الفصل الحادي والثلاثون
كان عقله وكامل طاقاته الجسدية منصبَّين في الساعتين الأخيرتين بشدة على مهمته، فلم يتصور أن يجد صعوبة في التعرف على حدود الغابة. عندما انعطف يمينًا من الجادة إلى الطريق، حاول أن يتذكر كم سار قبل أن يسلك المنعطف المؤدي إلى البلدة. لكن في ذاكرته، كانت رحلة سيره تلك قد أصبحت مزيجًا مضطربًا من الخوف والتوتر والتصميم، والظمأ المُضْني، واللهاث وألم مبرح شعر به بجانبه، فلا يذكر بوضوح المسافة والوقت. ظهر على يساره دغل صغير تعرَّفه على الفور، فانفرجت أساريره. لكن ما لبث أن انتهى صف الأشجار وظهر سياج شجري منخفض وأرض مستوية. ثم ظهرت أشجار مرة أخرى وبداية سور حجري. أبطأ سرعته وأبقى عينيه على الطريق. ثم رأى ما كان يخشى ويأمل رؤيته في الوقت نفسه؛ دماء لوك التي تلطخ الأسفلت، لم يعد لونها أحمر بل بدت كلطخة سوداء تحت أضواء السيارة الأمامية، وإلى يساره رأى الجدار ذا الأحجار المتهدمة.
عندما لم يخرجا على الفور من وراء الأشجار ليُقابلاه، شعر للحظة من القلق المرتاع أنهما ليستا هناك، وأنهما خُطِفتا. أوقف السيارة بالقرب من السور، ثم عبره إلى الغابة. عند سماع وقع أقدامه، تقدمتا باتجاهه وأتاه صوت ميريام يتمتم: «حمدًا لله! كان القلق قد بدأ يتسلَّل إلينا. هل حصلت على سيارة؟»
«سيارة سيتزن. هذا كل ما حصلت عليه. لم أجد الكثير في المنزل. ها قد أحضرت تُرْمُس من القهوة الساخنة.»
كادت ميريام تخطفه منه خطفًا. فتحت غطائه وصبت فيه القهوة بحرص، فكل قطرة منها ثمينة، ثم ناولته لجوليان.
قالت بصوت تعمَّدت أن يكون هادئًا: «لقد تغيَّر الوضع يا ثيو. لم يعد أمامنا وقت كثير الآن. فقد بدأ المخاض.»
قال ثيو: «كم أمامنا من الوقت؟»
«لا يُمكنني أن أجزم في الولادات الأولى. لكن قد لا يكون أمامنا سوى بضع ساعات. وقد يكون أمامنا أربع وعشرين ساعة. جوليان لا تزال في المراحل الأولى لكن يتعيَّن أن نجد مأوًى بسرعة.»
فجأة، هبت رياح اليقين والأمل فأزاحت كل حيرته السابقة. خطر على ذهنه اسم واحد بوضوح شديد وكأنما سمع صوتًا غير صوته ينطق به بصوت مسموع. غابة ويتشوود. تخيَّل نزهة صيفية على الأقدام في ممشى مظلل بجوار سور حجري متهدم يؤدي إلى أعماق الغابة ثم يصل إلى فرجة يكسوها العشب وبها بحيرة وبعدها، على يمين الممشى، سقيفة حطب. ما كانت غابة ويتشوود ستكون اختياره الأول أو اختيارًا بديهي؛ فهي صغيرة للغاية، ويسهل تفتيشها، وتبعد عن أكسفورد أقل من عشرين ميلًا. لكن الآن كان قربها ذلك ميزة. فزان سيتوقَّع أن يتابعوا طريقهم. لكنهم عوضًا عن ذلك سيعودون أدراجهم إلى مكانٍ يذكره ويألفه، مكان من المؤكد أنهم سيجدون فيه مأوًى.
قال: «اركبا في السيارة. سنعود أدراجنا. سنتجه إلى غابة ويتشوود. وسنأكل في طريقنا.»
لم يكن ثمة وقتٌ للنقاش، أو دراسة البدائل المحتملة. فقد كان لدى المرأتين أمر جلل يشغلهما؛ لذا كان عليه هو أن يقرِّر متى يذهبون وكيف.
لم يكن يخشى فعليًّا هجومًا آخر من ذوي الوجوه المطلية. فقد بدت له تلك الحادثة المرعبة كأنها تحقيق لقناعته شبه الخرافية التي ساورته في بداية رحلتهم بأن أمرًا مأساويًّا لا فرار منه سيلمُّ بهم ولا يستطيع التنبؤ بطبيعته أو متى سيحدث. وها قد أتى ووقع الأسوأ؛ لكنه انقضى. مثل مسافر في طائرة يخشى الطيران ويتوقع أن تسقط طائرته كلما حلقت، كان بإمكانه أن يطمئن إلى أن الكارثة التي ينتظرها قد وقعت بالفعل وأنه يوجد ناجون. لكنه كان يدرك أن جوليان وميريام لن تستطيعا بسهولة طرد خوفهما من ذوي الوجوه المطلية. استحوذ خوفهما على السيارة الصغيرة. وطيلة العشرة الأميال الأولى، جلستا خلفه متسمرتَين وقد ثبَّتتا أعينهما على الطريق، وكأنما تتوقعان أن تسمعا مرة أخرى صرخات الانتصار الوحشية وتريا نيران مشاعلهم وعيونهم اللامعة وراء كل منعطف وكل عائق صغير يقابلونه.
