الفصل السادس
أصبحت مَهَمَّة كتابة هذه اليوميات — فقد كان ثيو لا يفعلها بغرض المتعة بل يعتبرها مَهَمَّةً يضطلع بها — جزءًا من حياته محكمة التنظيم، وإضافة ليلية لروتينه الأسبوعي الذي فرضَت عليه الظروف جزءًا منه، وفرض هو على نفسه الجزء الآخر في محاولة لإضفاء النظام والمعنى على حياته الباهتة. كان مجلس إنجلترا قد أقر أن جميع المواطنين مُلزَمون بحضور جلستَي تدريب لمدة أسبوعين، بجانب وظائفهم الأصلية، على مهارات من شأنها أن تُساعدهم على البقاء على قيد الحياة إن ظلُّوا أحياءً بعدما تفنى الحضارة. وكان الاختيار متروكًا لهم. دومًا كان لدى زان من الحكمة ما يجعله يترك الاختيارات غير المهمة للناس. اختار ثيو أن يقضي إحدى الجلستين في مُستشفى جون رادكليف، ليس لأنه كان يشعر بالألفة وسط هيكلها الإداري المحكم، أو لأنه كان يتصور أن اعتناءه بالمرضى والمسنين، الذي كان يثير رعبه واشمئزازه، يَبعث عليهم السرور أكثر مما يبعثه عليه، بل لأنه كان يعتقد أن المعرفة التي سيَكتسبها قد تعود عليه بمنفعة شخصية، ولن يَضيره أيضًا أن يعرف من أين يمكنه أن يحصل على الأدوية بشيء من الدهاء إن دعت الحاجة. أما ساعتَا التدريب الأخريان فقضاهما باستمتاعٍ أكبر في التدرب على الصيانة المنزلية، ووجد في حس الدعابة لدى المهنيين الذين يُدرِّسونها وتعليقاتهم المنتقِدة الفظَّة متنفَّسًا أراحه من إذْلال الحياة الأكاديمية المهذَّبة. كانت وظيفته التي يتقاضى أجرًا لقاءها هي التدريس للطلاب الراشدين المتفرِّغين وغير المتفرِّغين الذين اتخذتهم الجامعة مبررًا لوجودها، هم وبضعة طلابٍ جامعيِّين سابقين ممن يقومون بأبحاث أو يسعون لنيل درجة علمية أعلى. وفي ليلتَي الثلاثاء والخميس من كل أسبوع، كان يتناول العشاء في قاعة الطعام بالكلية. ويوم الأربعاء كان يحضر باستمرار الصلاة المسائية في كنيسة مجدالين في الساعة الثالثة. ظلَّ عدد صغير من الكليات، التي تضمُّ طلابًا غريبي الأطوار أكثر من المعتاد أو التي أصرَّت بعناد على تجاهل الحقيقة، يستخدم كنائسه للعبادة، وبعضها عاد حتى لاستخدام كتاب الصلاة المشتركة القديم. لكن جوقة المرنِّمين في كنيسة كلية مجدالين كانت من أفضل الجوقات، وكان ثيو يذهب للاستماع إلى ترنيمهم، وليس للمشاركة في التعبُّد الذي كان يراه أمرًا عفا عليه الزمن.
حدَثَ ما يلي في رابع أربعاء من يناير. كان في طريقه إلى كنيسة كلية مجدالين سيرًا على الأقدام كعادته، وكان قد انعطف من شارع سانت جونز إلى شارع بومونت، واقترب من متحف أشموليان عندما دنت منه امرأة تدفع عربة أطفال. كان المطر الخفيف قد توقَّف، وبينما هي تمر بجانبه توقفَت قليلًا كي ترفع الغطاء الواقي من المطر وتُسدل غطاء عربة الأطفال. حينها انكشفت الدُّمية، التي استندت مُنتصِبة إلى الوسائد، وقد استند ذراعاها، اللَّتان يُغطي راحتيهما قفازان، على لِحاف، في محاكاة هزلية مثيرة للشفَقة وخبيثة للطفولة. شعر ثيو بالصدمة والاشمئزاز حتى إنه لم يَستطِع رفع عينيه عن تلك الدمية. كانت النظرة العمياء التي ترمقه بها بحدقتَيها اللامعتَين الواسعتَين على نحوٍ غير طبيعي، وبريق زُرقتهما السماوية التي تفوق زرقة العين البشرية، نظرة غريبة وشنيعة وتنمُّ عن ذكاء كامن. على وجنتَيها الخزفيتَين المصبوغتين بعناية تدلت رموش عينَيها البنية الداكنة كالعناكب، وظهر من تحت القلنسوة الضيقة التي يُزيِّن طرفها الدانتيل شعرٌ أصفرٌ غزير كشعر البالغين.
