الفصل الثامن
قبيل التاسعة والنصف من صباح يوم الأحد، انطلَقَ ثيو في رحلته إلى بينسي قاطعًا بورت ميدو سيرًا على الأقدام. لقد وعد جوليان وكان وفاؤه بوعدِه لها مسألة كبرياء لا تراجع فيها. لكنه اعترف لنفسه أن لديه سببًا أقل نبالة للوفاء بوعده. كانت تلك الجماعة تعرف من هو وأين يُمكنهم العثور عليه؛ لذا فمن الأفضل له أن يكلف نفسه عناء لقائهم مرة واحدة ويزيح عن عاتقه ذلك الأمر، من أن يقضي الأشهر القليلة القادمة في ترقبٍ وَجِل من لقاء جوليان كل مرة يذهب فيها إلى الكنيسة أو يذهب إلى التسوق في السوق المُغطَّى. كان ضوء النهار ساطعًا، والهواء باردًا لكنَّه جاف، والسماء تبدو صافية بلونها الأزرق الزاهي، وكان يسمع تحت قدمَيه صوت خشخشة العشب الذي تركته برودة الصباح الباكر منتعشًا. كان النهر يبدو مثل شريط مموَّج يَعكِس لوحة السماء، وبينما توقَّفَ ليَنظُر لأسفل أثناء عبوره الجسر، اقترب سربٌ صاخب من البط وإوزتين، فاغرَين مناقيرهم يسألون الطعام كما لو كان لا يزال يوجد أطفال يرمون لهم بفتات الخبز ثم يفرُّون هاربين في خوف تشوبه الإثارة من إلحاحهم الصاخب. كانت القرية الصغيرة خاوية. كانت بيوت المزارعين على يمين المرج الأخضر لا تزال قائمة لكن معظم نوافذها كان موصدًا بالألواح الخشبية. حُطِمَت الألواح في بعض المواضع فلمح من خلال شظايا ونتوءات الزجاج المهشم الحادة التي تحيط بإطارات النوافذ بقايا ورق حائط متقشر منقوش بنقشات ورود اختير بعناية شديدة يومًا ما، أما الآن فلم يبقَ منه سوى بقايا بالية، وقفت كشواهد هشَّة على الحياة التي غادرتها. كانت الألواح الأردوازية لأحد الأسطح قد بدأت تَنزلِق، كاشفة عن الألواح الخشبية المتعفنة، وتحولت الحدائق إلى قفور تغطيها أعشاب وحشائش وصلت في ارتفاعها إلى مستوى الكتف.
كما كان يعلم، كان نزل «بيرش إن» مغلقًا منذ وقت طويل بعد أن تقلَّصَت أعداد زبائنه. كانت رحلة الذهاب إلى بينسي عبر بورت ميدو هي إحدى نزهات السير المفضَّلة لديه صباح أيام الأحد، وكان ذلك النزل هو مقصدها. أما الآن فشعر أن من يقطع تلك القرية الصغيرة هو شبح الرجل الذي كان عليه في السابق، مبصرًا بعينين غريبتَين عنه الجادة الضيقة التي تحفها على الجانبين أشجار الكستناء الممتدة لنصف ميل، والتي تتجه إلى الشمال الغربي من بينسي إلى كنيسة سانت مارجريت. حاول تذكُّر متى كانت آخر مرة قام فيها بهذه النزهة. أكان ذلك منذ سبع سنوات، أم عشر؟ لم يستطع تذكر النزهة نفسها ولا من رافقه فيها إن كان أحدٌ قد رافقه. لكن الجادة تغيَّرت. كانت أشجار الكستناء لا تزال قائمة، لكن الجادة، التي ظلَّلتها الأغصان المتشابكة فأعتمَتْها، قد ضاقت حتى أصبحت مجرد ممشًى ضيِّق تعفَّنت على سطحه أوراق الأشجار الساقطة وتشابكَت فيه، بغزارة ودونما تقليم، أغصانُ أشجار البَلَسان والدَّردار. كان يعرف أن المجلس المحلي قد خصَّص ممرَّات مشْي معيَّنة لإماطة تلك العوائق عنها، لكن تدريجيًّا تقلص عدد تلك الممرات التي كانت تلقى عناية منه. فقد كان المسنُّون أوهن من أن يقوموا بالعمل، والكهول الذين يقع على عاتقهم مسئولية الحفاظ على حياة الدولة كانوا مشغولين للغاية، أما الشباب فلم يكونُوا يهتمُّون كثيرًا بالحفاظ على الريف. فلماذا يُحافظون على ما سينعمون فيما بعد بوفرةٍ منه؟ فسيرثون جميعهم عما قريب عالَمًا من المرتفعات غير المأهولة، والجداول النقية، والغابات والأحراش الشاسعة، والأخوار المهجورة. نادرًا ما كنت تراهم في الريف، ويبدو أنهم كانوا يَهابونه. كانت الغابات، على وجه الخصوص، قد صارت مواطن خطر يهاب كثيرون دخولها، وكأنهم كانوا يَخشون أنهم لن يخرجوا إلى النور قط إن تاهوا وسط جذوع أشجارها الداكنة المتصلِّبة وممرَّاتها المنسية. ولم يكن ذلك مقتصرًا على الشباب. فقد أخذت أعداد من يبحثون عن رفقة بني جنسهم تزداد، فهجروا القرى الموحشة حتى قبل أن تستدعي الحصافة أو القرار الرسمي ذلك، ونزحوا إلى تلك المقاطعات الحضرية التي وعَد الحاكم بأنه سيعمل على توفير الإنارة والطاقة بها حتى النهاية، إن أمكن.
كان المنزل المنفرِد الذي كان يذكره لا يزال قائمًا وسط حديقته على يمين الكنيسة، ولدهشته رأى ثيو أن جزءًا منه على الأقل مأهول. فقد كانت الستائر تغطي نوافذه، وعمود من الدخان يتصاعد من مدخنته، وعلى يسار الممر كان من الواضح أن أحدًا حاول اجتثاث الحشائش، التي بلغت في ارتفاعها مستوى الركبة، لزراعة حديقة خُضَر. إذ تدلَّت بضعة أعواد ذابلة من الفاصوليا القرمزية من الأوتاد الداعمة كما كان يوجد صفوف غير مُستوية من الكرنب وكرنب بروكسل التي كان لونها قد بدأ في الاصفرار. خلال زياراته وقتما كان طالبًا جامعيًّا، تذكر شعوره بالحسرة من أن الضجيج الصاخب المتواصِل للطريق السريع «إم ٤٠» كان يعكر سكينة أجواء المنزل والكنيسة اللذَين كان يصعب تصديق أنهما قريبان من المدينة لتلك الدرجة، أما الآن فكان يكاد لا يُسمع له أي ضجيج، وبدا المنزل وكأنما يلفُّه هدوء سرمدي.
قُطِع ذلك الهدوء عندما انفتح الباب بقوة واندفع خارجًا منه رجل مسنٌّ يَرتدي جبة كاهن باهتة وهو يزعق ويسير بخطًى مُتعثِّرة في الممر ملوِّحًا بذراعَيه وكأنما يطرد وحوشًا جامحة. صاح بصوت مرتعِش: «لا يوجد قداس! لن يُقام قداس اليوم. ستقام معمودية في الحادية عشرة.»
قال ثيو: «لم آتِ لحضور قداس، وإنما جئتُ للزيارة فقط.»
«هذا كل ما يَفعلونه، أو هكذا يزعمون. لكني أحتاج جُرْن المعمودية في الحادية عشرة؛ لذا لا بد أن يخرج الجميع بحلول ذلك الوقت. الجميع باستثناء من أتَوا لحضور المعمودية.»
«لا أظن أنني سأمكُث هنا حتى ذلك الوقت. هل أنت قسُّ الأبرشية؟»
اقترب من ثيو ونظر إليه بعينَين حادتَين مرتابتَين. خُيِّل لثيو أنه لم يرَ أحدًا أطعن منه في السن، فقد كان جلده المبقَّع الرقيق كالورقة مشدودًا للغاية حول عظام جمجمته وكأنما لا يُطيق الموتُ الانتظارَ حتَّى يحصد روحه.