كانت تُحدِق بهم أخطار أخرى أيضًا، وسيطر عليهم أكبر مخاوفهم. فلم يكن ثمة سبيل لمعرفة متى غادرهم رولف فعليًّا. إن كان قد وصل إلى زان، فقد يكون البحث عنهم قد بدأ، وسيكونون قد بدءوا في نصب حواجز الطرق في مواضعها، وأخرجوا الطائرات المروحية من مستودعاتها وملئوها بالوقود في انتظار بزوغ الفجر. كانت الطرق الجانبية الضيقة الملتوية التي تحدها أسوار من الشجيرات غير المشذبة التي يطوحها الهواء، والأسوار المهدمة المبنية بالحجارة دون ملاط هي، ربما على نحو غير عقلاني، أملهم الوحيد في الأمان. كجميع المخلوقات المُطارَدة، كانت غريزة ثيو تدفعه لأن يسلك طرقًا ملتوية ومتعرجة، وأن يتوارى عن الأنظار ويستتر بالظلام. لكن كان للجادات الريفية أيضًا مخاطرها. فقد اضطر أربع مرات لأن يضغط دواسة المكابح بغتة بحدة ويتراجع بالسيارة قبل مقطع من الطريق تشقق فيه الأسفلت فصار غير صالح للسير عليه. في إحدى المرات، بعد الساعة الثانية بقليل، كادت تلك المناورة أن تؤدِّيَ إلى عواقب كارثية. فقد انزلقت العجلتان الخلفيتان إلى حفرة، واستغرق إخراجها نصف ساعة قبل أن تنجح جهوده هو وميريام في إعادة السيارة السيتزن إلى الطريق مرة أخرى.
تذمر من عدم وجود خرائط، لكن بمرور الوقت بدأت قاعدة السحب تنقشع لتظهر وراءها بوضوح مجموعات النجوم فرأى لطخة الضوء التي تمثل مجرة درب التبانة وبدأ يستدلُّ على الاتجاهات بكوكبة الدب الأكبر والنجم القطبي. لكن تلك المعرفة القديمة كانت لا تعدو كونها حسابات غير دقيقة لطريقه، فكان طوال الوقت مُعرَّضًا لخطر أن يضل الطريق. من وقت لآخر، كانت تطل من الظلام لافتة استرشادية بوضوح كمشنقة من القرن الثامن عشر، فكان يترجل ويسير بحرص نحوها على الطريق المتكسر، وهو يتوقع أن يسمع قعقعة السلاسل ويرى جسدًا ذا رقبة ممدودة يتلوى ببطء، بينما يحاول بدائرة الضوء الضيقة للكشاف، التي كانت تبدو كعين باحثة، تبين أسماء القرى غير المعروفة المدونة عليها. كانت الليلة قد اشتدت برودة، ولاحت بادرة برد الشتاء القارس؛ فقد لفح الهواء، الذي لم يعد معبقًا برائحة العشب ودفء الشمس، أنفه برائحة حادة تشبه رائحة مطهر باهتة، وكأنما اقتربوا من البحر. في كل مرة كان يطفئ فيها المحرك، كان يعم صمت مطبق. بينما كان يقف تحت لافته إرشادية تحمل أسماء تبدو وكأنها كُتِبَت بلغة أجنبية، شعر بالتيه والغُربة، وكأن تلك الحقول المظلمة المنعزلة والتراب تحت قدمَيه، وهذا الهواء الغريب عديم الرائحة، لم يعودوا موطنه الطبيعي، وكأنه لم يَعُد لجنسه المعرَّض للانقراض موطن ولا مكان آمن تحت تلك السماء اللامبالية.
بعد أن بدأت الرحلة بقليل، تباطأت أعراض المخاض لدى جوليان أو توقفت. قلل هذا من توتره؛ فالتأخير لم يعد كارثيًّا وصار بإمكانه أن يمنح الأولوية للأمان على حساب السرعة. لكنه كان يعرف أن التأخير كان يثير جزع المرأتين. وخمن أن أملهما الآن في الهروب، لأسابيع، أو حتى لأيام، من الوقوع في قبضه زان كان، كأمله، ضئيلًا. إن كان المخاض مجرد إنذار كاذب، أو إن طالت مدته، فقد يقعون في قبضته قبل حتى أن يولد الطفل. من آن لآخر، كانت ميريام تميل للأمام لتطلب منه بهدوء أن يتوقف على جانب الطريق كي تنزل هي وجوليان لتتمشَّيا. وكان يخرج هو أيضًا من السيارة ويتكئ عليها ليراقب ظليهما الداكنين وهما يتمشيان جيئة وذهابًا على حافة الطريق، وكان يسمع صوتَيهما الهامسين، ويدرك أنهما بعيدتان عنه بأكثر من مجرد بضع ياردات من طريق ريفي، وأنهما تتشاركان قلقًا عظيمًا لا تُشرِكانه به. لم تهتما كثيرًا بالطريق؛ أو بالحوادث العرضية التي كانت تقابلهم أثناء الرحلة. فكل ذلك، حسبما استشف من صمتهما، كان شأنه هو.
