الفصل التاسع
صباح يوم فعالية الراحة الأبدية، استيقظ ثيو شاعرًا بضيق، ليس قويًّا كفاية كي يعتبره قلقًا، بل كان اكتئابًا خفيفًا باهتًا، مثل بقايا حلمٍ بغيض لا يذكره. وحتى قبل أن يمدَّ يده إلى مفتاح الإضاءة، كان يعرف ما يحمله له اليوم في جعبته. اعتاد طوال حياته أن يُدبِّر ملذات بسيطة يُخفِّف بها من وطأة الواجبات المُكَدِّرة. عادة كان من شأنه أن يبدأ الآن بتخطيط طريقه بعناية؛ ليمرَّ بحانة جيدة يتناوَل فيها وجبة غداء مبكِّرة، وكنيسة مشوِّقة يزورها، وربما ينحرف عن طريقه ليتأمل قرية خلابة. لكن لا شيء يمكنه أن يخفف من وطأة رحلةٍ الموت هو وجهتها وغايتها. كان من الأفضل أن يصلَ إلى وجهته بأسرع ما يُمكن، ويشاهد ما وعد بمشاهدته، ثم يعود إلى بيته، ويُخبر جوليان أنه ليس بيده ولا بيد الجماعة شيء، ثم يحاول محو تلك التجربة الثقيلة على نفسه، التي لم يشأ خوضها، بأكملها من ذهنه. كان ذلك يعني أنه لن يَسلُك الطريق المشوق الذي يمر ببدفورد، كامبريدج، وبلدة ستاوماركت، بل سيسلك الطريق السريع «إم ٤٠» حتى طريق «إم ٢٥» ثم يسلك طريق «إيه ١٢» باتجاه الشمال الشرقي حتى ساحل سافولك. فذلك الطريق سيكون أسرع وإن لم يكن مباشرًا أو مشوقًا، لكنه لم يتوقع أن تكون رحلته بالسيارة مُمتعة.
لكنه قطع مسافة جيدة. كان حال الطريق «إيه ١٢» أفضل بكثير مما توقَّع نظرًا لأن موانئ الساحل الشرقي قد صارت شبه مهجورة. قطع المسافة في زمن ممتاز، فقد وصل إلى الخور في بلايثبرو قبل الساعة الثانية بقليل. كان المد آخذًا في الانحسار، لكن وراء البوص والسهل الساحلي، كان الماء يمتدُّ كوشاح حريري، وكان ضوء شمس العصر الباكر المتقلِّب الذهبي ينعكس في نوافذ كنيسة بلايثبرو.
مر ثمانٍ وعشرون عامًا على آخر زيارة له لذلك المكان. حينها كان يقضي هو وهيلينا عطلة نهاية الأسبوع في فندق «ذا سوان» في سوثولد عندما كان عمر ناتالي ستة أشهر. كانت قدرتهما المالية في ذلك الوقت لا تَسمح باقتناء ما هو أفضل من سيارة فورد مستعملة. رُبِط مهد ناتالي جيدًا في مقعدها الخلفي، ومُلِئ صندوق أمتعتها بلوازم الرضيعة؛ حِزَم كبيرة من الحفاظات للاستعمال الواحد، وأدوات تعقيم زجاجات الرضاعة، وعلب من طعام الرضَّع. عندما وصلوا إلى بلايثبرو، بدأت ناتالي تبكي وقالت هيلينا إنها جائعة ويجب أن تطعمها الآن دون الانتظار حتى الوصول إلى الفندق. اقترحت أن يتوقَّفا عند نُزل «وايت هارت» في بلايثبرو. فلا بدَّ أن صاحب النُّزل سيكون لديه ما يلزم لتدفئة الحليب. كما يمكنهما أن يَتناولا الغداء في الحانة بينما تُرْضِع ناتالي. لكنه رأى أن موقف السيارات كان مكتظًّا، وكان يكره المتاعب والعناء الذي قد يتسبَّب به وجود الطفلة ومطالب هيلينا. قوبل إصراره على التصبر لبضعة أميال أخرى حتى يصلوا إلى ساوثولد بتذمر. بالكاد لمحت هيلينا، التي كانت تحاول تهدئة الطفلة دون جدوى، صفحة النهر المتلألئة، والكنيسة الضخمة التي بدت كسفينة ملكية راسية وسط البوص. كانت عطلة نهاية الأسبوع قد بدأت بالكَدَر المعتاد واستمرت بمحاولته كبت مزاجه الحاد. كان ذلك بالطبع خطأه. فقد آثر إيذاء مشاعر زوجته وحرمان طفلتِه على تحمل عناء دخول حانة مكتظَّة بالغرباء. تمنى لو كان يملك ذكرى واحدة لطفلته المتوفَّاة لا يلوثها الشعور بالذنب والندم.