قال الرجل الطاعن في السن: «لقد أَقاموا قداسًا أسودَ هنا يوم الأربعاء الماضي، وظلُّوا يُغنون ويصرخون طوال الليل. هذا لا يصح. لا يُمكنني إيقافه، لكني لا أوافق عليه. كما أنهم لا يُنظِّفون المكان بعد الفوضى التي يُحدِثونها؛ الدم والريش والنبيذ الذين يُغطُّون الأرض، وآثار شحم الشمع الأسود. لا يُمكن إزالتها، فهي تأبى أن تزول، كما تعلم. كل ذلك يُترك لي لأقومَ به. وهم لا يأبهون. هذا ليس عدلًا، ولا يصح.»
قال ثيو: «لمَ لا تُوصِدُ باب الكنيسة؟»
بدأت نبرة العجوز تغدو تآمُرية. «لأنهم أخذوا المفتاح. هذا هو السبب. وأنا أعرف مَن أخذه. نعم، أعرف.» دار على عقبَيه وسار بخطًى مُتعثِّرة تجاه المنزل وهو يتمتم، ثم التفت عندما وصل إلى الباب كي يَصيح بإنذار أخير: «اخرج في تمام الحادية عشرة. إلا إذا كنتَ ستَحضُر المعمودية. على الجميع الخروج بحلول الحادية عشرة.»
سار ثيو إلى الكنيسة. كانت عبارة عن بناء حجري، ولها برجٌ قصير ذي جرسين جعلها تبدو كمنزل حجري مُتواضِع بمدخنة واحدة. كانت ساحة الكنيسة مُغَشَّاة بالأعشاب البرية مثل حقل طال إهماله. كان العشب طويلًا وباهتًا كالقش، وزحف اللبلاب على شواهد القبور طامسًا أسماء أصحابها. في مكان ما وسط تلك البرية المتشابكة كان يقف بئر سانت فريدسوايد الذي كان فيما مضى مكانًا يحج إليه الناس. سيُواجه أيُّ حاج في يومنا هذا صعوبة في العثور عليه. لكن كان من الواضح أن الكنيسة نفسها كانت تحظى بزوار. كان على كل جانب من جانبي رواقها أصيص من الفخار مزروع به شُجيرة ورد واحدة، تجرَّدت سيقانها من الأوراق لكنها لا تزال تحمل بضعة براعم عَطشى لفَحها الشتاء.
كانت جوليان تَنتظرُه في الرواق. لم تمدَّ يدها لتصافحه أو حتى تبتسم، وإنما قالت: «شكرًا لقدومك، جميعنا موجودون.» ثم دفعت الباب فاتحةً إياه. تبعها إلى داخل الكنيسة المعتمة فاستقبلته على الفور موجة قوية من البخور طغت على رائحة أخرى أشد ضراوة. عندما أتى إلى هنا للمرة الأولى، منذ خمسة وعشرين عامًا، نقله سكونها وسلامها السرمدي إلى عالم آخر، وشعر كأن ما يَدوي حوله في الهواء صدى تراتيلَ طواها النسيان، وابتهالات قديمة وصلوات يائسة. كل ذلك لم يعد موجودًا. في السابق كان السكون الذي يُغلِّف هذا المكان أكثر من مجرد غياب للضوضاء. أما الآن فقد صار مجرَّدَ مبنًى حجري، لا أكثر.
كان قد توقَّع أن يجد أفراد الجماعة بانتظاره، واقفين أو جالسين معًا في ذلك الخلاء الريفي المُعتم. لكنه وجدهم قد تفرَّقوا وكان كلٌّ منهم يتمشى في جزء مختلف من الكنيسة وكأنما دفعهم إلى التفرق جدال ما أو حاجة مُلحة إلى العزلة. كانوا أربعة، ثلاثة رجال وامرأة طويلة القامة وقفت بجوار المذبح. عندما دخل هو وجوليان، اقترب بعضهم من بعض بهدوء، وتجمَّعوا قبالتَه في الممر.
لم تواجهه أي صعوبة في تحديد أي منهم هو زوج جوليان وقائدهم حتى قبل أن يتقدم بتروٍّ ويقف في مواجهته. وقف كلٌّ منهما مواجهًا للآخر مثل غريمين يقيِّم كلٌّ منهما الآخر. لم يبتسم أي منهما أو يمد يده للمصافحة. كان ذا بشرة داكنة للغاية، ووجه وسيم متجهم نوعًا ما، وحملت عيناه النبيهتان الغائرتان نظرات قلق وشكٍّ، وكان له حاجبان كثَّان ومستقيمان، كأنهما مرسومان بفرشاة رسم، يُبرِزان نتوء عظام وجنتَيه. وتناثرت على جفنيه المرتخيين بضع شعرات سوداوات فبدا كأن حاجبَيه ملتصقان برموشه. كانت أذناه كبيرتَين وبارزتَين، ولهما شحمتان ناتئتان، ولم تتماشَ الأذنان البارزتان مع فمِه المُطبق بعناد وفكِّه المشدود القوي. لم يكن وجهُه وجهَ رجل مُتصالِح مع نفسه أو مع عالَمه، لكن لماذا يكون كذلك، وقد ولد قبل جيل الأوميجيِّين ببضع سنوات ففاتَتْه الأفضلية والامتيازات التي يحظى بها أبناء ذلك الجيل؟ كان أبناء جيله، قد خضعوا كشأن جيلِهم، للملاحظة والدراسة ودُلِّلوا، وأُشبِعَت رغباتهم، في انتظار أن تأتي اللحظة التي يصيرون فيها ذكورًا بالغين ويُنتِجون الحيوانات المنوية الخصبة المرجوة. كان جيلًا تهيأ للفشل، فقد كان أبناؤه أكبر خيبة أمل لوالديهم الذين أنجبوهم ولسائر الجنس البشري الذي كان قد تعهَّدهم بالكثير من الرعاية الخاصَّة ووضَعَ فيهم أملًا كبيرًا.
عندما تكلَّم، كان صوته أعلى مما توقَّع ثيو، وبه نبرة خشنة وأثرُ لكنةٍ غريبة لم يستطع تحديدها. دون أن ينتظر أن تُقدِّم جوليان أحدهما للآخر، قال: «لا حاجة لك بمعرفة كنياتنا. سنَكتفي بالأسماء الأولى فقط. أنا رولف، قائد الجماعة. وجوليان هي زوجتي. هذه ميريام، وهذا لوك وهذا جاسكوين. جاسكوين هو اسمه الأول. اختاره له جده عام ١٩٩٠ لسبب لا يعلمه إلا الله. كانت ميريام قابلةً، ولوك قسًّا. لا حاجة لديك لأن تعرف وظيفة أيٍّ منا الحالية.»
كانت المرأة هي الوحيدة التي تقدَّمت وصافحت ثيو. كانت سوداء البشرة، جامايكية على الأرجح، وكانت أكبر أفراد الجماعة سنًّا، وخمَّن ثيو أنها تَكبُرُه هو أيضًا، ربما كانت في منتصف أو أواخر الخمسينيات من عمرها. كان الشيب يتخلل شعرها القصير الكثيف ذا التجعيدات الضيقة. وكان التباين بين الأبيض والأسود صارخًا حتى إن رأسها بدا كأنه مُغطًّى بمسحوق مما أضفى عليها وقارًا وأناقة. كانت طويلة القامة رشيقة البِنية، ووجهها طويلًا ذا ملامح منمقة، وبالكاد تظهر في بشرتها الداكنة أي خطوط تجاعيد، مما يَتنافى مع شيب شعرها. كانت ترتدي بنطالًا ضيقًا أسود، وحذاءً ذا رقبة طويلة أدخَلَت فيه طرفَي بنطالها، وقميصًا ذا رقبة عالية فوقه صِدار من جلد الغنم، وتبايَنَت ملابسها الأنيقة التي تكاد تكون غير تقليدية مع ملابس الرجال الثلاثة الخشنة التي تحتاج إلى الإصلاح. ألقت التحية على ثيو بمصافحة قوية ونظرة مُتمعِّنة تآمُرية يشوبها شيء من الابتهاج، وكأنما صار بالفعل شريكها في المؤامرة.
