ميلاد المرأة
عند الكلام عن ميلاد المرأة الأولى، أو أول امرأة وُجدَت في العالم، نجد أنفسنا مُضطَّرين إلى الكلام عن قصة بدء الخليقة.
ومن أشهر قصص بدء الخليقة ما جاء في التوراة، وفيه إيضاحٌ كافٍ عن ميلاد أول امرأة، فضلًا عن ميلاد أول رجل جاء إلى المعمورة واستوطَنها وملكها وحده بادئ ذي بدء.
أما القصة الأخرى، فقد وردت لنا فيما كتبه شعراء الأغارقة وكتَّابهم، وهي تروي لنا في شيء من التفصيل والإسهاب بدءَ الخليقة وميلاد أول امرأة، والدور الذي لعبته في تعمير الكون وبناء المسكونة.
«وفي البدء خلق الله السماوات والأرض، وكانت الأرض خَرِبةً وخالية، وعلى وجه القمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه، وقال الله ليكن نورٌ، فكان نورٌ، ورأى الله النور أنه حسن، وفصل الله بين النور والظلمة، ودعا الله النور نهارًا، والظلمة دعاها ليلًا، وكان مساء وكان صباح يومًا واحدًا، وقال الله: ليكن جلدٌ في وسط المياه، وليكن فاصلًا بين مياه ومياه، فعمل الله الجلد، وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد، وكان كذلك، ودعا الله الجلد سماء، وكان مساءٌ وكان صباحٌ يومًا ثانيًا، وقال الله لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد، ولتظهر اليابسة، وكان كذلك، ودعا الله اليابسة أرضًا، ومجتمع المياه دعاه بحارًا، ورأى الله ذلك أنه حسن.
وقال الله: لتنبت الأرض عشبًا وبقلًا يُبزِر بِزرًا وشجرًا ذا ثمر يعمل ثمرًا كجنسه، بزره فيه على الأرض، وكان كذلك، فأخرجَتِ الأرض عشبًا وبقلًا يُبزِر بِزرًا كجنسه، وشجرًا يعمل ثمرًا بزره فيه كجنسه، ورأى الله ذلك أنه حسن، وكان مساءٌ وكان صباحٌ يومًا ثالثًا.
وقال الله لتكن أنوارٌ في جلد السماء لتفصل بين النهار والليل، وتكون لآيات وأوقات وأيام وسنين، وتكون أنوارًا في جلد السماء لتنير على الأرض، وكان كذلك، فعمل الله النورين العظيمين؛ النور الأكبر لحكم النهار، والنور الأصغر لحكم الليل، والنجوم وجعلها الله في جلد السماء لتنير الأرض، ولتحكم على النهار والليل، ولتفصل بين النور والظلمة، ورأى الله ذلك أنه حسن، وكان مساءٌ وكان صباحٌ يومًا رابعًا.
وقال الله: لتَفِضِ المياه زحافات ذات نفس حية، وليَطِرْ طيرٌ فوق الأرض على وجه جلد السماء، فخلق الله التنانين العظام وكلَّ ذوات الأنفس الحية الدبابة التي فاضت بها المياه كأجناسها، وكل طائر ذي جناح كجنسه، ورأى الله ذلك أنه حسن، وباركها الله قائلًا: أثمري وأكثري واملئي المياه في البحار، وليكثر الطير على الأرض، وكان مساءٌ وكان صباحٌ يومًا خامسًا.
وقال الله: لتخرج الأرض ذوات أنفس حية كجنسها، بهائم ودبابات ووحوش أرض كأجناسها، وكان كذلك، فعمل الله وحوش الأرض كأجناسها، والبهائم كأجناسها، وجميع دبابات الأرض كأجناسها، ورأى الله ذلك أنه حسن.
وقال الله نعمل الإنسان، فيتسلط على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم، وعلى كل الأرض، وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض، فخلق الله الإنسان على صورته، خلقه ذكرًا وأنثى، خلقهم وباركهم الله وقال لهم:
أثمِرُوا واكثُرُوا واملئوا الأرض، وأخضِعُوها وتسلَّطوا على سمك البحر، وعلى طير السماء، وعلى كل حيوان يدبُّ على الأرض.
وقال الله قد أعطيتكم كلَّ بقل يبزر بزرًا على وجه كل الأرض، وكل شجر فيه ثمر، شجر يبزر بزرًا، لكم يكون طعامًا، ولكل حيوان الأرض وكل طير السماء، وكل دبابة على الأرض فيها نفس حية أعطيت كل عشب أخضر طعامًا، وكان كذلك.
ورأى الله كل ما عمله، فإذا هو حسن جدًّا، وكان مساءٌ وكان صباحٌ يومًا سادسًا.
فأكملت السموات والأرض وكل جندها، وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل … وبارك الله اليوم السابع وقدَّسه.