قرر بدون تفكير أن يتناول غداءه في تلك الحانة. اليوم كانت سيارته هي السيارة الوحيدة المركونة في موقفها. وداخل الغرفة ذات دعامات السقف الخشبية المنخفضة، حلَّت مدفأة كهربائية ذات أنبوبي تسخين محل أرض الموقد السوداء الذي كانت تُشعُّ منه نيران الحطب التي كان يذكرها. كان الزبون الوحيد في الحانة. قدم له صاحب الحانة العجوز جعةً محلية الصنع. كانت لذيذة، لكن الطعام الوحيد الذي كان متوفرًا لديه كان الفطائر المخبوزة سلفًا والتي سخنها الرجل في فرن الميكروويف. لم تكن تلك وجبة كافية لتهيئته للمحنة التي هو مقدم عليها.
سلك المنعطف، الذي كان يذكره، المؤدي إلى طريق سوثولد. بدا ريف سافولك المجدب والمقفر تحت سماء الشتاء دون تغيير، لكن الطريق نفسه كان قد تردى حاله، مما جعل الرحلة وعرة وخطرة كأنما يخوض سباق سيارات على الطرق الوعرة. ولكن عندما وصل إلى ضواحي رايدون، رأى جماعات صغيرة من العمال الوافدين ومُشرِفيهم يتجهَّزُون، كما كان واضحًا، لإصلاح الطريق. تطلعت إليه وجوههم الداكنة بينما كان يمرُّ بجانبِهم بحرصٍ مُبطئًا سرعته. كان وجودهم مفاجئًا له. فقد كان متأكِّدًا من أن ساوثولد لم تُحدَّد ضمن مراكز السكان المستقبلية المعتمَدة. إذن لماذا يهمُّ ضمان توفر مدخل آمن لها؟
مر بحاجز الرياح الذي صنعته أشجارُ مدرسة سانت فيلكس وأراضيها ومبانيها، التي كُتِب على لوحة كبيرة عُلِّقت على مدخلها أنها صارت الآن مركز حِرَف شرق سافولك. على الأرجح لم تكن أبوابها تُفْتَح إلا في فصل الصيف أو عطلات نهاية الأسبوع، فلم يرَ أحدًا يسير وسط مروجها الخضراء الواسعة غير المشذَّبة. ثم عبر جسر برايت ودلف إلى البلدة الصغيرة التي بدت بيوتها المطلية كأنها تعاني خدر التخمة. منذ ثلاثين عامًا كان أغلب ساكنيها من المسنين؛ جنودًا متقاعدين ينزِّهون كلابهم، وأزواجًا متقاعدين بعيون بريئة متطلِّعة لوَّحَتها الشمس، يسيرون على شاطئها وقد تأبط كل منهم ذراع زوجه. كان يسودها جو من الهدوء المنظم، سكنت فيه كل المخاوف. أما الآن فقد صارت شبه مهجورة. كان عجوزان يجلسان مُتجاوِرَين على مقعد خارج فندق كراون يحدقان في الفضاء أمامهما، ويستندان بيدَيهما المتيبستَين إلى عكازيهما.
قرر أن يوقف السيارة في باحة فندق ذا سوان ليحتسي فنجانًا من القهوة قبل أن يتابع طريقه متجهًا إلى الشاطئ الشمالي، لكنه كان مغلقًا. بينما كان يهم بركوب السيارة مرة أخرى، خرجت امرأة في مرحلة الكهولة، ترتدي مئزرًا مزينًا بنقشات الورود، من الباب الجانبي وأغلقته خلفها.
قال لها: «كنت آمل أن أحتسي فنجان قهوة. هل أُغلق الفندق نهائيًّا؟»
كان وجهها محبَّبًا لكن ارتسمت عليه أمارات التوتُّر، وتلفتت حولها قبل أن تجيبَه قائلة: «بل اليوم فقط يا سيدي. هي لفتة احترام. فاليوم تقام فعالية الراحة الأبدية كما تعلم، أو لعلك لم تكن تعلم.»
قال: «بل كنتُ أعلم.»
ورغبة منه في كسر أجواء العزلة التي كانت تُخيِّم بشدة على المباني والشوارع، قال: «أتيت إلى هنا آخر مرة منذ ثلاثين عامًا. لم يتغيَّر المكان كثيرًا.»
وضعت يدها على نافذة السيارة وقالت: «بل تغيَّر يا سيدي، تغيَّر. لكن لا يزال ذا سوان فندقًا. لا يأتينا زبائن كثيرون بالطبع، فالناس الآن ينزحون من البلدة. فكما تعلم، تحدَّدَ موعدٌ لإخلائها. فالحكومة لن تستطيع ضمان توفير الطاقة أو الخدمات في النهاية؛ لذا يَنتقِل سكانها إما إلى إبسويتش أو نورويتش.» تساءل بضيق، لمَ العجَلَة؟ فزان حتمًا يستطيع إمداد تلك البلدة بالخدمات لعشرين عامًا أخرى.
في النهاية، أوقف سيارته في الساحة الخضراء الصغيرة في آخر شارع ترينيتي، وانطلق يسير في الطريق المؤدي إلى أعلى الجرف متجهًا إلى الرصيف البحري.
