الفصل الثالث والثلاثون
لم يكن الطفل بحاجة إلى أي تشجيع على الرضاعة. كان طفلًا مفعمًا بالحيوية، نظر إلى ثيو بعينيه اللامعتين غير المركزتين، ملوحًا بكفيه اللذَين بَدَوا كنجمتَي بحر، بينما أسند رأسه إلى ثدي أمه، وفمه الصغير يبحث بنهم عن حلمتها. كان من المدهش أن يتمتَّع مخلوق حديث عهد بالحياة مثله بذلك القدر من النشاط. رضع ثم نام. استلقى ثيو بجوار جوليان ولفهما بذراعه. شعر بملمس شعرها الناعم المتعرق على وجنته. واستلقيا على الملاءة المتسخة المكرمشة وسط رائحة الدم والعرق والفضلات، إلا أنه لم يشعر في حياته قط بسلام كالذي شعر به، ولم يدرك من قبل أن البهجة يمكن أن تمتزج بعذوبة بالألم. استلقيا شبه نائمين في سكون تام، وبدا لثيو أن جسد الطفل الدافئ يفوح برائحة الرضَّع الغريبة المحبَّبة، جافة ونفاذة كرائحة الكلأ، كانت غير دائمة لكنها طغت حتى على رائحة الدم.
ثم تململت جوليان وقالت: «كم مرَّ من الوقت منذ أن غادرت ميريام؟»
رفع رسغه الأيسر مقربًا إياه من وجهه. «أكثر من ساعة بقليل.»
«لا يفترض أن تستغرق كل ذلك الوقت. اعثر عليها رجاءً يا ثيو.»
«لا نحتاج إلى الماء فحسب. إن كان المنزل لا يزال مفروشًا فسيكون به أغراض أخرى تريد أن تجمعها.»
«لكنها لن تُحضرَ سوى القليل منها في المرة الأولى. بإمكانها أن تعود إلى هناك في أي وقت؛ فهي تعلم أننا سنكون قلقين. اذهب إليها رجاءً. أنا متيقنة من أن شيئًا وقع لها.» رأت تردُّده، فقالت: «سنكون كلانا بخير.»
استخدامها لصيغة المثنَّى، وما رأى في عينيها عندما نظرت إلى طفلها، كادا يوهنان عزمه. قال: «من الممكن أن يكونوا قريبين جدًّا الآن. وأنا لا أريد أن أترككِ. أريد أن نكون معًا عندما يأتي زان.»
«سنكون معًا يا عزيزي. لكن ربما تكون ميريام واقعة في مأزق، ربما تكون محاصرة أو مجروحة، تنتظر المساعدة بفارغ الصبر. يجب أن أتأكد يا ثيو.»
لم يُبدِ مزيدًا من الاعتراض، بل نهض قائلًا: «سأعود بسرعة قدر الإمكان.»
وقف صامتًا لبضع لحظات خارج الكوخ وأصغى. أغمض عينيه عن ألوان الخريف التي كست الغابة، وعن شعاع ضوء الشمس المنعكس على اللحاء والعشب، كي يتمكن من تركيز جميع حواسه في حاسة السمع. إلا أنه لم يسمع أي شيء، ولا حتى تغريد طائر. ثم مثلَ عدَّاءٍ سريع، انطلق يعدو متجاوزًا البحيرة، وعبر النفق الشجري الضيق متجهًا إلى مفترق الطرق، وهو يثب فوق الأخاديد والحفر، ويشعر بحوافها الجافة تتزعزع تحت قدميه، مخفضًا رأسه ومائلًا بجسده ليعبر من تحت الأغصان المنخفضة المتشابكة. وفي ذهنه امتزج الخوف والأمل. كان من الجنون ترك جوليان. إن كان رجال شرطة الأمن الوطني قريبين وإن كانت ميريام قد وقعت في قبضتهم، فلن يكون بوسعه مساعدتها الآن. وإن كانوا قريبين لتلك الدرجة، فسيكون عثورهم على جوليان وطفلها مسألة وقتٍ فحسب. كان من الأفضل أن يظل معها وينتظرا، ينتظرا من الصباح المشرق حتى العصر ويتأكدا أنه لا أمل في رؤية ميريام مجددًا، ينتظرا حتى يسمعا وقع الأقدام على العشب.
لكنه قال لنفسه، في محاولة مستميتة لطمأنتها، إن ثمة احتمالات أخرى. كانت جوليان محقة. ربما تعرَّضت ميريام إلى حادث، ربما سقطت وهي الآن مستلقية على الأرض تتساءل كم أمامه من الوقت حتى يأتي. انشغل ذهنه بتصور كارثة وقعت لها، ربما صُك باب خزانة مُؤَن وراءها، أو سقطت في فتحة بئر متهدم لم ترَه، أو انهار تحتها أحد ألواح سقف متعفِّن. حاول أن يحمل نفسه على اليقين، أن يقنع نفسه أن ساعة واحدة هي زمن ضئيل، وأن ميريام مشغولة بجمع جميع الأغراض التي قد يحتاجون إليها، وحساب ما الذي تستطيع حمله من تلك المؤن الثمينة، وما الذي يمكن تركه حتى وقت لاحق، ناسية في خضم انشغالها بجمع المؤن كم تبدو تلك الدقائق الستون طويلة في نظر مَن في انتظارها.
