مكلوم مارن
أضفى وميضٌ من البرق بياضًا شاحبًا على الغابة الرمادية؛ ليُحدد معالم كل أوراق أشجارها المُجعَّدة حتى آخر ورقةٍ فيها، كما لو كان ينسخها، وكأنَّ تفاصيلها صارت مرسومة بقلمٍ فضِّي أو منحوتةً من الفضة. والتقط الوميض الخاطف ذاته، الذي بدا أن البرق يصوِّر به ملايين الأشياء الدقيقة في وهلةٍ خاطفة، كلَّ شيءٍ بدءًا من النُّفايات الأنيقة للنُّزهة العائلية التي كانت متناثرة تحت الشجرة المتفرعة الممتدة، وصولًا إلى المدى الشاحب للطريق المتعرِّج، الذي كانت تنتظرُ في نهايته سيارةٌ بيضاء. وعلى مسافةٍ بعيدة، يقبع قصرٌ كئيبٌ ذو أربعة أبراج أشبه بقلعةٍ، وبدا في المساء الرمادي مُجرَّدَ كومةٍ خافتة بعيدة من الجدران أشبه بسحابةٍ متداعية، وكأنَّه ظهر فجأةً في مُقدِّمة المنظر الطبيعي، فيما وقف شامخًا بأسطحه المتراصة ونوافذه البيضاء اللامعة. وفي هذه، على الأقل، بدا أنَّ وميض البرق ينقل رسالةً ذات مغزًى معيَّن؛ لأنَّ بعض أولئك الذين كانوا مجتمعين تحت الشجرة كان يظن أن تلك القلعة شيءٌ قد تضاءلت أهميته وكاد أن يُنسى، لكنَّها أثبتت قدرتها على البروز مرَّةً أخرى فجأةً في مقدمة حياتهم.
وسَطَع الوميض ذاته، بالروعة الفضية ذاتها، سطوعًا خاطفًا على قامةٍ بشرية واحدة، على الأقل، واقفة أسفل هذه الشجرة بلا حراكٍ كأحد الأبراج. كانت تلك قامةَ رجلٍ طويل يقفُ أعلى من بقية الآخرين الذين كان معظمهم إمَّا جالسًا على العشب وإما منحنيًا لجمع السِّلال والأواني الفخارية. وقد ارتدى عباءةً قصيرةً مبهرةً أو هي قَبَاء مشبوك من أعلاه بإبزيمٍ وسلسلة فضيين توهَّجا كنجمٍ حين سطع عليهما الوميض. بينما كانت هيئته الواقفة بلا حراك تحمل طابعًا معدنيًّا أبرزته حقيقةُ أنَّ شعره ذا التموُّجات الكثيرة المتقاربة كان أصفر اللون لامعًا يُمكن وصفه بأنَّه ذهبيٌّ حقًّا، وبدا أصغر سنًّا من وجهه، الذي كان وسيمًا بإطلالةٍ حادة كقسمات النَّسر، لكنَّه بدا، تحت وقع الوميض القوي، متجعدًا وذابلًا قليلًا. وربما كان يكابد مشقة ارتداء قناعٍ من مستحضرات التجميل؛ لأنَّ صاحبه، المدعو هوجو رومين، واحدٌ من أعظم الممثلين في عصره. وفي الوهلة التي سقط فيها هذا الوميض عليه، بدا أنَّ تموُّجات شعره الذهبية وقناعه العاجي وزينة ثوبه الفضِّية جعلته يلمع كحُلَّةٍ حديدية واقية، ولكن في اللحظة التالية صارت هيئته أشبه بجسد اختفت تفاصيله وسط اللون الرمادي الشاحب لسماء المساء المُلبَّدة بالغيوم.
غير أنَّ شيئًا ما في ثباته هكذا كالتمثال ميَّزه عن أولئك الجالسين على الأرض بجواره؛ إذ أبدى كلٌّ منهم الحركات الطبيعية التلقائية عند رؤية وميض البرق المُفاجئ؛ لأنَّ ذلك كان الوميض الأول في تلك العاصفة الرعدية مع أنَّ السماء كانت مُلبَّدة بغيومٍ كثيفة. فالسيدة الوحيدة التي كانت في هذا الجَمع — والتي كان مظهرها المتوجُ بشعرٍ رمادي أنيق، وقد بدت شديدة الفخر به، يشير بوضوحٍ إلى أنَّها امرأة متزوجة وَقورٌ في منتصف العمر من الولايات المتحدة — أغمضت عينيها وصرخت صرخةً حادةً بعفوية، بينما نَظَر زوجها الإنجليزي، الجنرال أوترام — الذي كان رجلًا شديدَ تبلُّدِ الإحساس ذا أصولٍ بريطانية هندية ورأسٍ أصلع وشاربٍ أسود وسوالف ذات نمطٍ قديم — إلى السماء بحركةٍ فجائيةٍ حادةٍ ثم استأنف انشغاله بتنظيف مكان جلوسهم وترتيب السِّلال والأواني. وكان معهما شابٌّ ضخم البنيان وشديد الخجل ذو عينَين بُنِّيتَين أشبه بعيني كلب، يُدعى مالو، أسقط كوبًا من يده عند رؤية الوميض، واعتذر شاعرًا بالحرج، وبصحبتهم أيضًا رجلٌ ثالث أكثر أناقةً بكثير وذو رأسٍ يوحي بعزيمة وإصرار، كرأس كلبٍ فضولي من سلالة الترير، وشعرٍ رمادي مُصفَّف إلى الوراء بثبات، وهو السير جون كوكسبر المالك الشهير لإحدى الصُّحُف، الذي تفوَّه عند رؤية الوميض بألفاظٍ نابية بلا حرج، لكنَّها لم تكن بلُغةٍ أو لكنة إنجليزية؛ لأنَّه كان من مدينة تورنتو الكندية. بينما ظل الرجل الطويل ذو العباءة القصيرة ثابتًا كتمثالٍ في الشفق حرفيًّا؛ إذ بدا وجهه النَّسري تحت وقع الوميض اللامع كوجه تمثالِ إمبراطورٍ روماني، ولم يرمش جفناه المنحوتان على الإطلاق.
وبعد برهة، انشقت القبة السماوية القاتمة انشقاقًا مصحوبًا بهزيم الرعد، وبدا أنَّ الحياة دبَّت في ذلك التمثال؛ إذ التفت مُشيحًا بنَظَرِه من فوق كتفه وقال بعدم اكتراث:
«نحو دقيقة ونصف دقيقة تفصل بين الوميض والهزيم، أظنُّ أنَّ العاصفة تقترب، ولن تكون الشجرةُ مظلةً نافعةً تَقينا البرق، لكننا سنحتاج إليها عاجلًا كي تحمينا من المطر. أظنُّ أنَّ الأمطار ستغمرنا كالطوفان.»
فنظر الشاب مالو إلى السيدة نظرةً خاطفة بقليلٍ من القلق، وقال: «ألا يوجد أيُّ مأوًى نحتمي به؟ يبدو أنَّ هناك منزلًا.»
فأحبطه الجنرال قائلًا: «صحيحٌ أنَّ هناك منزلًا، لكنَّه ليس ما تحسبه فندقًا مضيافًا على الإطلاق.»
فقالت زوجته بحزن: «من الغريب أنَّنا سنَعلِق وسط عاصفةٍ رعدية من دون وجود منزلٍ قريب سوى ذلك البيت، من بين جميع البيوت الأخرى.»
وبدا أنَّ شيئًا ما في نبرتها يمنع الشاب الأصغر، الذي كان حسَّاسًا وفطنًا، عن الحديث بشأن ذلك المنزل، ولكن لا شيء من هذا القبيل رَدَع الرجل الكندي القادم من تورنتو.
إذ تساءل قائلًا: «ما خطبُ ذلك المنزل؟ يبدو كأنَّه أطلال.»
فقال الجنرال بواقعيةٍ تحمل قدرًا من الدُّعابة: «هذا المكان مِلكُ ماركيز مارن.»
قال السير جون كوكسبر: «هيَّا! لقد سمعتُ كل شيء عن هذا الرجل المميَّز على أيِّ حال، وهو رجلٌ غريب أيضًا. لقد اخترتُه موضوعًا لتقريرٍ غامض في الصفحة الأولى في صحيفة «ذا كومِت» العام الماضي بعنوان: «النبيل الذي لا يعرفه أحد».»