لكن بحلول الصباح الباكر، أخبرته ميريام بأن انقباضات جوليان قد بدأت من جديد، وأنها قوية. لم تستطع إخفاء نبرة الانتصار في صوتها. وقبل مطلع الفجر، أدرك بالضبط أين هم. فآخر لافتة كانت تُشير باتجاه تشيبينج نورتون. وقد حان الوقت لترك الجادات المتعرجة والمخاطرة بقطع البضعة الأميال الأخيرة على الطريق الرئيسي.
على الأقل صار سطح الطريق أفضل. ولم يعد ثمة داعٍ لأن يقود وهو يخشى دومًا من أن يُثْقَب الإطار مرة أخرى. لم تمر بهم أي سيارة أخرى، وبعد أن قطع أول ميلين، استرخت يداه المتوترتان على مقود السيارة. كان يقود بسرعة لكن بحذر، متلهفًا للوصول إلى الغابة دون أي تأخير. كان مؤشر الوقود قد بدأ يهبط لمقياس حرج، ولم يكن أمامه أي سبيل آمن للتزود بالوقود. أدهشه قصر المسافة التي قطعوها منذ أن بدءوا رحلتهم من سواينبروك. فقد خُيِّل إليه أنهم يقطعون الطريق منذ أسابيع؛ كمسافرين متعبين مشئومين بلا زاد. كان يعرف أن ليس بيده ما يفعله لتجنب الوقوع في الأسر خلال تلك الرحلة التي من المؤكد أنها ستكون الأخيرة. إن صادفوا أحد حواجز الطريق التابعة لشرطة الأمن الوطني فلن يكون لديهم أي أمل في التملص منهم بالمماطلة أو المجادلة؛ فشرطة الأمن الوطني ليست مثل عصابة ذوي الوجوه المطلية. لم يكن أمامه سوى الاستمرار في القيادة والتمسك بالأمل.
من آنٍ لآخر، كان يُخيَّل له أنه سمع صوت لهاث جوليان وصوت ميريام تتمتم بعبارات طمأنة بصوت مُنخفِض، لكنهما لم تتكلَّما إلا قليلًا. بعد حوالي ربع ساعة، سمع ميريام تتحرك في الخلف ثم سمع صوت وقع شوكة منتظِم على شيء خزفي. ناولتْه كوبًا.
«لقد احتفظتُ بالطعام حتى تلك اللحظة. جوليان تحتاج إلى كامل قواها أثناء الولادة. لقد خفقتُ البيضات مع الحليب وأضفت إليهم السكر. تلك حصتك، ولي مثلها. والباقي لجوليان.»
كان الكوب ممتلئًا حتى ربعه فقط وعادة كان سيشمئز من ذلك المزيج المخفوق الحلو. لكنه الآن كان يتجرَّعه بنهم، ويرغب في المزيد، وعلى الفور أحس بمفعوله المقوي. أعاد إليها الكوب فأعطته قطعة بسكويت مدهونة بالزبد وفوقها شريحة من الجبن الصلب. في حياته لم يستشعر حلاوة طعم الجبن كما استشعرها الآن.
قالت ميريام: «اثنان لكلٍّ منا، وأربعة لجوليان.»
احتجت جوليان. «يجب أن نتقاسَمها بالتساوي.» لكن شهقة ألمٍ قطعت كلمتَها الأخيرةَ.
سأل ثيو: «ألن تحتفظي بشيء منه.»
«من ثلاثة أرباع علبة بسكويت ونصف رطل من الجبن؟ نحن بحاجة إلى قوانا الآن.» زاد البسكويت الجاف والجبن من ظمئهم فأنهوا الوجبة بشرب الماء من الإناء الصغير.
ناولته ميريام الكيس البلاستيكي وقد وضعت فيه الكوبين وأدوات المائدة فوضعه على أرضية السيارة. ثم أضافت قائلة، وكأنما خشيَت أن يُحمل كلامها على اللوم: «لم يحالفك الحظ يا ثيو. لكنَّكَ نجحت في الحصول على سيارة، وذلك لم يكن يسيرًا. ودونها ما كان سيصبح أمامنا أيُّ فرصة.»
تمنَّى لو أنها قالت: «لقد اعتمدنا عليك فلم تَخذُلنا.» وابتسم بحسرة عندما خطر له كيف أنه، وهو الذي لم يسعَ يومًا لأن ينال استحسان أحد، كان يسعى لنيل رضاها وثنائها.
وصلوا أخيرًا إلى أطراف شارلبوري. أبطأ سرعته، باحثًا عن محطة فينستوك القديمة، ومنحنى الطريق. كان عليه أن يبحث عن الدرب المؤدِّي إلى الغابة على الجانب الأيمن بعد المنحنى مباشرة. كان معتادًا على القدوم إليها من أكسفورد وحتى حينها كان يسهل أن يغفل عن المنعطف. أطلق تنهيدة ارتياح مسموعة عندما مر بالسيارة بجوار مباني المحطة، ثم سلك المنحنى، فرأى على يمينه صف الأكواخ الحجرية الذي استدل به على اقترابه من الدرب. كانت الأكواخ خاوية، ونوافذها موصدة بالألواح الخشبية، وتكاد تكون حطامًا. لوهلة، تساءل إذا كان بإمكانهم أن يتخذوا من أحدها ملجأً؛ لكنها كانت مكشوفة وقريبة للغاية من الطريق. كان يعلم أن جوليان تريد أن تتوغل داخل الغابة.