هذه مبادئ السموات والأرض حين خُلِقَت، يوم عمل الرب الإله الأرض والسموات. كلُّ شجر البرية لم يكن بعدُ في الأرض، وكل عشب البرية لم ينبت بعدُ، لأن الرب الإله لم يكن قد أمطر على الأرض، ولا كان إنسانٌ ليعمل الأرض … وجبلَ الرب الإله آدم ترابًا في الأرض، ونفخ فيه نسمة حياة، فصار آدم نفسًا حيَّة.
وغرَس الرب الإله جنة في عدن شرقًا، ووضع هناك آدم الذي جبله، وأنبَتَ الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل، وشجرة الحياة في وسط الجنة وشجرة معرفة الخير والشر، وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة، ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رءوس، اسم الواحد فيشون، وهو المحيط بجميع أرض الحويلة حيث الذهب، وذهبُ تلك الأرض جيد، هناك المُقْل وحجر الجزع، واسم النهر الثاني جيحون، وهو المحيط بجميع أرض كوش، واسم النهر الثالث حِدَّاقِل، وهو الجاري شرق آشور، والنهر الرابع الفرات، وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها، وأوصى الرب الإله آدم قائلًا: من جميع شجر الجنة تأكل أكلًا، وأما شجرة معرفة الخير والشرِّ فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتًا تموت، وقال الرب الإله: ليس جيدًا أن يكون آدم وحده، فأصنع له مُعينًا نظيره، وجبلَ الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء، فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها، وكل ما دعا به آدم ذات نفس حية هو اسمها، فدعا آدم بأسماء جميع البهائم وطيور السماء وجميع حيوانات البرية، وأما لنفسه فلم يجد مُعينًا نظيره، فأوقع الرب الإله سُباتًا على آدم فنام، فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحمًا، وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة … لأنها من امرئ أُخِذَت، لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسدًا واحدًا، وكان كلاهما عريانًا، آدم وامرأته وهما لا يخجلان.
وكانت الحية أحيَلُ جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله، فقالت للمرأة: أحقًّا قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة؟ فقالت المرأة للحيَّة: من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا، فقالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينُكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر، فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية للنظر، فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطَتْ رجلها أيضًا معها فأكل، فانفتحت أعينُهما، وعلما أنهما عريانان، فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر.
وسمعا صوت الرب الإله ماشيًا في الجنة عند هبوب ريح النهار، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة، فنادى الربُّ الإلهُ آدمَ وقال له: أين أنت؟ فقال: سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأتُ، فقال: مَن أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك ألا تأكل منها؟ فقال آدم: المرأة التي جعلتَها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلتُ، فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلتِ؟ فقالت المرأة: الحيَّةُ غرَّتْني فأكلتُ. فقال الرب الإلهُ للحيَّة: لأنكِ فعلتِ هذا، ملعونةٌ أنتِ من جميع البهائم، ومن جميع وحوش البرية، على بطنك تَسْعَين، وترابًا تأكُلِين كلَّ أيام حياتك، وأضعُ عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك، وأنتِ تسحقين عقبه. وقال للمرأة: تكثيرًا أُكثِّرُ أَتْعاب حَبَلكِ، بالوجع تلدين أولادًا، وإلى رجُلكِ يكون اشتياقكِ وهو يسود عليكِ. وقال لآدم: لأنكَ سمعتَ لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتُك قائلًا لا تأكل منها، ملعونةٌ الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كلَّ أيام حياتك، وشوكًا وحسكًا تنبت لك، وتأكل عشب الحقل، بعرق وجهك تأكل خبزًا حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها، لأنك تراب وإلى تراب تعود.
ودعا آدم اسم امرأته حوَّاء، لأنها أمُّ كل حيٍّ، وصنع الرب الإله لآدم وامرأته أقمصة من جلد وألبسهما. وقال الرب الإله: هو ذا الإنسان قد صار عارفًا … الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضًا ويأكل ويحيا إلى الأبد، فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أُخذ منها، فطرد الإنسان وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة.»
هذه هي القصة الدينية لميلاد حواء وبدء الخليقة، وهذا هو الدور الذي لعبته المرأة في بدء ميلادها، مما يُستخلَص منه أن المرأة هي سبب نكبة آدم، وهي التي حرمَتْه جنة عدن حيث أراد الله له دوام الإقامة، كما هي بالتالي سبب نكبتنا أجمعين، ففرضت علينا الإقامة في الأرض حيث التعب والشقاء، وحيث الجهاد والكدُّ والكفاح.
أما القصة الأخرى، فهي فضلًا عن كونها قصة خرافية، لا تمتُّ إلى أيِّ دين من الأديان المعروفة لنا اليوم بأية صلة، ولا سيما الأديان السماوية، إلا أنها كانت تدخل ضمن عقيدة قدامى الأغارقة في الزمان الحالي، وتحتل في ديانتهم الإلحادية نفس المكانة التي تحتلها قصة بدء الخليقة في عقيدتنا الدينية اليوم.