للوهلة الأولى لم يرَ ما يلفت النظر في الفتى — فقد كان يبدو كفتًى مع أن عمره حتمًا لا يقلُّ عن الواحد والثلاثين — الذي يدعى جاسكوين. كان قصير القامة، يكاد يكون بدينًا، ذا شعر قصير ووجه ودود مستدير، وعينَين واسعتَين وأنف أفطس. كان له وجه طفل كبر في السنِّ لكن ملامحه لم تتبدَّل كثيرًا منذ أن تطلع لأول مرة من عربة الأطفال إلى عالم رآه حينها غريبًا وغير ودود كما يراه الآن حسبما يدلُّ سَمْته الذي تَغلِب عليه البراءة المرتبكة.
كان الرجل الذي يدعى لوك، الذي تذكر أن جوليان أيضًا كانت قد ذكرت أنه قس، أكبر سنًّا من جاسكوين؛ إذ كان، على الأرجح، قد تخطَّى الأربعين. كان طويل القامة، ذا وجه شاحب مرهف، وجسد نحيل، وتدلى كفاه اللذان تبرز عظامُهما من رسغَين نحيلَين، وكأنما في طفولته نفدت قواه فلم يصل إلى كامل نضجه. كان شعره الأشقر ينسدل على جبينه العالي مثل قصة حريرية، وعيناه الرماديتان متباعدتَين وهادئتَين. كان لا يبدو شريكًا لهم في التآمر؛ فقد كان ثمة تباين ملحوظ بين رقته البادية وملامح رولف السمراء الذكورية. ابتسم لثيو ابتسامة سريعة أحدثت تحولًا في ملامحه التي يشوبها شيء من الحزن، لكنه لم يقلْ شيئًا.
قال رولف: «لقد شرحت لك جوليان لم وافَقْنا على مقابلتك.» جعل الأمر يبدو وكأنَّما كان ثيو هو من توسَّل لمقابلتهم.
«تريدونني أن أستخدِمَ نُفوذي للتأثير على حاكم إنجلترا. يتعيَّن عليَّ أن أخبركم أني لا أملك أي نفوذ. فقد تخلَّيتُ عن أي من ذلك عندما تركت منصبي بصفتي مستشارًا له. سأسمع ما تودون قوله لكني لا أظن أني أملك أي طريقة للتأثير على المجلس أو على حاكم إنجلترا. فلم يكن ذلك مُمكنًا يومًا. وذلك كان أحد أسباب استقالتي.»
قال رولف: «لكنك ابن خالته، وقريبه الوحيد الذي لا يزال على قيد الحياة. وقد تربيتما معًا نوعًا ما. وتقول الشائعات إنك الشخص الوحيد في إنجلترا الذي استمع لرأيه.»
قال ثيو: «إذن، الشائعات غير صحيحة.» ثم أضاف قائلًا: «ثم ما طبيعة جماعتكم تلك؟ هل تُجرُون اجتماعاتكم دائمًا في هذه الكنيسة؟ هل أنتم جماعة دينية؟»
كانت مريام هي من أجابت. قالت: «لا، كما أوضح رولف، لوك قس، لكنه لا يعمل بدوام كامل ولا يَنتمي لأبرشية. هو وجوليان يدينان بالمسيحية، أما بقيتنا فلا ندين بها. نحن نتقابَلُ في الكنائس لأنها متاحة ومفتوحة ومجانية وعادة ما تكون خاوية، على الأقل الكنائس التي نختارها تكون كذلك. قد نضطرُّ للتخلي عن تلك الكنيسة، فقد بدأ أناس آخَرُون يرتادونها.»
قاطعها رولف بنفاد صبر وبنبرة صارمة: «لا علاقة للأمر بالدين أو بالمسيحية. على الإطلاق!»
تابعت مريام حديثها وكأنها لم تسمعه: «يلتقي العديد من غريبي الأطوار في الكنائس. ما نحن إلا جماعة من بين جماعات كثيرة منهم. لا أحد يطرح علينا أي أسئلة. وإن حدث، نقول إننا «نادي كرانمر». نجتمع كي نقرأ ونتدارس كتاب الصلاة المشتركة القديم.»
قال جاسكوين: «هذا غطاؤنا.» قالها ببهجة طفل اطَّلعَ على سرٍّ من أسرار الكبار.
التفت إليه ثيو. «حقًّا؟ ماذا إذن سيكون ردُّكم إن طلبَت منكم شرطة الأمن الوطني تلاوة دعاء «الأحد الأول من المجيء»؟» ثم أضاف بعد أن لاحظ وجل عدم الفهم عليه: «هذا ليس غطاءً مقنعًا.»
قالت جوليان بهدوء: «قد لا تكون متعاطفًا معنا، لكن لا داعي لأن تزدرينا. ليس الهدف من غطائنا هذا خداع الشرطة. فشرطة الأمن الوطني إن بدأت تَلتفتُ إلينا، فلن يحمينا منها أي غطاء. سيقضون علينا في عشر دقائق. نحن نعرف ذلك. ذلك الغطاء يمنحُنا سببًا أو ذريعة للاجتماع بانتظامٍ في الكنائس. نحن لا نعلنه. لقد وضعناه كي نستخدمه عند الحاجة، إن سألنا أحد.»
قال جاسكوين: «أنا أعرف أنَّ الصلوات تُدعى «أدعية». هل تحفظ الدعاء الذي سألتني عنه؟» لم يكن في صوته نبرة اتهام، بل مجرد فضول.
قال ثيو: «لقد تربَّيتُ على كتاب الصلاة القديم. لا بد أن الكنيسة التي كانت أمي تأخذني إليها وأنا طفل كانت من آخر الكنائس التي استخدمته. كما أني أستاذ تاريخ. وأنا مهتمٌّ بالكنيسة الفيكتورية، وبالطقوس الدينية القديمة وأشكال العبادة التي بطلَ استخدامها.»
قال رولف بنفاد صبر: «كل هذا غير مُهم. كما قالت جوليان، إن اعتقلتنا شرطة الأمن الوطني فلن يضيعوا الوقت في استجوابنا حول التعاليم الدينية القديمة. لسنا في خطر حتى الآن، إلا إذا خُنتَنا. فماذا فعلنا حتى الآن؟ لا شيء سوى الكلام. قبل أن نفعل شيئًا، ارتأى اثنان منا أنه قد يكون من الحكمة أن نُقدِّم التماسًا بمطالبنا لحاكم إنجلترا، ابن خالتك.»
قالت ميريام: «ثلاثة منا. كان ذلك قرار الأغلبية. فقد وافقْتُ لوك وجوليان. ارتأيت أن الأمر يستحق المحاولة.» تجاهلها رولف مرة أخرى. «لم يكن استدعاؤكَ إلى هنا فكرتي. سأكون صريحًا معك. أنا لا أملك سببًا يدعوني للوثوق بك، ولا أرغب في وجودك بالأساس.»
رد ثيو: «هذا يجعلنا مُتعادلَين فأنا لم أُرِد الحضور بالأساس. تريدون مني أن أتحدث مع الحاكم. لمَ لا تتحدَّثُون معه بأنفسكم؟»
«لأنه لن يسمع لنا. لكنه قد يسمع لك.»
«وإن وافقت على مقابلته، وإن سمع لي بالفعل، فما الذي تُريدون منِّي قوله؟»
كان السؤال مباغتًا للغاية فألجمَهُم لوهلة. نظر كل منهم إلى الآخر وكأنما يتساءلون من منهم سيبتدئ الحديث.