لم يرَ دمية تُنزه هكذا منذ سنوات، مع أن ذلك الأمر كان منتشرًا منذ عشرين عامًا، وتحوَّل إلى صَرْعَة. كانت صناعة الدُّمى هي القطاع الوحيد من مجال صناعة ألعاب الأطفال الذي ظلَّ مُزدهرًا لمدة عقد من الزمان، هو وصناعة عربات الأطفال، وأنتج دُمًى تُلبِّي جميع رغبات الأمومة المكبوتة، بعضها كان رخيصًا ورديئًا، لكن البعض الآخر كان مصنوعًا بحرفية وجمال استثنائيَّين ولولا أوميجا، التي خلَقَت الحاجة إليها في الأصل، لأصبحت موروثات عائلية محببة. كانت الدمى الأغلى ثمنًا — بعضها كان سعره يتعدَّى ٢٠٠٠ جنيه إسترليني حسبما كان يذكر — متوفرة بأحجام مختلفة؛ حجم حديث الولادة، وحجم رضيع بعمر ستة أشهر، وحجم رضيع بعمر سنة، وحجم طفل بعمر ثمانية عشر شهرًا وتلك تستطيع الوقوف والمشْي، وتعمل بطريقة معقَّدة. تذكر حينئذ أنها كانت تُدْعى «ذوات الستة الأشهر». في فترة ما كان من المستحيل أن تسير في شارع هاي ستريت دون أن تعيق طريقك عربات الأطفال التي تَحملها، أو مجموعات النِّسوة المتشبِّهات بالأمهات اللاتي توقَّفنَ كي يُبدين إعجابهن بها. بدا أنه تذكر أنه كان ثمة ولادات كاذبة، وأن الدُّمى التي كانت تَعطُب كان يُقام لها مراسمُ دفن وتُدفَن في أماكن مخصَّصة لها. ألم يكن أحد الجدالات الكنسية الفرعية الدائرة في مطلَع القرن الحادي والعشرين هو ما إذا كان من المُمكِن أن تُقام تلك التمثيليات في الكنائس بصفة شرعية أو حتَّى أن يُشارك فيها القساوسة المُرسِّمون؟
لاحظت المرأة نظرته فابتسمت ابتسامةً بلهاء فيها التماس لصرفِ الطرف، وللتهنئة. وعندما التقَت عيناهما، أشاح بنظره كي لا ترى نظرته التي اعتراها القليل من الشفقة والكثير من الازدراء، فأرجعت العربة إلى الوراء وحجبَتْها بذراعها وكأنها تقي الدُّمية من لجاجته الذكورية. توقَّفت امرأة أكثر تجاوبًا من المارة وتحدَّثَت إليها. اقتربت امرأة في مُنتصَف العمر، شعرها مُهندَم وترتدي حلة من قماش التويد مُفصَّلة على مقاسها، من عربة الأطفال وابتسمَت لمالكة الدمية وبدأت تُتمتِم بعبارات التهنئة. ابتسمَت صاحبة الدمية ابتسامة بلهاء فرحة، وانحنَت تُسوِّي لِحاف العربة الحريري، وتَضبط قلنسوةَ الدُّمية، وتُسرِّح خصلة شعرٍ شاردة. دغدغَتِ المرأة الأخرى الدُّمية أسفلَ ذقنها كما لو كانت تُدغدِغُ قطة، مُستمرةً في حديثها الطُّفولي.