والعجب العجاب، أن قصة بدء الخليقة وميلاد المرأة الأولى كما وردت على لسان الإغريق، وكما ابتكرها هؤلاء القدامى، تتفق مع القصة الدينية في نسبة نكبة البشر إلى المرأة بالذات، فكما أن المرأة هي التي أخرجت آدم من الجنة، كذلك المرأة في الأسطورة الإغريقية، هي التي ملأت الدنيا بجميع الشرور والآثام، والأحزان والآلام، والأمراض والسقام، فلم تقتصر نكبتها على فرد بالذات، بل عمَّت الجميع في سائر أنحاء المسكونة، وهذا أيضًا ما ترمي إليه القصة الدينية، فما آدم إلا أبونا كلنا، وما حواء إلا أمنا أجمعين، وليس أمامنا إلا أن نذوق نفس العقاب الذي أنزله الرب الإله بآدم وحواء، جزاء وفاقًا على فعلتهما النكراء ومخالفتهما أمر الله سبحانه وتعالى.
ولا يخفى على القارئ أن شعوب العصور الأولى، كانوا يذكرون قصة ميلاد المرأة عند بدء الخليقة، كلٌّ على طريقته الخاصة، ومع ذلك فالقصة الإغريقية بنوع خاص، تمتاز بحسن السبك والمنطق، وهي أقرب إلى التفكير البشري السليم منها إلى أيِّ قصة أخرى من قصص الشعوب الأولى.
«قبل أن تُخلق الأرض والبحر والسماء، كانت جميع الأشياء مكسوَّة برداء واحد يُسمَّى «هيولى»، وهي كتلة عديمة الشكل والهيكل، يمكن تصويرها بثقل لا حركة فيه، ترقد فيه بذور الأشياء.
وكانت الأرض والبحر والهواء في مزيج تامٍّ، ولذلك لم تكن الأرض صلبةً، ولا البحر سائلًا، ولا الهواء شفافًا، ثم تدخَّلت الطبيعة وتدخَّل الله أيضًا، فوضعا حدًّا لهذه الفوضى، بأن فصل الأرض عن البحر، والسماء عنهما، ولما كان الجزء الناري أخفَّ الأجزاء جميعًا، فقد ارتفع إلى أعلى مُكوِّنًا السماوات، واحتلَّ الهواء الطبقة الثانية، لأنه كان أثقل قليلًا، أما الأرض فهبطت إلى أسفل، لأنها كانت أثقل الجميع، واحتلَّت المياه أسفل الطبقات فطفت بذلك الأرض وسط الماء.
بعد ذلك تطوَّع أحد الآلهة — ولا نستطيع ذكر اسمه لأننا لا نعرفه — فقدَّم خدمات جليلة في سبيل تنظيم الأرض وترتيبها، فحدَّد للأنهار والخلجان أماكنها، وشيَّد الجبال، وحفر الوديان، ووزع الأحراش والغابات والينابيع، والحقول الخصبة، والبطاح الصخرية الصلبة، فأصبح الهواء نقيًّا، وبدأت الكواكب تظهر، واحتلَّت الأسماك المياه، والطيور الفضاء، أما الأرض الصلبة فقد احتكرتها كل دابة من ذوات الأربع.
غير أن الحاجة كانت ماسَّة إلى حيوان أكثر رقيًّا، خلق الإنسان، وليس من المعروف إن كان الخالق قد خلقه من مواد مُقدَّسة، أو أنه عندما انفصلت الأرض عن السماء ظلَّت هناك بعض البذور السماوية عالقة بالأرض، فأخذ «بروميثيوس» بعضًا منها ومزجها بقليل من الماء، وخلق منها الإنسان في صورة الآلهة، وجعله منتصبَ القامة على خلاف باقي الحيوانات الأخرى، كما جعله قادرًا على رفع وجهه إلى السماء، يحملق في النجوم، بعكس الحيوانات الأخرى التي كانت تنظر دائمًا إلى أسفل، ولا ترى غير وجه الأرض.
كان بروميثيوس هذا أحد التيتان، وهم عمالقة سكنوا الأرض قبل أن يُخلَق الإنسان، وتُعزى إليه وإلى أخيه «إبيميثيوس» فكرة خلق الإنسان وإمداده هو وجميع الحيوانات الأخرى، بالملكات اللازمة للبقاء.
أخذ إبيميثيوس على عاتقه إنجاز هذا الأمر، أما بروميثيوس فكان عليه أن يفحص عمل أخيه بعد أن يتم إنجازه، وبناءً على ذلك أخذ إبيميثيوس يمنُّ على الحيوانات بشتى أنواع الهبات من شجاعة وقوة، وسرعة وجسارة، فيُعطي هذا جناحًا، وذاك مخلبًا، والآخَر ورقة صدفية، وهكذا.