كان قد وصل إلى مفترق الطرق ولاح أمامه، من خلال الفرجة الضيقة والسياج الواسع من الشجيرات غير الكثيفة، الحقل المنحدر وسقف المنزل. وقف لوهلة يلتقط أنفاسه، مائلًا بجسده للأمام كي يُخفف الألم المبرح الذي شعر به في جانبه، ثم انطلق بين نباتات القراص، والأشواك، والغصينات المتكسرة حتى خرج إلى ضوء النهار الساطع للريف المفتوح. لم يجد أي أثر لميريام. عبر الحقل، مبطئًا من سرعته، مدركًا أنه مكشوف وشاعرًا بقلق عميق، حتى وصل إلى المنزل. كان عبارة عن مبنى قديم له سقف غير مستوٍ من القرميد المكسو بالعفن ومداخن طويلة على الطراز الإليزابيثي، ربما كان بيت مزرعة فيما مضى. كان يفصله عن الحقل حائط منخفض مبني من الحجارة دون ملاط. كان يمر بمنتصف القَفْر، الذي كان يومًا حديقته الخلفية، جدولٌ ضيقٌ يتدفق ماؤه من مصرف أعلى إلى ضفته التي يمر فوقها جسر خشبي بسيط يؤدي إلى الباب الخلفي. كانت نوافذ المنزل صغيرة وبلا ستائر، والسكون يعم الأرجاء. كان المنزل كالسراب — رمز الأمان والرتابة والسكينة التي كان يرنو إليها — الذي سيتلاشى أمام عينيه بمجرد أن يمسَّه. في ذلك السكون، كان صوت خرير ماء الجدول عاليًا كصوت سيل جارف.
كان الباب الخلفي مصنوعًا من خشب البلوط الأسود المحاطة أطرافه بالحديد. وكان مواربًا. دفعه لينفتح أكثر فغمَر ضياء شمس الخريف الناعم الأجحار التي رُصِف بها الممر المؤدي إلى الجانب الأمامي للمنزل بلون ذهبي. مرة أخرى، وقف لوهلة وأصغى. فلم يسمع أي شيء، ولا حتى تكات عقارب ساعة. على يساره كان يوجد باب من خشب البلوط، خمن أنه يؤدِّي إلى المطبخ. لم يكن موصدًا فدفعه برفق ليفتحه. بعد سطوع النهار في الخارج، كانت الغرفة معتمة ولوهلة لم تبصر عيناه شيئًا حتى تأقلمتا على العتمة التي زادت من حدتها الدعائم الخشبية المصنوعة من البلوط الداكن، والنوافذ الصغيرة التي كان يغطيها الغبار. شعر ببرودة رطبة، وبصلابة الأرضية الحجرية وبلسعة في الهواء، وشم أثر رائحة في الهواء، أدرك على الفور أنها رائحة بشرية مريعة، كرائحة خوف مستديم. تحسس الحائط بحثًا عن مفتاح الإضاءة، وعندما وجده لم يكن يتوقع أن تكون الكهرباء لا تزال موجودة. لكن الأنوار أُضيئت، وحينئذٍ رآها.
كانت مخنوقة وجثتها ملقاة على كرسي كبير من الخوص على يمين المدفأة. كانت راقدة هناك ممددة، وساقاها غير مستقيمتَين، وذراعاها تتدليان من طرفي الكرسي، ورأسها مائلًا للخلف والحبل مغروسًا في جلدها حتى كاد يختفي فيه. فور أن لمحتها عيناه، انتابه هلع شديد فترنَّح حتى الحوض الحجري تحت النافذة وتقيأ بشدة لكن دون جدوى. كان يريد أن يقترب منها، ويغلق عينيها، ويلمس يدها، أن يقوم بأي لفتة تجاهها؛ فقد كان مدينًا لها بأكثر من أن يُشيح بوجهه عن مشهد موتها المريع ويتقيأ اشمئزازًا. لكنه كان يعلم أنه لن يقوى على لمسها أو حتى النظر إليها مرة أخرى. مستندًا بجبهته على الحوض الحجري البارد، مدَّ يده ليفتح الصنبور فتدفق الماء البارد على رأسه. تركه يتدفق وكأنما سيغسل عنه الهلع والأسف والخزي. أراد أن يرجع رأسه للوراء ويصرخ منفسًا عن غضبه. وقف عاجزًا لبضع ثوانٍ، أسيرًا لمشاعر جعلته غير قادر على الحركة. ثم أغلق الصنبور، ومسح الماء عن عينيه وعاد إلى أرض الواقع. كان عليه أن يعود إلى جوليان بأسرع ما يُمكن. رأى على الطاولة ثمرة بحث ميريام الهزيلة. كانت قد وجدت سلة كبيرة من الخوص ووضعت بها ثلاث عُلب طعام، وفتاحة عُلب وزجاجة مياه.