كاد ثيو، الذي أشعرتْه تلك التمثيلية بكآبة واشمئزاز، أكثر مما يستدعيه حقًّا مثل ذلك السلوك المصطنع البريء، يدير ظهره لهما عندما حدث الأمر. فجأة أمسكت المرأة الأخرى بالدمية وسحبتها من تحت الأغطية دون أن تنطق بكلمة، ولوحت بها فوق رأسها مرتين وهي مُمسكة بها من رجليها ثم رطمتها بالحائط الحجري بقوة هائلة. تَحطَّمَ وجهُها وتساقطت قطع الخزف ترنُّ على الرصيف. لثانيتَين، وقفت صاحبة الدُّمية صامتة تمامًا. ثم بدأت تصرخ. كان صوت صراخها مريعًا، صراخ امرأة مُلتاعة، امرأة ثكلى، عويل مرتاع حاد، تكاد تحسبُه غير بشَري لكنَّه بشري بكلِّ ما تحمله الكلمة من معانٍ، عويل لا يُمكِن إيقافه. وقفت في مكانها، وقد مالت قبعتها، ورفعت رأسها للسماء، وفغرت فمها الذي كان يتدفق منه صوت ألمها وحزنها وغضبها. للوهلة الأولى، بدا أنها غير مدركة لأن المرأة التي هاجمتها كانت لا تزال واقفةً في مكانها، تنظر إليها بازدراء صامت. ثم ما لبثت أن استدارت ومشت بخطوات سريعة نحو البوابة المفتوحة التي عبرتها إلى الساحة ومنها إلى داخل متحف أشموليان. حينها أدركت صاحبة الدمية فجأة أن مهاجمتها تلوذ بالهرب، فتبعتها بخطًى متعثرة وهي مستمرة في صراخها، ثم يَبدو أنها أدركَت عدم جدوى ذلك فعادَت إلى عربة الأطفال. كانت حينها قد هدأت قليلًا، وخرت على ركبتَيها تَلتقِط قطع الخزف المكسورة وتحاول أن تطابقها كما لو كانت تطابق قطع أحجية صور مقطَّعة وهي تَنتحِب وتَنُوح بهدوء. تدحرجت عينان لامعتان، بدَتا حقيقيَّتَين بدرجة مخيفة، يربطهما زنبرك، تجاه ثيو. لثانيةٍ ألحَّت عليه نفسه أن يَلتقطهما، أن يُساعد المرأة أو على الأقل أن يُواسيَها ببضعِ كلمات. كان من المُمكن أن يُذَكِّرها بأن بإمكانها أن تَبتاع طفلًا آخر. كانت تلك تعزيةً لم يقدر على أن يقولها لزوجته. لكنَّ تردَّده ذلك لم يستمر إلا للحظة. وما لبث أن تابع سيره بخطوات سريعة. لم يَقترِب أي شخص آخر من تلك السيدة. كان من المعروف أن السيدات اللواتي وصلنَ إلى منتصَف العمر، أولئك اللواتي وصلن إلى سن البلوغ في العام الذي وقعَت فيه أوميجا، غير مستقرات نفسيًّا.
وصَلَ إلى الكنيسة بينما كانت الصلاة على وشك البدء. اصطفَّت الجوقة المكونة من ثمانية رجال وثماني نساء، جالبةً معها ذكريات الجوقات القديمة بصبيانها الذين كانوا يَدخُلون بوجوهٍ ارتسم عليها الوقار، ومشية تكاد لا تلحظ فيها تهاديهم الطفولي، وقد عقدوا أذرعهم أمام صدورهم الصغيرة ممسكِين بأوراق الترانيم، وقد استنارَت وجوهُهم الناعمة، وكأنَّما بضوء شمعة داخلية، وصُففت شعورهم تحت القبعات اللامعة، وبدت وجوههم جادة للغاية فوق ياقاتهم المُنشَّاة. طرد ثيو تلك الصورة من ذهنه وهو يتساءل: لم ظلَّتْ تُراوِدُه بذلك الإلحاح وهو الذي لم يعبأ يومًا بالأطفال. ثبَّت عينَيه على القس، متذكِّرًا تلك الحادثة التي وقعت منذ عدة أشهر عندما وصل قبل موعد الصلاة المسائية. بطريقة ما دخل غزال صغير من مرجة كلية مجدالين إلى الكنيسة ووقف بوداعة بجوار المذبح كما لو كان واقفًا في بيئته الطبيعية. حينها اندفع القسُّ نحوَه وهو يَصيح فيه بخشونة، وأمسكَ بكتب الصلاة وألقاها عليه فأصابت جانبَيه الأملسَين. تحمل الحيوان الوديع المرتبك ذلك الهجوم لوهلة، ثم تبختَرَ برشاقة خارجًا من الكنيسة.
بعدها نظر القسُّ إلى ثيو وقد انهمرَت دموعُه على وجنتَيه. وقال: «يا إلهي، لماذا لا تستطيع تلك الحيوانات البغيضة الانتظار؟ قريبًا جدًّا سيرثون كل شيء. فلماذا لا تستطيع الانتظار؟»
بدَت له تلك الصورة الآن وهو يُطالع وجه القسِّ الوقور المُعتد بنفسه في ضوء الشموع الباعث على السكينة، كمشهدٍ غريب من كابوس لا يذكر تفاصيله.