وما إن جاء دور الإنسان، وكان مفهومًا أنه أرفع سائر الحيوانات مكانةً، حتى وجد إبيميثيوس أنه لا يستطيع أن يعطيه شيئًا، فقد أسرف كثيرًا في منح ما كان عنده من الهبات، فلما ضاق به الأمر، وعظمت حيرته، طلب معونة أخيه بروميثيوس، فصعد هذا، بمساعدة «مينيرفا» ربة الحكمة، إلى السماء، وأوقد مشعله من قرص الشمس، وجاء بالنار إلى البشر، فتفوَّق الإنسان بها على جميع الحيوانات الأخرى لأنها منحَتْه القدرة على صنع الأسلحة التي تمكَّن باستخدامها من إخضاع الحيوانات إلى مشيئته، كما صنع الآلات التي تمكَّن بواسطتها من زراعة الأرض، وتدفئة مسكنه، وبذا أصبح مستقلًّا تمام الاستقلال عن تقلبات الجو، كما مهَّدت له الطريق إلى الفنون وصك النقود التي يسَّرت وسائل التجارة والصناعة وشتى الأعمال الأخرى.
ولكن زوس، كبير الآلهة وجامع الغيوم، خاطب برومیثیوس عقب سرقته النار، في حميَّة شديدة من الغضب فقال: «أي بروميثيوس: يا مَن تفوَّقت على الجميع في الدهاء وسعة الحيلة، أراك مسرورًا من نجاحك في خداعي، وفي اختلاس النار مني، فليحلَّ بك بلاء عظيم، وبمَن يخلفك في القوم، أتظنُّ أنك وفَّرت سبل الراحة للبشر؟ سوف أهبُ الناس في مقابل النار شرًّا مستطيرًا، به يعم الفرح قلوبهم أجمعين، وهم لا يدركون أنهم لا يحتضنون غير هلاكهم.»
هكذا تكلَّم أبو البشر والآلهة، وقهقه ملء شدقَيه، ثم أمر هيفايستوس الشهير، رب النار العظيم، أن يمزج التراب بالماء بأقصى سرعة، ثم يضع في المزيج صوتَ وقوةَ الجنس البشري، ليصير هيكل فتاة جميلة فاتنة، تشبه الربَّات الخالدات وجهًا، ثم أمر أثينا أن تعلِّمها أشغال الإبرة، لتخيط مختلف أنواع الأنسجة، وكذا أمر أفروديت ربة الحسن والجمال، أن تضع العقد على رأسها، وكذا الشوق المتيم، والهموم التي تنهك الأعضاء وتبلبل الأفكار، وأمر القائد هرمیس، رسول الآلهة، أن يضع في رأسها عقلًا يخلو من كل معاني الحياء، وطبيعة تحوي جميع أنواع الخداع.
هكذا أمر السيد زوس، فأطاع الجميع أمره، وفي لمح البصر صنع الإله الأعرج الذائع الصيت، هيكل فتاة محتشمة من الطين، كما أراد زوس ثم زيَّنتها الآلهة، أثينا ذات العيون النجلاء كستها بفاخر الثياب التي جعلتها فتنة للناظرين، أما صاحبة الجلالة المقدسة ربة الجمال والطاعة أفروديت الحسناء فقد ألبستها قلائد من العقيان، وتوجت حارسات أبواب السماء ذوات الشعور المرسلة الجميلة رأس الفتاة بأزهار الربيع الباسمة، ثم جاءت بعد ذلك أثينا، فزيَّنت قوامها بكل أنواع الترف والعظمة والفخفخة، وحشا رسول الآلهة جوفها بالأكاذيب والنفاق، والألفاظ المعسولة الخدَّاعة، والطبيعة الماكرة، مُحقِّقًا بذلك رغبة زوس صاحب الصواعق الصارخة والبروق المتلألئة، وبثَّ الصوت فيها، ثم أطلق عليها اسم «باندورا» لأن كلَّ مَن يقيم فوق بابل أوليمبوس قد حباها بهدية من عنده، فأصبحت بذلك نكبة وبلاء على بني الإنسان الذين يأكلون طعامهم بعرق جبينهم.
ما كاد زوس ينتهي من أحبولته المتينة التي يتعذَّر مقاومة فِتْنتها وإغرائها، حتى بعث رسول الآلهة السريع، يحمل الفتاة هدية إلى إبيميثيوس، فلم يتذكَّر هذا وقتئذٍ ما كان قد حذره منه بروميثيوس، إذ عرَّفه ألَّا يتقبَّل أي هدية من زوس الأوليمبي، وأمَرَه أن يعيد الهدية من حيث أتَتْ، مخافة أن تثبت الأيام ضررها وأذاها لبني البشر، ولكنه لم يعلم أن هذه الفتاة الفاتنة وراءها بلاء ما بعده بلاء إلا بعد أن قَبِل الهدية، وأصبحَتْ في حوزته.