لكنه لم يستطع ترك ميريام على حالها. يجب ألا يراها لآخر مرة على تلك الحال. مهما كانت الحاجة للعودة إلى جوليان والطفل، كان مدينًا لها بمراسم بسيطة. نهض محاربًا خوفه واشمئزازه وحمل نفسه على النظر إليها. ثم انحنى وحل الحبل من حول رقبتها، وأراح خطوط وجهها وأغلق عينيها. شعر بالحاجة لأن يخرجها من ذلك المكان المريع، فحملها بين ذراعيه وأخرجها من المنزل إلى ضوء النهار، ثم وضعها بحرص على الأرض تحت شجرة دردار. ألقت أوراقها، التي بدت كألسنة من اللهب، بوهج على بشرتها السمراء الشاحبة فجعلت عروقها تبدو كأنها لا تزال تنبض بالحياة. كان وجهها يبدو ساكنًا. عقد ذراعيها أمام صدرها، وخيل إليه أن جسدها الجامد ما زال قادرًا على التواصل معه، على إخباره أن الموت ليس هو أسوأ مصير للإنسان، وأنها باقية على عهدها مع أخيها، وأنها فعلت ما عزمت على فعله. لقد ماتت هي لكن حياة جديدة وُلِدت. تخيَّلَ ميتتها المريعة القاسية، فقال في نفسه إن جوليان بلا شك ستقول إنه حتى ذلك الفعل الهمجي يمكن أن يغتفر. لكن ذلك لم يكن مُعتقَدَه. وقف متسمرًّا لبرهة ينظر للجثة، وأقسم على نفسه أن يأخذ بثأر ميريام. ثم التقط السلة المصنوعة من الخوص ودون أن يلتفت للخلف، انطلق يعدو من الحديقة عابرًا الجسر، ثم دخل إلى الغابة.
كانوا بلا شك قريبين. وكانوا حتمًا يُراقبونه. كان متأكدًا من ذلك. لكنه الآن كان يفكر بوضوح، وكأنما نَشَّط الهلعُ عقله. ماذا ينتظرون؟ لِمَ تركوه يذهب؟ لم يكونوا بحاجة لأن يتبعوه. إذ لا بد أنهم كانوا يدركون أنهم أوشكوا على الوصول إلى نهاية رحلة بحثهم. كان متيقنًا من أمرَين؛ أن فرقة البحث ستكون صغيرة، وأن زان سيكون ضمنها. لم يكن قتلة ميريام ضمن فرقة بحث استطلاعية منفصلة لديها تعليمات بالعثور على الهارِبين، مع عدم التعرض لهم، وإبلاغ الفرقة الرئيسية بمكانهم. لن يخاطر زان قط بأن يَعثُر أحد سواه، أو شخص يثق فيه ثقة عمياء، على امرأة حبلى. لن يُطْلِق حملة بحث عامة لتقفي أثر ذلك الصيد الثمين. كان متيقنًا من أن زان لم يحصل على أي معلومات من ميريام. فقد كان يتوقع أن يجد امرأة في مراحل الحمل الأخيرة لا يَزال أمامها بضعة أسابيع حتى تضع مولودها وليس أمًّا وطفلها. وحتمًا لم يكن يريد أن يُثير خوفها، أو أن يتسبب في بدء المخاض مبكرًا. ألهذا السبب خُنِقَت ميريام ولم تُردَ بالرصاص؟ حتى من تلك المسافة لم يرد أن يخاطر بسماع صوت إطلاق الرصاص.
لكن ذلك الاستدلال لم يكن منطقيًّا. إن كان ما يريده زان هو حماية جوليان، وضمان احتفاظها بهدوئها من أجل الولادة التي يظن أنها وشيكة، فلِمَ يقتل القابلة التي تثق فيها بتلك الطريقة المريعة؟ لا بد أنه كان يعلم أن أحدهما، وربما كليهما، سيأتي للبحث عنها. كان محض صدفة أنه هو، ثيو، وليس جوليان، هو من واجه مشهد لسانها المنتفخ المتدلي من فمها، وعينيها الجاحظتين الخاويتَين، وباقي المشهد المرعب داخل ذلك المطبخ المريع. أكان زان مقتنعًا أن الطفل قد أوشك أن يولد فلن يؤذيَه أي شيء الآن مهما كان صادمًا؟ أم كانت لديه حاجة ملحة لأن يتخلَّص من ميريام، أيًّا كانت تبعات ذلك؟ لِمَ يأخذها أسيرة ويكلف نفسه عناء التعقيدات التي ستنجم عن ذلك إن كان بإمكانه التخلص من تلك المشكلة بخنقها سريعًا بحبل؟ بل ربما كانت تلك الفعلة الشنيعة متعمَّدة. هل أراد بها أن يعلن لهما أن «هذا ما أنا قادر على فعله، هذا ما فعلته. لم يبقَ سواكما في مؤامرة جماعة «السمكات الخمس»، ولا أحد سواكما يعرف حقيقة والدَي الطفل. وقد صرتما تحت سلطتي وستظلان خاضعَين لها إلى الأبد»؟
أم أن خطته كانت أكثر جرأة من ذلك؟ بمجرد أن يولد الطفل، لم يكن عليه سوى أن يقتل ثيو وجوليان ويصير بإمكانه أن يدَّعي أن الطفل من صُلبه. أمن الممكن حقًّا أن تصور له أنانيته المتعجرفة أن ذلك ممكن؟ وحينئذٍ تذكر كلمات زان: «سأفعل ما يلزم، أيًّا كان.»
