الرحلة الأولى
أجل، كيف لا ينفر الشعب من مشروع رفضه العلماء بأجمعهم؟! وكيف لا يحزنون ويتباعدون عنه وقد جاهر كل من يوثق بقولهم بعدم إمكان نجاحه، وصاروا يدحضون أقوال ذلك الرجل العظيم الذي يُعد من أكبر المحسنين لبني الإنسان إن لم نقل أعظمهم؟!
وأخيرًا بالنسبة لما كان ليوحنا بيريس — المار ذكره — من الثقة عند الأهالي أخذ يهدئهم بالكلام الرقيق، ويرشدهم إلى الحقيقة التي تتولد من الشروع في هذا الأمر، ويبين لهم النتائج العظيمة التي يُنتظر أن تعود عليهم من ذلك المشروع. فعزم ثلاثة إخوة ملاحين؛ وهم الإخوة «بنسون»، على تكريس حياتهم لخدمة كولومب، وأخذوا يحضون زملاءهم على مساعدة هذا المشروع ويحثونهم على الإقبال عليه، حتى تمكنوا أخيرًا من إعداد ثلاث سفن صغيرة تُدعى الأولى «لابنتا»، والثانية «لاسنتاماريا» التي امتطاها الأميرال كولومب، والثالثة «لانينا» وهي أصغر الثلاثة كما يتضح ذلك من تسميتها. وكان عدد البحارة ١٢٠ نفرًا، فاستعدوا لهذا الخطر الذي كان محدقًا بهم — على ما كانوا يزعمون — من جراء تلك السياحة.
وإذ كان يوم الجمعة ٣ أغسطس سنة ١٤٩٢ هبَّت ريح شديدة أمر على أثرها كولومب باسم يسوع أن تُنشر القلوع. فلما وصل إلى رأس الرجاء الصالح دخل إلى مخدعه القائم على مؤخرة السفينة، وشرع في كتابة يومياته باسم سيدنا يسوع المسيح. ولا عجب إذا صنع كذلك؛ فقد كان — كما قال قداسة البابا بيوس التاسع: «متوقد العزيمة، كثير الغيرة على الديانة المسيحية. لم يُقدم على هذا المشروع الخطير ويرغب في اكتشاف عالم جديد لمجرد الحصول على أراضٍ واسعة الأكناف يضمها إلى ممتلكات إسبانيا، بل كان يهمه على الأخص أن يجعل اسم يسوع يرفرف على شعوب جديدة عديدة لتكون تحت راية ورعاية الكنيسة المسيحية.»
وفي التاسع من سبتمبر سنة ١٤٩٢ هبَّ نسيم عليل وسطعت الغزالة بأشعتها الذهبية فانتفخت القلوع. وقبل انتهاء النهار اختفت أراضي جزيرة الحديد «أيل دي فير» عن الأبصار؛ فهلعت لذلك قلوب الملاحين وأخذوا في العويل، وأيقنوا أنهم ضلوا وهلكوا لا محالة وفقدوا أوطانهم وأسرهم. فاجتهد الأميرال في تهدئة خواطرهم وإزاحة همومهم، فكان يؤملهم في الحصول على الذهب الوهَّاج، والتمتع بحاصلات تلك البلاد الثمينة، ونيل المكافآت والمرتبات العالية، وبلوغ المجد الأثيل والشرف السامي. ثم أمر الربانين بمداومة الاتجاه نحو المغرب، والوقوف بعد قطع سبعمائة فرسخ إذا اشتموا رائحة الخطر على السفن ومن فيها، ولم يَقُل ذلك إلا لأنه كان موقنًا بالاقتراب من اليابسة.
ففي الثالث عشر من سبتمبر على بُعد مائتي فرسخ تقريبًا لاحظ كولومب حادثًا كان مجهول السبب؛ وذلك أنه في منتصف الليل عوضًا عن أن تشير الإبرة الممغطسة إلى النجمة القطبية تحولت عنها بخمس أو ست درجات، وكان الاختلاف يزداد شيئًا فشيئًا. وفي اليوم التالي لوحظ أن طائرين من النادر وجودهما على غير اليابسة كانا يطوفان حول السفن. إلا أنه في الليل الثاني خال النوتية أن هلاكهم قد دنا، وصاروا على شفا جُرفٍ هارٍ؛ وذلك لظهور أحد الحوادث الخاصة بدوائر الانقلابات دون غيرها، فكأن لسانًا من نار كان يخترق الجو رأسيًّا وينتهي طرفه في الماء على مسافة خمسة فراسخ من السفن.