فقال الشاب مالو بصوت خفيض: «نعم، لقد سمعتُ عنه أيضًا. يبدو أنَّ سبب اختبائه هكذا مُحاطٌ بكل أنواع القصص الغريبة؛ إذ سمعتُ أنَّه يرتدي قناعًا لأنَّه مجذوم؛ لكنَّ شخصًا آخر قال لي بجديَّةٍ شديدة أنَّ ثَمة لعنةً مُسلَّطة على الأسرة؛ لعنةً أسفرت عن إنجاب طفلٍ بعيبٍ خلْقي مخيف فاضطروا إلى إخفائه في غرفة مظلمة.»
فعلَّق رومين بجِديَّة حادة قائلًا: «ماركيز مارن لديه ثلاثة رءوس، ومن النوادر التي لا تحدث سوى مرَّةٍ كل ثلاثمائة عام أن يُزيِّن نبيلٌ ذو ثلاثة رءوس شجرة العائلة، ولا يجرؤ أيُّ إنسانٍ على الاقتراب من ذلك المنزل الملعون باستثناء موكبٍ صامت من بائعي القُبَّعات، الذين يُرسلَون لإمداد المنزل بعددٍ هائل من القبعات، ولكن …» — وهنا طرأ على نبرته أحد تلك التغيُّرات العميقة الرهيبة التي يمكن أن تُثير تشويقًا في المسرح — «يا أصدقائي، هذه القبعات ليست كالقبعات التي يعتمرها البشر.»
فنظرت إليه السيدة الأمريكية بعبوسٍ وانطباعٍ طفيف من عدم الثقة، كأنَّ حيلته الصوتية أثارتها رغمًا عنها.
وقالت: «لا أحبُّ مزاحك المروِّع. وأتمنَّى ألَّا تمزح في هذا الشأن عمومًا.»
فأجاب الممثل: «سمعًا وطاعة، ولكن هل ليس من حقي حتى، كمقاتلي «اللواء الخفيف»، أن أعرف السبب؟»
أجابت: «السبب أنَّه ليس النبيلَ الذي لا يعرفه أحد، بل أعرفه شخصيًّا، أو على وجه الدقة كنت أعرفه معرفةً قويةً عندما كان مُلحقًا دبلوماسيًّا في واشنطن قبل ثلاثين عامًا، حين كُنَّا جميعًا شبابًا، ولم يكن يرتدي قناعًا، أو على الأقل لم يرتدِ قناعًا وهو معي. ولم يكن مجذومًا، مع أنَّه يعيش شِبه منعزل، ولم يكن لديه سوى رأسٍ واحد وقلب واحد فقط، لكنَّه صار قلبًا مفطورًا.»
فقال كوكسبر: «لا شكَّ أنَّ السبب قصةُ حبٍّ تعيسة، أرغب في نشر ذلك في صحيفة «ذا كومت».»
فأجابت بتمعُّن: «سأعتبرُ افتراضَك أنَّ النساء دائمًا ما يكُنَّ السبب وراء فَطرِ قلوب الرجال؛ إطراءً لنا. ولكن توجد أنواعٌ أخرى من الحب وفواجع الفقدان. ألم تقرأ قصيدة «إن ميموريام» التي كتبها الشاعر ألفريد تنيسون من قبل؟ ألم تسمع قَط عن ديفيد وجوناثان؟ إن ما فَطَر قلب مارن المسكين هو موت أخيه؛ صحيحٌ أنَّه كان ابن عمه في الواقع، لكنَّه تربَّى معه كأخيه، بل كان كلٌّ منهما أقربَ كثيرًا إلى الآخر من معظم الإخوة. لقد كان جيمس ماير، وهذا هو اسم الماركيز حين كنتُ أعرفه، هو أكبرهما سنًّا، لكنَّه دائمًا ما كان الطرف المُتعبِّد في هذه العلاقة، بينما موريس ماير هو الطرف المعبود. وعلى حد قول جيمس، كان موريس أعجوبةً من عجائب الزمن. صحيحٌ أنَّ جيمس لم يكن أبله، وهو يُتقِن أداء مهام وظيفته السياسية، ولكن بدا أنَّ موريس أيضًا يستطيع فعل ذلك بل كل شيء آخر أيضًا؛ إذ إنَّه كان فنانًا بارعًا وممثلًا وعازفًا هاويًا، وما إلى ذلك. وجيمس نفسه كان وسيمًا جدًّا؛ كما أنه طويل وقوي ونشيط وله أنف عالي القصبة، وأتصور أنَّ الشابات كنَّ يرَيْنه جذَّابًا للغاية بلحيته المشطورة إلى نصفين متَّصلين بسالفتَيْن كثيفتَيْن على نمط تلك العصور الفيكتورية، لكنَّ موريس كان حليق الوجه، وكان شديد الوسامة بالطبع، حسب اللوحات التي رأيتُها لوجهه، مع أنَّ مظهره كان أقرب إلى المغنِّين منه إلى المظهر المفترض للنبلاء. وكان جيمس دائمًا ما يسألني مرارًا عمَّا إذا كان صديقه رائعًا للغاية، وهل يُمكن لأيِّ امرأة ألَّا تقع في حبه، وما إلى ذلك، حتى أصبح الأمر مملًّا بعض الشيء، غير أنَّه تحوَّل فجأةً إلى مأساة؛ لقد بدت حياته كُلُّها مكرَّسة لتعلُّقه الشديد بموريس الذي كاد يعبده، وذات يوم، انهار ذلك المعبود وتحطَّم كأيِّ دميةٍ من الخزف. انقباضة باردة عند شاطئ البحر، وانتهى كل شيء.»
فسأل الشاب: «وهل انزوى هكذا بعد ذلك؟»
فأجابت: «لقد سافَر بعيدًا في البداية إلى آسيا وجُزر آكلي لحوم البشر وأماكن أخرى لا يعلمها إلَّا الله؛ فهذه الفواجع المُهلِكة تزجُّ بالمفجوعين إلى مصائر شتى. وقد دفعته فاجعته إلى الانفصال أو الانعزال التام عن كلِّ شيء، حتى عن التقاليد وعن الذاكرة قدر الإمكان؛ إذ لم يستطع تحمُّل أي إشارةٍ تُذكِّره بعلاقته القديمة بالفقيد؛ لا لوحة ولا حكاية ولا حتى علاقة من أيِّ نوع. ولم يستطع تحمُّل إقامة جنازةٍ عامة كبيرة. لقد رَغب بشدةٍ في الابتعاد، وبقي بعيدًا عشر سنوات. وقد سمعتُ بعضَ الشائعات بأنَّه تعافى قليلًا في نهاية وجوده في الخارج، ولكن حين عاد إلى منزله، انتكس تمامًا، واستقرَّت به الحال إلى سوداويةٍ دينية، وهذا شِبه جنون في الواقع.»
فقال الجنرال المُسن متذمرًا: «يُقال إنَّ القساوسة سيطروا عليه. وقد عرفتُ أنَّه تبرَّع بالآلاف لإنشاء دير، فضلًا عن أنَّه هو نفسه يعيش كراهب، أو ناسكٍ، لا فارق بينهما. لا أفهم ما الخير الذي يعتقدون أنَّه سيأتي من وراء ذلك.»
فتذمَّر كوكسبر قائلًا: «هذه خرافاتٌ ملعونة، يجب أن تُفضَح مثل هذه الأشياء. فها هو رجل ربما كان سينفع الإمبراطورية والعالم، لكنَّ مصَّاصي الدماء سيطروا عليه وما زالوا يمتصُّونه حتى يجف. أراهنُ على أنَّهم، بمعتقداتهم الشاذة، لا يسمحون له ولو بالزواج.»
فقالت السيدة: «كلَّا، لم يتزوج قط. صحيحٌ أنَّه كان خاطبًا حين كنت أعرفه، لكنِّي لا أظنُّ أنَّ الزواج كان ضِمن أولوياته على الإطلاق، وأتصورُ أنَّ مسألة زواجه ذهبت أدراج الرياح حين ذَهَب كلُّ شيءٍ آخر في حياته. فمثل هاملت وأوفيليا؛ فقدَ قدرته على الحب لأنَّه فقدَ قدرته على الحياة، لكنِّي كنت أعرف مخطوبته، أو على وجه الدقة، ما زلتُ أعرفها. وليكن هذا سرًّا بيننا، كانت مخطوبته هي فيولا جرايسون، ابنة الأدميرال المُسِن. ولم تتزوج قَط أيضًا.»