قاد بحرص في الدرب وسط الحقول المهملة صوب الأشجار الكثيفة البعيدة. قريبًا سيحل ضوء النهار. نظر إلى ساعة يده فوجد أن السيدة كولينز ستكون قد وصلت وحررت الزوجين العجوزين. بل إنهما على الأرجح يستمتعان الآن باحتساء قدح من الشاي، ويرويان محنتَهما، فيما ينتظران وصول الشرطة. عندما بدَّل التروس كي ينجح في اجتياز جزء صعب من الدرب الصاعد، خُيِّل إليه أنه سمع جوليان تشهق وتحدث صوتًا غريبًا بين النخير والأنين.
استقبلتهم الغابة فاتحة أذرعها الداكنة القوية. صار الدرب أضيق، وأطبقت عليهم الأشجار. كان على يمينهم جدار من الأحجار الجافة تهدَّم نصفه، فتبعثرت حجارته المكسورة على أرض الدرب. وضع ذراع النقل على ترس السرعة الأولى وحاول أن يحافظ على ثبات السيارة. بعد أن قطعوا حوالي ميل، مالت ميريام إلى الأمام وقالت: «أظن أننا سنتمشى لبعض الوقت. سيكون ذلك أسهل لجوليان.»
ترجَّلت المرأتان، واستندت جوليان إلى ميريام، وشقتا طريقهما بحرص فوق النقر والحجارة المنتشرة في الدرب. ظهر في أنوار السيارة الجانبية أرنب مُجفل تسمَّر للحظة، ثم وثَب أمامهم بذيله الأبيض. فجأة حدثت جلبة صاخبة واندفع شبح أبيض تبعه آخر خلال الشجيرات، وكادا يصطدمان بغطاء المحرك. كانت غزالة وصغيرها. جنحا إلى جانب الدرب، يشقان طريقهما عبر الشجيرات، ثم اختفيا وراء الجدار، وحوافرهما تقعقع فوق الحجارة.
من آنٍ لآخر، كانت المرأتان تتوقفان وكانت جوليان تنحني بينما تسندها ميريام بذراعها. بعد أن تكرر ذلك للمرة الثالثة، أشارت ميريام لثيو أن يتوقف. وقالت: «أظن أن من الأفضل لها أن تركب في السيارة الآن. كم تبقى أمامنا؟»
«ما زلنا على أطراف الريف المفتوح. قريبًا جدًّا سننعطف يمينًا. بعد ذلك سيكون أمامنا حوالي ميل.»
تابعت السيارة سيرها مرتجةً. تبيَّن أن المنعطف الذي يذكره كان مفترق طرق ولوهلة حار أي اتجاه يسلك. ثم قرر أن يسلك الاتجاه الأيمن؛ حيث كان الدرب، الذي كان لا يزال أضيق، ينحدر باتجاه الأسفل. فذلك حتمًا سيكون الطريق المؤدي للبحيرة، وسيليها سقيفة الحطب التي يذكرها.
صاحت ميريام: «هناك منزل على اليمين.» التفت فلاحظه في الوقت المناسب. كان كشبح بعيد يُطلُّ عبر فرجة ضيقة في كتلة الأشجار والشجيرات المتشابكة. كان يقف وحيدًا في حقل واسع منحدِر. قالت ميريام: «لا يصلح. فهو مكشوف للغاية. وليس ثمة مكان يمكن الاختباء فيه في الحقل. من الأفضل أن نتابع المسير.»
كانوا يدخلون إلى قلب الغابة. بدا كأن الدرب بلا نهاية. مع كل ياردة يقطعونها، كان الدرب يضيق أكثر وكان يسمع صوت احتكاك الأغصان بالسيارة. فوقهم، كانت الشمس الآخذة في السطوع تبدو مثل قرص من الضوء الأبيض المشتت لا يكاد يُرى فوق الأغصان المتشابكة لأشجار البيلسان والزعرور. بينما كان يحاول باستماتة أن يتحكم في المقوَد، خيِّل إليه أنهم يَنزلقون رغمًا عنهم في نفق من الظلمة الخضراء سينتهي بهم إلى سياج شجري لا يمكن اختراقه. كان يتساءل إذا كانت الذاكرة قد خانته، وإذا كان من المفترض أن يسلكوا الاتجاه الأيسر حين اتسع الدرب فجأة وظهرت أمامهم فرجة معشبة. ورأوا أمامهم الالتماعة الخافتة لصفحة مياه البحيرة.
