الفصل السابع
في الساعة السابعة من صباح اليوم، هاتفَني جاسبر بالمر سميث وطلب منِّي زيارته بخصوص أمرٍ عاجل. لم يُقدِّم لي أي تفسير، لكن تلك هي عادته. قلت له إنني أستطيع موافاته بعد الغداء مباشَرة. في الآونة الأخيرة، أصبحت استدعاءاته التي تزداد حسمًا أكثر تكرُّرًا. كان من قبل لا يَطلُب لقائي إلا مرة تقريبًا كل ثلاثة أشهر؛ أما الآن فصارت مرةً كل شهر. كان يُدرِّس لي التاريخ عندما كنت طالبًا، وقد كان مدرِّسًا رائعًا، على الأقلِّ للطلبة النجباء. عندما كنت طالبًا جامعيًّا، لم أصرح قط بأني مُعجَب به، بل كنتُ أقول بسماحة عرضية: «لا بأس بجاسبر؛ فأنا مُنسجِم معه إلى حدٍّ كبير.» وقد كنتُ أنسجم معه لسبب مفهوم وإن لم يكن ذا وجاهة؛ فقد كنتُ الطالب المفضَّلَ لديه في دفعتي. كان دائمًا لديه طالب مفضَّل. وكانت العلاقة بينه وبين طالبه المفضل تكاد تكون علاقة أكاديمية بحتة؛ فلم يكن مثليًّا ولا محبًّا للصِّبية على الخصوص، وفي الواقع لا يخفى على أحد كرهه الشديد للأطفال، وعادة كان مُضيفوه يُخفونهم عن نظره في المرات النادرة التي كان يمنُّ عليهم فيها بقبول دعوة عشاء خاصة. لكن كل عام كان يختار طالبًا جامعيًّا، دائمًا ما يكون ذكرًا، ليخصَّه باستحسانه ورعايته. كنَّا نَفترض أن المعايير التي يَختارُه بناء عليها هي الذكاء في المقام الأول، ثم حسن المظهر ثانيًا والفطنة ثالثًا. كان يتمهَّل في اختياره، لكن بمجرد أن يختار كان اختياره ذلك نهائيًّا لا رجعة فيه. لم تكن تلك العلاقة تفرض أي ضغط على الطالب المفضل؛ فبمجرد أن يقع الاختيار عليه، كان يتغاضى عن أخطائه. ولم تكن كذلك تُثير الضغينة أو الحقد بينه وبين زملائه، فلم تكن لجاسبر شعبية كبيرة للغاية كي يُحاوِل الطلاب كسب ودِّه، وكان يُقَر من باب الإنصاف أن الطالب المفضَّل لم يكن له دخل في اختياره. لا أنكر أنني توقعت أن أحصل على درجتي العلمية مع مرتبة الشرف الأولى، فجميع طلابه المفضلين حصلوا على تلك الدرجة. حينما اختارني كنتُ أملك من الغرور والثِّقة ما جعلني واثقًا من أن ذلك احتمال وارد، لكنَّه كان احتمالًا لم أكن سأضطرُّ لأن أفكِّر به إلا بعد عامين على الأقل. لكني اجتهدُت لأجله، وأردتُ أن أرضيَه، وأن أبرهن على حسن اختياره. أن يقع الاختيار عليك دون غيرك هو دومًا أمرٌ مُرْضٍ لتقدير الذات، ويُشْعِر المرء بأن من واجبه أن يردَّ ذلك المعروف، وهي حقيقة تقف وراء زيجات كثيرة لم تكن متوقَّعة لولا ذلك. ربما كان ذلك أيضًا أساس زواجه من زميلة أستاذة رياضيات بكلية نيو كوليدج تَكبُره بخمسة أعوام. بدا أنهما مُنسجِمان معًا، على الأقل وسط رفقائهما، لكن في العموم، كانت النساء تَنفِر منه بشدة. في مطلع التسعينيات، عندما تزايدت ادعاءات التحرش الجنسي، بدأ حملة باءت بالفشل تكفُل وجود مرافَقةٍ مُراقِبة في جميع الدروس الخصوصية التي تقام داخل الجامعة وتضمُّ طالبات استنادًا إلى أنه وزملاءه الذكور كانوا عرضة لادعاءات مجحفة. لم يكن أحدٌ يفوقه في قدرته على تحطيم ثقة النساء في أنفسهن، بينما يعاملهن بأدب جم وكياسة تكاد تصل إلى حدِّ الإهانة.