كان بمنزل إبيميثيوس صندوقٌ به بعض المواد الضارة، فدفع الفضول باندورا ذات يوم إلى معرفة ما بداخل الصندوق، ففتحته، وعندئذٍ انطلقت من داخله بلايا جمة سبَّبت شقاء الإنسان، فقد تسرَّب من الصندوق النقرس والروماتيزم والقضاع، وهذه تسبِّب مرض الجسم، كما تسرَّب الحسد والحقد والبغضاء والانتقام، وهذه تسبِّب سقم العقل.
انتشرت هذه العلل والأوبئة انتشار النار في الهشيم يومَ ريحٍ صرصر عاتية، حتى امتلأت الأرض بالآثام واكتظَّ البحر بالشرور، ها هي الأمراض لا تنفك تصيب البشر من تلقاء نفسها ليلًا ونهارًا، فتجرُّ في أذيالها البلاء والشقاء لبَني الإنسان في هدوء وسكون، إذ قد جرَّدها زوس العاقل من النطق، فلم يكن هناك مهرب من إرادة زوس.
لما رأت باندورا مغبَّة العمل الذي أقدمت عليه، وعاقبة فضولها الأثيم، أغلقت الصندوق، ولكن متى أغلقَتْه؟ يا للأسف والحسرة! لقد أغلقَتْه بعد أن ولَّت جميع محتوياته هاربة، ما عدا «الأمل» الذي ظل باقيًا في قاع الصندوق.»
لهذا السبب نرى اليوم أننا — رغم ما يحيط بنا من مصائب وآلام وبلايا وسقام — لا نزال نتمسك بذيل الأمل فلا تستطيع الشرور مهما بلغَتْ أن تسبِّب تعاسةً نفوسنا تعاسة تامة أبدية.
وهناك رواية أخرى، تقول إن باندورا قد أُرسِلَت بأمر من زوس، لتُبارك البشر، وإنها كانت تحمل صندوقًا به هدايا زواجها، والبركات التي وهبَتْها إياها الآلهة، فلما فتحت الصندوق، عن غير قصد، هربت جميع البركات ما عدا الأمل، وهناك مَن يميل إلى تصديق الرواية الثانية، وحُجَّتهم في ذلك أن الأمل، ذلك الدرة الثمينة، جدير بأن يُوضَع مع البركات والدُّرَر، وليس من المعقول أن يوضع بين الشرور والآثام.
عندما امتلأ الكون بالبشر عقب ذلك، كان العصر الأول عصر طهارة وسعادة، ويُسمَّى «العصر الذهبي» وقد ساد فيه الحق والعدل، ولم تكن الغابات قد قطعت أشجارها لتمدهم بالأخشاب لصنع السفن، ولم يكن القوم بعدُ قد أقاموا الحصون حول مدنهم، ولم تكن هناك معدات أو أسلحة، من سيوف أو رماح أو خوذات، بل كانوا يعيشون كالآلهة بعيدًا عن هموم الحياة وأحزانها دون القيام بأي عمل شاق أو بذل أيِّ مجهود، فلم تحل بهم الشيخوخة العابسة، بل كانت حياتهم كلها فرحًا ومرحًا وسرورًا وولائم.
ولما طواهم الثرى، كانوا كمَن أخذتهم سِنة من النوم، وكان لهم كل ما هو جميل، إذ كانت الأرض الطيبة تُخرج لهم من تلقاء نفسها ثمارًا كثيرة وقطوفًا دانية، دون حقد أو ضغينة، وكانوا يقيمون في بطاحهم قانعين سالمين، متمتِّعين بالنعم والرخاء، والسعادة والهناء، يملكون الأغنام الوافرة، والخيرات العديدة، ويحبون آلهتهم المباركين حُبًّا جَمًّا.
ما إن اندثر هذا الجيل — وكان يُطلق عليه اسم «جيل الأرواح النقية الرحيمة القاطنة على الأرض الطاهرة الخالية من الآثام» — حتى قاموا بحراسة البشر، فقد كانوا يجوسون خلال مناكب الأرض في حلل من الرذاذ، لمراقبة الأحكام وأعمال القسوة، وعلاوة على ذلك، كانوا يسمون «واهبي الثروة» إذ كانوا قد مُنحوا ذلك الشرف العظيم الملكي.
عاد القائمون فوق أوليمبوس، بعد ذلك، فصنعوا جيلًا ثانية من الفضة، أقل نبلًا من الجيل الذهبي، غير مطابق له من حيث الجسد والروح، في ذلك العصر جعل زوس الربيع قصيرًا، وقسَّم السنة إلى فصول، وصار على الناس أن يتحملوا الحرَّ اللافح والبرد القارس، وأصبحت المنازل ذات قيمة عظيمة، إذ كانت الكهوف والمغارات والأكواخ مساكن العصر الأول، ولم تعُد المحاصيل والثمار تنمو دون أن يزرعها الإنسان أو يحرث لها الأرض، بل صار لزامًا على الفلاح أن يحرث ويبذر ويزرع، وصار على الثَّوْر القوي أن يجرَّ المحراث ويتعب مع الإنسان.