كان البحر الرمادي يتماوج ببطء تحت السماء ناصعة البياض، التي لا يشعُّ إلا ضياء واهن من خط أفقِها وكأن الشمس متقلِّبة الأطوار على وشك أن تشرق مرة أخرى من وراء السحب. علت مجموعات من السحب الرمادية والداكنة السحبَ الخفيفةَ الشفافةَ فبدت السماء مثل ستار نصف مرفوع. على مسافة ثلاثين قدمًا بالأسفل، كان يرى جوف الأمواج المزركشة التي كانت تعلو ثم لا تلبَث أن تنحسِر بإنهاك لا مناصَ منه، وكأنما أثقلتْها الرمال والحصى. اعترى الصدأ سور الممر الشاطئي الذي كان يومًا ما نظيفًا وأبيضَ، وتكسَّرت أجزاء منه، وبدا كأن المنحدر المُعشِب بين الممشى وأكواخ الشاطئ لم يُشذَّب منذ أعوام. فيما مضى كان سيرى في الأسفل صفًّا طويلًا من الأكواخ الخشبية اللامعة ذات الأسماء المدلَّلة السخيفة التي امتدت قبالة البحر كبيوت الدمى المطلية بألوان زاهية. أما الآن، فكان يتخلل الصف فراغات كأنها أسنان مفقودة في ثغر نُخِرَت أسنانه، وما بقيَ منها كان متداعيًا، تقشَّر طلاؤه، ورُبِط دون تثبيت إلى أوتاد مغروسة على ضفة البحر، بانتظار أن تذرُوه العاصفة التالية. كان ارتفاع الحشائش الجافة من حوله يصلُ إلى الخصر، يتدلَّى منها قرون حبوب جفت، يُحرِّكها بعشوائية النسيمُ الذي لم يغب يومًا عن ذلك الساحل الشرقي.
كان من الواضح أن السفينة لن تبحر من الرصيف البحري نفسه بل من مرفأ شُيِّد بجواره خصيصى لذلك الغرض. كان بوسعه أن يرى من بعيد القاربَين المنخفضَي السطح، اللذَين زُيِّن سطحاهما بأكاليل من الزهور، وعلى شفا الرصيف البحري المُطلِّ على المرفأ، رأى مجموعة صغيرة من الأشخاص يرتدي بعضهم، حسب ظنه، زيًّا موحدًا. على مسافة ثمانين ياردة تقريبًا أمامه، اقتربت ثلاث حافِلات في الممشى. بينما كان يدنو منها، بدأ ركابها في النزول. نزلت أولًا مجموعة صغيرة من أفراد فرقة موسيقية يرتدُون سترات حمراء وسراويل سوداء. وقفوا في تجمع صغير غير منظَّم يتجاذَبُون أطراف الحديث، بينما انعكس ضوء الشمس متلألئًا على آلاتهم النحاسية. صفع واحد منهم من يقف بجواره ممازحًا إياه. ولبضع ثوانٍ تظاهَرا بأنهما يتعاركان، ثم ما لبثَا أن سئما ذلك المزاح الخَشِن، فأوقدا سيجارتين ووقفا يتطلعان إلى البحر. بعدهم نزلت المسنَّات، اللواتي كان منهن القادرات على المشي دون مساعدة، ومنهنَّ من كُنَّ يتَّكئن على الممرضات. فُتِحت حجيرة الأمتعة بأحد الحافلات وأُخرج منها عدد من الكراسي المتحركة. وأخيرًا، تلقَّت أوهن المسنات المساعدة على الخروج من الحافلة والجلوس على الكراسي المتحركة.
وقف ثيو على مسافة منهم يشاهد الطابور الهزيل من العجائز مقوَّسات الظهر وهنَّ ينزلن بصعوبةٍ المنحدَر الذي يمرُّ في منتصَف الجرف، في طريقهن للأكواخ الشاطئية المشيدة على المَمشى السُّفلي. فجأة فهم ما كان يَحدث. كانوا يستخدمون الأكواخ كي تُبدِّل فيها النساء المسنات ملابسهنَّ ويرتدين أرديتهن البيضاء، تلك الأكواخ التي ظلَّ صدى ضحكات الأطفال يتردَّد بين جدرانها لعقود طويلة، لكن أسماءها، التي لم يُفكِّر فيها منذ ما يقرب من ثلاثين عامًا، وردت على ذهنه دون أن يَستدعيها، تلك الأسماء السخيفة السعيدة التي كانت بمثابة احتفاء بالعطلات العائلية: «منزل بييت»، «بيت المحيط»، «كوخ نسيم البحر»، «كوخ السعادة». وقف متشبثًا بسور الممشى أعلى الجرف، يراقب المشهد بينما تساعد الممرضات السيدات المسنَّات، اثنتَين اثنتين، على صعود سلالم الأكواخ ودخولها. أثناء ذلك، وقَف أفراد الفرقة الموسيقية يُشاهدون لكن لم يتحرَّك منهم أحد. بعدها تشاوروا قليلًا فيما بينهم، وأطفئوا سجائرهم، ثم حملوا آلاتهم الموسيقية ونزلوا الجرف، واصطفُّوا في صفٍّ ووقفُوا مُنتظِرين. كان السكون غامضًا مخيفًا. وراءه كان يقف صفٌّ من المنازل الفيكتورية المهدَّمة الخاوية، مثل نصب تذكاريٍّ بالٍ شاهدٍ على أيام سعيدة ولَّت. بالأسفل كان الشاطئ مهجورًا، ولم يكسر الصمت إلا زعيق النوارس.