كان رولف هو من أجاب: «صعد الحاكم إلى السلطة عن طريق الانتخاب، لكن مضى على ذلك خمسة عشر عامًا. ومنذ ذلك الحين، لم يَجرِ أيُّ انتخابات. يدعي أنه يحكم بإرادة الشعب، لكنه في الواقع طاغية مُستبِد.»
قال ثيو بأسلوب جاف: «إن كان أحدٌ على استعداد لإبلاغه تلك الرسالة فسيكون رسولًا شجاعًا.»
قال جاسكوين: «كما أن حرس الجرينادير يُمثلون جيشه الخاص. فهم يؤدون قسم الولاء له. ولم يعودوا يخدمون الوطن بل يخدمونه هو. لا يحق له أن يستغل الاسم. كان جدي جنديًّا في حرس الجرينادير. أخبرني أنهم كانوا أفضل فرقة في الجيش البريطاني.»
تجاهله رولف، وتابع قائلًا: «كما أن ثمة أمورًا يُمكن أن يفعلها دون أن يضطر للانتظار حتى تُجرى انتخابات عامة. فبإمكانه أن يُنهي برنامج اختبار الحيوانات المنوية. فهو مضيعة للوقت ومُهين وعلى كل حال لا أمل يرجى منه. وبإمكانه أن يترك للمجالس المحلية والإقليمية اختيار رؤسائها. سيكون ذلك على الأقل بداية للديموقراطية.»
قال لوك: «ليس اختبارات الحيوانات المنوية فحسب. يجب أن يُوقف الفحوصات النسائية الإلزامية. فهي مُهينة للنساء. كما نريده أن يضع نهاية لفعاليات الراحة الأبدية. أعرف أنه من المفترض أن يكون جميع المسنين المشاركين بها قد تطوَّعوا لذلك. ربما كان الأمر كذلك في بداياتها، وربما لا يزال بعضٌ منهم كذلك. لكن هل سيرغبون حقًّا في الموت إن منحناهم أملًا؟»
شعر ثيو برغبة عارمة في أن يسأله: «أمل في ماذا؟»
قاطعته جوليان قائلة: «كما أننا نريد أن يفعل شيئًا بخصوص العمال الوافِدين. هل تعتقد أن من الصواب أن يصدر أمر رسمي بمنع أوميجيينا من الهجرة؟ نحن نستقدم الأوميجيين والشباب من البلدان الفقيرة كي يقوموا عنَّا بالأعمال الشاقة من تنظيف للمجاري ورفع للقمامة ورعاية للمقعدين والمسنين.»
قال ثيو: «هم من يتهافتون للقدوم، على الأرجح لأنهم ينعمون بمستوى معيشة أفضل هنا.»
قالت جوليان: «بل يأتون كي يجدوا ما يسدُّ رمَقَهُم. ثم عندما يصبحون طاعنين في السن — الستون هو السن الأقصى، أليس كذلك؟ — يُرحَّلون إلى بلادهم شاءوا أم أبوا.»
«ذلك شر تقع مسئولية معالجته على بلدانهم. بإمكانهم أن يبدءوا بإدارة شئونهم بطريقة أفضل. على أيِّ حال، أعدادهم ليست بالكبيرة. فهي مقيَّدة بحصة، ويتُحكَّم بعناية في أعداد المقبولين منهم.»
«ليس بحصة فحسب، بل بشروط صارمة أيضًا. فيشترط أن يكونوا أشداء وأصحاء وليس لهم أي سوابق جنائية. نحن نأخُذ خيرتهم ثم نطردهم إلى بلدانهم عندما لا يعود ثمة حاجة إليهم. ومن يحصل على خدماتهم؟ ليس أكثر الناس حاجة إليهم. بل أعضاء المجلس وأصدقاؤهم. ومن يعتني بالأوميجيِّين الأجانب أثناء إقامتهم هنا؟ هم يعملون لقاء أجر زهيد، ويسكنون في مخيمات، ويعزل رجالهم عن نسائهم. نحن حتَّى لا نمنحهم الجنسية؛ هذا نوع من أنواع العبودية المقنَّنة.»
قال ثيو: «لا أعتقد أنكم ستبدءون ثورة من أجل قضية العمال الوافدين، أو حتى فعاليات الراحة الأبدية؛ فالناس لا يبالون بالقدر الكافي.»
قالت جوليان: «نحن نريد أن نُساعدَهم على أن يبالوا.»
«ولماذا سيفعلون؟ إنهم يحيون بلا أي أمل على كوكب يُحتضَر. كل ما يريدونه هو الأمان والراحة والمتعة. وحاكم إنجلترا بيده أن يعدَ بتحقيق المَطلبَين الأول والثاني، وهذا أكثر مما تَقدِر معظم الحكومات الأجنبية على الوفاء به.»
كان رولف يستمع إلى حديثهم المتبادَل دون أن يشارك به، ثم قال فجأة: «كيف هو؟ أقصد حاكم إنجلترا؟ أي نوع من الرجال هو؟ لا بد أنك تعرف، فقد تربيتما معًا.»
«لكن هذا لا يَمنحُني إمكانية الولوج إلى عقله.»
«كل تلك السلطة بين يديه، سلطة تفوق أي سلطة حَظيَ بها أي شخص يومًا، على الأقل في ذلك البلد. هل يستمتع بها؟»
«على الأرجح. فهو لا يبدو متلهفًا للتنازل عنها.» ثم أضاف قائلًا: «إن أردت ديموقراطية، فعليك إيجاد طريقة لإعادة الحياة إلى المجلس المحلِّي. فهي تبدأ من هناك.»
قال رولف: «وهناك تنتهي أيضًا. فهذه هي الطريقة التي يفرض بها الحاكم سيطرته على ذلك المستوى. هل رأيت رئيس مجلسنا المحلي ريجي ديمسديل؟ إنه رجل متذمِّر جبان في السبعين من عمره، يقوم بذلك العمل فقط لأنه يتلقى مقابله ضعف حصة الوقود، وبضعة عمال من الأوميجيِّين الأجانب ليعتنوا بمنزله اللعين الضخم ذي المزرعة، ويُنظِّفونه إن أسلس البول. لن يضطرَّ للمشاركة في الراحة الأبدية.»
«لقد جاء للمجلس بالانتخاب. جميعهم جاءوا بالانتخاب.»
«مَن انتخبهم؟ هل أدليتَ بصوتك؟ لا أحد يُبالي. ارتاح الناس لمجرد أنهم وجدوا من يقوم بذلك العمل. أنت تعلم كيف تسير تلك الأمور. لا يُعيَّن رئيس المجلس المحلي إلا بموافقة مجلس المقاطعة، الذي يحتاج بدوره إلى موافقة المجلس الإقليمي. الذي يجب أن يُوافق عليه مجلس إنجلترا. يفرض الحاكم سيطرته على النظام من أوله إلى آخره، لا بد أنك تعلم ذلك. ويفرض سيطرته عليه كذلك في اسكتلندا وويلز. كلتا الدولتين لهما حاكم مُنفصِل، لكن من يعيِّنه؟ بوسع زان ليبيات أن يطلق على نفسه لقب حاكم بريطانيا العظمى لولا أن ذلك اللقب ليس له نفس الوقع الرومانسي على نفسه.»
خطر على بال ثيو أن تلك ملاحظة تنم عن بصيرة ثاقبة. استحضر إلى ذهنه حديثًا قديمًا مع زان. «لا أظنُّ أن لقب رئيس الوزراء سيكون مناسبًا. فأنا لا أريد أن أستوليَ على لقب شخص آخر، بخاصة إن كان لقبًا له وزن في كفة التقاليد والالتزامات. فقد يُنتظَر منِّي أن أجريَ انتخابات كل خمسة أعوام. ولا لقب «اللورد الحامي» كذلك؛ فآخر شخص حمل ذلك اللقب لم يحقِّق نجاحًا باهرًا. سيكون لقب «الحاكم» مناسبًا جدًّا. لكن هل هو لقب «حاكم بريطانيا العظمى وأيرلندا الشمالية»؟ ليس له الوقع الرومانسي الذي أَنشُده.»