كان صورة هزلية للفكرة الشائعة عن الأستاذ الجامعي بجامعة أكسفورد؛ بجبهتِه العالية، وشعره المنحسِر عن مقدمة رأسه، ونُحُوله، وأنفه المعقوف قليلًا، وشفتَيه المزمومتَين. كان يَمشي وذقنه ممدود للأمام وكأنَّما يواجه عاصفةً قوية، وكتفاه مُحدَودِبتان، وعباءته الباهتة تُرفرِف في الهواء. توقَّع المرء أن يرى صورته في مجلة «فانيتي فير» مرتديًا قميصًا بياقة عالية وممسكًا واحدًا من كتبه بأصابعه النحيلة النِّيقة.
أحيانًا كان يركن إليَّ ويُعاملُني كأنما يُعدُّني لأكون خليفةً له. لكن ذلك بالطبع كان محض هراء؛ فقد كان يمنحني الكثير، لكن بعض الأشياء لم تكن مشمولة في منحته. لكن الانطباع الذي يعطيه طالبه المفضل الحالي بأنه وليُّ عهده جعلني أتساءل بالتبعية عما إذا كانت تلك هي الطريقة التي يُواجه بها التقدُّم في السن، ومرور الزمن، والتبلُّد الآتي لا محالة لذهنه الحادِّ الذكاء، وربما كان ذلك مدفوعًا بوهم شخصي لديه بالخلود.
دائمًا ما كان يجهر برأيه في أوميجا، الذي أصبح بمثابة ابتهال تعزية يُردِّده عدد من زملائه، بخاصة أولئك الذين كانوا يختزنون كميات كبيرة من النبيذ أو كان مسموحًا لهم باستخدام قَبوِ النَّبيذ في كُلياتهم.
«ذلك الأمر لا يقلقني كثيرًا. لا أعني بذلك أنني لم أشعر بالندم لوهلة عندما عرفت لأول مرة أن هيلدا عقيمة؛ ففي ظني أن الجينات تحافظ على ضروراتها التأسلية. لكني في المجمل سعيد به؛ فلا يُمكن أن تَحزن على أن أحفادك لن يولدوا عندما يكون لا أمل في ذلك. هذا الكوكب محكوم عليه بالدمار على أيِّ حال. في نهاية المطاف ستَنفجِر الشمس أو تتجمَّد وستختفي ذرة لا قيمة لها في ذلك الكون الهائل دون أي أثر سوى رجة خفيفة. وإن كان محكومًا على الجنس البشري بالفناء، فالعقم العالَمي وسيلة ليست أكثر إيلامًا من غيرها. كما أنه يوجد منافع شخصية في الأمر؛ فطوال الستين عامًا الأخيرة كنا نسعى مُتملِّقين لاسترضاء أكثر فئات المجتمع جهلًا وإجرامًا وأنانية. والآن ولما تبقى من حياتنا سنُعفى من همجية الشباب الفجة ومن ضوضائهم، ومن ذلك القرع المتكرِّر، المُوَلَّد بالحاسوب، الذي يَدعونه موسيقى، ومن غرورهم المستتر وراء المثالية. يا إلهي، قد نتخلَّص حتى من عيد الميلاد المجيد، ذلك الاحتفال السنوي الذي يعني شعور الأبوَين بالذنب وشعور صغارهم بالطمع. أعتزم أن أصنع لنفسي حياةً مريحة، وعندما لا تصبح كذلك، عندئذ سأبتلع حبة الدواء التي ستُنهي حياتي بزجاجة من النبيذ الفرنسي الأحمر.»