لم يتجاوَز عدد جماعة المصلِّين الثلاثين كالعادة، وكان ثيو يعرف كثيرين منهم ممَّن كانوا يَحضُرون بانتظامٍ مثله. لكن كان ثمة قادم جديد تلك المرة، امرأة شابة، كانت تجلس في المقعد المقابل له مباشرة وكان يَصعُب تفادي نظرتها من حين لآخر مع أنها لم تُبدِ أي إشارة على أنها تعرفه. كانت إضاءة الكنيسة خافتة، وفي ضوء الشموع المتراقص، كان وجهها يشع بنور رقيق يكاد يكون شفافًا، تراه يضوي بوضوح لوهلة ثم يهرب ويخبو كطيف. لكنه كان وجهًا مألوفًا له، فقد رآها من قبل لسبب أو لآخر، ليس لمجرد لمحة عابرة، بل نظر إليها وجهًا لوجه لفترة طويلة. حاول أن يحمل ذاكرته ويخدعها لتذكرها، وقد ثبَّت نظره على رأسها المحني أثناء الاعتراف، فبدا كأنه ينظر إلى شيء وراءها بتركيز ورِع أثناء قراءة العظة الأولى، دون أن يحيد بانتباهه عنها، ملقيًا بشباك الذاكرة حول صورتها. بعد الانتهاء من قراءة العظة الثانية بدأ يشعر بالضيق من فشله، وعندما بدأت الجوقة، المكوَّنة من رجال ونساء معظمهم في منتصف العمر، في ترتيب أوراقها الموسيقية ونظر أفرادها إلى قائدهم في انتظار أن يبدأ عازف الأرغن وأن يَرفع القائد الضئيل الجسد ذو الرداء الأبيض كفَّيه اللذَين يُشبهان براثن الحيوانات ويُلوحِّهما في الهواء، حينئذ تذكرها ثيو. كانت لفترة وجيزة إحدى الطالبات بدورة الأستاذ كولين سيبروك حول «الحياة الفيكتورية والعصر الفيكتوري»، والتي كان عنوانها الفرعي «المرأة في الرواية الفيكتورية»، والتي تولَّى تدريسها نيابة عن كولين منذ ثمانية عشر شهرًا. كانت زوجة سيبروك قد أجرت جراحة لاستئصال ورم سرطاني، وكانت تلك فرصة كي يقضيا عطلة معًا إن استطاع كولين أن يجد بديلًا له لتدريس تلك الدورة ذات الأربع المحاضَرات. تذكر حديثهما، واعتراضه الضجر.
«أليس من المفترَض أن تدع أحد أعضاء قسم اللغة الإنجليزية يدرسها بدلًا منك؟»
«لقد حاولت أيها العجوز. وجميعهم قدموا لي أعذارًا. فهم إما لا يُحبُّون العمل المسائي، أو مشغولون للغاية، أو ليسوا مُتخصِّصين في تلك الحقبة الزمنية؛ لا أعتقد أن علماء التاريخ فقط هم من يَختارُون دراسة ذلك الهراء. يُمكنني أن أعطي محاضرة واحدة لكن لن أستطيع إعطاء المحاضَرات الأربعة جميعها. مدة المحاضرات ساعة واحدة فقط، يوم الخميس، من الساعة السادسة إلى السابعة. ولن تضطرَّ إلى التحضير لها، فقد حددت لهم أربعة كتب فقط تحفظهم ظهرًا عن قلب على الأرجح: «ميدل مارش»، و«صورة سيدة»، و«سوق الأضاليل»، و«كرانفورد». ولا تضمُّ الدَّورة إلا أربعة عشر طالبًا، معظمُهم سيدات في الخمسين من عمرهن. كان من المفترَض أن يكنَّ مُنهمِكات في تدليل أحفادهن؛ لذا فلديهنَّ وقت فراغ، أنت تعرف الحال. هن سيدات ظريفات، لكن ذوقهنَّ تقليدي إلى حدٍّ ما. ستُحبُّهن، وسيُسعدهنَّ للغاية أن تدرس لهن. فما يسعون خلفه حقًّا هو أن يلجأن إلى دفء الثقافة. وابن خالتك، حاكمنا الموقر، حريص جدًّا على ذلك. كل ما يردنه هو أن يجدن مهربًا مؤقتًا إلى عالم أكثر إرضاءً واستمراريةً. جميعنا نفعل ذلك يا عزيزي، غير أننا، أنا وأنت، نُسمِّيه منحة دراسية.»
لكن عدد الحضور كان خمسة عشر طالبًا وليس أربعة عشر. جاءت متأخِّرة دقيقتَين وجلست بهدوء على مقعد في آخر الصف. حينها كان يرى رأسها كما يراها الآن في ضوء الشموع وخلفها الخشب المنقوش. بعد أن انخفضَت أعداد الطلبة الجدُد الملتحقِين بالجامعة، فُتحت أبواب فصول الجامعة الموقرة للطلاب الراشدين غير المتفرِّغين، وانعقَدَت تلك الدورة في غرفة محاضرات محبَّبة ذات حوائط مكسوة بألواح خشبية في كلية كوينز كولدج. كان يبدو أنها تستمع إلى كلمته التقديمية عن هنري جايمز بتركيز، ولكنَّها لم تُشارك في بادئ الأمر في المناقَشة العامة حتى بدأت امرأة ضخمة تجلس في الصف الأول تبالغ في مدح أخلاق إيزابيل آرشر وترثي بانفعال مصيرها الذي لم تستحقَّه.
