الفصل الرابع
كانت لدى أمي طموحات فنية. لا، هذا ادِّعاء فيه تكبُّر وليس صحيحًا حتى. فلم يكن لدى أمي طموحات لأي شيء سوى طموحها المُستميت للوجاهة. لكنها كانت تملك موهبةً فنية نوعًا ما، مع أني لم أرَها تَرسُم أي لوحات أصلية. كانت هوايتها إعادة رسمِ الصور القديمة، التي عادة ما تكون مشاهد فيكتورية مأخوذة من مجلدات الأعداد المجمعة البالية لمجلة «جيرلز أون بيبر» المصوَّرة أو جريدة «إلستريتد لندن نيوز». لا أعتقد أن ذلك كان صعبًا، لكنها كانت تفعلُه بدرجة من الحرفية، وتَحرص، كما كانت تقولُ لي، على أن تستخدم ألوانًا صحيحة تاريخيًّا، مع أني لا أعرف كيف كانت تتأكَّد من ذلك. أعتقد أنها كانت أقرب ما تكون للسَّعادة عندما كانت تجلس على طاولة المطبخ بعلبة ألوانها وبرطمانين مملوئين بالماء، ومصباح المكتب الذي كانت تُسلِّطُه بدقة على الصورة المبسوطة على ورقة جريدة أمامها. اعتدَت أن أُشاهدَها وهي عاكفة على رسمها، وألحظ الرقة التي كانت تُغمَس بها الفرشاة الصغيرة في الماء، ودرجات الأزرق والأصفر والأبيض المُتداخِلة بينما كانت تَمزجُهم على لوحة ألوانها. لم تكن طاولة المطبخ كبيرة بما يَكفي لأنْ أفرشَ عليها جميع واجباتي المنزلية، لكنَّها كانت كبيرة بما يَكفي لأن أجلس إليها لكتابة مقالي الأسبوعي. كنتُ أحبُّ أن أرفع عيني — فلم تكن تُضايقها نظراتي المتفحِّصة الخاطفة — لأشاهد الألوان الزاهية وهي تتشكَّل تدريجيًّا على الرسم، والنقاط الرمادية الصغيرة الباهتة وهي تتحوَّل إلى مشهد يَنبض بالحياة؛ مشهد لمحطة قطارات نهائية تعجُّ بسيدات يَعتمرن القبعات يُودِّعن رجالهن الذاهبين إلى حرب القرم، أو لعائلة فيكتورية ترتدي نساؤها الفراء والمنافج، تزين الكنيسة لاستقبال عيد الميلاد المجيد، أو للملكة فيكتوريا برفقة زوجها وحولهما فتيات صغار ترتدين فساتين منتفشة، أثناء افتتاحها للمعرض الكبير، أو لمناظر التجديف في نهر أيزيس وفي الخلفية مقرات نوادي التجديف الجامعية العائمة التي اندثرت منذ زمن طويل، يظهر فيها رجال ذوو شوارب مُرتدين سترات رياضية وفتيات بنهود بارزة وخصورٍ نحيلة ترتدين معاطفَ وقبعات من القش، أو لموكب مُتناثر من المصلِّين يتقدمهم إقطاعيُّ القرية وزوجته يدخلون كنيسة قريتهم لحضور قداس عيد الفصح وفي الخلفية مَقابر تكسوها زهور الربيع في مظهرٍ احتفالي. ربما كان افتتاني المبكر بتلك المَشاهد هو ما وجَّه اهتمامي للقرن التاسع عشر بعدما صرتُ عالم تاريخ، تلك الحقبة التي بدت حينها كما تبدو الآن، كما لو أنك تنظُر إليها عبر مقراب، تراها شديدة القرب ولكنها في الوقت نفسه بعيدة للغاية، مُبهِرة في حيويتها، وتمسُّكها بالأخلاقيات، وعبقريتها ووَسَخها.