في السقيفة كانت جوليان مستلقية دون حراك حتى ظنَّ لأول وهلة أنها نائمة. لكن عينيها كانتا مفتوحتين وكانتا لا تزال مثبتتين على طفلها. كان الهواء معبَّقًا برائحة دخان الخشب النفاذة الشجية، لكن النار كانت قد خبت. وضع ثيو السلة على الأرض وأخرج منها زجاجة المياه وفتح غطاءها. ثم جثا بجوارها.
نظرت في عينيه وقالت: «لقد ماتت ميريام، أليس كذلك؟» عندما لم يُجبْها ثيو، قالت: «ماتت وهي تُحضر لي تلك.»
قرب الزجاجة إلى شفتيها. «إذن، كوني شاكرة لها واشربي منها.»
لكنها أشاحت بوجهها، وتركت طفلها فكاد يسقط عن جسدها لولا أن ثيو أمسك به. ظلت مستلقية دون حراك وكأنما أُنهكَت فلم تستطع تحمل نوبات الحزن، لكنه رأى دموعها تنهمر على وجهها وسمع أنينها المنخفض، الذي كاد يكون له وقع موسيقي، فكان كنواح العالم المفجوع. كانت تَبكي فَقْدَ ميريام ولم تكن قد بكت بعدُ على فقد والد طفلها.
انحنى وضمها إليه بصعوبة بسبب وجود الطفل بينهما، محاولًا أن يكتنف كليهما بذراعيه. وقال: «تذكري الطفل. الطفل بحاجة إليكِ. تذكري ما كانت ميريام ستُريدُه.»
لم تنطق بكلمة لكنها أومأت برأسها ثم أخذت الطفل منه مرة أخرى. قرَّب الزجاجة إلى شفتَيها.
أخرج العلب الثلاث من السلة. كان الملصَق الموضوع على أحدها قد سقط؛ وكانت العلبة ثقيلة لكنه لم يستطع معرفة ما بداخلها. كان مكتوبًا على العلبة الثانية «خوخ في شراب مركَّز محلى.» أما العلبة الثالثة فكان بها فاصوليا مطبوخة في صلصة طماطم. من أجل هذه العلب الثلاثة وزجاجة المياه ماتت ميريام. لكنه كان يعلم أن ذلك تبسيطٌ مخلٌّ للأمور. فقد ماتت ميريام لأنها كانت واحدة من أفراد الجماعة الصغيرة التي كانت تعرف حقيقة الطفل.
كانت فتَّاحة العلب من طراز قديم، اعترى الصدأ جزءًا منها، وكانت حافتها القاطعة ثَلِمة. لكنها كانت تؤدِّي الغرض. فتح العلبة وثنى غطاءها للخلف، واحتضن رأس جوليان بيده اليمنى وبدأ يطعمها الفاصوليا بواسطة اليسرى. التهمتها بنهم. كان إطعامه لها لفتة حب. لم يَنطِق أيٌّ منهما بكلمة خلالها.
بعد خمس دقائق، وعندما فرغت العلبة حتى نصفها، قالت: «والآن دورك.»
«أنا لست جائعًا.»
«بالطبع أنت جائع.»
كانت براجمُه أكبر من أن تصل أصابعه إلى قاع العلبة، فحان دورها لإطعامه. جلست واضعة الطفل في حجرها وأدخلت يدها اليمنى الصغيرة في العلبة وأطعمته.
قال: «طعمها شهي.»
عندما فرغت العلبة، تنهدت تنهيدة صغيرة، ثم استلقت على ظهرها، وضمت الطفل إلى صدرها. واستلقى هو بجوارها.
قالت: «كيف ماتت ميريام.»
كان يعلم أنها ستسأل هذا السؤال. ولم يستطع أن يخفي عنها الحقيقة. «ماتت مخنوقة. لا بد أنها كانت ميتة سريعة للغاية. ربما حتى لم يتسنَّ لها رؤية قاتليها. لا أعتقد أنه كان لديها متسع من الوقت لتشعر بالهلع أو بالألم.»