أوقف السيارة على بُعد بضع ياردات من ضفتها وترجل منها، ثم استدار لمساعدة ميريام على رفع جوليان من مقعدها. للحظة تشبثت به، وهي تتنفس بصعوبة، ثم تركته وابتسمت ومشت إلى حافة الماء وهي تستند بيدها إلى كتف ميريام. كان سطح البركة — فقد كانت أصغر من أن تكون بحيرة — مغطًّى بالأوراق الساقطة الخضراء والنباتات المائية فبدت كأنها امتداد للفرجة. تحت ذلك الغطاء الأخضر المتراقص كان سطح البركة لزجًا كالدبس، ومحببًا بالفقاعات الدقيقة التي كانت تتحرك ببطء وتلتحم أو تنقسم ثم تنفجر وتختفي. في الرقع التي لا تغطيها النباتات كان يرى انعكاس السماء بينما كانت الشبورة الصباحية تتبدد لينكشف ضوء الفجر المعتم. تحت تلك الصفحة اللامعة، في أعماق البحيرة الصفراء الباهتة، كانت فروع النباتات المائية والغصينات المتشابكة والأغصان المكسورة ترقد تحت طبقة من الطمي كأنها هياكل سفن غرقت منذ زمن طويل. على حافة البركة تجمعت كتل من القش الرطب على سطح الماء، وعلى مسافة كان هناك طائر غراء أسود صغير يعدو مسرعًا في عجالة واضطراب وبجعة وحيدة تشق طريقها بجلال بين الحشائش. كانت البركة محاطة بأشجار الزان والدردار والقيقب التي نمَت حتى كادت تبلغ حافة الماء، فبدت كخلفية براقة امتزج فيها الأخضر والأصفر والذهبي والبني الشاحب، لكنها مع ألوانها الخريفية عكست في ضوء الفجر شيئًا من إشراق ونضارة الربيع. على الضفة المقابلة، كان هناك شجيرة تزيِّنها الأوراق الصفراء، وكانت أفرعها وغصيناتها الدقيقة غير مرئية في ضوء الفجر فبدت كأنها حبيبات ذهبية صغيرة معلقة في الهواء.
تجولت جوليان بمحاذاة حافة البحيرة. ثم نادت قائلة: «الماء يبدو أصفى هنا والضفة متماسكة. المكان مناسب للاغتسال.»
انضما لها وجثا ثلاثتهم على ركبهم ووضعوا أذرعهم في البحيرة ونضحوا الماء البارد على وجوههم وشعورهم. بعث ذلك على السرور فجعلهم يضحكون. رأى ثيو أن يديه حركتا الماء فجعلتاه وحلًا مخضرًّا. كان هذا الماء حتمًا غير آمن للشرب حتى إن غُلِّيَ.
في طريقهم إلى السيارة، قال ثيو: «السؤال هو هل نتخلص من السيارة الآن أم لا. قد تكون هي أفضل مأوًى يتسنى لنا الحصول عليه، لكنها ستلفت الأنظار، كما أن وقودها يوشك أن ينفد. على الأرجح لن تسير لأكثر من ميلين آخرين.»
كانت ميريام هي من أجابت. «تخلَّص منها.»
نظر إلى ساعة يده. كانت تشير إلى التاسعة إلا قليلًا. خطر له أنه يمكنهم أن يستمعوا إلى نشرة الأخبار. على الأغلب ستكون تافهة ومتوقعة وغير مثيرة للاهتمام، لكن الاستماع إليها سيكون بمثابة لفتة توديعية قبل أن ينقطعوا تمامًا عن أخبار مَن سواهم. فاجأه أنه لم يفكر في المذياع من قبل، ولم يهتم بتشغيله خلال رحلتهم. فقد كان يقود السيارة بتوتر شديد كان من شأنه أن يجعل أي صوت غير مألوف لا يحتمل، حتى صوت الموسيقى. مد يده عبر النافذة المفتوحة وشغل المذياع. استمعوا بضجر إلى تفاصيل حالة الطقس، ومعلومات حول الطرق التي أُغلقَت رسميًّا أو التي لم تعد تخضع للصيانة، وإلى المشاكل المحلية البسيطة لعالم آخذ في التقلص.
سمع صوت ميريام. «إذن فقد وصل رولف إلى الحاكم. فهم يَعرفون بأمر مهاجمة الأوميجيين لنا وأنه تبقَّى منا ثلاثة فقط. لكن ثمة أمر مطمئن على كل حال. فهم ما زالوا لا يعرفون أن الولادة وشيكة. لا يستطيع رولف إخبارهم بالتاريخ المتوقع للولادة. فهو لا يعرف. ويظن أن جوليان لا يزال أمامها شهر. ما كان الحاكم سيطلب قط من الناس أن يحذروا السيارة إن كان يعتقد أن ثمة فرصة لأن يجدوا بها رضيعًا.»
قال بتبلُّد: «لا يوجد ما يطمئن. لقد قتلتها.»
جاءه صوت ميريام حاسمًا ومرتفعًا على نحو غير طبيعي، يكاد يكون له وقع الصراخ على أذنيه. «لم تَقتلْها! لو كانت الصدمة ستقتلها لكانت ماتت عندما أشهرت المسدس لأول مرة. أنت لا تعلم سبب وفاتها. حتمًا ماتت ميتة طبيعية. كان ذلك سيحدث في كل الأحوال. فقد كانت امرأة عجوزًا وقلبها عليلًا. أنت أخبرتنا بذلك. هذا لم يكن خطأك يا ثيو، فأنت لم تتعمَّد ذلك.»