كانت هواية أمي تلك تدرُّ عائدًا ماديًّا. كانت تضعُ اللوحات بعد أن تنهيها في إطارات بمساعدة السيد جرينستريت، وكيل الكنيسة المحلية التي كانا يرتادانها بانتظام، والتي كنتُ أرتادها على مضض، ثم تبيعها لمتاجر التُّحف القديمة. لن أعرف قط الدور الذي لعبه السيد جرينستريت في حياتها بعيدًا عن مهارته اليدوية في استخدم الخشب والغراء، أو الدور الذي كان ليلعبه لولا وجودي الدائم حولهما، كما أني لا أعرف كم كانت أمي تتقاضى مقابل لوحاتها، وما إذا كان ذلك الدخل الإضافي هو الذي كان يُوفِّر ثمن رحلاتي المدرسية ومضارب الكريكيت والكتب الإضافية التي لم تتذمَّر بشأنها قطُّ. أنا أيضًا كان لي مساهمة في ذلك؛ فقد كنتُ أنا من أجد تلك الصور القديمة. كنتُ أفتِّش في صناديق محلات الخردوات المستعمَلة في بلدة كينجستون وفي مناطق أبعد منها عن المنزل في طريق عودتي من المدرسة أو في أيام السبت، وكنتُ أحيانًا أقود دراجتي لمسافة خمسة عشر أو عشرين ميلًا كي أصلَ إلى محلٍّ لديه أفضل الغنائم. كان معظمها بخسَ الثمن وكنتُ أشتريها بمصروفي. أما أفضلها فكنتُ أسرقها، فقد صرت بارعًا في اقتصاص اللوحات الرئيسية من مجلَّدات الأعداد المجمعة دون أن تتضرَّر، وإخراج الصور من أطرها ودسِّها في كتاب الخرائط المدرسي. كانت حاجتي إلى القيام بتك الأعمال التخريبية، هي حاجة أيِّ ولد صغير حسبما أظن إلى ارتكاب الجرائم البسيطة. لم يشكَّ بي أحد يومًا، فقد كنتُ أنا ذلك الطالب الوقور بزيِّه الموحَّد، طالب مدرسة القواعد الذي كان يأخذ مُشترياته الأقل شأنًا إلى الخزينة ليدفع ثمنها على مهل ودون أن يبدو عليه التوتُّر، والذي كان يشتري أحيانًا الكتب المستعملة الرخيصة من صناديق المتفرِّقات الموضوعة خارج باب المحل. كنت أستمتِعُ بتلك الرحلات المنفرِدة، وبالمخاطَرة، ونشوة اكتشاف كنز، والعودة مُنتصِرًا بغنائمي. كانت أمي لا تسألني عن شيء إلا عن المبلغ الذي دفعتُه كي تردَّه إليَّ. ولو كانت قد شكَّت في أن بعض تلك الصور كانت تُساوي أكثر من الثمن الذي أخبرتها أني دفعته، فإنها لم تَستجوِبني يومًا، لكني كنت أعلم أنها كانت مسرورة. لم أكن أحبها لكني كنتُ أسرق من أجلها. تعلمتُ منذ صغري على طاولة المطبخ تلك أن ثمة طرقًا للتملُّص من التزامات الحب دون الشعور بالذنب.
أعرف، أو أظنُّ أني أعرف، متى بدأتْ رهبتي من تحمُّل المسئولية تجاه حياة الآخَرين أو سعادتهم، مع أنني ربما أكون أخادع نفسي؛ فقد كنتُ دومًا بارعًا في اختلاق تبريرات لنواقِصِي الشخصية. تعود جذور ذلك إلى عام ١٩٨٣، وهو العام الذي خسرَ والدي فيه معركته مع سرطان المَعِدة. هكذا كنتُ أسمع الكبار يصفون الأمر. كانوا يقولون: «خسر معركته.» وأرى الآن أنها كانت حقًّا معركة، خاضها بشيء من الشجاعة حتى وإن كان لم يَملك خيارًا. حاول والداي أن يُعفياني من التفاصيل الصعبة. كانت عبارة «نحن نُحاوِل أن نُخفيَ الأمر عن الصبي.» إحدى العبارات المتكرِّرة التي كنتُ أسمعُها عرضًا. لكن إخفاء الأمر عن الصبي كان يَعني عدم إخباري بأيِّ شيء سوى أن والدي مريض، أو أنه يجب أن يُعرض على طبيب متخصِّص، أو أنه يجب أن يدخل إلى المستشفى لإجراء عملية جراحية، أو أنه سيعود إلى المنزل قريبًا، أو أنه يجبُ أن يعود للمُستشفى مرةً أخرى. وأحيانًا كانوا لا يُخبرونَني بتلك الأمور حتى؛ فكنتُ أعود إلى المنزل فلا أجده، وأجد أمي منهمِكة في تنظيف المنزل، بوجهٍ كأنَّما قُدَّ من الصخر. إخفاء الأمور عن الصبي كان يعني أنَّني عشتُ طفلًا وحيدًا دون إخوة في أجواءٍ من الترقُّب لخطر غير مفهوم، خطر يعني أن ثلاثتنا كنا في طريقنا إلى كارثة حَتمية تفوقُ تصوُّري، وعندما تحلُّ سأكون أنا السبب فيها. لدى الأطفال دائمًا الاستعداد لتصديق أنهم السبب في أيِّ كارثة تحلُّ بالكبار. لم تَنطِق أمي قط كلمة «سرطان» أمامي، ولم تشر لمرضه إلا عرضًا. «أبوك مُتعَب قليلًا اليوم.» «يجب أن يعود أبوك إلى المستشفى اليوم.» «اجمع تلك الكتب المدرسية من غرفة الجلوس واصعد إلى الأعلى قبل أن يأتي الطبيب. فهو يُريد أن يتحدث معي.»