فصاح السير جون وهو يهبُّ واقفًا: «هذه فضيحة! رجسٌ شيطاني! هذه ليست مجرَّد مأساة، بل جريمة. إنني مُكلَّفٌ بواجبٍ تجاه جمهور القُرَّاء، وأعتزم أن أكشف كلَّ تفاصيل هذا الكابوس السخيف. في القرن العشرين …»
كاد السير يختنق من فَرط تذمُّره، ثم حلَّ صمتٌ لحظي، قبل أن يقول الجنرال المُسِن:
«حسنًا، أعترفُ بأنني لستُ على درايةٍ كبيرة بهذه المسائل، لكنِّي أرى أنَّ هؤلاء المتدينين يجب أن يتأملوا آيةً تقول: «دع الموتى يدفنون موتاهم».»
فقالت زوجته بتنهيدةٍ: «مع الأسف، هذا فقط ما يُعبِّر عن تلك المسألة بالضبط. إنَّها كقصةٍ مخيفةٍ عن ميتٍ يدفن ميتًا مرارًا وتكرارًا إلى الأبد.»
قال رومين بابتسامة غامضة بعض الشيء: «لقد تجاوزتنا العاصفة؛ لذا لن تضطري إلى زيارة المنزل غير المضياف رغم كل شيء.»
فارتجفت فجأةً.
وصاحت: «آه، لن أزوره مرة أخرى أبدًا!»
كان مالو يُحدِّق إليها.
ثم صاح قائلًا: «مرَّة أخرى! هل حاولتِ زيارته من قبل؟»
فقالت: «حسنًا، لقد فعلت ذلك مرَّة واحدة، لكننا لسنا مضطرين إلى العودة إلى ذلك الموضوع. لم تعُد السماء تُمطر، وأظن أنَّنا من الأفضل أن نعود إلى السيارة.»
وبينما تحرَّكوا صفًّا نحو السيارة، سار مالو والجنرال في المؤخرة، وقال الأخير فجأةً بصوتٍ خفيض:
«لا أريد أن يسمعنا ذلك النذل القصير كوكسبر، ولكن بما أنك قد سألت، فمن الأفضل أن تعرف. إنَّه الشيء الوحيد الذي لا أستطيع أن أسامح مارن عليه، لكنِّي أظن أنَّ هؤلاء الرهبان درَّبوه على ذلك. لقد ذهبت زوجتي التي كانت أفضل صديقةٍ حظي بها على الإطلاق في أمريكا، بالفعل إلى ذلك المنزل، حين كان يتمشَّى في الحديقة، وهو ينظر إلى الأرض كراهبٍ، وكان مستترًا بقلنسوةٍ سوداء سخيفةٍ كأيِّ قناع، وقد أعطت زوجتي الخادم بطاقتها التعريفية عند البوابة، ووقفت في مسار مارن مباشرةً، لكنَّه تجاوزها بلا أيِّ كلمة أو نظرة حتى، كأنَّها مجرد حجر. لم يكن بشرًا، بل بدا كإنسانٍ آلي مُخيف. ويحق لها أن تصفه بالرجل الميت.»
فقال الشاب ببعض الغموض: «هذا الأمر برُمته شديد الغرابة، إنَّه ليس ﮐ… كما كنت أتوقَّعه.»
وحين غادر السيد مالو الشاب تلك النزهة الكئيبة، ذهب للبحث عن أحد أصدقائه مستغرقًا في التفكير. ولم يكن يعرف أيَّ رهبان، لكنه كان يعرف قسًّا، وكان متلهِّفًا لإخباره بالمعلومات الغريبة التي سمعها عصر ذلك اليوم. حيث شعر بأنَّه يودُّ معرفة حقيقة الخرافات القاسية التي خيَّمت على منزل مارن، كالسحابة الرعدية السوداء التي رآها تحوم فوق ذلك المنزل.
وبعدما ظلَّ يُحال من مكانٍ إلى آخر، عثر أخيرًا على صديقه الأب براون في منزل صديقٍ آخر كاثوليكي روماني ذي عائلةٍ كبيرة؛ إذ دخل باندفاعٍ مفاجئ بعض الشيء ليجد الأب براون جالسًا على الأرض بقسَماتٍ جادة، ويحاول تثبيت قبعةٍ مزهرة خاصة بدُميةٍ شمعية على رأس دُميةِ دبٍّ.
شعر مالو بتناقضٍ طفيف، لكن المسألة كانت تستحوذ عليه بشدة حتى إنَّه لم يستطع تأجيل المحادثة ما دام قادرًا على تجنُّب تأجيلها، وظلَّ عقله يترنَّح كأنَّه تعثَّر بعقبةٍ في لاوَعْيه بعض الوقت. ثم سَرَد تفاصيل مأساة منزل مارن كاملةً كما سمعها من زوجة الجنرال، مع إضافة معظم تعليقات الجنرال ومالك الصحيفة.
وبدا أنَّ ذِكرَ مالك الصحيفة خلق جوًّا جديدًا من الاهتمام. لم يكن الأب براون يعرف أنَّ تصرُّفاته آنذاك كانت مثيرةً للضحك أو تافهة، ولم يُبالِ بذلك؛ إذ ظلَّ جالسًا على الأرض، حيث جعله رأسه الكبير وساقاه القصيرتان يبدو كطفلٍ يلهو بالدمى، ولكن ظهرت في عينيه الرماديتَين الواسعتَين نظرةٌ شوهدت في أعين رجالٍ كثيرين في عدة قرون على مرِّ تاريخٍ عمره ألف وتسعمائة عام، باستثناء أنَّ أولئك الرجال عادةً ما كانوا لا يجلسون على الأرض، بل إلى طاولات مجالس، أو على مقاعد اجتماعات رجال الكنائس، أو عروش الأساقفة والكرادلة؛ نظرةٌ شاردة مؤرَّقة مُثقَلة بتواضعٍ أمام حِملٍ ثقيل يفوق طاقة الرجال، ويُمكن القول إنَّ بعض النظرات المهمومة المُتطلِّعة من هذا القبيل قد ظهرت في أعين بعض البحَّارة وأولئك الذين قادوا سفينة القديس بطرس عبر كمٍّ هائل من العواصف.
قال القس: «أحسنت صُنعًا بإخباري بذلك. أنا ممتنٌّ جدًّا لك؛ لأنَّنا قد نضطر إلى فعل شيء حيال الأمر. لو كانت القضية تقتصر على أمثالك أنت والجنرال، لربما كانت مجرد مسألة خاصة، ولكن إذا كان السير جون كوكسبر سينشر قصصًا مرعبة عنها في صحيفته … حسنًا، إنَّه عضوٌ في الأخوية البرتقالية البروتستانتية في تورنتو، ولا يمكن ألَّا نتدخل في هذه القضية.»
فسأله مالو بقلق: «ولكن ما قولُكَ فيها؟»
قال الأب براون: «أول ما ينبغي قوله عنها إنَّها لا تبدو حياة، حسب روايتك. لنفترض جدلًا أننا جميعًا مصاصو دماء متشائمون يفسدون سعادة الإنسان كلَّها، ولنفترض أنني مصاص دماء متشائم.» وبينما حكَّ أنفه بدمية الدب، أدرك ذلك التناقض الموجود في هيئتها وتركها من يده. ثم أضاف: «ولنفترض أننا نمزِّق الروابط البشرية والعائلية كلها. فلِمَ عسانا أن نعاودَ إقحام رجلٍ في رابطةٍ عائلية قديمة في الوقت الذي بدا فيه أنَّه بدأ يتحرَّر من أغلالها؟ من المؤكَّد أنَّه ليس من الإنصاف اتهامنا في آنٍ واحد بسحقِ مثل هذا التعلُّق الشديد وتشجيع مثل هذا الوله. ولا أفهم حتى لماذا يوصف هذا النوع تحديدًا من الهوس بأنَّه هوسٌ ديني، أو كيف يمكن للدين أن يزيد هذا الهوس إلَّا إضاءةً ببصيصٍ من الأمل.»
ثم قال بعد سكوتٍ لحظي: «أودُّ التحدُّث إلى ذلك الجنرال الذي ذكرتَه في كلامك.»
فقال مالو: «إنَّ زوجته هي التي سَرَدت القصة.»
قال القس: «هذا صحيح، لكنَّ اهتمامي بما لم يقُله لك الجنرال يفوق اهتمامي بما قالته زوجته.»