كانت خطته للبقاء على قيد الحياة ناعمًا بالراحة حتى آخر لحظة خطة تبناها آلاف الناس في تلك الأعوام الأولى التي سبقت وصول زان للحكم، عندما سادَت المَخاوِف من تفشِّي الفوضى التامة. كانت تلك الخطة عبارة عن الخروج من المدينة — في حالته من كلاريندون سكوير — إلى منزل ريفي صغير أو كوخ في الريف المشجَّر له حديقة لإنتاج الغذاء، قريب من جدول ماءٍ عذبٍ، مياهه صالحة للشرب بعد غليها، وموقد حطب مفتوح، ومخزون يكفي لأعوام من الحطب وعلب الطعام المختارة بعناية وأعواد الثقاب، وخزينة أدوية مليئة بالعقاقير والحقن الطبية، والأهم من ذلك كله أبواب وأقفال متينة تحسُّبًا لأن تَلتفِتَ يومًا ما إلى تدابيرهم تلك أنظارُ الحاقدين ممن كانوا أقل حذرًا. لكن في الأعوام الأخيرة أصبح جاسبر مهووسًا. استبدل بالمخزن الخشبي في حديقته بناءً من الطوب له بابٌ معدنيٌّ يتحكَّم به عن طريق جهاز تحكم عن بُعد. وأحاط الحديقة بسور عالٍ، ووضَع قفلًا حديديًّا على باب القبو.
عندما أزورُه عادةً ما أجد البوابة الخارجية المصنوعة من الحديد المطاوع غير موصَدة في انتظار قدومي، وأستطيع أن أفتحها وأترك سيارتي في مدخل السيارات القصير المؤدي إلى منزله. لكن عصر ذلك اليوم، كانت مُغلَقة واضطُررتُ لأن أضغط الجرس. عندما جاء جاسبر ليَفتحها لي، صعقتُ من التغيُّر الذي طرأ على مظهره خلال شهر واحد فقط. كان لا يزال منتصبَ القامة، ثابت الخطى، لكن عندما اقترب منِّي رأيتُ أن جلده المشدود بشدَّة حول عظام وجهه القوية قد صار أكثر شحوبًا، وأن توتُّرًا أشد، يكاد يرقى إلى درجة الارتياب، كان باديًا في عينَيه الغائرتَين، وهو ما لم ألاحظْه عليه من قبل. التقدم في العمر أمر لا مناص منه، لكنه لا يسير على وتيرة واحدة. ثمة فترات، تمتدُّ لأعوام، يتوقف فيها الزمن وتبدو فيها ملامح الأصدقاء والمعارف كأنما لا تتغيَّر. ثم يَتسارع الزمن وخلال أسبوع يحدث التحوُّل. بدا لي كأن ستة أعوام قد أُضيفَت إلى عمر جاسبر خلال ما يزيد قليلًا عن ستة أسابيع.
تبعتُه إلى غرفة الجلوس الواسعة في ظهر المنزل بنوافذها الفرنسية المطلَّة على الشرفة والحديقة. كانت حوائطها مُغطَّاةً تمامًا بالكتب كما كان الحال في مكتبه. وكانت، كالعادة، مرتَّبة حدَّ الوسواس، فكان كل ما بها من أثاث وكتب وتحف في موضعه بدقة. لكني لاحظت، لأول مرة، علاماتٍ تُنذر ببوادر إهمال، كزجاج النوافذ الملطخ، وبعض فُتات طعامٍ على السجادة، وطبقة غبار رقيقة على رف المدفأة. ومع أن مدفأة كهربائية كانت تشعُّ خلف شبكة المدفأة، فإن الغرفة كانت باردة. قدَّم لي جاسبر شرابًا، وقبلتُ مع أني لا أُفضِّل شرب النبيذ في فترة العصر. لاحظتُ أن عدد الزجاجات المرصوصة بسخاء على الطاولة الجانبية كان أكبر مما كان أثناء زيارتي الأخيرة. كان جاسبر من القلائل الذين أعرفهم ممن يستخدمون النبيذ الفرنسي الأحمر مشروبًا مسكرًا لجميع المناسبات والأوقات.