وفي السادس عشر من هذا الشهر ظهر لهم على بُعد مسافة بالكاد تراها العين أعشاب خضراء؛ فكأن السماء فُتحت أمامهم، أو كأنهم دخلوا من أبواب النعيم. أجل أيها القارئ، كم من السرور خالج قلوب هؤلاء البؤساء، وكم شعروا بالفرح والبِشر لرؤية تلك الحشائش، وما كان أعظم انشراح صدورهم لهذه الرؤية السارة وتلك البقع الخضراء النضرة الموجودة في بحر «فاريك»! إلا أن كمية تلك النباتات كانت تتجمع وتتشابك حتى ضايقت السفن وكادت توقفها عن المسير، وحينئذٍ طار لب الملاحين وهلعت قلوبهم ثانية، وانصب على رءوسهم الغم، وتراكمت عليهم الهموم، وأعقب ذلك دمدمة، وتلى هذه ما يشبه التعصب والثورة. فرفع كولومب يديه إلى من تخضع له الرياح والبحار وابتهل إليه، وصلَّى صلاة طويلة.
وفي الخامس والعشرين من سبتمبر سنة ١٤٩٢ ماجت المياه بدون أدنى نسيم ودفعت السفن وأنقذتها من تلك الشباك التي كانت محيطة بها! هكذا تصنع العناية الإلهية العظيمة بمن يغارون على أعمالهم وتُعاونهم وتَشدُّ أزرهم، ومهما جربوا فإنهم لا يفتئون ممتثلين لأعمال الله، ناهجين في سبيله القويم، متكلين عليه في كافة أعمالهم. فكانت تلك القدرة الإلهية تساعد هذا المكتشف العظيم، أو بعبارة أخرى هذا الرجل الذي أضاف إلى العالم عالمًا آخر؛ لأنه كان يصلِّي دائمًا طالبًا من الله عز وجل أن يُبلِّغه مقاصده وينجده بمعونته التي لا تُقدَّر.
ومن الغريب أن الله كان ينقذه من أكبر الورطات ويخلِّصه من شر الويلات، ومع ذلك فإن عدد الثائرين في السفن كان يزداد شيئًا فشيئًا ويومًا بعد يوم، حتى إن أشدهم جسارة وأكثرهم جراءة تفاوضوا وتخابروا بشأن إلقاء الأميرال في البحر إن لم يذعن هذه الدفعة لطلباتهم ويعود إلى إسبانيا عاجلًا! ومع أن كولومب كان يعلم تمام العلم بكل ما كان يختلج صدورهم من الشرور، ويفهم كل ما كان يدور في خَلَدهم من الأفكار السيئة والمكامن، لم تبدُ عليه علائم الانزعاج بالمرة، بل استمرَّ هادئَ البال ساكن البلبال، يهدئُ رَوع هذا ويوقظ ذاك، ويهدد كلَّ من يجسر على إيقاف رحلته بالعقابات الجسيمة. ثم قال لهم أخيرًا: «اعلموا أيها الرجال، أن دمدمتكم وتهوركم لا يجديان فتيلًا، فقد بُعثت لأبحث عن أقطار مجهولة، فلا بد من متابعة السير حتى ندرك اليابسة بمعونة الله وشفاعة ابنه له المجد.»
وكان الله قد دبَّر أمرهم وقدَّر لهم معونته قبل أن يلفظ كولومب تلك الكلمات؛ وذلك أنه في اليوم التالي فضلًا عن الحشائش الخضراء التي كان يظهر عليها أنها لم تنبت إلا حديثًا، فإنهم وجدوا قصبة ثم لوحًا خشبيًّا مشغولًا ثم غصنًا عليه بعض الحبوب الحمراء، فجمعوا كل هذه، وتحولت أحزانهم إلى أُنس وحبور، وهمومهم إلى بِشر وسرور:
وعندما انبلج الصباح رأوا اليابسة بعد إجهاد البصائر على بُعد فرسخين لا غير. فأي قلم يقدر على تعبير ما خالج قلوب هؤلاء المساكين من السرور! بل أي بليغ يمكنه أن يصف ما مازج أفئدتهم من البِشر والحبور! فلقد صاحوا قائلين بعد طلقات المدافع المتوالية: اليابسة اليابسة! ثم أنشدوا الأناشيد الوطنية الملأى غيرة وحماسًا، وكان ذلك يوم الجمعة ١٢ أكتوبر سنة ١٤٩٢.