سأله مالو: «أتظنُّ أنَّه يعرف أكثر ممَّا تعرفه زوجته؟»
فأجاب الأب براون: «بل أظنُّ أنه يعرف أكثر ممَّا قالته. لقد قُلتَ إنَّه تحدَّث عن مسامحته مارن على كلِّ شيءٍ باستثناء فظاظته تجاه زوجته. فما الأشياء الأخرى التي سامَحه عليها؟»
كان الأب براون قد قام من فوق الأرض ونَفَض ثيابه الفضفاضة العديمة الشكل، ووقف ناظرًا إلى الشاب بعينين مُدقِّقتين وقسماتٍ متحيِّرة قليلًا، ثم استدار والتقط مظلته العديمة الشكل أيضًا وقبعته الرثة الكبيرة، وسار في الشارع بخطًى صاخبة قوية.
ظلَّ القسُّ يسير هكذا عبر عدة شوارع وميادين واسعة حتى وصل إلى منزلٍ حسن المنظر قديم الطراز في منطقة «ويست إند»، حيث طلب من الخادم رؤية الجنرال أوترام، وبعد قليلٍ من الثرثرة التي سمعها بينما كان منتظرًا، رافقه الخادم نحو غرفةٍ مكتبية لم تكن تحوي كُتُبًا بقدر ما تحوي من خرائط ومجسَّماتٍ للكرة الأرضية؛ حيث كان الجنرال ذو الأصول البريطانية الهندية والرأس الأصلع والشارب والسالفتين السوداوين يجلس وهو يُدخِّن سيجارًا طويلًا رفيعًا أسود اللون ويعبث بالدبابيس على إحدى الخرائط.
قال القس: «آسفٌ على التطفُّل، بل أنا أشدُّ أسفًا لأنني لا أستطيع أن أجعل هذا التطفل لا يبدو تدخُّلًا. أريد أن أتحدث إليك عن مسألةٍ خاصة؛ من أجل إبقائها خاصة ليس إلَّا. وذلك لأنَّ بعض الأشخاص سيكشفونها لعموم الناس على الأرجح. أظنُّك، أيُّها الجنرال، تعرف السير جون كوكسبر؟»
كانت الكتلة السوداء التي يُشكِّلها شعر الشارب والسالفتين بمثابة قناعٍ يُغطِّي النصف السفلي من وجه الجنرال المُسِن؛ لذا دائمًا ما كان من الصعب رؤية ابتسامته من عدمها، لكنَّ عينيه البُنيتين كثيرًا ما كانتا تلمعان ببريقٍ مُعيَّن.
فقال: «أظنُّ أنَّ الجميع يعرفه، لكنِّي لا أعرفه معرفةً قوية.»
فقال الأب براون مبتسمًا: «حسنًا، إذن فأنت تعرف أنَّ الجميع يعرف كلَّ ما يعرفه السير، حين يراه مناسبًا للنشر. وقد فهمتُ من صديقي السيد مالو، الذي أظنُّك تعرفه، أنَّ السير جون سينشر مقالاتٍ لاذعة ضد رجال الدين بناءً على ما يُسمِّيه «لغز مارن»، تحت عناوين على غِرار «الرهبان يدفعون الماركيز إلى الجنون»، أو ما شابه.»
فأجاب الجنرال: «إذا كان سيفعل هذا، فلا أفهم لماذا أتيتَ إليَّ بخصوص ذلك. يجب أن أخبِرَك بأنِّي بروتستانتي متعصب.»
فقال الأب براون: «إنني شديد الإعجاب بالبروتستانت المتعصبين؛ لقد أتيتُ إليك لأنني واثقٌ في أنَّك ستقول الحقيقة، وآمل ألَّا تكون قلةُ ثقتي في السير جون كوكسبر فظاظةً منِّي.»
فتلألأت العينان البُنيتان مرَّة أخرى، لكنَّ الجنرال لم يقُل شيئًا.
ثم قال الأب براون: «أيُّها الجنرال، لنفترض أنَّ كوكسبر أو أحدًا على شاكلته كان يعتزم أن يملأ الدنيا بقصصٍ رنَّانة ضد بلدك ورايتك. ولنفترض أنَّه قال إنَّ كتيبتك فرَّت في المعركة، أو إنَّ مقاتليك متواطئون سرًّا مع الأعداء، فهل كنت ستتركُ أيَّ شيءٍ يحول بينك وبين معرفة الحقائق التي تدحض ادِّعاءاته؟ أم كُنت ستبحث عن الحقيقة مهما كان الثمن الذي سيتكبَّده أيُّ شخص؟ حسنًا، ها أنا أيضًا لديَّ كتيبةٌ وأنتمي إلى جيش، وسمعة هذا الجيش ستُدنَّس بقصةٍ أنا متيقنٌ من أنَّها زائفة، لكنِّي لا أعرف القصة الحقيقية. فهل ستلومني على محاولة معرفتها؟»
كان الجنرال صامتًا، بينما واصل القسُّ كلامه قائلًا:
«لقد سمعتُ القصة التي سُرِدت على مالو البارحة عن انزواء مارن بقلب مفطور بسبب وفاة ابن عمه الذي كان أقرب إليه من أخيه. وأنا متيقِّنٌ من وجود مزيدٍ من التفاصيل الخفية في تلك القصة؛ لذا جئتُ لأسألك عمَّا إذا كنت تعرف المزيد.»
فقال الجنرال باقتضاب: «كلَّا، لا أستطيع إخبارك بالمزيد.»
فقال الأب براون بابتسامةٍ عريضة: «كنت ستصِفني بأنني يسوعيٌّ لو استخدمتُ هذه التورية.»
فضحك الجنرال بفظاظة، ثم زمجر بعدوانيةٍ أشد بكثير.
وقال: «حسنًا، لن أخبرك إذن. فما قولُك في ذلك؟»
قال الكاهن بلُطف: «سأكتفي بالقول إنني أنا الذي سأخبرك في هذه الحال.»
فحدَّقت العينان البنيتان إلى القس، لكنَّ البريق تلاشى منهما. ثم أضاف:
«أنت تجبرني — ربما بأسلوبٍ أقل تعاطفًا ممَّا كُنتَ ستُخبرني به — على ذِكر الأسباب التي تشير بوضوحٍ إلى وجود مزيدٍ من التفاصيل الخفية في هذه القصة؛ فأنا على يقينٍ تام بأنَّ وراء اكتئاب الماركيز وانعزاله سببًا أوجَه من مجرَّد فقدان صديقٍ قديم. ولا أظنُّ أنَّ القساوسة لهم علاقة بذلك؛ إذ لا أعرف حتى ما إذا كان قد اهتدى أم أنَّه محض رجلٍ يريح ضميره بالصدقات، لكنِّي واثقٌ في أنَّه أكثر من مجرد شخصٍ مكلوم على صديقه. ونظرًا إلى أنَّك تُصِرُّ، فسأخبرك بسببٍ أو أكثر من الأسباب التي جعلتني أظن ذلك.
أوَّلها: قيل إنَّ جيمس ماير كان خاطبًا، لكنَّه، بطريقةٍ ما، لم يعد خاطبًا ولم يتزوج قَط بعد وفاة موريس ماير. فما الذي قد يدفع رجلًا فاضلًا إلى فسخ خطبته لمجرد اكتئابه بسبب موت طرفٍ ثالث؟ إذ كان من الأرجح أن يُتِم زواجه لعلَّه يجد في ذلك عزاءً لروحه المكلومة، ولكن على أي حال، كان لزامًا عليه، بحُكم الآداب والأصول، أن يفي بوعده لمخطوبته ويُتِم زواجه رغم كل شيء.»
كان الجنرال يعض شاربه الأسود، وأصبحت عيناه البُنيتان منتبهتَين جدًّا بل قلقتَين أيضًا، لكنَّه لم يرد.
فيما أضاف الأب براون مُحدِّقًا إلى الطاولة بعبوس: «وثانيها: أنَّ جيمس ماير كان يسأل صديقته دائمًا عمَّا إذا كان ابن عمه موريس رائعًا للغاية، وهل يُمكن لأيِّ امرأة ألَّا تقع في حبه. ولا أعلمُ ما إذا خَطَر على بال السيدة آنذاك أنَّ ذلك السؤال ربما يتضمَّن مغزًى آخر.»
وهنا قام الجنرال وبدأ يمشي في أنحاء الغرفة أو على وجه الدقة يقرع الأرض بخطًى عنيفة.
وقال بدون أيِّ عداء في نبرته: «آه، سحقًا.»