كان هذا الجيل الفضي طفلًا ترعرع في كنف أُمِّه مائة عام؛ وكان عاجزًا كلَّ العجز عن النطق، يلهو في بيته لهوَ الأطفال، بَيْد أنَّهم لما بلغوا عنفوان الشباب واقتربوا من سن الشيخوخة الناضجة عاشوا مدة وجيزة جدًّا مملوءة بالآثام التي سبَّبتها حماقتهم، إذ لم يستطيعوا كبح جماح أنفسهم عن اقتراف الخطايا، وتضليل بعضهم بعضًا، كما أنهم لم يرغبوا في خدمة الآلهة الخالدين، أو تقديم المحرقات فوق مذابح الآلهة المبارَكين، كما هو الواجب في كل مكان يقيم فيه البشر، فقام زوس في سَوْرة غضبه، فمحا آثارهم عن بَكرة أبيهم، لأنهم لم يُوَفُّوا الآلهة المبارَكين الساكنين فوق جبل أوليمبوس حقَّهم من الاحترام والتعظيم والتبجيل.
عندما لحق هذا الجيل سابقيه من الأجيال المندثرة — وكان يُسمَّى «جيل أرواح العالم السُّفلي المبارَكين» ورغم كون أناسه في المرتبة الثانية، فقد لازمهم الشرف أيضًا — صنع الأب زوس جيلًا بشريًّا ثالثًا من أشجار الدردار، جيلًا نحاسيًّا لا يمتُّ إلى الجيل الفضي بأية صلة، بل كان جيلًا ضخمًا قويًّا، أعظم وحشيةً في الطباع، وأكثر استعدادًا للنزاع بالعدة والعتاد، فما كانوا يرضون إلا بأعمال الحرب والقتال، وأعمال العنف والنزاع، وكانوا لا يستسيغون الخُبز، وكانت لقلوبهم صلابة الصخر، ولذا كانوا مَهِيبين مَرْهوبين.
وكانوا عظيمي القوة مفتولي السواعد، وكانت أسلحتهم ومنازلهم من النحاس وكذا باقي معداتهم.
لم يكن للحديد الأسود وجود في ذلك العصر، ولكنهم ما إن دمروا هذه المعدات بأيديهم حتى انتقلوا إلى زمهرير الجحيم في دارها الرطبة دون أن يتركوا وراءهم أيَّ شيء يخلِّد ذكرهم، ورغم ما كانوا عليه من شدة وبأس، فقد أمسك الموت بتلابيبهم، حتى غابوا عن الشمس وعن شعاعها اللامع.
ما إن اندثر هذا الجيل أيضًا، حتى عاد زوس، فصنع من جديدٍ جيلًا آخَر، أكثر نبلًا وعدلًا من سابقه، ذلك هو الجيل الرابع على الأرض الخصبة، جيلٌ يُشبه أبطال الآلهة الذين يُدعون «أنصاف الآلهة»، هو الجيل السابق لجيلنا من سكان الأرض الفسيحة الأرجاء، ولقد أهلك بعضهم البعض الآخر بالحرب الضروس في أرض کادموس قرب طيبة ذات الأبواب السبعة، وذلك عندما تقاتلوا من أجل قطيع أودييوس، والبعض الآخَر عندما نقلتهم السفن عَبْر البحار الواسعة إلى مدينة طروادة من أجل هيلين الجميلة الفاتنة، ذات الشعور الذهبية الغزيرة والأنوثة الكاملة الجذَّابة.
حقًّا لقد هلك كثير منهم في تلك الحرب الشعواء الطاحنة، ولكن الأب زوس منح الحياة للبعض الآخَر، كما وهبهم موطنًا نائيًا عن البشر، وأسكنهم عند نهاية الأرض في جزر المباركين قرب ساحل المحيط البعيد الغور، وكانت قلوبهم لا تعرف الهموم ولا الأحزان.
فعاشوا عيشة الأبطال السعداء، الذين كانت الأرض المثمرة تحمل فاكهتها الحلوة المذاق من أجلهم، وكانت الأرض تُزهِر ثلاث مرات في العام بعيدًا عن الآلهة الخالدين.
وكان يدير شئونهم الرب كرونوس «الزمن» إذ أطلق أبو الآلهة سراحه وفكَّ قيوده، وكان لهم شرف ومجد مُوزَّعان عليهم بالتساوي.
عاد زوس الثاقب النظر فصنع من جديد جيلًا آخَر هو الجيل الخامس من البشر، الذين يقيمون فوق الأرض الطيبة.
كان هذا العصر، هو عصر الحديد حقًّا، تدفَّقَتْ فيه الجريمة كما تتدَّفق الفيضانات، أما العدالة والحق والشرف، فقد ولَّت الأدبار، وحلَّ محلها الضغينة والحقد والخداع، والعنف ومحبة الربح الدنيء، لذا عمدَ البحَّارة إلى نشر أشرعة سفنهم للرياح، وقُطِعَت الأشجار من الغابات لتُصنَع منها السفن التي تثير حنَق سطح المحيط، أما الأرض — التي كانت حتى تلك الآونة تُزرَع وتُفلَح لمصلحة الجميع — فقد بُدِئ في تقسيمها إلى ممتلكات، ولم يعُد الناس يقنعون بما تنبته لهم الأرض، فدفعتهم الضرورة إلى الوصول إلى باطنها حفرًا وتنقيبًا، ليُخرجوا منها الجوهر والمعدن.