قالت جوليان: «لن نصل إلى شيء مع المجلس المحلي. أنت مواطن تعيش في أكسفورد مثلك مثل الجميع. وأنت حتمًا تطلع على الأمور التي ينشرونها بعد الاجتماعات بخصوص الأمور التي يناقشونها. صيانة ملاعب الجولف والبولينج. وما إذا كانت مرافق مبنى النادي كافية. وقرارات بشأن توزيع فرص العمل، وشكاوى حصص الوقود، والطلبات المقدمة للحصول على عامل وافد. وتجارب الأداء لجوقة الهواة المحلية. وإذا ما كان عدد الذين يطلبون دروس العزف على الكمان يستدعي أن يعين المجلس مدربًا محترفًا بدوام كامل. أحيانًا يناقشون حتى تأمين الشرطة للشوارع الذي لم يَعُد ضروريًّا الآن بعد أن أصبح خطر الترحيل إلى مستعمرة مان العقابية يتهدد اللصوص الذين ينوون السرقة.»
قال لوك برفق: «الحماية والراحة والمتعة. لا بد أنه يوجد ما هو أكثر من ذلك.»
«تلك هي الأمور التي يأبه لها الناس ويحتاجونها. فما الذي يمكن أن يقدمه المجلس أكثر من ذلك.»
«الرحمة والعدل والحب.»
«لم تُعنَ أي دولة من قبل بالحب، ولا يُمكن أن تُعنَى به يومًا.»
قالت جوليان: «لكن يُمكِن أن تُعنى الدولة بالعدل.»
قال رولف وقد نفَد صبره: «الرحمة والعدل والحب. إنها مجرد كلمات. ما نتحدث عنه هو السلطة. الحاكم ديكتاتور يلبس رداء القائد الديموقراطي. يجب أن يحمله أحد على الاستجابة لإرادة الشعب.»
قال ثيو: «إرادة الشعب. تلك عبارة لها وقع حسن. لكن يبدو في الوقت الحالي أن إرادة الشعب تتلخص في الحماية والراحة والمتعة.» ثم قال في نفسه: أعرف ما يضايقك؛ أن زان يتمتع بتلك السلطة، وليس الطريقة التي يمارسها بها. لم يكن ثمة وجود لأي ترابط فعلي بين أفراد تلك الجماعة الصغيرة وتوقع عدم وجود أي غاية مشتركة بينهم. فما كان يحرك جاسكوين هو السخط من استئثار الحاكم بفرقة حرس الجرينادير، أما ميريام فقد كان يحركها دافع لم يتَّضح له بعد، أما جوليان ولوك فقد كانا مدفوعين بالمثالية الدينية، وأما ما كان يحرك رولف فهو الغيرة والطموح. كونه أستاذ تاريخ كان بإمكانه أن يُسميَ عدة نظراء تاريخيين لهم.
قالت جوليان: «أخبريه عما حدث لأخيكِ يا ميريام. أخبريه عن هنري. لكن دعونا نجلس قبل أن تبدئي.»
جلسوا على أحد مقاعد الكنيسة الخشبية وقد انحنوا إلى الأمام محاولين الاستماع لصوت ميريام الخافت، فبدوا لثيو كمجموعة من المصلِّين المكرَهين غير المنسجمين.
«رُحِّل هنري إلى الجزيرة منذ ثمانية عشر شهرًا بتهمة السرقة باستخدام العنف. لم يكن عنفًا شديدًا، أو عنفًا فعليًّا. فقد سرق أوميجيةً ودفَعها أرضًا. كانت مجرد دفعة بسيطة لكنها سقطت على الأرض، وادعت في المحكمة أن هنري ركلها في ضلوعها بينما كانت ممدَّدة على الأرض. وهذا لم يحدث. أنا لا أزعُم أن هنري لم يدفعها. لقد كان مصدرًا للحزن والمشكلات منذ طفولته. لكنه لم يركل تلك الأوميجية عندما سقطت أرضًا. بل انتشل حقيبة يدها ودفعها ثم فرَّ هاربًا. حدث ذلك في لندن قبل منتصَف الليل بقليل. ركض حتى انعطف عند ناصية شارع لادبروك جروف وهناك وقع في قبضة رجال شرطة الأمن الوطني. لقد كان حظه عاثرًا طوال حياته.»
«هل حضرتِ المحاكمة؟»
«حضرتها أنا وأمي. فقد تُوفِّيَ أبي منذ عامين. وَكَّلنا محاميًا لهنري — ودفعنا له المال أيضًا — لكنه لم يهتمَّ حقًّا بالقضية. أخذ مالنا ولم يفعل شيئًا لمساعدتنا. كان بوسعنا أن نرى أنه وافق الادعاء في قراره بنفي هنري للجزيرة. أيًّا كان الأمر، فقد سرق أوميجيةً. وهذا يحتسب ضده. ثم إنه أسود البشرة.»
قال رولف بنفاد صبر: «لا تخوضي في هرائك عن التمييز العنصري. فقد كان دفعه للفتاة هو ما جعله ينال تلك العقوبة لا لون بشرته. لا يُرسَل المرء إلى مستعمَرة العقاب إلا إذا ارتكب جريمة تَنطوي على عنفٍ مع مَن سرقه أو إذا أُدين للمرة الثانية بجريمة سطو. لم يُدَن هنري بأي جرائم سطو لكنه أُدين بجريمتي سرقة.»
قالت ميريام: «سرقة سلع من متاجر. لم يكن أمرًا سيئًا للغاية. سرق وشاحًا كي يهديه إلى أمي في عيد ميلادها ولَوحَ شوكولاتة. لكنه كان طفلًا حينها. بربك يا رولف، لقد كان في الثانية عشرة من عمره! كان ذلك منذ أكثر من عشرين عامًا.»
قال ثيو: «إن كان قد أسقط المعتدى عليها أرضًا، فسيكون قد ارتكب جريمة عنفٍ سواء ركلها أم لا.»
«لكنه لم يركَلْها. لقد دفعها جانبًا فسقطت. لم يفعل ذلك عمدًا.»
«لا بد أن هيئة المحلفين لم تُوافقكِ الرأي.»
«لم يكن ثمة وجود لهيئة محلفين. أنت تعرف مدى صعوبة حمل الناس على أداء الخدمة في الهيئة. فهم ليسوا مهتمين. ولن يُكلفوا أنفسهم العناء. حوكم وفق النظام الجديد، في حضور قاضٍ وقاضيين جزئيين. لديهم السلطة لنفي الناس للجزيرة. ويكون قرار النفي ساريًا مدى الحياة. لا يوجد أي تخفيف للحكم، ولا سبيل للخروج لمن يُحكم عليه. حُكِم عليه بالنفي مدى الحياة بسبب دفعة غير متعمدة. تسبب ذلك في وفاة والدتي. فقد كان هنري ابنها الوحيد وكانت تعرف أنها لن تراه قط. انسحبت من الحياة بعدها. لكنَّني سعيدة لوفاتها. فعلى الأقل ماتت دون أن تعرف أسوأ ما ألمَّ به.»
ثم نظرت إلى ثيو وقالت ببساطة: «لكنِّي عرفت. فقد عاد إلى البيت.»
«أتعنين أنه هرب من الجزيرة؟ كنت أظن ذلك مستحيلًا.»
«لقد فعله هنري. عثر على قارب صغير معطوب أغفلتْه قوات الأمن أثناء تجهيزها الجزيرة لاستقبال المدانين. كانوا يَحرقون أي قارب لم تكن حالته تستحق أخذه، لكن أحدها خُبِّئ أو ترك سهوًا، أو ربما اعتبروه متضرِّرًا للغاية ولم يعد صالحًا للاستخدام. كان هنري دائمًا ماهرًا بالأعمال اليدوية. أصلحه سرًّا وصنع له مجدافين. ومنذ أربعة أسابيع، في الثالث من يناير، انتظر حتى حلول الظلام وأبحر به.»