قالت الفتاة فجأة: «لا أفهم لماذا تُشفقين إلى هذا الحد على امرأة أُعطيَت فرصًا كثيرة فلم تُحسِنِ استغلالها. كان بإمكانها أن تتزوَّج من اللورد واربرتون وتساعد مستأجِري أراضيه كثيرًا، تساعد الفقراء. حسنًا، هي لم تحبَّه، وهذا عذر مقبول، كما كان لديها طموحات أكبر من الزواج من اللورد واربرتون. لكن ماذا كانت تلك الطموحات؟ هي لم تمتلك أي موهبة إبداعية ولا وظيفة ولم تتلقَّ أي تعليم مهني. وعندما جعلها ابن خالتها غنية ماذا فعلت؟ ذهبَت تَهيم على وجهها حول العالم مع السيدة ميرل دون غيرها. ثم تزوَّجت ذلك المنافق المغرور وصارت تذهب إلى حفلات الاستقبال يوم الخميس مُرتديةً أبهى الثياب. أين ذهبت تلك المثالية التي كانت تدعيها؟ أنا أتعاطف أكثر مع هنريتا ستاكبول.»
اعترضت السيدة قائلة: «أوه، لكنها فظة للغاية!»
«هذا ما تراه السيدة توشيه، ويراه المؤلِّف. لكنَّها على الأقل تَمتلِك موهبة، عكس إيزابيل، وتستغلها في كسب عيشها، وتساعد أختها الأرملة.» ثم أضافَت قائلة: «تَرفُض كلٌّ من إيزابيل آرشر ودوروثيا خُطَّابًا مناسبين ثم تتزوَّجان من أحمقَين معتدَّين بنفسَيهما، لكني أتعاطف أكثر مع دوروثيا. ربما لأنَّ جورج إليوت تحترم بطلة روايتها، بينما يَمقت هنري جيمز، في قرارة نفسه، بطَلة روايته.»
اعتقد ثيو أنها ربما تكون قد تعمَّدت إثارة ذلك الجدل بدافع كسر الملَل. لكن أيًّا كان دافعها، كانت المناقشة التي فتحتها صاخبة وحيوية، وانقضت الثلاثون دقيقة الباقية بسرعة وبطريقة مُمتعة. شعر بالأسف والقليل من الحزن عندما انتظر قدومها يوم الخميس التالي فلم تأتِ.
بعد أن تذكَّرها وأرضى فضوله، استطاع أن يَسترخي في سلام ويَستمع إلى الترنيمة الثانية. كان من المعتاد في كنيسة مجدالين في السنوات العشر الأخيرة تشغيل ترنيمة مسجلة أثناء الصلاة المسائية. عرف ثيو من ورقة القداس المطبوعة أن تلك الأمسية ستكون هي الأولى في سلسلة أمسيات سيَستمعُون فيها إلى ترانيم إنجليزية تعود للقرن الخامس عشر، تبدأ بترنيمتَين كتبهما وليام بيارد: «علِّمني يا ربي»، و«ابتهج يا إلهي». مرت فترة قصيرة من الصمت المترقب بينما انحنى قائد الجوقة لتشغيل الشريط. تدفَّقَ صوتُ الصِّبيان العذب النقي الذي لا يثير الغرائز، والذي افتقدوه منذ أن وصل آخر صبي جوقة إلى سن البلوغ وتغيَّر صوته، وعم أرجاء الكنيسة. نظر أمامه إلى الفتاة، فوجَدَها جالسة لا تُحرِّك ساكنًا وقد رفعت رأسها لأعلى وثبَّتَت عينيها على السقف ذي العقود فلم يرَ سوى انحناءة رقبتها تحت ضوء الشموع. لكنه رأى في آخر صف الجالسين أمامه شخصًا ميَّزَه فجأة: مارتنديل العجوز الذي كان عضوًا على أعتاب التقاعد في هيئة التدريس بقسم اللغة الإنجليزية أثناء سنَتِه الأولى. كان يجلس حينئذٍ في سكون تام ورأسه العجوز مرفوع، وتلمع في ضوءِ الشموع دموعُه التي كانت تنسال بغزارة على وجنتَيه، فبدت كأنها لآلئ تُزيِّن تجاعيد وجهه العميقة. أحب مارتي العجوز، الذي ظل أعزبَ ولم يتزوج، جمال الصبية. تساءل ثيو لماذا يأتي هو ومَن هم على شاكلته كل أسبوع كي يتلذذوا بتعذيب ذواتهم بتلك الطريقة؟ بإمكانهم أن يستمعوا لأصوات الأطفال المسجَّلة في بيوتهم، فلماذا يأتون كي يستمعوا إليها هنا في ذلك المكان الذي يَنصهِر فيه الماضي والحاضر وسط الجمال وضوء الشموع فيتعزز الشعور بالحسرة؟ لماذا يأتي هو نفسه إلى هنا؟ لكنه كان يعرف إجابة ذلك السؤال. كي يشعر، هذا ما كان يقولُه لنفسه، كي يشعر، كي يشعر، كي يشعر. حتى وإن كان ما سيشعر به هو الألم، لكنه كان يدع المشاعر تجتاحه.