استخرج الإنسان الحديد الكثير الأذى، والذهب الذي يفوقه ضررًا، ونشبت الحروب، واستخدموا هذه المواد فيها، ولم يعُد الآباء يتفقون مع بنيهم، ولا الأبناء مع آبائهم، وكذلك الحال بين الضيف ومضيفه، والزميل وزميله، ولم يعُد الأخ عزيزًا على أخيه كسابق العهد، وما عاد الناس يحترمون والدَيهم إذا تقدَّمت بهم السن، بل صاروا يتأفَّفُون منهم وينهرونهم بجارح الألفاظ.
ولا يوفون آباءهم الشيوخ جميل ما أسدوه إليهم من رعاية وما لاقوه في تربيتهم صغارًا.
لم يتورَّع المرء عن سلب ونهب مدينة غيره، ولم يشكر أو يمدح مَن يفي بوعده وعهده، أو من يصنع البر ويفعل الخير، وصار الناس يميلون إلى الثناء على الآثمين المجرمين وما يأتونه من الشرور والظلم.
وانعدم العدل والإنصاف إلا عن طريق القوة، وتلاشت دلائل الاحترام، كما أن الشرير لم يكن يتوانى في قذف ذوي المكانة الرفيعة بنابي الألفاظ وخسيس العبارات، ويحنث في يمينه، ومات حب الأسرة، وتضرَّجت الأرض بدماء القتلى، وهجرها الآلهة واحدًا بعد واحد.
فلما أبصر زوس ما آلَتْ إليه الأمور على الأرض، استشاط غضبًا، واشتدَّ غيظه، ونادى الآلهة فلبَّوْا نداءه، وشقَّ كلٌّ منهم طريقه إلى قصر السماء، فخاطب زوس المجتمعين وشرحَ لهم الموقف المحزن على الأرض.
وختم حديثه بقوله إنه ينوى القضاء على سكان الأرض، وإسكانها بعنصر آخَر جديد، يخالف جميع العناصر السابقة، عنصر أكثر استحقاقًا للحياة، يعيد الآلهة ويفعل الخير ولا يأتي الشرور.
قال زوس هذا، ثم تناول صاعقة وهمَّ بإلقائها نحو الأرض ليهلكها حرقًا، ولكنَّه فطنَ إلى أن حرق الأرض قد يتسبَّب في حرق السماء أيضًا، فعدَّل خطته وعوَّل على إغراقها، فحوَّل مجرى الريح الشمالية التي تُبدِّد السحب، وأطلق الريح الغربية من معاقلها، وسرعان ما غطى السماء برمتها ظلام دامس، وكانت السحب في تدفُّقها تدوي في الفضاء دويًّا، وأخذت سيول المطر تنهمر مدرارًا، فجرفت المحاصيل أمامها، وتلاشى في ساعة واحدة مجهود الفلاح في عام بأكمله.
ولم يكتفِ زوس بسيوله وأمطاره، بل طلب مساعدة أخيه رب البحر، فأطلق هذا سراح مجاري الأنهار، ففاضت مياهها فوق الأرض، وأخذ زوس في الوقت نفسه يزلزل الأرض بشدة، ويجلب جزر المحيط فوق الشاطئ، أما الأغنام والبشر والمنازل فقد اكتُسِحت جميعها، كما انتهكت حرمات المعابد، وما من بناء شامخ إلا وغرق، وأخذت الأمواج تلعب فوق قمته، وانقلب كل شيء وقتئذٍ إلى بحر متلاطم الأمواج لا شاطئ له، ولم يبقَ هنا أو هناك إلا نفر قليل فوق قمة أحد التلال، وكذا نفر آخَر يجدِّف في بعض الزوارق، وكانوا حتى آخِر لحظة يحرثون الأرض.
أخذت الأسماك تسبح بين قمم الأشجار، وكانت الأمواج العاتية ترتفع حيث كانت الحملان الوديعة تلعب منذ وقت قصير، وكانت الذئاب تسبح في الماء بين الأغنام، وتتشاجر السباع الصفراء مع النمور في المياه، ولم تعُد قوة الخنزير البريِّ تفيده في شيء، ولا سرعة الغزال الرشيق تجديه نفعًا.
وكانت الطيور المتعبة تسقط بأجنحتها المكدودة إلى المياه بعد فَقْدها كل أمل في العثور على أرض يابسة تستريح فوقها، أما المخلوقات التي نجت من وابل الأمطار فقد خرَّت فريسة الجوع المهلك.