واستطرد الأب براون قائلًا: «وثالثها: هو أسلوب الحِداد الغريب الذي اتَّبعه جيمس ماير، بما يشمله من تدمير كلِّ الآثار المتبقية، وتغطية كلِّ الصور، وما إلى ذلك. أعترف بأنَّ هذا يحدث أحيانًا، وأنَّه قد يكون بسبب فُقدان أحد الأحباء، لكنَّه قد يحدث لسببٍ آخر أيضًا.»
فقال الآخر: «أنت تزعجني. إلى متى ستواصل تكديس ظنونك هكذا؟»
فقال القسُّ بهدوء: «أمَّا السببان الرابع والخامس، فهما قاطعان جدًّا، لا سيما إذا ربطتهما معًا. أولهما: أنَّ جثمان موريس ماير لم يُشيَّع في جنازةٍ خاصة على ما يبدو، مع الأخذ في الاعتبار أنَّه كان ابنًا أصغر في عائلةٍ كبيرة؛ لذا فلا بد أنَّه دُفِن باستعجال، وربما سرًّا. والآخر: أنَّ جيمس ماير توارى فورًا عن الأنظار برحيله إلى بلدان أجنبية؛ إذ فرَّ في الواقع إلى أقاصي الأرض.»
وأضاف بالنبرة الهادئة نفسها: «وهكذا، فحين تشوِّه سمعة ديني لتُجمِّل قصَّةً عن مودَّة خالصة مثالية بين شقيقين، يبدو …»
وهنا صاح أوترام بنبرةٍ أشبه بطلقة مسدس: «صه! يجب أن أخبرك بتفاصيل أكثر وإلَّا فستفترض الأسوأ. دعني أخبرك بشيءٍ واحد في البداية. لقد كان قِتالًا عادلًا.»
قال الأب براون مُتنهِّدًا بعمق: «آه.»
قال الآخر: «لقد كانت مبارزة بالمسدسات، وربما كانت آخر مبارزة بالمسدسات في إنجلترا على الأرجح، وقد وقعت منذ أمدٍ بعيد.»
فقال الأب براون: «هذا أفضل. الشكر لله، هذا أفضل بكثير.»
فقال الجنرال بفظاظة: «أظنُّه أفضل من التصوُّرات البشعة التي خطَرت على بالك، أليس كذلك؟ حسنًا، من السهل عليك أن تسخر من المودة الخالصة المثالية، لكنَّها كانت كذلك حقًّا رغم كل شيء. كان جيمس ماير شديد التعلُّق بابن عمه، الذي تربَّى معه كأخٍ أصغر. صحيحٌ أنَّ الإخوة والأخوات الأكبر سنًّا أحيانًا ما يتعلَّقون بطفلٍ أصغر منهم هكذا، لا سيما حين يكون طفلًا رائعًا للغاية، لكنَّ جيمس ماير كان من نوعية الشخصيات البسيطة التي يُمكن القول إنَّه حتى كراهيتها ليست أنانية. أقصدُ أنَّه حتى عندما كان حنانه يتحوَّل إلى غضب، كان هذا الغضب يظلُّ موضوعيًّا ومُصوَّبًا نحو هدفه دون أن يحيد عنه؛ أي إنَّه لم يكن مهتمًّا بنفسه. أمَّا موريس ماير المسكين، فكان على العكس من ذلك تمامًا؛ إذ كان ألطف بكثير في تعامله مع الآخرين وكان يحظى بإعجابٍ أكبر بينهم، لكنَّ نجاحه جعله أنانيًّا لا يرى سوى نفسه؛ فقد كان الأفضل دائمًا في جميع الرياضات والفنون والإنجازات، وكان يفوز دائمًا تقريبًا ويتعامل مع فوزه بسماحةٍ، ولكن إذا تصادَف أنَّه خسر في أيِّ مرة، يصبح سلوكه بعيدًا عن السماحة؛ إذ كان غيورًا قليلًا. ولا أريد أن أحكي لك كلَّ تفاصيل القصة البائسة عن شعوره ببعض الغيرة من خطبة ابن عمه، وعن عجزه عن منع غروره المهتاج دائمًا من التدخُّل في هذا الشأن، ولكن يكفي القول إنَّ أحد الأشياء القليلة التي كان جيمس ماير يتفوَّق عليه فيها باعتراف الجميع هي الرماية بالمسدس، وبذلك انتهت المأساة.»
قال القس: «بل تقصد بدأت المأساة، مأساةُ الناجي منهما. كنتُ متيقنًا من أنَّه بائسٌ بلا تدخُّلٍ من أي مصَّاص دماء رهباني.»
قال الجنرال: «أرى أنَّه أشدُّ بؤسًا من اللازم. صحيحٌ أنَّها كانت مأساة مروعة رغم كل شيء، كما قُلتُ، لكنَّها كانت قتالًا عادلًا. وقد تعرَّض جيم لاستفزازٍ شديد.»
وهنا سأله القس: «كيف تعرف كل هذا؟»
أجاب أوترام بجمود: «أعرف كلَّ هذا لأنني رأيته؛ إذ كُنتُ أنا الشاهد الخاص بجيمس ماير في هذه المبارزة، ورأيتُ موريس ماير يُردَى قتيلًا على الرمال بأمِّ عيني.»
قال الأب براون بانهماكٍ في التفكير: «أودُّ أن تخبرني بالمزيد عن ذلك. من كان شاهد موريس ماير؟»
أجاب الجنرال بتجهُّم: «لقد حظي بنصيرٍ أكثر تميُّزًا؛ إذ كان الشاهد الخاص به هو هوجو رومين، ذاك الممثل الشهير الذي تعرفه. كان موريس مولعًا بالتمثيل وتبنَّى رعاية رومين (الذي كان فنانًا صاعدًا آنذاك لكنَّه يعاني العديد من الصعاب) وموَّله هو ومشروعاته مقابل الحصول على دروسٍ في تمثيل الهواة، الذي كان هوايته المفضلة، من الممثل المحترف، لكنَّ رومين، على حدِّ ظنِّي، كان شِبه معتمدٍ على صديقه الثري في الواقع، مع أنَّه صار أغنى من أيِّ أرستقراطي الآن؛ لذا فقيامه بدور الشاهد لا يُثبِت شيئًا عن رأيه في تلك المبارزة. لقد تبارزا على الطراز الإنجليزي، بوجود شاهد واحد فقط لكلٍّ منهما، وكنت أريدُ إحضار جرَّاح على الأقل، لكنَّ موريس عارض ذلك بشدة، قائلًا إنَّه كلَّما قلَّ عدد الأشخاص الذين يعرفون بأمر المبارزة، كان ذلك أفضل، وإننا نستطيع إحضار المساعدة فورًا في أسوأ الأحوال؛ إذ قال لي: «يوجد طبيبٌ أعرفه في القرية على بُعدِ نصف ميل، ولديه أسرع حصان في البلاد؛ لذا يمكن إحضاره إلى هنا في التوِّ واللحظة، ولكن لا يوجد داعٍ لإحضاره حتى نعرف مدى ضرورة ذلك.» حسنًا، كُنَّا نعلم جميعًا أنَّ موريس هو الأكثر عُرضةً للخطر؛ لأنَّه لم يكن ببراعة جيمس في استخدام المسدسات؛ لذا حين رفض المساعدة، لم يودَّ أحدٌ أن يطلبها. وقد أُقيمت المبارزة على سهلٍ رملي ممتدٍّ على ساحل اسكتلندا الشرقي، وأُخفيت عن أنظار سُكَّان القرى الصغيرة الداخلية ومسامعهم بحاجزٍ طويل من التلال الرملية المُرقَّعة ببعض العشب العفن، وربما كانت هذه الساحة جزءًا من أحد ملاعب الجولف القديمة، مع أنَّ الجولف لم يكن قد طرأ على مسامع أيِّ رجلٍ إنجليزي آنذاك. ومن خلال فتحة عميقة ملتوية في التلال الرملية وصلنا إلى السهل الرملي. أستطيع تخيُّلها كأنَّها أمامي الآن؛ شريطٌ عريض من الرمال الصفراء الباهتة يليه شريطٌ ضيقٌ من الرمال الحمراء الداكنة، التي بدا لونها الأحمر الداكن ظلًّا طويلًا لمبارزة دموية.