بعد ذلك بدأت السيدات العجائز في النزول من الأكواخ بمساعدة الممرضات ويصطففن في طابور. كان جميعهن يرتدين أردية بيضاء طويلة، ربما كانت أردية نوم، فوقها أوشحة وأردية خارجية صوفية فضفاضة، كانت ضرورية لتدفئتهم من الرياح الشديدة. كان ممتنًّا لدفء معطفه المصنوع من قماش التويد. كانت كل واحدة منهنَّ تَحمل باقة زهور صغيرة فبدَونَ مثل مجموعة من وصيفات عروس شعثاوات الرءوس. وجد نفسه يتساءل عمَّن جهز الزهور وفتح الأكواخ، وترك أردية النوم المطوية لذلك الغرض. لا بد أن الحدث، الذي كان يبدو بأكمله عفويًّا وتلقائيًّا، قد جُهِّز له بعناية. ولاحظ للمرة الأولى أن الأكواخ الواقعة في ذلك الجزء من الممشى السُّفلي قد أُصلِحت وطُليت حديثًا.
بدأت الفرقة بالعزف بينما تقدم الموكب ببطء في الممشى السفلي باتجاه الميناء. عندما دوَّى صوت آلات العزف كاسرًا الصمت، اعتراه شعور بالغضب العارم والشفقة الشديدة. كانوا يَعزِفُون ألحانًا أغاني مبهجة، ألحانًا من زمن جدَّيه، أغاني عسكرية من الحرب العالمية الثانية لم يتذكَّر أسماءها في بادئ الأمر. ثم بدأت ذاكرته في استحضار بعض أسمائها: «الوداع يا بلاكبيرد»، و«أحدٌ خطف حبيبتي»، و«في مكان ما فوق قوس قزح». عندما دنوا من الميناء، تبدلت الموسيقى وميزت أذناه ألحان ترنيمة «امكث معي». بعد أن عُزِفَت ألحان المقطع الأول، وبدأت النغمة مرة أخرى، أتاه من أسفل صوت مواء متحسِّر يُشبه صوت طيور البحر، ما لبث أن أدرك أنه صوت غناء النسوة العجائز. بينما كان يشاهد، بدأت بعض النسوة يتمايلن مع الموسيقى وهن يفردن أطراف أرديتهن البيضاء ويدرن حول أنفسهن بخطوات متعثرة. خطر لثيو أنهن ربما يكن قد خُدِّرن.
تبعهم نحو الميناء مُجاريًا وتيرة آخر زوجَين في الطابور. أصبح المشهد أسفل منه واضحًا. كان يُوجد حشد من حوالي عشرين شخصًا فقط، ربما كان بعضهم من الأقارب والأصدقاء، لكن أغلبهم كانوا من أفراد شرطة الأمن الوطني. تبادر إلى ذهن ثيو أن القاربَين الذاتيين المُنخفضَي السطح ربما كانا فيما سبقَ صندلَين صغيرين لم يبقَ منهما سوى هيكلَيهما اللذَين جُهِّزا بصفوف من المقاعد. كان على متن كل قارب من القاربين جنديان، وبينما كانت النسوة يصعدن على متنهما واحدة تلو الأخرى، كانا يَنحنيان إما لتصفيد كواحلهنَّ أو لربطها بالأثقال. اتضحت له الخطة من الزورق البخاري الذي كان راسيًا في الميناء نفسه. بمجرد أن تغيب السفينتان عن الأنظار، سيُغرقهما الجنود ثم يصعدون على متن القارب البخاري ويعودون به إلى الشاطئ. كانت الفرقة الموسيقية على الشاطئ تعزف ألحان أغنية «نمرود» لإلجار. كان الغناء قد توقَّف فلم يَصِل إلى أذنَيه إلا صوت تلاطم الأمواج المتتابعة على حصى الشاطئ أو بضعة أوامر عابرة لُفِظت بصوت منخفض حملتها له نسمات الهواء المُخلخَل.
قال في نفسه إنه رأى ما يَكفي. لن يكون عليه حرج إن عاد إلى سيارته الآن. كان كل ما يريده هو أن يقودها بسرعة مبتعدًا عن تلك البلدة الصغيرة التي لم يرَ منها إلا العجز والوهن، والخواء والموت. لكنه كان قد وعد جوليان بأنه سيشهد فعالية راحة الموت، ولا بد أن هذا يعني أن يبقى حتى يغيب القاربان عن الأنظار. وكأنما أراد تعزيز نيته؛ إذ سار نازلًا الدرجات الإسمنتية من الممشى العلوي للشاطئ. لم يَعترض أحد طريقه ليأمره بالمغادَرة. لم يبدُ أن أحدًا من جماعة الموظَّفين من ممرضات وجنود وحتى أفراد الفرقة الموسيقية قد لاحظ حتى وجوده، فقد كان كل منهم منشغِلًا بتأدية دوره في مراسم الموت تلك.