غادرت السيدة الكنيسة قبله بخفة، وكأنما تحاول أن تنسل خلسة. وتفاجأ عندما خرج إلى الهواء البارد فوجدها واقفة تنتظره كما بدا واضحًا.
دنت منه وقالت: «من فضلك، هل يمكنني أن أتحدث إليك بخصوص أمر مُهم؟»
في الضوء الساطع الذي كان يَنساب من رواق الكنيسة إلى عتمة المساء خارجها، رأى وجهها بوضوح لأول مرة. كان شعرها داكنًا غزيرًا ذا لون بُني زاهٍ وتتخلَّلُه خصلات ذهبية، وكان مصفَّفًا في جديلة قصيرة سميكة. وسقطت قُصة تَنساب على جبينها العالي الذي يغطيه النمش. كانت بشرتها فاتحة بالنسبة إلى شخص داكن الشعر؛ كانت امرأة بلون الشهد، رقبتها طويلة، وعظمتا وجنتَيها بارزتان، وعيناها، اللتان لم يستطع تحديد لونهما، متباعدتان، يعلوهما حاجبان مستقيمان محددان، وأنفها طويل ونحيف وفيه حدبة طفيفة، وفمها واسع جميل. كان وجهًا يُشبه وجوه نساء اللوحات ما قبل الرفائيلية. كان روسيتي سيحب أن يرسمها. كانت ملابسها تُساير الأزياء العصرية التي ترتديها النساء جميعًا ما عدا نساء الأوميجيين؛ سترة ضيِّقة قصيرة تحتها تنُّورة من الصوف تصل إلى منتصف ربلتَيها، يظهر من تحتها زوجان من تلك الجوارب ذات الألوان الزاهية التي كانت صيحة أزياء تلك السنة. كان لونه أصفر فاقع. وكانت تحمل حقيبة كتف جلدية علقَتْها على كتفها اليسرى. لم تكن ترتدي قفازًا فرأى أن يدها اليسرى مشوَّهة. كانت سبابتها ووُسْطاها ملتصقَتين وتبدوان مثل جدعة بدون أظافر، وكان في ظهر كفها ورم كبير. أمسكتْها بيُمناها وكأنما تريحها أو تسندها. لكنها لم تبذل أي جهد لإخفائها. بل بدا كأنها تجهر بتشوهها ذلك في عالم لا ينفك يزداد تعصبًا يومًا بعد يوم ضد العيوب الجسَدية. لكن على الأقل، كان لذلك العيب ميزة واحدة تُعوِّضُه؛ فأي امرأة تعاني تشوهًا جسديًّا، أو مرضًا نفسيًّا أو جسديًّا من أي نوع لم تكن موجودة على قوائم النساء اللاتي سيولد من أرحامهن الجنس الجديد إن اكتُشِف رجل غير عقيم؛ لذا، كانت، على الأقل، معفاة من إجراءات إعادة الفحص نصف السنوية المهينة المُستنفِدة للوقت، التي كانت تخضع لها جميع النساء الصحيحات تحت سن الخامسة والأربعين.
قالت مرة أخرى بصوت أخفَت: «لن آخُذَ من وقتك الكثير. لكن أرجوك يا دكتور فارون، يجب أن أتحدث معك في أمر.»
«حسنًا، إن كان ذلك ضروريًّا.» أثارت حب استطلاعه، لكنه لم يستطع إضفاء الحفاوة على صوته.
«ربما يُمكننا أن نتمشَّى في تلك الأروقة المسقوفة الجديدة.» اتجها إليها في صمت. ثم قالت: «أنت لا تعرفني.»
«لا، ولكني أتذكَّرك. حضرتِ المحاضَرة الثانية من المحاضرات التي ألقيتها نيابة عن الدكتور سيبروك. وقد أضفتِ حيوية على النقاش.»