لقد بدا أنَّ المبارزة نفسها بدأت وانتهت بسرعةٍ فظيعة؛ كأنَّها زوبعةٌ ضربت الرمال؛ فمع الضجيج الصاخب دار موريس ماير حول نفسه كمِغزل صغير وسقط على وجهه كإحدى قوارير البولينج. ومن الغريب جدًّا أنني، بينما كنت قلقًا عليه حتى تلك اللحظة، صرتُ مُشفِقًا كلَّ الشفقة بعدها على الرجل الذي قتله، وما زلتُ مُشفقًا عليه حتى هذا اليوم وهذه الساعة؛ إذ كنت أعلم أنَّ حنين صديقي الشديد إلى صديق عمره سيعاود طَرْق قلبه بشراسةٍ بعد ذلك، وأنَّ الآخرين مهما وجدوا من أعذارٍ ليغفروا له فعلته، فلن يغفر لنفسه أبدًا طوال حياته. وهكذا، يُمكن القول بطريقةٍ ما إنَّ الشيء الحقيقي الصارخ، والصورة التي تكوي ذاكرتي بنيران تذكُّرها فلا أستطيع نسيانها، ليست صورة الكارثة ولا دخان المسدس ولا شرارة الرصاصة ولا الرجل الذي خرَّ صريعًا؛ إذ يبدو أنَّ كل هذا تلاشى كضجيجٍ يوقظ رجلًا من نعاسه، لكنَّ ما رأيته، وما سأظلُّ أراه دائمًا، هو صورة جيم المسكين يهرع نحو صديقه وخصمه المُلقى على الأرض، وقد بدت لحيته البُنية سوداء وسط الشحوب المروِّع الذي اعتلى وجهه، بينما ملامحه الشامخة مطموسة أمام الخلفية التي شكَّلها البحر، وإيماءاته المهتاجة التي لوَّح لي بها كي أهرع إلى الجرَّاح القاطن في القرية الصغيرة خلف التلال الرملية. لقد رمى مسدسه وهو يركض، وكان يرتدي قفَّازًا في إحدى يديه، وبدا أنَّ أصابعه المتهدلة المرتعشة تزداد طولًا وتُشدِّد على إيماءاته المهتاجة التي أشار إليَّ بها كي ألوِّح أو أنادي طالبًا النجدة. هذه هي الصورة التي ما زالت محفورةً في ذاكرتي، ولا يوجد أي شيء آخر في هذه الصورة، باستثناء الخلفية المخططة التي شكَّلتها الرمال ومياه البحر والجثة القاتمة الهامدة كالحجر، والقامة القاتمة لشاهد القتيل، الذي وقف متجهِّمًا بلا حراكٍ في الأفُق.»
فسأله القس: «هل وقف رومين بلا حراك؟ كنت أظنُّه ركض بسرعةٍ أكبر من جيمس نحو الجثة.»
فأجاب الجنرال: «ربما فعل ذلك حين غادرت؛ إذ التقط ذهني تلك الصورة الخالدة في لحظة، وفي اللحظة التالية، غُصت بين التلال الرملية وابتعدتُ عن أنظارهم. حسنًا، لقد وقع اختيار موريس المسكين على طبيبٍ مناسب؛ فصحيحٌ أنَّ الطبيب وصل بعد فوات الأوان، لكنَّه وصل أسرع ممَّا كنت أظن. كان هذا الجرَّاح رجلًا لافتًا جدًّا للنظر وسريع الغضب ذا شعرٍ أحمر، لكنَّه يتسم بقدرٍ هائل استثنائي من سرعة البديهة وحضور الذهن. لم أره سوى بُرهةٍ وهو يمتطي حصانه وينطلق به راعدًا نحو مشهد الموت، تاركًا إيَّاي وراءه بمسافةٍ طويلة، ولكن في هذه البُرهة الخاطفة، وصلني انطباعٌ قويٌّ جدًّا عن شخصيته لدرجة أنني تمنيت من الله لو أننا استدعيناه بالفعل قبل بدء المبارزة؛ لأنني ظننت داخل أعماق نفسي أنَّه كان سيمنعها بطريقةٍ أو بأخرى. وبالفعل، نظَّف المكان من آثار الجريمة بسرعةٍ مُذهلة؛ فقبل وقتٍ طويل من عودتي إلى شاطئ البحر سيرًا على قدمَي، تمكَّن بفضل نهجه العملي السريع من تدبُّر أمر كل شيء؛ إذ دُفِنَت الجثة مؤقتًا في التلال الرملية، وأقنع القاتل التعيس بفعل الشيء الوحيد الذي كان بإمكانه؛ ألا وهو الفرار بحياته. فركَض خفيةً بطول الساحل حتى وصل إلى الميناء، وخَرَج من البلاد. وأنت تعرف الباقي، ظلَّ جيم المسكين في الخارج سنواتٍ عديدة، وبعد ذلك، حين طُويت صفحة القصة برمتها أو نُسِيَت، عاد إلى قلعته الكئيبة ووَرِث اللقب تلقائيًّا. لم أره منذ ذلك اليوم حتى الآن، غير أنني أعرفُ ما هو منقوشٌ بحروف حمراء في غياهب دماغه.»
قال الأب براون: «لقد عرفتُ أنَّ بعضكم حاول رؤيته؟»
قال الجنرال: «لم تكفَّ زوجتي قَط عن محاولات رؤيته؛ إذ تأبى التسليم بأنَّ جريمةً كهذه يجب أن تتسبَّب في تعطيل حياة رجلٍ إلى الأبد. وأعترفُ بأنني أميل إلى الاتفاق معها في ذلك. فلو وقعت هذه الحادثة قبل ثمانين عامًا، لظَنَّها الناس طبيعيةً تمامًا، وفي الحقيقة كانت أقرب إلى حادثة قتلٍ بالخطأ منها إلى جريمة قتل عمد. وكذلك فزوجتي من أعزِّ أصدقاء السيدة التعيسة التي كانت سبب المبارزة، وترتئي أنَّ جيم إذا وافق على رؤية فيولا جرايسون مرَّة أخرى، وسمع منها تأكيدًا بأنَّها نسيت أمر هذه المشاحنات القديمة تمامًا؛ فقد يستعيد صوابه. وأظنُّ أنَّ زوجتي دَعَت بعضًا من أصدقائها القُدامى إلى جلسةٍ تشاورية أو ما شابه بشأن تلك المسألة غدًا. إنها نشيطة جدًّا.»
كان الأب براون يلهو بالدبابيس الموجودة بجوار خريطة الجنرال، وبدا أنَّه يسمع كلامه وهو شارد الذهن بعض الشيء، وقد كان لديه عقلٌ يرى الأشياء في إطار صور، وبدا أنَّ الصورة التي لوَّنت حتى العقل المادي الفقير الخيال للجنرال العَمَلي اكتست في العقل الروحاني الخصب الخيال للقس بصبغاتٍ أكثر دلالة وإيحاء بخُبثٍ ما؛ إذ رأى في مخيلته الرمال الحمراء الداكنة الكئيبة، التي كانت بلونِ رمال «حقل الدم» نفسه، ورأى جثة القتيل القاتمة مكوَّمةً على الأرض، ورأى القاتل يركض حانيًا جسده ومُشيرًا بقفازه بإيماءاتٍ مخبولةٍ نادمة، غير أنَّ مخيلته دائمًا ما كانت تتوقف عند مشهدٍ ثالث لم يستطع أن يضعه ضِمن أيِّ صورة بشرية تُناسبه؛ مشهد شاهد القتيل وهو يقف وقفةً غامضة بلا حراك، كتمثالٍ قاتم على حافة البحر. وقد يرى البعض ذلك المشهد مجرَّد تفصيلةٍ عادية، لكنَّ الأب براون رأى تلك القامة الجامدة الواقفة بلا حراك أشبه بعلامة استفهام تحتاج إلى تفسير.
فلماذا لم يتحرَّك رومين فورًا؟ كان من المفترض أن يهرع أيُّ شاهد في ذلك الموقف نحو القتيل بدافع أنه أخوه في الإنسانية، فضلًا عن صداقتهما. وحتى لو كان يُضمِر في نيِّته الخيانة أو دافعًا أشدَّ خُبثًا لم يتضح بعد، كان من المُفترض أن يفعل ذلك حتى من أجل مظهره العام. خُلاصة القول إنَّ المبارزة حين انتهت، كان من المفترض أن يتحرك شاهد القتيل قبل أن يبتعد الشاهد الثاني ويتوارى وراء التلال الرملية بوقتٍ طويل.