فجأة حدثَت جلبة. أطلقت إحدى السيدات، اللواتي كن يُسندن للصعود على متن السفينة الأقرب إليه، صرخةً وبدأت تَضرِب بذراعَيها بعنف. فاجأ فعلها الممرضة التي كانت تُصاحبها، وقبل حتى أن تتحرَّك، قفزت المرأة من المرسى إلى البحر وصارعت الأمواج للوصول إلى الشاطئ. دون تفكير، خلع ثيو معطفه الثقيل وانطلق يَعدُو نحوها، وقدماه تَخشفان فوق الحصى، شاعرًا بلسعةِ بردِ مياه البحر التي أحاطت بكاحلَيه. عندما صار على بُعد نحو عشرين ياردة فقط منها، رأى بوضوح شعرها الأشعث الأبيض ورداءَها الذي التصق على جسدها، ونهديها المتهدلين وذراعيها المترهلَين. لطمتها موجة فعرت رداءها عن كتفها اليسرى ورأى أحد نهديها يتمايل كقنديل بحر عملاق. كانت مستمرَّة في صراخها العالي الحاد الذي كان يشبه صُراخ حيوان يُعذَّب. عرفها على الفور. كانت هيلدا بالمر سميث. تلاطمته الأمواج بينما كان يجاهد للوصول إليها مادًّا يديه إليها.
ثم حدَث ما حدث. كانت يداه الممدودتان على وشك أن تُمسكا برسغَيها عندما قفز أحد الجنود في الماء من المرسى، وضربها بشراسة بكعبِ سلاحه على جانب رأسها. سقطت في البحر ملوِّحة بيدَيها. ولوهلة ظهرت لطخة حمراء حتى أتت الموجة التالية، فغلفتها وحملتها ثم انحسرت وتركتها ممددة على صفحة المياه وقد انفرج ذراعاها ورجلاها وسط الزبد. حاولت أن تنهَض لكنه ضربها ضربة أخرى. كان ثيو قد وصل إليها حينها وأمسك بإحدى يديها. لكنه على الفور شعر بيدَين تمسكان بكتفَيه وتطرحانه جانبًا. وسمع صوتًا هادئًا آمرًا، يقول بشيء من الرفق: «دع الأمر يأخذ مجراه يا سيدي. لا تتدخَّل.»
غمرتْها موجة أخرى، أكبر من سابقتها، وطرحته هو أرضًا. بعد أن انحسرت، جاهد للنهوض فرآها مرة أخرى ممددة ورداؤها منحسر عن ساقيها النحيلتين، كاشفًا عن الجزء السفلي من جسدها بالكامل. تأوه وعاوَدَ السير مترنحًا نحوها، لكن هذه المرة شعر، هو أيضًا، بضربة على جانب رأسه فخرَّ واقعًا. أحس بالحصى الخشن يسحن وجهه، وبالرائحة النفاذة لمياه البحر المالحة، وبطنين في أذنَيه. خمش بيده الحصى محاولًا التشبث بشيء. لكن الرمل والحصى انحسرا من تحته. ثم ضربته موجة أخرى فشعر بها تسحبه إلى المياه الأعمق. وهو شبه واعٍ، حاول أن يرفع رأسه، أن يتنفَّس، مدركًا أنه موشك على الغرق. ثم جاءت الموجة الثالثة فحملت جسده وطرحته وسط أحجار الشاطئ.
لكنهم لم يريدوا له الغرق. فبينما كان يرتعد من البرد ويبصق ويتهوع، أحس بيدين قويتَين تندسان تحت إبطيه وتسحبانه من الماء بخفة وكأنه طفل. كان أحدهم يجرجره على الشاطئ ووجهه مواجه للأرض. شعر بمقدمتي حذائه تكشطان الرمال المبللة وبمقاومة الحصى على بنطاله المتشرب بالماء. كان ذراعاه يتدليان بوهن، وبالأحجار الكبيرة على الجزء المرتفع من الشاطئ ترضُّ ظاهر كفَّيه وتسحجهما. وطوال الوقت كان بوسعه أن يشم رائحة مياه البحر النفاذة المميزة للشاطئ ويسمع إيقاع صوت تكسر الأمواج عليه. ثم توقفت الجرجرة، وأُلقي بقسوة فوق الرمال الناعمة الجافة. ثم شعر بثقل معطفه وهو يُلقى فوق جسده. ورأى على نحو غير واضح كيانًا قاتمًا يمر من فوقه، ثم تُرِك وحيدًا.