كان من شأنها أن تقول تلك العبارات وهي تُشيح ببصرها عني، كما لو كان المرض أمرًا مخجلًا أو خادشًا للحياء، يجب ألا يسمع عنه طفل. أم كان ذلك سرًّا أعمق، أو معاناة مشترَكة بينهما، أصبحت جزءًا لا يتجزَّأ من زواجهما ولهما الحق في استبعادي منها كما استُبْعِدت من سريرهما؟ أتساءل الآن إن كان صمتُ والدي، الذي كان يبدو لي حينها رفضًا متعمدًا، أكان سبب ما بيننا من جفاء هو رغبته في ألا يُصعِّب على نفسي ألمَ فراقِه أكثر منه بسبب ألمه وإرهاقه أو فقدانه الأمل الذي كان المرض يستنزفه منه ببطء؟ لكن لا بد أنه لم يكن يحبني كثيرًا. فقد كنت طفلًا يصعب أن تحبَّه. وكيف كان لنا أن نتواصَل؟ فأصحاب الأمراض التي لا شفاء منها لا ينتمون لعالم الأحياء ولا لعالم الأموات. قابلت منهم آخرين بعد والدي، وكنتُ في كل مرة أشعر بغربتهم عن عالَمنا. فهم يجلسون بيننا، ويتحدثون إلى الناس ويتحدَّث الناس إليهم، ويَسمعون ما يقال، بل يبتسمون، لكن أرواحهم تكون قد فارقتْنا بالفعل ولا سبيل لدينا للدخول إلى عالَمهم المجهول.
لا أستطيع أن أتذكر الآن من أحداث يوم وفاة والدي سوى أمي وهي تجلس إلى طاولة المطبخ، وتبكي أخيرًا دموع الغضب والخيبة. وعندما حاولتُ أن أحوطَها بذراعيَّ بخجلٍ واضطراب، قالت مُنتحِبةً: «لمَ حظِّي بائس دائمًا؟» بدا ذلك، في نظر الطفل ذي الاثنَي عشر عامًا حينها كما يبدو لي الآن، ردًّا غير وافٍ لفجيعة شخصية، وقد أثَّر ذلك الردُّ المبتذَل على سلوكي تجاه أمي بقية فترة طُفولتي. كنتُ غير مُنصِف ومتسرِّع في حكمي ذلك، لكن الأطفال بطبيعتهم غير مُنصِفين ومتسرِّعون في الحكم على والديهم.
على الرغم من أني نسيتُ أو ربما تناسَيت جميع أحداث يوم وفاته إلا واحدًا، فإنني أذكر جميع تفاصيل يوم إحراق جثتِه؛ أذكرُ المطر الخفيف الذي جعل حديقة المحرقة تبدو مثل لوحة تنقيطية، والانتظار في الرواق المسقوف حتى انتهاء إحراق جثةٍ جاءت قبلَنا ويحينُ دورنا لندخل ونجلس في مقاعد الكنيسة الخالية من الزخارف المصنوعة من خشب الصنوبر، ورائحة بذلتي الجديدة، وأكاليل الزهور المرصوصة بمحاذاة حائط الكنيسة، والتابوت الذي بدا صغيرًا للغاية، حتى بدا مستحيلًا تصديق أنه كان يَحوي جثمان والدي. زادَت خشية أمي مِن أن يَحضُر الجنازة زوج أختها البارونيت من قلقها على أن يتمَّ كل شيء حسبما يجب. لم يحضر هو ولا زان، الذي كان حينها في مدرسته الإعدادية. لكن خالتي حضرت متأنِّقة أكثر من اللازم، وكانت السيدة الوحيدة التي لم تتَّشح كليًّا بالسواد، مما منح والدتي سببًا مقبولًا للتذمر. بعد انتهاء المأتم الذي أقيم بعد الجنازة، اتفقت الأختان على أنَّني يجب أن أقضيَ العطلة الصيفية القادمة في وولكوم، ومن هنا بدأ نمط كل إجازاتي الصيفية التي تلَتْ ذلك.