قال الأب براون متسائلًا: «هل من عادة هذا الرجل الروماني أن يتحرَّك ببطءٍ شديد؟»
فأجاب أوترام بنظرةٍ خاطفةٍ حادة: «سؤالٌ غريب. لا، بل يتحرَّك بسرعةٍ كبيرة في الواقع، هذا إن تحرَّك في الأساس، لكنَّ الأغرب أنني كنت أفكِّر في ذلك عصر اليوم، حين رأيته يقف هكذا بالضبط خلال العاصفة الرعدية. لقد كان يقف مرتديًا قباءه المشبوك من أعلاه بإبزيمٍ فضِّي وواضعًا إحدى يديه على خصره، تمامًا وحرفيًّا كما كان يقف على تلك الرمال الدموية منذ فترة طويلة. حتى إنَّ البرق خَطَف أبصارنا جميعًا، لكنَّه لم يرمش، وحين تلاشى وميض البرق وحلَّ الظلام مرَّة أخرى، كان يقف في مكانه بالوضعية نفسها.»
فسأل الأب براون: «أظنُّ أنَّه ليس واقفًا هناك الآن، أليس كذلك؟ أعني أنَّني أظنُّه تحرَّك في وقتٍ ما بعدها؟»
أجاب الآخر: «نعم، لم يعد واقفًا هناك، لقد تحرَّك بحدَّة شديدة حين دوَّى هزيم الرعد. ويبدو أنه كان ينتظره؛ لأنَّه أخبرنا بالفاصل الزمني الدقيق بين ضوء البرق وهزيم الرعد. هل توجد أيُّ أهمية في ذلك؟»
قال الأب براون: «لقد وخزت نفسي بأحد دبابيسك. آمل ألَّا أكون قد أتلفته.» لكنَّ عينيه أُغلِقتا وفمه أُقفِل فجأةً.
سأله الجنرال مُحدِّقًا إليه: «هل أنت مريض؟»
فأجاب القس: «لا، كُلُّ ما في الأمر أنني ليس لديَّ ثباتٌ انفعالي كبير مثل صديقك رومين. لا يمكنني تجنُّب الرمش حين أرى الضوء.»
ثم استدار كي يُلملم قبعته ومظلته، ولكن حين وصل إلى الباب، بدا أنَّه تذكَّر شيئًا وعاد مرَّة أخرى. اقترب من أوترام، مُحدِّقًا إلى وجهه بتعبيرٍ عاجز بعض الشيء، مثل سمكةٍ تحتضر، وبدا أنَّه يهم بإمساكه من الصديري الذي يرتديه.
وقال بنبرةٍ شبه هامسة: «أيُّها الجنرال، من أجل الله، لا تدع زوجتك والمرأة الأخرى تُصرَّان على رؤية مارن مرَّة أخرى. دع الكلاب النائمة مُستلقية، وإلَّا فستُطلِق كلَّ كلاب الجحيم.»
ثم ترك الجنرال وحده بنظرةٍ متحيِّرة تعلو عينيه البُنيتين، بينما جلس مرة أخرى ليعبث بدبابيسه.
غير أنَّ الحيرة الأكبر شهدتها المراحل المتتالية من المؤامرة الخيرية التي حاكتها زوجة الجنرال؛ حيث جمعت رفقتها الصغيرة من المتعاطفين لاقتحام قلعة ذلك المُنعزِل عن البشر؛ إذ كانت المفاجأة الأولى التي صادفتها السيدة هي الغياب غير المُبرَّر للممثل الذي حضر المأساة القديمة؛ فحين اجتمع الرفاق حسب اتفاقهم في فندقٍ هادئ بالقرب من القلعة، لم يظهر أيُّ أثرٍ لهوجو رومين، حتى عرفوا من برقيةٍ متأخرة أرسلها أحد المحامين أنَّ الممثل الشهير قد غادر البلاد على حين غرة. أمَّا المفاجأة الثانية؛ فتمثَّلت في هيئة الشخص الذي خرج إليهم لاستقبالهم بالنيابة عن المالك النبيل حين استهلُّوا الهجوم على القلعة بطلبِ مقابلة صاحبها فورًا؛ إذ لم تكن هذه الهيئة كتلك التي تصوَّروها مناسبةً لتلك الممرات الكئيبة المؤدية إلى مثل هذه المنازل أو تلك الإجراءات الشكلية شبه الإقطاعية التي عفا عليها الزمن. ولم تكن هيئة وكيلٍ ولا رئيس خَدَمٍ جليل، ولا حتى وصيفٍ مُبجَّل ولا خادمٍ طويل مُزيَّن، بل كانت الهيئة الوحيدة التي خرجت من مدخل القلعة الكهفية هي هيئة الأب براون القصيرة الرثَّة.
قال القس بنبرته البسيطة القلقة: «أصغوا إليَّ، لقد أوصيتكم بتركه وشأنه. إنَّه يعرف ما يفعله، وتصرُّفكم هذا سيُتعِس الجميع.»
وهنا نظرت السيدة أوترام — التي كانت برفقة سيدةٍ طويلة ترتدي ملابس بسيطة غير لافتة لكنَّ قسمات وجهها جميلةٌ جدًّا ويبدو أنَّها السيدة جرايسون المخطوبة السابقة — إلى القس الصغير بازدراءٍ فاتر.
وقالت: «حقًّا يا سيدي! هذه مناسبةٌ شديدة الخصوصية، ولا أفهم ما علاقتك بها.»
فصاح السير جون كوكسبر غاضبًا: «أنأتمنُ قسًّا على التدخُّل في مناسبةٍ خاصة؟! ألا تعلمون أنَّهم يعيشون خلف الكواليس كجرذان خلف ألواح الجدران الخشبية يحفرون طريقهم إلى جميع الغرف الخاصة؟ انظروا كيف سيطر بالفعل على مارن المسكين.» كان السير جون نكِد المزاج قليلًا، بينما أصدقاؤه الأرستقراطيون يحاولون إقناعه بالتخلي عن هذا القدر الكبير من التشهير مقابل منحه امتياز الوجود بالفعل داخل سرٍّ من أسرار مجتمعهم الراقي. ولم يخطر على باله قَط أن يسأل نفسه عمَّا إذا كان هو الأشبه، بأي حالٍ من الأحوال، بجرذٍ يختبئ خلف ألواح الجدران الخشبية.
قال الأب براون بنفاد صبر من فرط قلقه: «آه، هذا صحيح تمامًا. لقد ناقشتُ المسألة مع الماركيز، وكذلك مع القسِّ الوحيد الذي جمعته به علاقةٌ على الإطلاق، لقد بالَغ الناس كثيرًا في ظنونهم عن علاقته برجال الدين. وأقول لكم إنه يعي ما يفعله تمامًا. وأدعوكم جميعًا إلى تركه وشأنه.»
فصاحت السيدة أوترام بصوتٍ مرتجف قليلًا: «أتقصدُ أن نتركه يعيش شِبه ميتٍ هكذا وسط براثن الاكتئاب والجنون في أطلال كهذه! وكلُّ ذلك لأنَّ الحظ جانَبَه في رصاصةٍ أطلقها على رجل في مبارزةٍ قبل أكثر من ربع قرن. هل هذا ما تُسمِّيه الإحسان المسيحي؟»
أجاب الكاهن بقوة: «أجل، هذا ما أُسميه الإحسان المسيحي.»
فصاح كوكسبر بغضبٍ لاذع: «هذا هو كلُّ الإحسان المسيحي الذي ستنالونه دائمًا من هؤلاء القساوسة، وهذه هي فكرتهم الوحيدة عن مُسامحة شخصٍ مسكين على فعلٍ أحمق؛ لنحبسه حيًّا ونجوِّعه حتى الموت بالصوم والكفَّارات وصور نيران الجحيم. وكل ذلك بسبب رصاصةٍ أخطأت هدفها.»
فيما قال الجنرال أوترام: «هل تعتقد حقًّا وصدقًا أيها الأب براون أنَّه يستحق ذلك؟ هل هذا ما تأمرك به تعاليمُ المسيحية التي تعتنقها؟»
وتوسَّلت زوجته بنبرةٍ أرق: «من المؤكَّد أنَّ المسيحية الحقيقية هي التي تعرف الجميع وتصفح عن الجميع، هي المحبة التي يمكن أن تتذكر … وتنسى.»
فيما قال الشاب مالو بجدِّية شديدة: «أيُّها الأب براون، عادةً ما أوافقك على ما تقوله، لكنِّي لا أتفق إطلاقًا مع رأيك في هذه المسألة؛ فقتل شخصٍ في مبارزةٍ برصاصة ثم إبداء الندم فورًا ليس جُرمًا شنيعًا.»