كانت هيلدا تَجلس بجوار المدفأة، وحول كتفيها سترة صوفية. كان نظرها مثبتًا إلى الأمام، ولم تَنطِق بأي عبارة ترحيب أو حتى تنظر نحوي، وعندما حييتُها لم تُبدِ أي ردِّ فعلٍ سوى إيماءة سريعة. كان التغيُّر البادي عليها ملحوظًا أكثر حتى من التغيُّر الذي طرأ على جاسبر. لسنوات، لم أرَ أي تغيُّر يطرأ على مظهرها، أو هكذا بدا لي: الجسد النحيف والقامة المنتصِبة، والتنُّورة المتقَنة الصنع من التويد ذات الطيات الثلاثة المزدوَجة والقميص الحريري ذو الياقة العالية، والسُّترة المصنوعة من صوف الكاشمير، والشعر الرمادي الغزير المعقود بعناية على هيئة كعكة أعلى رأسها. أما الآن فكان الطعام المتخثِّر يلوِّث مقدمة سترتها التي كادت تنزلق عن كتفَيها، وكانت جواربها الطويلة القذرة تتدلَّى في طياتٍ مُهلهلة فوق حذائها المتسخ، وخصلات شعرها مبعثرة حول وجهها الذي ارتسم على ملامحه استنكار منفِّر. تساءلت حينها، كما كنت أتساءل في زيارات سابقة، عمَّا ألمَّ بها. لا يمكن أن يكون مرض آلزهايمر الذي سيطر عليه الأطباء بشكلٍ كبير منذ أواخر التسعينيات. لكن ثمَّةَ أنواعًا أخرى من خرف الشيخوخة التي لا يَزال اهتمامنا العلمي، المهووس بمشاكل الشيخوخة، عاجزًا عن شفائها. أو ربما هَرمَت فحسب، أو ربما كانت مُتعَبة فقط، ولا تُطيق وجودي. أعتقد أن الشيخوخة تُتيح للمرء ميزةَ التقوقُع داخل عالم خاص به، لكنها لا تكون ميزة إن كان عالَمه هذا جحيمًا.
تساءلت في نفسي لمَ استَدعاني لزيارته؟ لكنِّي لم أحبَّ أن أسأله مباشَرة. أخيرًا قال جاسبر: «ثمةَ أمرٌ أردتُ مناقشتَه معك. أنا أفكر في الانتقال لأكسفورد مرة أخرى. كان آخر بث للحاكم هو ما جعلني أحسم أمري. من الواضح أن خطته النهائية هي أن يَنتقل الجميع إلى المدن حيث يُمكن تركيز المرافق والخدمات. قال إنه لن يُمانع أن يظلَّ من يودُّون البقاء في المقاطعات المعزولة موجودين فيها، لكنه لن يستطيع أن يضمن وصولَ الإمدادات، من كهرباء أو وقود لوسائل النقل، إليهم. ونحن معزولان للغاية هنا.»
قلت: «وما رأي هيلدا في ذلك؟»
لم يُكلِّف نفسَه حتى عناء النظر إليها. وقال: «هيلدا ليسَت في وضعٍ يَسمح لها بالاعتراض. أنا من يَعتني بها. وإن كان ذلك سيُسهِّل الأمر عليَّ، فهو ما يجب فعله. خطر لي أنه قد يُناسِب كلَينا — أعني أنا وأنت — إن شاركتُكَ منزلك بشارع جون ستريت. فأنت لا تحتاج إلى ذلك المنزل الضخم. ويوجد مساحة تكفي لتحويلها إلى شقة منفصلة في الطابق العلوي. سأتحمَّل أنا نفقة تلك التعديلات بالطبع.» هالتني الفكرة. وأتمنى أن أكون قد نجحت في إخفاء امتعاضي منها. سكتُّ وكأني أتدبر الفكرة، ثم قلت: «لا أعتقد أن ذلك سيناسبُك حقًّا. فسوف تفتقد كثيرًا وجود حديقة. وسيكون صعود الدرج صعبًا على هيلدا.»
سادَ الصمت برهةً ثم قال جاسبر: «أفترض أنكَ سمعتَ عن «الراحة الأبدية»، فعالية الانتحار الجماعي للمسنين، أليس كذلك؟» قلت: «لا أعرف عنها إلا ما قرأتُه باختصار في الصحف أو شاهدته على التلفاز.»
تذكَّرتُ لقطة، أظنُّ أنها الوحيدة التي عُرِضت في التلفاز: أشخاص مُسنُّون يتَّشحُون بملابس بيضاء يُجَرُّون على مقاعد متحرِّكة أو يُسنَّدون للصعود على متن سفينة تُشبِه الصندل، وسط أصوات الغناء العالية الحادة، ثم تُبحِر بهم السفينة ببطء في ضوء الغسَق في مشهد يبعث على السكينة، وجرى تصويره وإضاءته بدهاء.