لكن أكثر ما أذكرُه ذلك اليوم هي أجواء الإثارة المكبوتة والاستهجان الشديد الذي شعرتُ أنه كان منصبًّا على ذاتي. سمعت في ذلك الحين لأول مرة عبارة تكررت على لسان الأصدقاء والجيران الذين كدتُ لا أعرفهم وهم متشحون بذلك السواد غير المعهود: «أنت ربُّ الأسرة الآن يا ثيو. والدتُك مسئولة منك.» لم أستطع حينها أن أقول ما وقَرَ في نفسي منذ حوالي أربعين سنة. وهو أنَّني لا أريد لأحد أن يلجأ إليَّ طلبًا للحماية أو السعادة أو الحب أو أيِّ شيء آخر.
أتمنَّى لو كنتُ أملكُ ذكريات أسعد لأبي، أتمنَّى لو استطعت أن أكوِّن رؤية واضحة، أو على الأقل رؤية ما، لطبيعة ذلك الرجل أستطيع التشبُّث بها، أو جعلها جزءًا من ذاتي. أتمنى لو أني أستطيع ذكر حتى ثلاثًا من خصاله. الآن عندما أفكر فيه لأول مرَّة منذ سنوات طوال، لا تردُ على ذهني أيُّ صفات أستطيع وصفَه بها، ولا حتى أنه كان لطيفًا وطيبًا وذكيًّا ومحبًّا. ربما كان يَملك كل تلك الصفات، غير أني لا أعرف. كل ما أعرفه عنه أنه كان يُحتضَر. لم يكن السرطان سريعًا أو رحيمًا به — ومتي كان السرطان رحيمًا؟ — وظلَّ يعاني ما يَقرُب من ثلاث سنوات حتى مات. يبدو أن معظَم طفولتي قد اختُزل خلال تلك السنوات في شكلِ احتضاره وصوته ورائحته. كان السرطان هويتَه. لم يكن بوسعي أن أرى فيه أكثر من ذلك حينَها ولا الآن. ولسنوات ظلَّت ذكراه لديَّ، بل هو تجسَّد أكثر منه ذكرى، مُقترنة بالرُّعب. قبل موتِه ببضعة أسابيع، جرَحَ سبابته اليُسرى وهو يفتح علبة من القَصدير وتلوَّثَ الجرح. وكان الدم والقيح يتسرَّبان من ضمادة الشاش والقطن الضَّخمة التي وضعتْها له أمي. لم يَبدُ أن ذلك كان يُقلقه، فقد كان يأكُل بيده اليُمنى، واضعًا يده الأخرى على الطاولة، ينظر إليها بهدوء، وبدهشةٍ طفيفة كما لو كانت مُنفصلةً عن باقي جسده ولا علاقة لها به. أما أنا فكنتُ لا أستطيع أن أرفع عيني عنها، وبداخِلي يتصارَع الجوع مع الغثيان. مثَّلت لي مصدرَ رعب مشين. ربما كنتُ أُسقِط على إصبعه المضمَّد ذاك جميع مَخاوفي من مرضِه المميت. لعدة شهور بعد وفاته، ظلَّ يُراوِدُني كابوس مُتكرِّر أراه فيه واقفًا عند نهاية سريري مشيرًا نحوي بجدعة مصفرَّة دامية ليس لإصبعه بل لكفِّه كله. لم يتحدَّث قطُّ؛ بل كان يقف صامتًا مرتديًا منامتَه المقلَّمة. كانت نظرته في بعض الأحيان نظرة استجداء لشيء لا أستطيع منحه إياه، لكن في معظم الوقت كانت نظرة اتهام شديد، وكذلك كانت إشارة يده. يبدو الآن أنه ليس من العدل ألا أذكره طوال ذلك الوقت إلا بالقيح والدم المتسرِّب وأن تكون ذكراه لديَّ مقترنة فقط بالرعب. شكل الكابوس أيضًا يُثير حيرتي الآن حتى إني أُحاول أن أحلِّلَه بعد أن كبرت بمعرفتي غير المُحترِفة بعلم النفس. كان تفسيرُه ليكون أسهل لو كنتُ فتاة. كانت محاولتي لتحليلِه بالطبع تُشبه محاوَلة طرد رُوحٍ شرِّيرة. لا بدَّ أنها نجَحَت بدرجة ما. فبعد أن قتلت ناتالي كان يزورني في أحلامي كل أسبوع؛ أما الآن فلم يَعُد يأتي قط. أنا سعيد لأنه رحل أخيرًا، آخذًا معه ألمه ودمه وقيحه. لكني أتمنَّى لو كان ترك لي ذكرى مختلفة.