كاد يئنُّ قائلًا لا لم أتعمَّد ذلك. لم أتعمد أن أكون ابنًا أنانيًّا، أو والدًا غير محب، أو زوجًا سيئًا. متى تعمَّدت أي شيء؟ بحق المسيح، ما الضرر الذي لم يكن بوسعي فعله لو أني بدأت أتعمد ذلك!
قال: «أسوأ ما في الأمر هو أني تلذَّذت به. تلذذت به فعليًّا!»
كانت ميريام تفرغ السيارة من حمولتها، وتحمل الأغطية على كتفها، عندما قالت: «تلذذت بتقييد رجل عجوز وزوجته؟ أنت حتمًا لم تتلذَّذ بذلك. لقد فعلت ما أملاه عليك الموقف.»
«ليس تقييدهما، ليس ذلك ما أعنيه. بل أعني أني تلذذت بشعور الإثارة والسلطة، ومعرفتي أني بوسعي فعل ذلك. لم يكن الأمر مريعًا تمامًا. بالطبع كان مريعًا لهم، لكن ليس لي.» لم تتكلم جوليان، بل دنت منه وأمسكت بيده. رفض لفتتها والتفت إليها بحدة. «كم حياة أخرى سيُكلُّفنا طفلك حتى يولد؟ ولأي غاية؟ أنت هادئة جدًّا ومطمئنة جدًّا، وواثقة من نفسك للغاية. تتحدثين عن طفلة. فكيف ستكون حياة تلك الطفلة؟ تؤمنين أنها ستكون أول طفلة تولد، وأن أطفالًا آخرين سيولدون من بعدها، وأنه في تلك اللحظة حتى قد يكون ثمة سيدات حوامل لا يدركن بعد أنهنَّ يَحملن بداخلهن حياة جديدة للعالم. لكن ماذا إن كنتِ مخطئة. ماذا إن كانت تلك الطفلة هي الوحيدة التي ستولد. أي جحيم ذلك الذي ستُلقينها فيه؟ هل بإمكانك حتى أن تتخيَّلي الوحدة التي ستشعر بها في سنواتها الأخيرة؛ بعد أن تقضيَ عشرين عامًا مريعة ستمر عليها دون أي أمل في أن تسمع أذناها صوتًا بشريًّا قط؟ قط! يا إلهي، ألا تملكُ أي منكما مخيلةً؟»
قالت جوليان بهدوء: «أتظن أني لم أفكر في ذلك، بل في أكثر منه؟ ثيو، ليس بوسعي أن أتمنى لو أني لم أحمل بها. لا يسعني إلا أن أشعر بالبهجة عندما أفكر فيها.» دون إضاعة أي لحظة، كانت ميريام قد أخرجت حقيبة السفر والمعطفين من حقيبة السيارة وأنزلت الغلاية والإناء المملوءين بالماء.
كان صوتها يحمل انزعاجًا لا غضبًا: «بربك يا ثيو، تمالك نفسك. كنا بحاجة إلى سيارة فأتيت لنا بواحدة. ربما كان من الممكن أن تختار واحدة أفضل وأن تحصل عليها بخسائر أقل. لكنَّكَ فعلت ما فعلت. إن كنت تريد أن تستسلم للشعور بالذنب، فذلك شأنك، لكن لتُؤجِّل ذلك لوقت لاحق. حسنًا، لقد ماتت المرأة وأنت تشعر بالذنب، وهو ليس بالشعور المُمتع. يا للأسف! اعتَدْه. لمَ عليك الهروب من الإحساس بالذنب؟ إنه أحد تبعات كونك بشرًا. أولم تلحظ ذلك؟»
أراد ثيو أن يقول: «في الأربعين سنة الأخيرة فاتني أن ألحظ العديد من الأمور.» لكنه شعر أن تلك الكلمات التي كان لها وقع الاستغراق في الندم كانت غير صادقة ومبتذلة. بدلًا من ذلك، قال: «من الأفضل أن نتخلَّص من السيارة، وبسرعة. لقد أجاب البث عن سؤالنا بخصوصها.»
حل مكابح السيارة وأسند كتفه إلى صندوقها وهو يحاول أن يثبت قدميه في العشب الذي يتخلله الحصى، ممتنًا لأن الأرض كانت جافة ومنحدرة قليلًا. تولت ميريام الجانب الأيمن ودفعاها معًا. لبضع ثوانٍ، لم تنجح جهودهما لسبب غير معلوم. ثم ما لبثت السيارة أن تحركت للأمام برفق.
قال: «ادفعيها دفعة قوية عندما أقول لك. لا نريد أن تَعلَق مقدمتها في الوحل.»
كانت العجلتان الأماميتان قد قاربتا حافة الماء عندما صاح: «الآن!» فدفعاها معًا بأقصى ما بوسعهما من قوة. سقطت السيارة عن حافة البحيرة وارتطمت بالماء محدثة صوتًا بدا كأنه أيقظ جميع طيور الغابة. فقد عج الهواء بالنداءات والصيحات واهتزت الأغصان الخفيفة للأشجار المرتفعة وكأن الحياة دبَّت بها. تطاير الرذاذ لأعلى فتناثر على وجهه. تمزق غطاء الأوراق الطافية على سطح الماء وتراقص. راقَبا، وهما يلهثان، السيارة بينما استقرت في الماء وبدأت ببطء وهدوء تغرق ويدخل الماء خلال نوافذها المفتوحة. قبل أن تختفي، ودون تفكير، أخرج ثيو دفتر يومياته من جيبه وألقاه في البحيرة.