حاول أن يرفع رأسه، شاعرًا للمرة الأولى بألمٍ نابض، يتمدد وينقبض وكأنه كائن حي ينبض داخل جمجمته. في كل مرة كان يحاول رفع رأسه، كان يتأرجح بوهن يمينًا ويسارًا، ثم يسقط مرة أخرى في الرمال. لكن في ثالث محاولة استطاع رفعه لبضع بوصات وفتح عينَيه. كان يثقل جفنَيه طبقةٌ سميكةٌ من الرمال التي غطت وجهه وانحشرت في فمه، بينما تشابكت أعشاب بحرية لزجة بين أصابعه وتدلَّت من شعره. شعر كأنه رجل أُخرِج من قبر مَغمور بالماء ولا تزال جميع آثار الموت بادية عليه. ولكن قبل أن يغيب عن وعيه بلحظات، كان بوسعه أن يرى أن أحدهم جره إلى الممرِّ الضيق بين كوخين شاطئيَّين. كان كل منهما يرتفع عن الأرض على ركائز منخفضة فاستطاع أن يرى تحت أرضيتهما فضلات، خلفتها العطلات التي طواها النسيان، شبه مدفونة في الرمال القذرة؛ غلاف فضي لامع، وزجاجة بلاستيكية قديمة، وكرسي شاطئ اهترأ قماشُه وتكسَّرت قوائمه، ومجراف طفل مكسور. تقلب بألم محاولًا الاقتراب، ومد يده كأنما سيحظى بالأمان والسكينة إن وضع يده عليه. لكن المجهود كان أكبر من قدرته، فأغمض عينَيه اللتين كانتا تؤلِمانه بشدة، وتنهَّد ثم ترك الظلام يبتلعه.
عندما أفاق، ظن للوهلة الأولى أنه يرقد في ظلام تام. ثم تقلب على ظهره ونظر إلى الأعلى فرأى السماء المرصَّعة بالنجوم الباهتة، ورأى أمامه لمعان مياه البحر الخافت. تذكر أين هو وما حدث. كان رأسه لا يزال يُؤلِمُه، لكن الألم كان حينئذ خفيفًا مستقرًّا. مرَّر يده على رأسه فشعر بنتوء بحجم البيضة، لكن بدا أن الضرر لم يكن عظيمًا. لم يدرِ كم الساعة وكانت رؤية عقارب ساعة يده مُستحيلة. دلَّك أطرافه المتيبِّسة ليعيد إليها الدماء، ونفض عن معطفه الرمال وارتداه، ثم سار بخطًى مترنِّحة حتى وصل إلى حافة المياه وهناك جَثا على ركبتَيه ليَغسل وجهه. كانت المياه باردة كالثلج. كان البحر أهدأ الآن وكان القمر الذي تغطيه السحب يعكس على صفحته خطًّا من الضوء المُتلألئ. كانت صفحة المياه تعلو وتهبط بهدوء أمامه خاوية تمامًا، فتخيَّل الغريقات وهنَّ لا يزلن مُصفَّدات في صفوف، فرقتها ألواح القارب، وشعورهن البيضاء تعلو وتهبط بخفة مع التيار. عاد إلى أكواخ الشاطئ، وجلس على أحد السلالم بضعَ دقائق يَستجمِع قواه. ثم فتش جيوب معطفه. كانت محفظته الجلدية متشربة بالماء، لكنه على الأقل لم يَفقدها أو يفقد أيًّا من محتوياتها.
صعد السلالم المؤدية إلى الممشى. لم يكن هناك سوى بضعة أعمدة إنارة لكنها كانت كافية كي يرى عقارب ساعته. كانت الساعة السابعة. لقد ظل غائبًا عن الوعي، ثم على الأرجح نائمًا، لأربع ساعات إلا قليلًا. بينما كان يقترب من شارع ترينيتي، شعر بارتياح لرؤية سيارته لا تزال مركونة هناك، لكن لم يرَ أي أثر آخر للحياة. وقف مكانه متردِّدًا. بدأ جسده يرتعد وشعر بتَوقٍ إلى طعام وشراب ساخن. كانت فكرة القيادة حتى أكسفورد في حالته تلك فكرة مروِّعة، لكن حاجته لأن يغادر ساوثولد كانت لا تقلُّ إلحاحًا عن حاجته للطعام والشراب. وبينما كان يقف مترددًا، سمع صوت باب يصفد فنظر حوله. خرجت امرأة، تمسك برسن كلب صغير الحجم، من أحد البيوت الفيكتورية ذات الشرفات المواجهة للمرجة الصغيرة. كان المنزل الوحيد الذي رأى أنواره مضاءة، ولاحظ أنه على نافذة الطابق الأول عُلِّقت لافتة كبيرة مكتوب عليها «مبيت وإفطار».
بدون سابق تفكير، سار إليها وقال: «أخشى أنني تعرَّضتُ لحادث. وملابسي مبتلة جدًّا. لا أظن أن بوسعي القيادة إلى بيتي الليلة. هل لديك أي غرف شاغِرة؟ اسمي فارون، ثيو فارون.»
كانت أكبر سنًّا مما توقَّع، لها وجه مستدير لوَّحه الهواء، به تجاعيد خفيفة كتجاعيد بالون تسرب منه الهواء، وعينان نبيهتان مدورتان وثغر صغير رقيق الشكل، كان جميلًا فيما مضى، لكنه رآه الآن، بينما كان ينظر إليها، يلوك شيئًا وكأنها لا تزال تتلذَّذ بما تبقَّى من مذاق لوجبتها الأخيرة.