قالت جوليان: «ربما استغرق ثانية أو ثانيتين أو أكثر. لكن لا يسعنا أن نختبر تلك الثواني. لا يسعنا أن نعرف ما شعرت به من رعب وألم. فقد يختبر المرء رعب دهر كامل في ثانيتين.»
قال: «لقد انقضى الأمر بالنسبة لها الآن يا عزيزتي. لقد أفلتَت من قبضتهم إلى الأبد. ميريام وجاسكوين ولوك، أفلتوا جميعًا من قبضة المجلس. كلما ماتت ضحية، تكبَّد الطغاة خسارة صغيرة.»
قالت: «ذلك عزاء مطمئنٌ للغاية.» وصمتت لبرهة ثم أردفت: «لن يُحاولوا تفريق شملنا، أليس كذلك؟»
«لا يوجد أي شيء أو أي شخص يُمكن أن يفرق شملنا، لا الحياة ولا الموت، ولا الممالك ولا السلطان، ولا أي شيء دنيوي أو سماوي.»
أسندت رأسها إلى وجنته. «يا عزيزي، ليس بوسعك أن تقطع ذلك الوعد. لكني أحببتُ سماعه منك.» بعد برهة سألت: «لِمَ لا يأتون؟» لكن سؤالها لم يكن يحمل أي الْتياع بل حمل القليل من الحيرة.
مدَّ يده وأمسك بيدها، ولف أصابعه حول كفها المشوه الدافئ الذي كان يراه فيما سبق منفِّرًا للغاية، وربت عليه، دون أن يجيبها. ظلا مستلقيَين جنبًا إلى جنب في سكون. كان ثيو يشم الرائحة النفاذة لألواح الخشب المنشورة والنار الخامدة، والستار المستطيل الأخضر من أشعة الشمس، ويُصغي إلى السكون الذي لم يكن يتخلله صوت رياح ولا طيور، وإلى نبضات قلبها وقلبه. كان يلفهما صمت شديد كان بأعجوبة خاليًا من أي قلق. أذلك هو شعور ضحايا التعذيب عندما يصلون من غاية الألم إلى السلام؟ قال في نفسه: «لقد أتممت غايتي. ها قد وُلد الطفل كما أرادت. هذا هو مكاننا الخاص، وتلك هي لحظتنا الخاصة، وأيًّا ما سيفعلون بنا، فلن يستطيعوا قط أن يسلبونا إياها.»
كانت جوليان هي من كسرت الصمت: «ثيو، أظن أنهم هنا. لقد أتوا.»
لم يسمع شيئًا لكنه نهض وقال: «انتظري هنا بهدوء شديد. لا تتحرَّكي.»
ثم أدار ظهره كي لا ترى ما يفعل، وأخرج المسدس من جيبه ووضع فيه الرصاصة. وخرج لملاقاتهم.
كان زان وحده. كان يبدو كحطاب ببنطاله المخملي المضلع القديم، وقميص بياقة مفتوحة وسترة ثقيلة. لكن الحطابين لا يأتون حاملين سلاحًا؛ فقد كان جِراب مسدسه ناتئًا تحت السترة. كما أن الحطابين لا تشع منهم تلك الثقة، وذلك التغطرس السلطوي. كان خاتم الزواج الملكي لإنجلترا يلمع في يده اليسرى.
قال: «الأمر حقيقي إذن.»
«أجل، حقيقي.»
«أين هي؟»
لم يُجب ثيو. قال زان: «لستُ بحاجة لأن أسأل؛ فأنا أعلم أين هي. لكن أهي بخير؟»
«أجل هي بخير. هي نائمة الآن. أمامنا بضع دقائق قبل أن تستيقظ.»
أراح زان كتفَيه للوراء وتنفس الصعداء كسبَّاح مُنهَك يُخرج رأسه لينفض الماء عن عينَيه.
لبرهة تنفس بصعوبة، ثم قال بهدوء: «أنا متشوِّق لرؤيتها. لا أريد أن أخيفها. لقد أتيت ومعي سيارة إسعاف، ومروحية، وأطباء وقابلات. أحضرت كل شيء تحتاج إليه. سيولد الطفل في راحة وأمان، وستُعامَل الأم على أنها معجزة كما تستحق؛ يجب أن تعرف ذلك. إن كانت تثق فيك، فبإمكانك أن تخبرها أنت بذلك. طمئنها وهدئ من روعها، وأخبرها أنه لا يوجد ما يدعوها لأن تخافَني.»
«بل يوجد أسباب كافية تدعوها لأن تخافك. أين رولف؟»
«لقد مات.»
«وجاسكوين؟»
«مات هو الآخر.»
«وقد رأيت جثة ميريام. إذن لم يبقَ على قيد الحياة أحدٌ ممن يعرفون حقيقة ذلك الطفل. تخلصت منهم جميعًا.»
قال زان بهدوء: «لم يبقَ سواك أنت.» عندما لم يردَّ ثيو تابع قائلًا: «أنا لا أنوي قتلك، ولا أريد ذلك. فأنا بحاجة إليك. لكن يجب أن نتحدَّث الآن قبل أن أراها. يجب أن أعرف لأي مدى يمكنني الاعتماد عليك. بإمكانك أن تساعدني فيما سأفعل معها، فيما يجب عليَّ أن أفعله.»
