآن كانت تبث الطمأنينة في قلبه، مع أنه كان يعلم أن حلمه ذلك مجرد خيال.
في مكانٍ ما في العالم، سيولد أطفال آخرون؛ حمل نفسه على مشاركة جوليان إيمانها بذلك. وحينها لن يكون ذلك الطفل فريدًا، وسيزول عنه الخطر. لن يكون ثمة داعٍ لأن يأخذه زان والمجلس من أمِّه حتى إن كان معروفًا أنه المولود البكر لحقبة زمنية جديدة. لكن كل ذلك كان في طور المستقبل، وعندما يحين وقته فسيواجهونه ويتعاملُون معه. أما في البضعة الأسابيع القادمة فبإمكان ثلاثتهم أن يعيشوا في أمانٍ حتى يولد الطفل. كان لا يرى أبعد من ذلك، وقال في نفسه إنه لا يحتاج لأن يرى أبعد من ذلك.