لم يبدُ أن طلبه فاجأها أو أخافها، وعندما تحدثت كان صوتها عذبًا. «لديَّ غرفة شاغرة إن انتظرت حتى آخذَ كلوي إلى مهماتها المسائية. لدينا مكان صغير مخصص للكلاب. فنحن نحرص على عدم تلويث الشاطئ. كانت الأمهات يشتكين إن لم يكن الشاطئ نظيفًا من أجل أطفالهن، والعادات القديمة تُلازم المرء. وجبة العشاء اختيارية هنا. هل تريد أن أُحضِّرها لك؟»
نظرت إليه ولأول مرة رأى شيئًا من التوتُّر في عينَيها النبيهتَين. قال إنه يرغب بشدة في ذلك.
عادَت في غضون ثلاث دقائق فتبعها في الردهة الضيقة إلى غرفة جلوس خلفية. كانت غرفة صغيرة تكاد تكون خانِقة، تكتظُّ بأثاث قديم الطراز. لاحظَ قماشَ ستائر باهتًا ورفَّ مدفأة مزدحمًا بتماثيل خزفية صغيرة لحيوانات، ووسائدَ مصنوعة من قصاصات القماش المجمَّعة على الكراسي المنخفِضة المجاوِرة للمدفأة، وصورًا فوتوغرافية موضوعة داخل إطارات فضية ورائحة اللافندر. بدت له الغرفة ملاذًا، تحوي داخل حوائطها، المغطاة بورق حائطٍ مَنقوش بالورود، الراحة والأمان، شعورَين لم ينعم بهما قط في طفولته المشحونة بالتوتر والقلق.
قالت: «أخشى أن ليس لديَّ الكثير في الثلاجة الليلة، لكن بإمكاني أن أقدم لك حساءً وعجةَ بيض.»
«سيكون ذلك رائعًا.»
«الحساء ليس مطهوًّا بالمنزل، للأسف، لكني أمزج علبتَين منه كي أجعل طعمه أفضل وأضيف له القليل من شيء، مثل البقدونس المقطع أو البصل. أعتقِدُ أنك ستجده لذيذًا. هل تريد تناوله في غرفة الطعام أم هنا في غرفة الجلوس أمام المدفأة؟ أعتقدُ أن هنا أكثر راحة لك.»
«أريده هنا من فضلك.»
استقرَّ في كرسي منخفِضٍ ظهرُه مُزيَّن بالأزرار، ومدَّد رجليه أمام المدفأة الكهربائية، وراقب البخار المتصاعد من بنطاله الذي بدأ يجف. أُحضِر الطعام بسرعة، الحساء أولًا، الذي وجده مزيجًا من الفطر والدجاج المرشوش بالبقدونس. كان ساخنًا ولذيذًا على غير المتوقع، وكان رغيف الخبز والزبد اللذَين جاءا معه طازجين. ثم أحضرت له عجة بيض بالأعشاب. سألته إن كان يريد الشاي أم القهوة أم الكاكاو. كان ما يريده هو مشروبًا كحوليًّا، لكن بدا أن ذلك لم يكن متوفرًا. اختار الشاي الذي تركتْه يَحتسيه وحده مثلما تركته قبلئذٍ أثناء تناوله لوجبته.
عندما انتهى، عاودَتِ الظهور، وكأنما كانت تنتظر عند الباب، وقالت: «لقد أعددتُ لك الغرفة الخلفية. من المريح أحيانًا أن يَبتعد المرء عن صوت البحر. ولا تقلق بشأن تهوية الفراش. فأنا أحرص بشدة على تهوية الفُرُش. وضعت لك قربتين ساخنتَين تحت الغطاء. بإمكانك أن تتخلَّص منهما إن شعرت بالحر الشديد. شغَّلتُ سخان المياه؛ لذا إن أردت الاستحمام فستجد مياهًا ساخنةً تكفي لذلك.»
كانت أطرافه تُؤلمُه من الاستلقاء على الرمال الرطبة لساعات، وتصوَّرَ أن تمديدها في المياه الساخنة مغرٍ. لكن بعد أن سكن جوعه وارتوى عطشُه، طغى عليه التعب. كان حتى الاستحمام مرهقًا للغاية.
قال لها: «سأستحمُّ في الصباح إن سمحتِ.»
كانت غرفته في الطابق الثاني، وكانت خلفية كما وعدته. تَنحت جانبًا وهو يدخلها، وقالت: «أخشى أنه ليس لديَّ منامة كبيرة تُناسب مقاسك، لكن لدي فِضَال قديم جدًّا يُمكنك أن ترتديَه. كان لزوجي.»
لم يبدُ أن عدم إحضاره أي ملابس نوم معه قد أخافها أو أقلقها. كانت توجد مدفأة كهربائية موصَّلة بالكهرباء بالقرب من الموقد الفيكتوري. انحنَت لتُطفئها قبل أن تُغادر وأدرك أن السعر الذي تطلبه للغرفة لن يُغطِّيَ تكاليف تدفئة الغرفة طوال الليل. لكنه لم يحتَج إليها. فما إن أغلقَتِ الباب خلفها، حتى خلع ملابسه ورفع أغطية السرير واندسَّ تحتها في الدفء والراحة والنسيان.