قلت: «أنا لا أُحبِّذ الموت الجماعي. الانتحار فعل يجب أن يكون له خصوصيتُه مثله مثل الجنس. إن أراد المرء قتل نفسه، فالوسائل متاحة دائمًا، إذن لماذا لا يفعل ذلك وهو مرتاح في سريره؟ أفضل أن أحقق «راحتي الأبدية» بطعنة من خنجر مسلول.»
قال جاسبر: «لا أعلم، يُوجد أناس يُحبُّون أن يجعلوا من طقوس الرحيل تلك حدثًا. الأمر يحدث في جميع أنحاء العالم بشكل أو بآخر. أظن أنهم يَجدُون نوعًا من السلوى في الأعداد، وفي المراسم. كما أن أقاربهم الأحياء يحصلون على معاش من الدولة. معاش ليس بزهيد، أليس كذلك؟ كلا، أعتقد أني أرى ميزات الأمر. كانت هيلدا تتحدَّث عنه منذ أيام قلائل.»
استبعدت ذلك. بوسعي أن أتخيَّل رأي هيلدا التي عرفتُها في مثل ذلك الاستعراض العلَني للمشاعر والتضحية. كانت في أوج نجاحها أكاديمية من العيار الثقيل، وكان الناس يقولون إنها أمهر من زوجها الذي كانت تُدافع عنه بشراسة بلسانها اللاذع. بعد زواجها قلَّت وتيرة نَشرِها للكتب وإلقائها للمُحاضَرات، وخبت موهبتُها وشخصيتها تحت تأثير عبودية الحب المريعة.
قبل أن أُغادر قلت: «يبدو أنكَ بحاجة إلى مساعدة إضافية. لم لا تُقدِّم طلبًا بالحصول على بعض العمال الوافِدين المؤقَّتين لخدمتك؟ لا بد أنك ستكون مخوَّلًا للحصول عليهم.»
لكنه رفَضَ تلك الفكرة قائلًا: «لا أريد أي غرباء هنا، وبخاصَّة العمال الوافدين. فأنا لا أثق بهم. سيكون ذلك بمثابة طلب بأن أُقتل تحت سقف بيتي. ومعظمهم لا يعرف معنى العمل ليوم كامل. من الأفضل الاستعانة بهم لإصلاح الشوارع وتنظيف المجاري وجمع القمامة، تلك الأعمال التي يكونون فيها خاضعين للإشراف.»
قلت: «لكن العمال المنزليِّين يُنتَقون بعناية شديدة.»
«ربما، ولكني لا أريدهم.»
نجحت في التملُّص دون أن أقطع له أيَّ وعود. وفي رحلة عودتي إلى أوكسفورد ظللتُ أُفكِّر في طريقةٍ لإثناء جاسبر عن قراره. فقد اعتاد على أن يحصل دائمًا على مرادِه. يبدو الأمر وكأنه يُطالبني متأخرًا بتسديد حساب جميع الخدمات التي قدَّمها لي خلال الثلاثين عامًا الماضية من توجيهٍ خاصٍّ وحفلات عشاء فاخرة وتذاكر حفلات الأوبرا والمسرح. لكن فكرة مشاركة منزل شارع سانت جونز، واقتحام خصوصيتي، وتَحمل عبء رعاية رجل مسنٍّ صعب المراس تُثير اشمئزازي. إنني مدينٌ لجاسبر بالكثير، لكني لا أَدينُ له بذلك.