«كان ذلك عين التهوُّر.»
«كلا، بل كان عين العقل. كان يعرف أنه ليس أمامه إلا النجاح في العودة أو الغرق، والغرق كان خيرًا له من البقاء على تلك الجزيرة. وبالفعل عاد إلى البيت، لقد عاد. أنا أسكن؛ لا يهمُّ أين أسكن. أسكن كوخًا على أطراف قرية. وصل بعد منتصف الليل. كنتُ قد أمضيتُ يومًا مرهِقًا في العمل، وكنت أنوي الخلود إلى النوم مبكرًا. كنت متعبة لكن قلقة؛ لذا أعددت لنفسي قدحًا من الشاي عندما وصلت للمنزل ثم غفوت وأنا جالسة على كرسيَّ. لم أنم لأكثر من عشرين دقيقة لكنِّي عندما استيقظت، وجدتُ أنني لم أكن جاهزة للذهاب إلى سريري. تعرف ذلك الشعور. تكون قد وصلت إلى مرحلة تفوق التعب. ويُصبح حتى تبديل ثيابك أمرًا يفوق قدرتك.
كانت ليلة حالكة الظلمة، لا تُرى فيها النجوم، وكانت الرياح تشتد. عادة أحب صوت الرياح عندما أكون دافئة في بيتي، لكن تلك الليلة كان وقع صوتها مختلفًا على أذني، لم يكن مطمئنًا، بل كان يَنتحِب ويهس بينما يمر في المدخنة، كان مرعبًا. خيم على نفسي الاكتئاب، ذلك الكلب الأسود الجاثم على عاتقي، وأنا أفكر في وفاة أمي وهنري الذي لن أراه ثانية. فكرتُ أنه من الأفضل أن أزيح عن نفسي ذلك الشعور وأذهب إلى سريري. حينها سمعت طرقًا على الباب. يوجد جرسٌ لكنه لم يستعمله. بل طرقه بمِقْرَعَةُ الباب مرتين، كان طرقًا خفيفًا لكني سمعته. نظرتُ عبر وصواص الباب فلم أرَ سوى الظلام. كان ذلك بعد منتصَف الليل وتساءلت من الذي جاء لزيارتي في ذلك الوقت المتأخِّر. لكني وضعت سلسلة الباب وفتحته. كان ثمة شخص داكن متكوِّم بجوار الحائط. بالكاد استطاع طرق الباب مرتين قبل أن تخور قواه ويسقط مغشيًّا عليه. سحبته إلى الداخل وساعدته على استعادة وعيه. وأعطيته القليل من الحساء والبراندي وبعد ساعة صار يقوى على الحديث. كان يتوق كثيرًا للحديث، فضممته بين ذراعيَّ وتركته يتكلم.»
سأل ثيو: «كيف كانت حالته؟»
كان رولف هو من أجاب: «كان متسخًا، نتن الرائحة ونحيفًا للغاية. فقد جاء من ساحل كمبيريا سيرًا على الأقدام.»
تابعت ميريام قائلة: «حممتُه وضمدت قدميه وتمكنت من أن أضعه في السرير. كان مرتعبًا من النوم وحده؛ لذا استلقيتُ بجواره بكامل ثيابي. لم أستطع النوم. حينها بدأ يتكلم. تكلم لأكثر من ساعة. ظللتُ خلالها صامتة. فقط ضممتُه وأنصتُّ له. ثم صمت أخيرًا فعرفت أنه نام. ظللت مستلقية بجواره أضمه وأستمع إلى صوت تنفسه وتمتماته. كان أحيانًا يتأوَّه ثم ينتفض فجأة ويهب جالسًا، لكني كنت أهدئه كما لو كان طفلًا رضيعًا وكان يعود للنوم مرة أخرى. استلقيت بجواره وانتحبت في صمت من بشاعة الأمور التي أخبرني بها. لكني شعرت بالغضب أيضًا. كان الغضب جمرة ملتهبة تحرق صدري.
تلك الجزيرة بمثابة جحيم على الأرض. تقريبًا جميع من وصل إليها وفي داخله شيء من الإنسانية مات، ولم يبقَ عليها إلا الشياطين. سكانها يَتضوَّرُون جوعًا. أعرف أن لديهم البذور والحبوب والآلات، لكنَّ معظمهم مجرمون عاشوا في المدن ولم يألفُوا الزراعة ولا الأعمال اليدوية. والآن نفد مخزونهم من الأكل، وجُردت الحدائق والحقول من زروعها. وعندما يموت الناس، يأكلون بعضهم أيضًا. أقسم لك إن ذلك حدث. يدير الجزيرة عصابة من أقوى المساجين. يتلذَّذون بالعنف، وعلى جزيرة مان لديهم حرية ممارسة الضرب والتعذيب والتبريح ولا يوجد من يمنعهم أو يُراقبهم. أولئك الرفقاء اللطفاء، الذين لا ينبغي أن يكونوا هناك، لا يصمدون كثيرًا. بعض النساء هنَّ الأسوأ بينهم. أخبرني هنري أمورًا لن أستطيع تكرارها على لساني ولا محوها من ذاكرتي.
وفي صباح اليوم التالي أتوا لأخذِه. لم يقتحموا المنزل أو يُحدِثُوا جلبة كبيرة. بل حاصروا الكوخ بهدوء وطرقوا الباب.»
سأل ثيو: «من كانوا؟»
«ستة جنود من فرقة حرس الجرينادير وستة رجال من شرطة الأمن الوطني. أرسلوا اثنَي عشر رجلًا من أجل رجل واحد أعياه التعب والإرهاق. كان رجال شرطة الأمن الوطني هم الأسوأ. أظنُّهم كانوا من الأوميجيين. لم ينطقوا بكلمة لي في بادئ الأمر، بل صعدوا إلى الأعلى وجرجروه لأسفل. ما إن وقعت عينه عليهم حتى صرخ صرخة شديدة. لن تَنمحي تلك الصرخة من ذاكرتي قط ما حييت. قط … ثم التفتُوا إليَّ، لكن ضابطًا من فرقة حرس الجرينادير طلب أن أخبرهم أن يتركوني وشأني. قال: «إنها أخته، من الطبيعي أن يأتي إليها. ولم تَملِك خيارًا إلا مساعدته».»
قالت جوليان: «ظنَّنا بعدها أنه لا بد أن له أختًا أو شخصًا يعلم أنه لن يخذله قط، وسيكون دائمًا في ظهره.»
قال رولف بنفاد صبر: «أو ربما كان يظن أن بإمكانه أن يتصرَّف بشيء من الإنسانية ثم يطلب مقابلًا لذلك من ميريام بطريقة أو بأخرى.»
هزت ميريام رأسها نفيًا وقالت: «لا، لم يكن الأمر كذلك. كان يُحاول أن يتصرف بلطف. سألته ماذا سيحدث لهنري فلم يُجب. لكن أحد رجال شرطة الأمن الوطني أجابني قائلًا: «ماذا تتوقَّعين؟ لكن لا تقلقي، سنُرسل إليكِ رفاته.» أخبرني قائده أنهم كان بإمكانهم اعتقاله منذ أن رسا قاربه على الساحل لكنهم تبعوه طوال الطريق من كمبيريا إلى أكسفورد، من ناحيةٍ كي يَعرفوا إلى أين سيتوجه، على ما أظن، وأحسبهم أيضًا كانوا يُريدون الانتظار حتى يشعر بالأمان قبل أن يعتقلوه.»
قال رولف بغضب مرير: «ذلك التفنُّن في القسوة هو ما يجعلهم يشعرون بالنشوة.»