غطَّت الأمواج قمم الجبال جميعها ما خلا قمة جبل «بارناسوس»، حيث اتخذ «ديوكاليون» وزوجته «بورا» — وهما من نسل بروميثيوس — مسكنهما ومأواهما.
وكان ديوكالیون هذا رجلًا عادلًا محبًّا للخير وأهله، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكانت زوجته سيدة تقية ورعة.
فلما شاهدها زوس، تذكَّر حياتهما الخالية من الآثام، ومسلكها المجيد، فأمر الرياح الشمالية أن تقشع السحب وتكشف السماء للأرض، والأرض للسماء، كما حثَّ رب البحر أحد أعوانه أن ينفخ في بوقه الصدفي ويأمر المياه أن تنحسر، فأطاعت المياه أمره، وعاد البحر إلى شواطئه، والأنهار إلى مجاريها.
عندئذٍ خاطب ديوكاليون زوجته بورا قائلًا: «أيتها الزوجة، أيتها المرأة الوحيدة القائمة فوق الأرض، لقد جمعني بكِ في بادئ الأمر رباط القرابة والزيجة، والآن يجمعني بك هذا الخطر الجسيم، يا ليت لنا قوة جدنا بروميثيوس، فنستطيع أن نجدِّد الجنس البشري كما خلقه هو أولًا.
هلُمِّي إذَن نسعَ إلى هذا المعبد القائم هناك، ونسأل الآلهة ماذا يمكننا فعله في هذا الصدد.»
ولج ديوكاليون وزوجته باب المعبد، وكان ملطخًا بالأوحال، وتقدَّمَا من المذبح، ولم تكن هناك نار مستعرة، فانبطحا أرضًا وراحَا يُصلِّيان بدموع حارة لربة المعبد، لعلَّها تُطْلِعهما على سبيل الخلاص من الصعاب التي أمامهما.
أجابت الربة على سؤالهما وقالت: «فلترحلا من المعبد برأسَين متدثِّرَين، وحُللٍ مُفكَّكة، ولتُلقِيَا خلفكما برفات أمكما.»
أثارت كلمات الربة دهشة ديوكاليون وزوجته.
فقالت بورا: «أظن ما أمرَتْنا به الربة متعذِّر التنفيذ؛ إذ كيف نجرؤ على إلحاق الدنَس برفات آبائنا؟»
ثم أخذا يبحثان عن أ كثر مناطق الغابة ظلًّا، وهما يردِّدان في أذهانهما كلمات الربة، وأخيرًا قال ديوكاليون: «هناك أحد أمرين، إما أن ذكائي يخونني، وإما أن الأمر لا بدَّ لنا من طاعته دون أن يتطرق الكفر وعدم الإيمان إلى نفسَينا إن الأرض هي أم الجميع، والأحجار عظامها، فيمكننا أن نُلقي بها خلف ظهورنا، وأظن أن هذا هو ما تعنيه الربة، وعلى أية حال، فلو حاولنا ذلك لما أصابنا مكروه.»
حجب ديوكاليون وبورا وجهَيْهما، وجرَّدا جسدهما من الملابس وأخذا يلتقطان الأحجار ويُلقيانها خلف ظهرَيْهما، فأخذت الأحجار للعجب تنمو وتتخذ لنفسها أشكالًا، وتصبح رويدًا رويدًا ذات هياكل بشرية، كما لو كانت كتلًا خشبية في يد نحَّات لم ينتهِ من تشكيلها وإتمامها، وصارت الأجزاء الطينية لحمًا وشحمًا، أما الأجزاء الحجرية فصارت عظامًا، وظلَّت الفروق كما هي، أي إنها احتفظت بالاسم دون الوظيفة، وانقلبت الأحجار التي ألقاها ديوكاليون رجالًا والتي ألقَتْها بورا نساء، وكان جيلًا جديدًا قويًّا، قادرًا على القيام بجلائل الأعمال، كما نعطي اليوم عن أنفسنا دلالة صارخة عما كان عليه منبتنا وأصلنا!
هذه هي الأسطورة الإغريقية في شيء من الإسهاب والتفصيل وهي تروي الدور الذي لعبته المرأة في بدء الخليقة، فالمرأة الأولى التي خُلقت من الطين والماء، والتي أطلقوا عليها اسم باندورا، فضلًا عن كونها مصدر جميع الشرور والآثام التي ملأت الأرض والبحر، فإنها كانت أيضًا حواء أجيال من البشر أغضبوا الآلهة، فلم يجد زوس بُدًّا من القضاء على نسلها، فلجأ إلى الطوفان يبيد به جميع البشر.
ولكن زوس أبقى على امرأةٍ واحدة هي بورا، لأنها كانت امرأةً صالحة تقيَّة، ومنها خلق جنس النساء بالطريقة المذكورة بالأسطورة، فكان الأغارقة يؤمنون بخليقتَين، إحداهما على يد باندورا، والأخرى على يد بورا، إحداهما تمثِّل الشر والأخرى تمثِّل الخير.