بينما كنتُ أقود سيارتي داخل المدينة، رأيتُ طابورًا طوله نحو مائة ياردة خارج مبنى الاختبارات بجامعة أكسفورد. كان يتكوَّن من كهول ومسنِّين منظمين ومهندمي الثياب، ولكن النساء كُنَّ أكثر من الرجال. وقفوا ينتظرون بهدوء وصبر بروح المشاركة، والتطلع الخفي، وغياب التوتر مما يتَّسم به طابور لدى جميع أفراده تذاكر دخول؛ فالدخول مضمون، وثمة توقُّع أكيد بأن المرح الذي سيحظون به بالداخل يستحق الانتظار. لوهلة انتابتني الحيرة ثم تذكَّرت: المبشرة روزي ماكلور تزور المدينة. كان حريًّا بي أن أدرك ذلك على الفور؛ فقد كانت الدعاية لزيارتها تلك في كل مكان. روزي هي أحدث وأنجح المؤدِّين على التلفاز الذين يبيعون الخلاص ويَجنُون ثروات طائلة من بضاعة يتهافَت عليها الناس دومًا ولا يُكلِّفُهم منحها شيئًا. في أول عامَين بعد أوميجا، ظهر روجر الراعد ورفيقه سام المسهب، ولا يزال يوجد متابعون لفترة روجر التلفزيونية الأسبوعية. كان روجر، ولا يزال، خطيبًا مؤثرًا بالفطرة، فهو رجل ضخمٌ له لحية بيضاء، يتعمَّد قولَبة نفسه حسب الصورة الذهنية السائدة لرسولٍ من رسُلِ العهد القديم، فيصبُّ الوعيد الإلهي بصوتٍ جهور زادتْه بقايا لكنتِه الشمال أيرلندية سُلطوية. كانت رسالته بسيطة ولا جديد فيها: عقمُ البشر هو عقاب الرب على عصيانهم وإثمِهم. ولن يرفع عنهم غضب الرب المُستَحَق سوى التوبة، وأفضل برهان على التوبة هو التبرع بسخاء لتغطية تكاليف حملة روجر الراعد. كان لا يَطلُب المال بنفسِه قط؛ فقد كانت تلك مهمة سام المُسهِب. كانا ثنائيًّا مؤثرًا تأثيرًا غير عادي في بداياتهما، ومنزلهما الضخم على كينجستون هيل خير شاهد على نجاحهما. في السنوات الخمس الأولى التي أعقبت أوميجا، كان لدعوتهما تلك مصداقية نوعًا ما، فقد كان روجر ينتقد بشدة العنف الذي يحدث داخل المدن، ومهاجَمة النساء العجائز وهتك أعراضهن، والانتهاك الجنسي للأطفال، وحصر معنى الزواج في مجرد كونه عقدًا ماليًّا، والطلاق الذي صار عاديًّا، وتفشِّي الخيانة وانحراف الغريزة الجنسية. كان يتلُو آيات العهد القديم المليئة باللعنات واحدة تلوَ الأخرى وهو يرفع عاليًا كتابه المقدس الذي تبدو عليه آثار كثرة الاستعمال. غير أنَّ مدة صلاحية منتجه ذلك لم تكن طويلة. فمن الصعب أن تَنجح في أن تثور على الأعراف الجنسية للمجتمع في عالم ساد فيه الفتور، وأن تدين الانتهاك الجنسي للأطفال عندما لا يعود ثمة وجود لأطفال، وأن تشجب أعمال العنف داخل المدن في وقتٍ باتَت فيه المدن تصير آمنة لكبار السنِّ الطيعين. لم ينتقِد روجر قطُّ عنف الأوميجيين ولا أنانيتهم؛ فغريزة حفظ الذات قوية لديه.