«أخشى أن أسلوبي كان حادًّا للغاية.» ثم أضافت قائلة، وكأنه كان يُهمُّها للغاية أن تفسر لي ذلك: «أنا معجبة كثيرًا برواية «صورة سيدة».»
«لكن أظن أنك لم تُرتِّبي لتلك المقابلة كي تناقشيني في ذوقك الأدبي.»
ما إن خرجت تلك الكلمات من بين شفتَيه، حتى شعر بالندم عليها. احمرَّت وجنتاها، وشعر بإعراض غريزي من جانبها، وانخفاضًا لثقتها في نفسها، وربما فيه. أزعجته ملاحظتها الساذجة، لكن لم يكن ثمة داعٍ لأن يرد ذلك الرد التهكمي الموجع. كان توتُّرها معديًا. وكان يأمل ألا تكون تنوي إحراجه ببوحها بأسرار شخصية أو مطالب عاطفية. كان من الصعب أن يُوفِّق في ذهنه بين المحاوِرةِ اللَّبِقة الواثقة من نفسها التي رآها من قبلُ والمراهِقة المُرتبِكَة التي يراها الآن. لم يكن ثمة جدوى من محاولة إصلاح ما أفسده، فسارا في صمتٍ لنصف دقيقة.
ثم قال: «لقد أسفتُ لأنكِ لم تُعاوِدي المجيء. كانت المحاضَرة كئيبة للغاية في الأسبوع التالي.»
«كنتُ سآتي مرةً أخرى، لولا أن مُناوبتي في العمل أصبحت صباحية. كنت مضطرةً إلى أن أعمل.» لم تُفصح عن طبيعة ولا مكان عملها، وإنما أضافت قائلة: «اسمي جوليان. أنا أعرف اسمك بالطبع.»
«جوليان! هذا اسمٌ غير معتاد لامرأة. هل سُميتِ تيمنًا بالكاتبة جوليان النورويتشية؟»
«لا، لا أظنُّ أن والديَّ سمعا بها. عندما ذهب أبي لتسجيل ولادتي أعطى لأمين السجلات اسم جولي آن. كان ذلك هو الاسم الذي اختاره لي والديَّ في الأصل. لا بد أن أمين السجلات لم يسمعه بوضوح، أو ربما لم يَنطِقه أبي بوضوح. لم تَكتشِف أمي ذلك الخطأ إلا بعد ثلاثة أسابيع، وظنَّت أن الأوان قد فات لتغييره. على كلِّ حال، أعتقد أن الاسم أعجبها؛ لذا عُمِّدت باسم جوليان.»
«لكن أعتقد أن الناس يُنادونكِ جولي.»
«أي ناس؟»
«أصدقاؤك وعائلتك.»
«ليس لي عائلة. فوالداي قُتِلا في أعمال الشغب العنصرية عام ٢٠٠٢. لكن لمَ سيُنادونني جولي؟ فاسمي ليس جولي.»
قالت ذلك بأدب جمٍّ لا يَحمل أي عدوانية. ربما افترض أن تعليقه ذلك أربكها، لكنه لم يكن ثمَّة ما يدعو للارتباك. ربما كانت ملاحظته تلك خرقاء ووليدة اللحظة وفيها شيء من التلطُّف المُصطنَع، إلا أنها لم تكن سخيفة. وإذا كان لقاؤهما ذلك خطوة تمهيدية لأن تطلب منه إلقاء خطاب عن التاريخ الاجتماعي للقرن التاسع عشر، فهو لقاء غير اعتيادي.
سألها: «لماذا تُريدين أن تتحدَّثي معي؟»
الآن وقد حانت اللحظة الحاسمة، شعر بتردُّدها في البدء، لكنه استشعرَ أن تردُّدها ذلك لم يكن نابعًا من خجلها أو ندمها على ترتيب ذلك اللقاء، بل من أهمية ما ستقوله واحتياجها لأن تتخيَّر كلماتها بعناية.
سكتت لبرهة ونظرت إليه. ثم قالت: «تحدُث أشياء في إنجلترا — في بريطانيا — أشياء ليسَت عادلة. أنا أنتَمي إلى جماعة صغيرة من الرفقاء الذين يؤمنون أننا يجب أن نُحاول التصدِّي لها. لقد كنتَ في السابق أحد أعضاء مجلس إنجلترا. كما أنك ابن خالة الحاكم. فكَّرْنا في أن بإمكانك أن تتحدَّث معه نيابة عنَّا قبل أن نتَّخذ خطوات فعلية. لسنا متأكِّدين تمامًا من أن بإمكانك مساعدتنا، لكن اثنين منَّا، هما أنا ولوك — لوك قس — اعتقدنا أنه ربما بوسعكَ مساعدتنا. قائد تلك الجماعة هو زوجي رولف، وقد وافَقَ على أن أتحدث إليك.»