قال ثيو: «أخبرني بما عليك فعله.»
«أليس الأمر واضحًا؟ إن كان الطفل ذكرًا ولم يكن عقيمًا، فسيكون أبًا للجيل الجديد. إن كان قادرًا على إنتاج المني، المني الخصيب، في سن الثالثة عشرة — أو ربما في الثانية عشرة — فستكون الإناث من الأوميجيات في الثامنة والثلاثين فحسب من أعمارهن. وبإمكاننا أن نأتي منهن بنَسْلٍ، ومن نساء أخريات مختارات. وقد نتمكن من أن نأتي بنسل مجددًا من المرأة نفسها.»
«لقد مات والد طفلها.»
«أعرف ذلك؛ فقد أخبرنا رولف بالحقيقة. لكن إن كان يوجد رجل واحد غير عقيم، فقد يُوجد آخرون. سوف نضاعف برنامج الاختبار؛ فقد صرنا مهملين مؤخرًا. سنفحص الجميع، من يعانون من الصرع، ومن التشوهات؛ كل ذكر في البلاد. وقد يكون الطفل ذكرًا ويكون غير عقيم. سيكون أملنا الأكبر. أمل العالم.»
«وجوليان؟»
ضحك زان. «على الأرجح سأتزوَّجها. على أي حال، سنعتني بها. عد إليها الآن. أيقظها. أخبرها أني أتيت بمفردي. وطمئنها. قل لها إنك ستُساعدني على الاعتناء بها. بربك يا ثيو، هل تُدرك حجم السلطة التي بين يدينا؟ عُد إلى المجلس، وكن نائبي. بإمكانك أن تحصل على أي شيء تريده.»
«كلا!»
عم الصمت لبرهة. ثم سأل زان: «أتذكر الجسر في وولكوم؟» لم يحمل السؤال استجداءً عاطفيًّا لولاء قديم أو لصلة الدم، ولا تذكرة بلفتة ودٍّ بدرت من أي منهما. كل ما في الأمر أن زان تذكر ذلك الموقف وابتسم مبتهجًا به.
قال ثيو: «أتذكر كل ما حدث في وولكوم.»
«لا أريد قتلك.»
«ستُضطرُّ إلى ذلك يا زان. وقد تُضطرُّ إلى قتلها هي أيضًا.»
أشهر مسدسه. فضحك زان عندما رآه.
«أعلم أنه ليس مُلقمًا. قلتَ ذلك للعجوزين، أتذكُر؟ ما كنت ستترك رولف يهرب لو كان معك مسدس مُلَقَّم.»
«وكيف كنتَ تتوقع أن أوقفه؟ أكنت تتوقع أن أُرديَ زوجها أمام عينيها؟»
«زوجها؟ لم أكن أعرف أنها تهتم كثيرًا لأمر زوجها؛ فليست تلك الصورة التي رسمها لها طواعية قبل أن يلقى حتفه. أنت تتصور أنك واقع في حبها، أليس كذلك؟ لا تضفي عليها صبغة رومانسية. فقد تكون أهم امرأة في العالم، لكنها ليست مريم العذراء. والطفل الذي تحمله يظل طفل بغاء.»
التقت عيناهما. قال ثيو في نفسه: «ماذا ينتظر؟ هل يجد أنه لا يستطيع قتلي بدم بارد، مثلما أجد أني لا أستطيع قتله؟» مر الوقت، ثانية طويلة تلو أخرى. ثم مد زان ذراعه وصوب مسدسه. وفي ذلك الجزء من الثانية بكى الطفل، مُطلقًا نحيبًا حادًّا، كصرخة احتجاج. سمع ثيو هسيسَ رصاصة زان وهي تمر خلال كم سترته دون أن تحدث ضررًا. أدرك في ذلك الجزء من الثانية أنه لم يتسنَّ له رؤية ما تذكره بوضوح شديد فيما بعد؛ وَجهُ زان وقد ارتسمت عليه تعابير الفرحة والنصر، ولم يتسنَّ له سماع صيحة الاستحسان العالية التي أطلقها، صيحة كتلك التي أطلقها على الجسر في وولكوم. لكن تلك الصيحة التي تذكَّرها ودوت في أذنَيه هي التي أطلقها زان عندما أطلق ثيو الرصاصة لتخترق قلبه.