«بعد أسبوع، وصل الطرد. كان ثقيلًا كرطلَين من السكَّر، وله نفس مظهره، ملفوف بورق بني وعليه بطاقة مطبوعة. بداخله كان يوجد كيس بلاستيكي مملوء بحبيبات بيضاء خشنة. بدَت كسماد الحدائق، لم أرَ فيها أي شيء من هنري. كان عليه ملاحظة مطبوعة دون توقيع. «قُتِل أثناء محاولته الهرب.» هذا كل شيء. حفرت حفرة في الحديقة. أذكر أن السماء كانت تُمطر حينها وعندما صببت الحُبَيبات البيضاء في الحفرة شعرت وكأن الحديقة بأكملها تَبكيه. لكنني لم أبكِ. فقد انتهت معاناة هنري. أي شيء كان خيرًا له من أن يعود إلى تلك الجزيرة.»
قال رولف: «لم يَكُن إعادته إليها خيارًا مطروحًا بالطبع. فما كانوا سيُريدون أن يعلم أحدٌ أن الهروب مُمكِن. وهو لم يَعُد ممكنًا بعد الآن. فسيبدءون بنشر دوريات الحراسة على الساحل.»
وضعت جوليان يدها على ذراع ثيو ونظرت إلى عينيه مباشرة قائلة: «لا يصح أن يُعامِلوا البشر بتلك الطريقة. أيًّا كانت الجريمة التي ارتكبوها، أو أيًّا من كانوا، يجب ألا يُعامَل الناس بتلك الطريقة. يجب أن نضع حدًّا لذلك.»
قال ثيو: «يوجد شرور اجتماعية لكنها لا تُقارَن ببشاعة ما يحدث في أماكن أخرى من العالم. السؤال هو ما الثمن الذي يجب على الدولة أن تدفعه مقابل أن تحظى بحكومة رشيدة.»
سألته جوليان: «ما الذي تعنيه بحكومة رشيدة؟»
«أعني حفظ النظام العام، وغياب الفساد في المناصب العليا، والأمن من الحروب والجريمة، وتوزيع عادل بقدر معقول للثروات والموارد، والحرص على حياة الأفراد.»
قال لوك: «إذن ليس لدينا حكومة رشيدة.»
«قد تكون تلك هي أفضل حكومة يُمكن أن نحظى بها في ظل الظروف الحالية. كان يوجد دعم واسع من الرأي العام لإقامة مستعمَرة مان العقابية. لا يُمكن لأي حكومة أن تتصرف بما يُخالف إرادة الشعب الأخلاقية.»
قالت جوليان: «إذن علينا أن نُغيِّر الإرادة الأخلاقية. علينا أن نُغيِّر الناس.»
ضحك ثيو وقال: «أهذا هو نوع الثورة التي تُفكِّرُون في القيام بها إذن؟ ليس على النظام بل على قلوب البشر وعقولهم؟ ستكونون أخطر ثوَّار على الإطلاق إن كنتم تملكون أدنى فكرة عن كيفية بدء ثورتكم تلك، أو إن كان لديكم أي فرصة للنجاح.»
سألته جوليان كما لو كانت مهتمة حقًّا بالإجابة: «كيف كنت أنت ستبدؤها؟»
«ما كنتُ سأبدؤها من الأصل. فالتاريخ يخبرني بما حدث لأولئك الذين فعلوا. أنت تُعلِّقين تذكارًا لذلك في تلك السلسلة التي تضعينها حول عنقك.»
رفعت يدها المشوَّهة ولمسَت لمسةً سريعةً الصليبَ الذي بدا كتميمة ضئيلة وهشَّة للغاية بجوار يدِها المتورِّمة.
قال رولف: «سيجد المرء دائمًا أعذارًا للوقوف مكتوف اليدَين. الحقيقة هي أن الحاكم يَحكُم إنجلترا وكأنها إقطاعيته الخاصة. إن فرقة حرس الجرينادير هي جيشه الخاص ورجال شرطة الأمن الوطني هم جواسيسه وجلَّادوه.»
«أنتم لا تملكون دليلًا على ذلك.»
«من قتل شقيق ميريام؟ أكان ذلك حكم إعدام صدر بعد محاكمة عادلة، أم جريمة قتل ارتُكبَت في السر؟ ما نُريده هو ديموقراطية فعلية.»
«تكون أنت رئيسها؟»
«سأدير الأمور بطريقة أفضل.»
«أتصوَّر أن ذلك بالضبط ما دار بذهنه عندما تولى السلطة من رئيس الوزراء الأخير.»
قالت جوليان: «إذن، فلن تتحدَّث إلى الحاكم؟»
قاطعها رولف قائلًا: «بالطبع لن يتحدث إليه. لم يكن ينوي ذلك من الأساس. كان إحضاره إلى هنا مضيعة للوقت. كان تصرفًا عديم الجدوى وغبيًّا وخطيرًا.»
قال ثيو بهدوء: «أنا لم أقل إني لن أقابله. لكن يجب أن أذهب إليه بشيء أكثر من مجرد أقاويل، وخاصة لأنه ليس بإمكاني أن أخبره كيف ومن أين حصلت على معلوماتي. قبل أن أبلغكم بقراري، أريد أن أشهد أحد فعاليات الراحة الأبدية. متى ستُقام الفعالية القادمة؟ هل يعلم أحد منكم موعدها؟»
كانت جوليان هي من أجابت. «لم يعودوا يُعلنون عن تلك الفعاليات، لكن بالطبع تنتشر الأنباء قبلها. ستُقام إحدى فعاليات الراحة الأبدية المخصَّصة للإناث في ساوثولد يوم الأربعاء القادم، في غضون ثلاثة أيام. قبالة رصيف الميناء، شمال البلدة. هل تعرف البلدة؟ هي تقع على بُعدِ ثمانية أميال جنوب لويستوفت.»
«هذا ليس مكانًا ملائمًا.»
قال رولف: «قد لا يكون ملائمًا بالنسبة لك، لكنه كذلك بالنسبة لهم. فلا يمر خط سكة حديدية من هناك؛ لذا لن يكون هناك حشود، والطريق بالسيارة طويل لدرجة تجعل الناس يتساءلون إن كان توديع جداتهم المرتديات القمصان البيضاء على أنغام ترنيمة «امكث معي» يستحق الوقود المستهلَك في الرحلة. كما أنه يوجد طريق واحد فقط يؤدِّي إلى هناك. بذلك يستطيعون التحكم بأعداد الحاضرين ومراقبتهم. وإن حدثت مشكلة، يكون بإمكانهم تحديد المتسبِّبين بها.»
سألته جوليان: «كم من الوقت يتعيَّن علينا أن ننتظر قبل أن نتلقَّى منك ردًّا؟»
«سأُقرِّر إذن ما إن كنتُ سأقابل الحاكم أم لا بعد حضوري فعالية الراحة الأبدية مباشرة. ثم سيكون من الأفضل الانتظار لأسبوع قبل ترتيب لقاء.»
قال رولف: «لتنتظر أسبوعَين. إن قابلت الحاكم، فقد يضعونك تحت المراقبة.»
سألته جوليان: «كيف سنَعرف إن وافقت على مقابلته؟»
«سوف أترك رسالة بعد أن أشهدَ فعالية الراحة الأبدية. هل تعرفون متحف نماذج الجصِّ في بوسي لين؟»
قال رولف: «لا.»
قال لوك بحماس: «أنا أعرفه. إنه جزء من متحف أشموليان، معرض لنماذج من الجص ونسخ من الرخام من تماثيل إغريقية ورومانية. كانوا يَصطحبونَنا إليه أثناء حصص الفنون في المدرسة. لم أذهب إليه منذ سنوات. لم أكن أعرف حتى إن متحف أشموليان يُبقيه مفتوحًا.»
قال ثيو: «لا يوجد ما يستدعي إغلاقه. فهو لا يتطلب إشرافًا دقيقًا. يدخله عدد قليل من الطلبة المسنِّين من حينٍ لآخر. ساعات العمل مكتوبة على اللوحة المعلَّقة خارجه.»
قال رولف بارتياب: «لماذا هناك بالتحديد؟»
«لأني أحبُّ زيارته من آنٍ لآخر، والمشرف معتاد على رؤيتي هناك. ولأن به عدة أماكن للاختباء يسهل الوصول إليها. والأهم من ذلك أنه يُناسبني. فلا شيء آخر يناسبني في تلك المغامرة.»