«لماذا أنتِ؟ لماذا لم يأتِ بنفسه؟»
«أظن أنه اعتقد — لقد اعتقدوا — أنني أنا التي سأستطيع إقناعك.»
«إقناعي بماذا؟»
«بأن تُوافقَ فقط على لقائنا، كي نشرح لك ما يتعيَّن علينا القيام به.»
«ولماذا لا تشرحينه الآن، وبعدها أُقرِّر ما إذا كنتُ مستعدًّا لمقابلتكم أم لا؟ وما تلك الجماعة التي تتحدَّثين عنها؟»
«هي جماعة مكوَّنة من خمسة أفراد فقط. لم نبدأ نشاطنا الفعلي بعد. وقد لا نُضطر لذلك إن كان ثمة أمل في إقناع الحاكم بالتصرُّف.»
قال بحذر: «أنا لم أكن يومًا عضو كامل العضوية في المجلس، كنت مجرَّد مستشار شخصي لحاكم إنجلترا. ولم أحضر جلسات المجلس منذ أكثر من ثلاث سنوات، ولم أعدْ أقابل الحاكم. وقرابتنا لا تعني شيئًا لي ولا له؛ لذا على الأغلب لن يكون تأثيري عليه أكبر من تأثيركم.»
«لكنَّك على الأقل تستطيع مقابلته. أما نحن فلا نستطيع ذلك.»
«يمكنكم أن تحاولوا. فهو ليس شخصًا يتعذر الوصول إليه تمامًا. يمكن للناس مهاتفته أحيانًا للتحدث إليه. بطبيعة الحال يجب أن يَحميَ نفسه.»
«مِن شعبِه؟ ثم إن مقابلته أو حتى مجرد التحدث إليه، سيُؤدِّيان إلى أن تعرف شرطة الأمن الوطني بوجودنا، وربما حتى أن تَعرف هُوياتنا. ليس من الآمن أن نُحاوِل نحن ذلك.»
«هل تعتقدين ذلك حقًّا؟»
قالت بأسًى: «أجل، ألا تظنُّ أنت ذلك؟»
«كلا، لا أظن ذلك. لكن إن صحَّ ما تقولين، فما تفعلينه الآن فيه مخاطَرة كبيرة. فما الذي يجعلكِ تظنين أن بإمكانكِ الوثوق بي؟ أتقولين لي إنكِ تضعين سلامتك بين يديَّ استنادًا إلى محاضَرةٍ واحدة عن الأدب الفيكتوري؟ هل قابَلَني من قبل حتى أي عضو آخر من تلك الجماعة؟»
«كلا. لكن أنا ولوك قرأنا بعض كتبك.»
قال بنبرة جادة: «ليس من الحكمة أن تَحكُما على نزاهة أي شخص أكاديمي من أعماله المكتوبة.»
«لم يكن أمامنا سوى تلك الطريقة. نحن نعلم أن الأمر يَنطوي على مخاطرة لكنها مخاطَرة لا بد منها. أرجوك وافِق على لقائنا. أرجوك، على الأقل استمِع لما نودُّ أن نقوله لك.»
كانت في صوتها نبرة استجداء واضحة، وصريحة ومباشِرة، وفجأة ظن أنه أدرك سببها. كان التحدث معه فكرتها هي. وقد أتت إليه بإذعان متردِّد من باقي أفراد الجماعة، وربما حتى دون موافقة قائدها. كانت هي من تُخاطر بنفسها. إنْ رَفَضَ طلبها، فستَرجِع إليهم خاوية الوفاض وذليلة. وأحسَّ أنه لا يستطيع أن يكون سببًا في ذلك.
قال، وهو يعلم أنها ستكون غلطة: «حسنًا. سأتحدَّث معكم. متي وأين تودِّين أن يكون لقاؤنا القادم؟»
«يوم الأحد في الساعة العاشرة مساءً في كنيسة سانت مارجريت في بينسي. هل تعرفها؟»
«أجل، أعرف بينسي.»
«إذن موعدُنا الساعة العاشرة، في الكنيسة.»
حصلَتْ على ما جاءت من أجله فلم تُطلِ البقاء. بالكاد سمعَها تُتمتِم: «شكرًا لك، شكرًا لك.» ثم انسلَّت من جانبه بسرعة وبهدوء شديدَين كما لو كانت أحد ظلال الرواق الكثيرة المتحرِّكة.
تلكَّأ قليلًا حتى لا تكون ثمة فرصة لأن يَلحق بها، ثم مَشى وحيدًا صامتًا إلى منزله.