بعد دويِّ الرصاصتين، لم يُسمع سوى الصمت المهيب. بعدما دفع هو وميريام بالسيارة إلى البحيرة، تحوَّلت الغابة المسالِمة في نظره إلى دغل صاخب، يعج بأصوات متنافرة من صرخات وحشية، وأغصان تتكسَّر، ونداءات طيور ملتاعة، لم تَخفت إلا مع تبدد آخر موجة ترقرقت في صفحة النهر. لكن الآن لم يسمع أي شيء. خيِّل إليه أنه كان يقترب من جثة زان كمُمثل في فيلم بالحركة البطيئة، فكان كأنما يلطم الهواء بكفيه ويخطو بقدميه خطى عالية، تكاد لا تطأ الأرض؛ وتمدد الزمن فصار بلا نهاية فبدت جثة زان كهدف بعيد يشقُّ طريقه نحوه بمشقة في زمن متوقف. ثم، كأنما أفاق عقله، عاد إلى الواقع مرة أخرى وأحس على التو بحركات جسده السريعة، وبكل كائن صغير يتحرك بين الأشجار، وبكل ورقة عشب تنثني تحت نعل حذائه، وبحركة الهواء وهو يصطدم بوجهه، والأهم من كل ذلك بجسد زان الراقد عند قدميه. كان مستلقيًا على ظهره، فاتحًا ذراعَيه، وكأنما يستريح بجوار نهر ويندرش. كان وجهه مستكينًا، غير مندهش، وكأنما كان يتصنع الموت، لكن عندما جثا ثيو على ركبتيه رأى أن عينيه قد صارتا مجرد دائرتين خاويتين، عينيه اللتَين كان البحر يموج فيهما من قبل لكن الآن انحسرت عنهما أمواجه وتركهما خاويتَين. نزع الخاتم من إصبع زان، ثم وقف مُنتصبًا وانتظر.
أتوا بسرعة من الغابة، يتقدمهم كارل إنجلباتش، يتبعه مارتن ولفينجتون، ثم المرأتان. وكان وراءهم، على مسافة محسوبة بعناية، ستة جنود من حرس الجرينادير. تحركوا حتى صاروا على بُعد أربع أقدام من الجثة، ثم توقفوا. رفع ثيو الخاتم، ثم وضعه متعمِّدًا في إصبعه وأظهر لهم ظهر يده.
قال: «لقد مات حاكم إنجلترا، ووُلد الطفل. أصغوا.»
دوَّت مرة أخرى، صرخة الرضيع الملحة المثيرة للشفقة. شرعوا في الاقتراب من السقيفة لكنه أعاقَ طريقهم قائلًا: «تمهلوا. لا بد أن أستأذن الأم أولًا.»
داخل السقيفة كانت جوليان تجلس مُتسمِّرة، تضم الطفل بقوة إلى صدرها، وكان فمه فاغرًا يرضع، ويتحرك على بشرتها. بينما كان ثيو يقترب منها، رأى الخوف اليائس في عينَيها يتحول إلى ارتياح مبتهِج. وضعت الطفل في حجرها ومدَّت ذراعيها نحوه.
قالت وهي تنتحب: «لقد دوَّت رصاصتان. لم أعرف أيًّا منكما سأرى، أنت أم هو.»
ضم جسدها المرتعد إليه لبرهة ثم قال: «لقد مات حاكم إنجلترا. أعضاء المجلس هنا. هلا قابلتِهم، وأريتِهم الطفل؟»
قالت: «سأقابلهم لمدة قصيرة. ثيو، ماذا سيحدث الآن؟»
استنفَدَ خوفُها عليه لوهلة شجاعتها وقوتها فرآها لأول مرة منذ ولادة الطفل ضعيفة وخائفة. همس لها، وشفتاه تلامس شعرها.
«سنأخُذكِ إلى المستشفى، إلى مكان هادئ. وستتلقين الرعاية. لن أسمح لأحد بإزعاجك. لن تضطرِّي للبقاء فيها لوقت طويل، وسنكون معًا. لن أتركك قط. مهما حدث، سنظل معًا.»
تركها وتوجَّه للخارج. كانوا يقفون في نصف دائرة في انتظاره، وكانت أعينهم مثبتة على وجهه.
«يُمكنكم الدخول الآن. لكن دون حرس الجرينادير، أعضاء المجلس فقط. إنها منهكة وتحتاج إلى الراحة.»
قال ولفينجتون: «معنا سيارة إسعاف تقف عند أول الدرب. بإمكاننا أن نستدعي المسعفين ليحملوها إليها. المروحية تبعد حوالي ميل، خارج القرية.»
قال ثيو: «لن نخاطر بركوب المروحية. استدعِ حاملي النقالة الطبية. وانقل جثة الحاكم. لا أريدها أن تراها.»
بينما تقدم جنديَّان من الحرس الملكي وبدآ يجران الجثة، قال ثيو: «أظهرا بعض الاحترام. تذكَّرا من كان قبل بضع دقائق. لم تكونا لتجرؤا على لمسِه حينها.»