وبعد ذلك، ألمت به لحظة مريعة من الهلع، كانت تفاصيلها في خياله واضحة كالكابوس، لكنه كان كابوسًا لا يمكن أن يأمل أن ينتهي بمجرد استيقاظه. تخيل أن ثلاثتهم محاصرون في السيارة الغارقة، والماء يتدفق إلى داخلها، وكان يبحث باستماتة عن مقبض الباب، بينما يحاول أن يحبس أنفاسه رغم الألم المبرح الذي كان يتأجج في صدره، يريد أن ينادي جوليان لكنه يعلم أنه لا يجرؤ على الكلام وإلا امتلأ فمه بالوحل. كانت هي وميريام في المقعد الخلفي تغرقان، ولم يكن بيده أن يفعل أي شيء لمساعدتهما. سال العرق من جبينه، وأطبق راحتَيه المتعرقتَين، وأبعد عينَيه عن البحيرة وهول ما تخيل ونظر لأعلى إلى السماء، منتشلًا عقله من هول خياله إلى هول الواقع. كان قرص الشمس باهتًا ومستديرًا كبدر يتوهج نوره وسط هالة من الضباب، وبدت أغصان الأشجار العالية سوداء في ضيائها المبهر. أغمض عينَيه وانتظر ريثما ذهب عنه الخوف واستطاع أن يعود بناظرَيه إلى صفحة البحيرة.
نظر إلى جوليان وميريام متوقعًا أن يرى على وجهيهما الهلع البين نفسه الذي لا بد أنه ارتسم على وجهه للحظة. لكنهما كانتا تَنظُران إلى السيارة الغارقة، وتراقبان بهدوء وباهتمام، يكاد يكون لا مباليًا، تجمعات أوراق الشجر وهي تعلو وتهبط في تجعيدات الماء التي تنتشر، وكأنما تتدافع لتفسح مكانًا. تعجب من هدوئهما، وقدرتهما الواضحة على تجاهل جميع الذكريات، وجميع الأهوال في خضمِّ استغراقهما في اللحظة الحالية.
قال بصوت غليظ: «لوك. لم تتحدَّثا عنه مطلقًا في السيارة. لم يَرِد اسمه على لسان أيٍّ منكما منذ أن واريناه الثرى. هل تفكران فيه؟» كان للسؤال وقع الاتهام.
رفعت ميريام عينَيها عن البحيرة ونظرت إليه نظرة ثابتة. «نفكر فيه بقدر ما نجرؤ على ذلك. ما يهمنا الآن هو أن يُولد طفلُه بأمان.»
دنَت منه جوليان ولامست ذراعه. قالت، كأنما كان هو أكثر من يحتاج إلى الطمأنة: «سيحين وقتٌ للحزن على لوك وجاسكوين. سيحين الوقت يا ثيو.»
غمر الماء السيارة وأخفاها عن الأنظار. كان يخشى أن يكون الماء عند حافة البركة ضحلًا فيظهر سطح السيارة ولو من تحت القش، لكن عندما نظر للظلام القاتم بالأسفل، لم يرَ سوى دوامات الوحل.
قالت ميريام: «هل معك أدوات المائدة؟»
«لا، أليست معكِ؟»
«سحقًا، لقد تركناها في مقدمة السيارة. لكن هذا لا يهم الآن. فلم يتبقَّ معنا أي طعام لنأكله.»
قال: «من الأفضل أن نأخذ ما معنا إلى سقيفة الحطب. هي تبعد حوالي مائة ياردة على الجانب الأيمن من ذلك الطريق.»
صلَّى للرب في سره أن تكون لا تزال موجودة. كانت تلك هي المرة الأولى التي يصلي فيها منذ أربعين سنة، لكن كلماته لم تكن توسُّلًا بقدر ما كانت أملًا غيبيًّا بأن يستطيع، بطريقة ما، عن طريق شدة احتياجه، أن يوجِد السقيفة. حمل على كتفه إحدى الوسائد ومعطفَي المطر ثم التقط الغلاية المملوءة بالماء في يد وحقيبة السفر في اليد الأخرى. لفَّت جوليان بطانيةً ثانيةً على كتفيها وانحنت لتلتقط الإناء المملوء بالماء لكن ميريام أخذته من يدها وقالت: «احملي الوسادة. وأنا سأتولى حمل باقي الأغراض.»
وهكذا ساروا في الدرب ببطء مثقلين بحمولتهم. حينئذ سمعوا صوت الأزيز المعدني لمروحية. لم يكونوا بحاجة إلى الاختباء فقد كانوا شبه محصورين بين الأغصان المتشابكة لكن دفعتْهم الغريزة لأن يخرجوا عن الدرب ويختبئوا بين شجيرات البيلسان الخضراء المتشابكة ويقفوا دون حراك وهم يكادون يكتمون أنفاسهم، وكأن صوت كل نفس يلتقطُونه قد يبلغ ذلك الوحش المتلألئ المخيف، وتلك العيون الراصدة والآذان المصغية. علت الضوضاء حتى صارت قعقعة تصم الآذان. لا بد أنها فوق رءوسهم مباشرة. خيل لثيو أن الحياة قد تدبُّ فجأة في الشجيرات التي يحتمون بها. ثم بدأت المروحية تدور في دائرة، فيهدأ أزيزها ثم تعود مرة أخرى لتجدد خوفهم. بعد خمس دقائق تقريبًا، هدأ أخيرًا ضجيج المحرك حتى صار مجرد همهمة بعيدة.