والآن بعد أن أفل نجمه، ظهرت روزي ماكلور. بزغ نجم روزي اللطيفة التي قدمت من ولاية ألاباما لكنها غادرت الولايات المتحدة في عام ٢٠١٩، على الأغلب لأن سلعة الهيدونية الدينية التي تبيعها موجودة بوفرة هناك. كانت تعاليم الإنجيل طبقًا لروزي بسيطة: الله محبة، والمحبة تُبرِّر كل شيء. أعادت إحياء الأغنية الشعبية «الحب هو كل ما تحتاجه.» التي غنَّتها فرقة «البيتلز» الغنائية التي كانت مكوَّنة من مجموعة شباب يافعين من ليفربول في الستينيات، وكانت تستهلُّ اجتماعاتها الحاشِدة بتلك الأغنية المتناغِمة المتكرِّرة وليس بترنيمة. من وجهة نظرها أن المجيء الثاني لن يَحدث في المستقبل بل يحدث الآن بينما تُحصَد أرواح المؤمنين واحدًا تلوَ الآخر بعد انقضاء أعمارهم الطبيعية وانتقالهم إلى العلياء. تذكر روزي بالتفصيل الشديد المباهج التي بانتظارهم. كجميع المبشِّرين الدينيِّين، تدرك أن تخيل المرء دخوله الجنة لن يكون مرضيًّا له بالقدر الكافي إن لم يستطِع تخيُّل الأهوال التي سيلقاها غيره في الجحيم. لكن الجحيم الذي تصفُه روزي ليس مكانًا للعذاب بقدر ما هو مكان أشبه بفندق رديء سيئ الإدارة يضطرُّ نزلاؤه غير المنسجِمين لتحمل رفقة بعضهم لبعضٍ للأبد، وغسل ملابسهم بأنفسهم مع نقص المرافق، مع أنه من المفترض أنهم لن يُحرموا المياه المغلية. كما ذكرت أيضًا بنفس التفصيل مباهج الجنة. «في بيت أبي منازل كثيرة.» وتطمئن روزي أتباعها أن بانتظارهم منازل تناسب جميع الأذواق وجميع درجات التقوى، وأن قمة النعيم محجوزة للقلة المختارة. ولكن كل من يستجيب إلى دعوة روزي للحب سيجد مكانًا مستطابًا، شاطئًا جميلًا ينعم فيه للأبد بالطعام، والشراب، والشمس والمتعة الجنسية. الشر لا مكان له في فلسفة روزي. أسوأ ادعاء هو أن البشر يقعون في الخطيئة لأنهم لم يفهموا قانون الحب. علاج الألم هو حبة مسكِّن أو إسبيرين، وعلاج الوحدة هو الاطمئنان إلى العناية الإلهية، وعلاج حزن الفقد هو التيقُّن في اجتماع الشمل. يجب ألا يُطالَب أي من البشر بالمغالاة في إنكار الذات لأن الرب، كونه محبة، لا يريد لأبنائه سوى السعادة.
تركز روزي على تدليل الجسد الدنيوي وإشباع رغباته، ولا تترفَّع عن إعطاء بضع نصائح للجمال خلال عظاتها التي تُنظَّم تنظيمًا باهرًا، بالجوقة المكوَّنة من مائة فرد يرتدون الأبيض من عازفي آلات النَّفخ ومرتِّلي الإنجيل الذين يرتصُّون في درجات تحت كشافات الضوء المتواتر. يشاركهم الحشد ترديد القوافي المبهجة، ويضحكون ويبكون ويلوِّحون بأذرعهم مثل دُمى الماريونيت البلهاء. تُبدِّل روزي نفسُها فساتينها المبهرَجة ثلاث مرات على الأقل في كل اجتماع من اجتماعاتها الحاشدة. تزعم روزي أن الحب هو كل ما نحتاجه. ويجب ألا يُحْرَم أحدٌ من أن يكون له ما يحبه. ليس بالضرورة أن يكون شخصًا آخر؛ فيمكن أن يكون حيوانًا؛ قطةً أو كلبًا، أو حديقةً، أو زهرةً، أو شجرةً. فالطبيعة كلها عبارة عن كيان واحد، يتواصَلُ بالحب، ويسمو بالحب، ويبرأ من خطاياه بالحب. قد يحسب المرء أن روزي لم ترَ قطُّ قطةً مُمسكةً بفأر. في نهاية تلك التجمُّعات الحاشدة، يعانق مُعتنِقُو مذهبها السعداء بعضهم بعضًا عشوائيًّا ويضعون الأوراق النقدية في صناديق التبرع بحماس أهوج.
في منتصَف التسعينيات، اتجهت الكنائس الرسمية، وبخاصة كنيسة إنجلترا، من عقيدة الخطيئة والتوبة إلى مذهب أقل تشددًا؛ مذهب جمع بين المسئولية الاجتماعية والإنسانوية العاطفية. لكن روزي ذهبت لأبعد من ذلك، فنفت فعليًّا الأقنوم الثاني من أقانيم الثالوث المقدس وكذلك صليبه، الذي استبدلت به كرةً ذهبية اللون ترمز للشمس في أوجها بدَتْ شبيهة بلافتة حانة فيكتورية مُبهرَجة. ما لبث ذلك التغيير أن لاقى شعبية. فحتَّى لغير المؤمنين مثلي، لم يكن الصليب، الذي يُمثِّل همجية السلطة وقسوة البشر التي لا مناصَ منها، رمزًا مريحًا.