التفت وقاد أعضاء المجلس إلى داخل السقيفة. بدا له أنهم دخلوا متردِّدين على مضض، المرأتان أولًا ثم ولفينجتون وكارل. لم يَقترب ولفينجتون من جوليان بل وقف عند رأسها وكأنه حارس متأهِّب. جثت المرأتان على ركبتيهما، لا بدافع احتياجهما لأن تدنوا من الطفل بقدر ما كان إجلالًا له، على حدِّ ظن ثيو. ونظرتا إلى جوليان وكأنما تستجديان موافقتها. ابتسمت ومدت يدها إليهما بالطفل. مدتا يديهما وهما تُتَمتِمان وتنتحبان، ويهتزُّ جسداهما من البكاء والضحك، ولمستا رأسه ووجنتَيه وذراعَيه المُلَوِّحَتَين. رفعت هارييت إصبعًا فقبض الطفل عليه فجأة. فضحكت، ونظرت جوليان إلى ثيو وقالت: «أخبرَتْني ميريام أن الرضَّع يقبضون على الأشياء بتلك الطريقة. لكن ذلك لا يدوم طويلًا.»
لم تردَّ المرأتان. كانتا تبكيان وتبتسمان وتصدران أصواتًا سخيفة مبتهجة تنم عن الترحاب والاكتشاف. بدَوتا لثيو كرفقة إناث مبتهجة. نظر إلى كارل، مندهشًا من أنه استطاع أن يتحمل تلك الرحلة، وأنه لا يزال واقفًا على قدمَيه. نظر كارل إلى الطفل بعينيه المحتضرتَين وتلا نشيد سمعان. «إذن سيبدأ الأمر من جديد.»
قال ثيو في نفسه: «سيبدأ الأمر من جديد، بالغيرة والخيانة والعنف والقتل، بذلك الخاتم في إصبعي.» نظر إلى الياقوتة الزرقاء الضخمة التي يطوقها الألماس اللامع، وإلى الصليب المصنوع من الياقوت الأحمر الذي يعلوها، ولفلف الخاتم في إصبعه شاعرًا بثقله. كان وضعه في إصبعه حركة غريزية لكنها كانت متعمَّدة، كانت لفتة لتأكيد سلطته وضمان الحماية. كان يعلم أن حرس الجرينادير سيأتي مدجَّجًا بالسلاح. وكان من شأن مرأى ذلك الرمز اللامع في إصبعه أن يجعلهم على الأقل يتمهلون، ويمنحونه الفرصة لأن يتكلم. لكن هل يحتاج لأن يظلَّ مرتديًا إياه الآن؟ كان يملك في يده الآن كامل سلطة زان، بل أكثر منها. كان كارل في أيامه الأخيرة، مما يعني أن المجلس بلا قائد. لبعض الوقت على الأقل سيضطرُّ لأن يتولى منصب زان. كان ثمة مشكلات تحتاج إلى معالجتها؛ لكن كل شيء في أوانه. لن يستطيع أن يصلح كل شيء في آنٍ واحد، يجب أن يكون لديه أولويات. أهذا ما أدركه زان؟ هل كان زان يشعر كل يوم من أيام حياته بنشوة السلطة التي اجتاحته فجأة؟ ذلك الشعور بأن كل شيء أصبح بمقدوره، أن ما يطلبه سيُلبى، أن من يكره سيُدَمَّر، وأن العالم سيسير حسب رغبته. شرع في نزع الخاتم من إصبعه، لكنه توقَّف وأعاده مرة أخرى. سيقرر فيما بعد ما إن كان يحتاج لارتدائه، ولكم من الوقت.
قال: «اتركونا الآن.» وانحنى لمساعدة المرأتين على النهوض. خرجوا صامتين كما دخلوا.
نظرت جوليان إليه؛ فلاحظت الخاتم للمرة الأولى. قالت: «ذلك لم يُصنع لإصبعك.»
وللحظة لا أكثر، شعر بشيء أشبه بالحنق. لا بد أن يكون هو من يُحدِّد متي يخلعه. قال: «هو مفيد في الوقت الحالي. سأخلعه في الوقت المناسب.»
بدا أنها اقتنعت بإجابته في الوقت الحالي، وربما كانت مخيلتُه هي التي صورت له ذلك الشك الذي رآه في عينيها.
ثم ابتسمت وقالت له: «هلا عمَّدتَ الطفل لأجلي؟ أرجوك افعل ذلك الآن، ونحن وحدنا. كان لوك سيرغب في ذلك. وأنا أرغب في ذلك.»
«ماذا ستُسمِّينه؟»
«سمه تيمنًا بوالده وتيمنًا بك.»
«سأجعلكِ مرتاحة أولًا.»
كانت المنشفة الموضوعة بين ساقيها ملوثة للغاية. نزعها دون نفور، ودون أي تفكير، وطوى منشفة أخرى ووضعها مكانها. لم يكن باقيًا في الزجاجة سوى القليل من الماء، لكنه لم يكن بحاجة إليه. انهمرت دموعه على جبهة الطفل. كان يذكر ذلك الطقس من إحدى ذكريات طفولته البعيدة. يجب أن يسيل الماء، وأن تُتلى كلماتٌ معينة. وبإصبعه المبلل بدموعه والملطخ بدمها، رَشَمَ الصليبَ على جبهة الطفل.