قُدِّم له الإفطار صباح اليوم التالي في غرفة الطعام في الطابق الأرضي في الجانب الأمامي من المنزل. كان بها خمس طاولات، غُطيَ كل منها بمفرش أبيض نظيف وزهرية بها زهور اصطناعية، لكن لم يَجِد أي نزلاء آخرين.
جعلته الغرفة، بخوائها المزدحم ومظهرها الذي يعدُ بأكثر مما هو موجود، يستحضر ذكرى آخر عطلة قضاها مع والدَيه. كان في الحادية عشرة من عمره حين قضوا أسبوعًا في برايتون في نزُلِ إقامة وإفطار على قمة الجرف بالقرب من كيمب تاون. كان المطر يَهطل تقريبًا كل يوم وذكراه عن تلك العطلة هي رائحة معاطف المطر المبتلَّة، وثلاثتهم وهم يقفون متلاصقين يحتمون من المطر ويتطلعون إلى البحر الرمادي المُتماوِج، والتجول في الشوارع بحثًا عن وسائل ترفيه رخيصة حتى تحين السادسة والنصف ثم العودة لتناول العشاء. كانوا يتناوَلُون وجباتهم في غرفة كتلك تمامًا، وسط الأسر التي لم تعتَدْ أن يخدمها أحد، يجلسون في صمت مرتبك حتى تدخل صاحبة النُّزُل التي تتعمَّد إظهار البهجة بالصواني المحملة باللحم وصنفَين من الخضروات. طوال العطلة كان الامتعاض والملل ملازمين له. أدرك الآن لأول مرة، كم كان حظ والديه من البهجة قليلًا، وكم كانت مساهمته فيها، كونه ابنهما الوحيد، ضئيلة.
قدَّمَت له بشغف وجبة إفطار كاملة من شرائح اللحم والبيض والبطاطس المقلية، وكانت مُحتارة بين رغبتها في مراقبته وهو يتناولها باستمتاع وبين إدراكها أنه سيفضل أن يأكل وحده. أكل بسرعة متلهفًا للمغادرة.
قال بينما كان يدفع لها: «كان كرمًا منكِ أن قبلتِ استضافتي وأنا رجل وحيد وليس معي حتى حقيبة لوازمي للمبيت. بعض الناس كان من الممكن أن يرفضوا ذلك.»
«لم أتفاجأ على الإطلاق من رؤيتك. ولم أخف منك. فقد كنت استجابة لدعوة دعوتُها.»
«لا أظن أن أحدًا أغدق عليَّ بذلك الوصف من قبل.»
«لكنَّك كنتَ كذلك فعلًا. فأنا لم يأتِني أيُّ نزلاء منذ أربعة أشهر وهذا يجعلني أشعر بأني عديمة النفع. لا يوجد أسوأ من شعور المرء بأنه عديم النفع عندما يصير عجوزًا؛ لذا دعوت الرب أن يُرشدَني لما يجب أن أفعله، وإذا ما كان ثمة جدوى من الاستمرار. فأرسَلَك لي. ألا تجد دائمًا أنك عندما تقع في مصيبة، أو تُواجهك مشكلات تبدو فوق طاقتك، وتدعوه فإنه دائمًا يستجيب؟»
قال وهو يَعدُّ العملات المعدنية: «كلا، ليس بوسعي القول إن تلك كانت تجربتي.»
تابعت حديثها وكأنها لم تسمعه: «أدرك بالطبع أني سأُضطرُّ للرضوخ للواقع في نهاية المطاف. فتلك البلدة الصغيرة تُحْتَضَر. نحن لم نُدرَج ضمن المراكز السكانية؛ لذا لم يعد المتقاعِدُون حديثًا يأتون إلى هنا، والشباب يغادرون. لكننا سنكون بخير. فقد وعد الحاكم أن الجميع سيتلقى الرعاية في النهاية. أتوقع أن ينقلوني إلى شقة صغيرة في نورويتش.»
قال في نفسه: «تلجأ لربها كي يرسل لها نزيلًا عابرًا يَبيت ليلة واحدة، لكنها تعتمد على الحاكم في توفير الأساسيات.» دون سابق تفكير سألها: «هل شهدتِ الراحة الأبدية التي أقيمَت هُنا أمس؟»
«الراحة الأبدية؟»
«الفعالية التي أقيمت هنا. القاربان اللذان كانا عند المرفأ.»
قالت بنبرة حازِمة: «أعتقد أنك مُخطئ يا سيد فارون. لم تُقَم فعالية راحة أبدية هنا؛ فنحن لا نُقيم مثل تلك الفعاليات في ساوثولد.»
بعد ذلك شعر أنها مُتلهِّفة لذهابه بقدر تلهُّفِه للمُغادَرة. شكرها مرة أخرى. لم تخبره باسمها ولم يسأل عنه. شعر برغبة في أن يقول لها: «لقد ارتحتُ كثيرًا هنا. لا بد أن أعود لأقضي عطلة قصيرة معكِ.» لكنه كان يعرف أنه لن يعود قط، وكان معروفها لا يستحق منه أن يردَّه بكذبة عابرة.