قالت جوليان بصوت خافت: «ربما لا يبحثون عنَّا.» كان صوتها ضعيفًا، لكن فجأة انكمشت ألمًا وأمسكت بميريام.
كان صوت ميريام صارمًا. «لا أظنهم خرجوا في نزهة. على كل حال، لم يعثروا علينا.» التفتت إلى ثيو. «كم تبعد سقيفة الحطب تلك؟»
«حوالي خمسين ياردة إن لم تُخنِّي الذاكرة.»
«لنأمل أنها لم تخنك.»
اتسع الدرب فصار مرورُهم أسهل، لكن ثيو الذي كان متخلِّفًا قليلًا عن المرأتين، شعر أن كاهله مثقل بأكثر من وزن المتاع الذي يحمله. بدا حينئذ تقييمه السابق لتقدُّم رولف المحتمل في طريقه متفائلًا للغاية. لِمَ سيشق طريقه ببطء وخلسة إلى لندن؟ ولِمَ سيحتاج لأن يذهب بشخصه إلى الحاكم؟ كل ما يحتاج إليه هو هاتف عمومي. رقم المجلس معروف لكل مواطن. تلك السهولة الظاهرية في الوصول إليه هي جزء من سياسة الانفتاح التي يتبنَّاها زان. لن تتمكن دومًا من التحدث إلى الحاكم بنفسه، لكن بإمكانك دومًا أن تحاول. بل إن بعض المتصلين كانوا يَنجَحُون في ذلك. وهذا المتصل، فور أن يُفصح عن هويته ويُتحقق منها، سيكون له الأولوية. سيطلبون منه أن يختبئ، وألا يتحدث إلى أحد حتى يأتوا ليقلوه، بطائرة مروحية بالتأكيد. وعلى الأرجح هو في قبضتهم منذ أكثر من اثنتي عشرة ساعة.
ولن يواجهوا صعوبة في العثور على الهاربين. لا بد أن زان عرف بأمر السيارة المسروقة في الصباح الباكر، وبكمية الوقود التي كانت في خزانها، وعرف بدقة كم ميلًا بإمكانهم أن يأملوا أن يقطعوه. ما عليه سوى أن يحدد نقطة على الخريطة ويرسم حولها دائرة. لم يكن لدى ثيو أي شك بشأن دلالة تلك المروحية. لقد بدءوا بالفعل في البحث عن طريق الجو، وتحديد المنازل المعزولة، والبحث عن التماعة سطح سيارة. وسيكون زان حتمًا قد نسق بالفعل البحث على الأرض. لكن بقي أمامهم أمل وحيد. قد لا يزال ثمة وقت كي يولد الطفل كما تريد أمه، في سلام، وفي خصوصية، دون أن يَشهد ولادته سوى الشخصين اللذَين تُحبهما. لا يمكن أن يكون البحث سريعًا؛ لقد كان بالتأكيد محقًّا بشأن ذلك. لن يريد زان أن يتدخل بالقوة أو أن يَلفت أنظار العامة، ليس بعد، ليس قبل أن يتسنى له التحقق بنفسه من صحة رواية رولف. وسيوظف فقط رجالًا مختارين بعناية لتلك المهمة. لا يسعه حتى التأكد من أنهم سيختبئون في غابة. لا بد أن رولف أخبره أن تلك كانت خطتهم الأصلية؛ لكن رولف لم يَعُد قائدهم.
كان يتشبث بذلك الأمل، ويحمل نفسه على التحلي بالثقة التي كان يعلم أن جوليان ستحتاجها منه، حينما أتاه صوتها.
«ثيو، انظر. أليس ذلك بديعًا؟»
استدار وتحرك إلى جوارها. كانت تقف بجانب شجرة زعرور طويلة مفرطة النمو محملة بحبات الزعرور الحمراء. من أعلى غصن بها تدلت جَفْلة بيضاء من الظَّيَّان، شفافة كالستار الرقيق، من ورائها تتلألأ حبات الزعرور كالجواهر. نظر إلى وجهها المنتشي، وقال في نفسه: أنا أدرك فحسب أنها جميلة، أما هي فبوسعها أن تشعر بجمالها ذاك. نظر وراءها إلى شجيرة بيلسان وبدا كأنه يرى بوضوح لأول مرة حباتها السوداء البراقة وسيقانها الحمراء الرقيقة. لوهلة شعر كأن الغابة قد تحولت من مكان مظلم ومخيف، كان يشعر في قرارة نفسه أن أحدهم سيلقى حتفه فيه، إلى ملاذ غامض وجميل، لا يعبأ بأولئك المتطفلين الثلاثة، لكنه مكان لا يشعر بأن أي شيء يسكنه غريب عنه تمامًا.
ثم سمع صوت ميريام فرحًا ومبتهجًا. «سقيفة الحطب لا تزال موجودة!»