قال لوك: «أين بالتحديد ستترك الرسالة؟»
«في الطابق الأول، الحائط الأيمن، تحت تمثال رأس ديادومينوس. هو مدرج في فهرس المعروضات برقم «سي ٣٨» وستجدون ذلك مكتوبًا تحت التمثال. إن لم تستطيعوا تذكر الاسم، فستتذكَّرُون الرقم على الأرجح. إن لم يكن بإمكانكم تذكر الرقم، إذن دوِّنوه.»
قالت جوليان: «هذا عمر لوك، سيُسَهِّل ذلك تذكُّرَه. هل سنحتاج لرفع التمثال؟»
«هو ليس تمثالًا كاملًا، بل مجرد رأس، ولن تحتاجُوا إلى لمسِه حتى. يوجد فجوة ضيقة للغاية بين قاعدته وحامله. هناك سأترك إجابتي على بطاقة. لن يكون بها ما يدين. مجرد «نعم» أو «لا». بإمكانكم الحصول على تلك الإجابة عبر الهاتف، لكنكم بلا شك تعتقدون أن ذلك لن يكون تصرفًا حكيمًا.»
قال رولف: «نحن نحاول ألا نستعمل الهاتف قط. مع أننا لم نبدأ نشاطنا بعد، نتَّخذ الاحتياطات العادية؛ فالجميع يعرف أن خطوط الهاتف مراقبة.»
سألته جوليان: «وإن كانت إجابتك «نعم»، ووافق الحاكم على مقابلتك، متى ستبلغنا بما قاله، وبما وعد بالقيام به؟»
تدخل رولف قائلًا: «من الأفضل تأجيل ذلك لأسبوعَين على الأقل. أبلغني بها يوم الأربعاء، بعد فعالية الراحة الأبدية بأربعة عشرة يومًا. سأقابلك سيرًا على الأقدام في أي مكان في أكسفورد. من الأفضل أن يكون مكانًا مفتوحًا.»
قال ثيو: «الأماكن المفتوحة يَسهُل مراقبتُها بواسطة منظار مقرب. سيلفت شخصان، يجتمعان علنًا في وسط متنزَّه أو مرجة أو ساحة جامعية، الأنظار حتمًا. إن اللقاء في بناية عامة أكثر أمنًا. سأُقابل جوليان في متحف بيت ريفرز.»
قال رولف: «يبدو أنك مولع بالمتاحِف.»
«ميزتها أنها أماكن يحق للناس التسكع بها.»
قال رولف: «إذن سأُقابلك الساعة الثانية عشرة في متحف بيت ريفرز.»
«ليس أنت، بل جوليان. فقد استخدمت جوليان كي تتواصَل معي في المرة الأولى. وجوليان هي السبب في مجيئي إلى هنا اليوم. سأكون في متحف بيت ريفرز ظهيرة يوم الأربعاء الذي يلي الراحة الأبَدية بأسبوعين، وأتوقع أن تأتي جوليان وحدها.»
كانت الساعة قد قاربت الحادية عشرة عندما تركهم ثيو في الكنيسة. وقف لبرهة في الرواق، ونظر إلى ساعته ثم تطلع إلى المقبرة المُهمَلة. تمنى لو أنه لم يأتِ، ولم يتورط بتلك المغامرة المحرجة التي لا طائل منها. تأثر بقصة ميريام أكثر مما أبدى. وتمنَّى لو أنه لم يسمعها. ما الذي يُتوقَّع منه أن يفعله، هو أو غيره؟ لكن كان الأوان قد فات. لم يعتقد أن ثمة أي خطر يحيق بتلك الجماعة. كانت بعض مخاوفهم أقرب إلى الارتياب. وكان يأمُل في أن يُعفَى مؤقَّتًا من المسئولية، وألا تعقد أي من فعاليات راحة الموت لشهور. سيكون الأربعاء يومًا سيئًا بالنسبة له. وسيترتَّب عليه أن يعيد ترتيب جدول مواعيده في وقت قصير. لم يكن قد رأى زان منذ ثلاث سنوات. وإن التقيا مرة أخرى، فسيكون من المهين وغير المقبول له أن يجد نفسه في موضع السائل المتوسِّل. كان متضايقًا من نفسه مثلما كان متضايقًا من الجماعة. قد يَمقتُهم لكونهم جماعة من الهُواة الناقمين على السلطة، لكنهم مع ذلك فاقوه دهاءً، وأرسلوا العضوة الوحيدة من بينهم التي عَرفُوا أنه سيصعب عليه رفض طلبها. لماذا وجد صعوبة في ذلك؟ كان ذلك سؤالًا لم يشأ أن يبحث له عن إجابة في الوقت الحالي. سوف يذهب إلى فعالية الراحة الأبدية كما وعدهم ثم يترك لهم رسالة في متحف تماثيل الجص. كان يأمل أن تحوي الرسالة كلمة واحدة مُبرَّرة هي «لا».
كانت جماعة المعمودية تتقدَّم في الممر، يقودها الرجل العجوز، الذي كان الآن يرتدى دثارًا، مطلقًا صيحات تشجيع قصيرة. كان هناك سيدتان في مرحلة الكهولة ورجلان يكبراهما سنًّا، وارتدى الرجلان حلتين أنيقتَين زرقاوين، بينما ارتدت السيدتان قبعتَين مزينتَين بالورود لا تلائمان معطفَيهما الشتوي. وحملت كل منهما باقة بيضاء ملفوفة في وشاح تدلَّت مِن تحته ثنيات رداء التعميد المزين بالدانتيل. حاول ثيو تجاوزَهم، مُشيحًا بنظره عنهم بكياسة، لكن السيدتين وقفَتا أمامه تسدان طريقه تقريبًا، وعلى وجهيهما ابتسامة خرقاء لا معنى لها، ودفعتا بباقتيهما إليه، داعيتيه لإبداء إعجابه. كان مظهر القُطيطتَين، اللتَين انفردت أذناهما تحت القلنسوتين المربوطتين بشرائط، سخيفًا ومحببًا في آنٍ واحد. بدت عيناهما البلهاوان المتسعتان على آخرهما، كدائرتَين بلون الأوبال، ولم يبدُ عليهما القلق من تقييد حركتهما. تساءل إذا ما كانتا قد خُدِرتا، ثم ما لبثَ أن استقرَّ إلى أنهما على الأرجح يُمسِكان ويُملِّسان ويُحملان كالأطفال الرضع منذ ولادتهما وقد تعودتا على ذلك. تساءل أيضًا إذا ما كان القس قد رُسِم بصفة شرعية أم كان منتحلًا تلك الصفة؛ وقد كان يُوجد الكثير من أولئك المنتحلين، فالطقس الذي يُمارسه لا يُعَد طقسًا أُرثوذكسيًّا. كانت كنيسة إنجلترا، التي لم يَعُد لها مذهب موحد أو طقوس دينية موحدة، ممزقة لدرجة أنه لا يوجد سبيل لمعرفة الأمور التي لم تعد بعض الطوائف تؤمن بها، لكنه كان يشك في أن أيًّا منها كان يشجع تعميد الحيوانات. كان يظن أن رئيسة الأساقفة الجديدة، التي تصف نفسها بأنها مسيحية عقلانية، ربما كانت ستمنع تعميد الأطفال على أساس كونه خرافة، لو كان تعميد الأطفال لا يزال ممكنًا. لكن كان يصعب عليها التحكم فيما يحدث داخل كل كنيسة زائدة عن الحاجة. على الأرجح لن ترحِّب القطيطتان بصب الماء البارد فوق رأسيهما، لكن من غير المتوقَّع أن يَعترض أحد آخر. كانت تلك التمثيلية نهاية ملائمة لنهار مليء بالحماقات. انطلق يسير بسرعة تجاه ذلك المنزل الخاوي غير المنتهك الذي يدعوه بيته ناشدًا سلامة العقل.