قال الأب براون بفتور: «أعترفُ بأنني أتبنَّى رأيًا أشدَّ صرامةً تجاه جريمته.»
وهنا قالت السيدة الغريبة متحدِّثةً للمرة الأولى: «أدعو الله أن يرقِّق قلبك القاسي. إني ذاهبة كي أتحدَّثَ إلى صديقي القديم.»
وبدا أنَّ صوتها أيقظ شبحًا في ذلك المنزل الرمادي الكبير؛ إذ سُمِع صوت تحرُّكٍ داخله قبل أن يخرج منه رجلٌ وقف في المدخل المظلم عند أعلى دَرَجٍ حجري طويل. كان مُتشحًا بثوبٍ أسود باهت، لكن ثَم شيء غريب في شعره الأبيض، وشيء في ملامحه الشاحبة بدا أشبه بحُطام تمثالٍ من الرخام.
بدأت فيولا جرايسون تصعد الدرج الحجري الطويل بهدوء. فيما تمتم أوترام من أسفل شاربه الأسود الكثيف، قائلًا: «أظنُّ أنَّه لن يتجاهلها كما فعل مع زوجتي.»
فنظر الأب براون، الذي بدا عليه انهيار الاستسلام، إليه لحظة.
وقال: «إنَّ ضمير مارن المسكين مُثقلٌ بما يكفي؛ لذا دعنا نُبرِّئه ممَّا نستطيع تبرئته منه، أقلُّه أنَّه لم يتجاهل زوجتك.»
فقال الجنرال: «ماذا تقصد بذلك؟»
قال الأب براون: «أقصد أنَّه لم يعرفها قَط.»
وبينما كانا يتحادثان، خَطَت السيدة الطويلة الخطوةَ الأخيرة بفخرٍ وأصبحت أمام ماركيز مارن وجهًا لوجه. وحين هَمَّ بالكلام، حدث شيءٌ قبل أن ينطق حرفًا واحدًا.
إذ أطلقت السيدة صرخة دَوَّت في أرجاء العراء وظلَّت أصداؤها تتردَّد على طول تلك الجدران المجوَّفة. وفي ظلِّ المباغتة والمعاناة اللتين انطلقتا من شفاه المرأة، قَد يظنُّ البعض أنَّها مجرَّد صرخةٍ بلا أيِّ كلمات. لكنَّها في الواقع كانت كلمةً ملفوظة بوضوح، وقد سمعوها جميعًا بجلاءٍ فظيع.
صرخت قائلة: «موريس!»
فصاحت السيدة أوترام: «ما الخطب يا عزيزتي؟» وبدأت تصعد الدرَج ركضًا لأنَّ المرأة الأخرى كانت تترنَّح وبدا أنَّها على وشك السقوط نزولًا على الدرَج بأكمله، ثم استدارت المرأة نحو الاتجاه المقابل وبدأت تنزل الدرَج بجسدٍ مُنحنٍ متقلِّص مرتعد. بينما كانت تقول: «يا إلهي! يا إلهي! إنَّه ليس جيم إطلاقًا، إنَّه موريس!»
فقال القسُّ بجدِّيةٍ شديدة: «أظنُّ يا سيدة أوترام أنَّه من الأفضل أن ترحلي مع صديقتك.»
وبينما استدار الجميع للمغادرة، سقط عليهم صوتٌ كالحجر من أعلى الدرَج الحجري، صوتٌ بدا أنَّه ربما صَدَر من قبرٍ مفتوح؛ إذ كان أجشَّ وغير طبيعي، كأصوات الرجال الذين يُتركون وحدهم مع طيورٍ برية على الجُزُر الصحراوية. لقد كان صوت ماركيز مارن قائلًا: «انتظروا!»
ثم أضاف: «أيها الأب براون، قبل أن يرحل أصدقاؤك، آذنُ لكَ بأن تُخبرهم بكلِّ ما قلته لك. وأيًّا كانت العواقب، فلن أختبئ منها بعد الآن.»
فقال القس: «أنت محق، وهذا شيءٌ يُحسَب لك.»
ثم قال بهدوء للرفقة المُتسائلة: «نعم. صحيحٌ أنَّه أذِن لي بالكلام، لكنِّي لن أسرد الأحداث كما حُكِيَت لي، ولكن كما اكتشفتها بنفسي. حسنًا، لقد عرفت منذ البداية أن التأثير الرهباني المُفسِد كان محض هراء من وحي روايات خيالية. قد تُشجِّع جماعتنا، في بعض الحالات، المرء على الذهاب إلى الدير بانتظام، لكنَّهم لن يشجعوه بالتأكيد على إهدار حياته في قلعةٍ من العصور الوسطى. وعلى المنوال نفسه، فمن المؤكَّد أنَّهم لا يريدون له أن يرتدي ثياب راهبٍ في حين أنَّه ليس راهبًا؛ لذا بدا لي أنَّه ربما هو الذي أراد أن يعتمر قلنسوة الرهبان أو يرتدي ولو قناعًا. لقد سمعتُ أوَّلًا أنَّه شخصٌ منعزل حِدادًا، ثم قيل لي إنَّه قاتل، لكنِّي كنت أشكُّ شكوكًا غامضة بالفعل في أنَّ سبب اختبائه ربما لا يتعلَّق بماهيته، بل بهويته.
ثم سمعتُ من الجنرال وصفَ المبارزة الصارخ الذي خَلَق صورةً بارزة عنها في ذهني، وكان أبرز ما فيها هو هيئة السيد رومين في الخلفية، وقد كانت بارزةً بوضوح لأنَّها كانت في الخلفية. فلماذا هُرع الجنرال لطلب المُساعدة تاركًا وراءه رجلًا ميتًا على الرمال، في حين أنَّ صديق هذا الرجل ظلَّ واقفًا بلا حراكٍ على بُعد ياردات كعمودٍ أو حَجَر؟ ثم سمعت شيئًا، محض ملحوظة تافهة، عن عادةٍ شخصية لدى رومين تتمثَّل في أنَّه يقف ساكنًا تمامًا حين ينتظر حدوث شيءٍ ما، مثلما كان ينتظر سماع هزيم الرعد بعد ضوء البرق. حسنًا، لقد فضحتْ هذه العادة العفوية كل شيء في هذه القضية؛ إذ كان هوجو رومين في تلك الحادثة القديمة أيضًا ينتظر شيئًا.»
قال الجنرال: «لكنَّ كل شيء انتهى. فما الذي كان ينتظره؟»
قال الأب براون: «كان ينتظر المبارزة.»
فصاح الجنرال: «لكنِّي أقول لك إنني رأيت المبارزة!»
قال القس: «وأنا أقول لك إنَّك لم ترَ المبارزة.»
فسأله الآخر: «هل أنت مجنون؟ أو لماذا تظنني أعمى؟»
قال القس: «لأنَّك أُعميتَ عنها؛ لذا ربما لم تَرَها؛ لأنَّك رجلٌ صالح ولأنَّ الربَّ كان رحيمًا ببراءتك، وأبعَد عينيك عن ذلك الصراع غير السوي. لقد أقام جدارًا من الرمال والصمت بينك وبين ما حدث حقًّا على هذا الشاطئ الأحمر الرهيب، الذي تُرِك آنذاك لروحَي يهوذا وقابيل الهائجتَين.»
فشهقت السيدة بنفاد صبر: «أخبِرنا بما حدث!»
قال القس: «سأحكيه كما اكتشفته. النقطة التالية التي اكتشفتُها أنَّ رومين الممثل كان يُدرِّب موريس ماير على جميع حِيَل مهنة التمثيل. كنتُ أعرف صديقًا يمارس التمثيل، وقد حكى لي قصَّة مُسلِّية جدًّا عن أنَّه لم يكن يتدرَّب طوال أسبوعه الأول إلَّا على السقوط، أي تعلُّم كيفية السقوط دون ترنُّح، كأنَّه ميتٌ تمامًا.»
وهنا صاح الجنرال مُمسكًا بذراعَي كرسيه وهو يهمُّ بالقيام: «فليرحمنا الله!»
قال الأب براون: «آمين. لقد أخبرتني بأنَّ المبارزة تمَّت بسرعةٍ هائلة، وفي الواقع، لقد سقط موريس قبل أن تنطلق الرصاصة، واستلقى هامدًا تمامًا، مُنتظرًا اللحظة المناسبة. فيما كان صديقه ومعلمه الشرِّير يقف في الخلفية، مُنتظرًا أيضًا.»
قال كوكسبر: «وها نحن ننتظر، وأشعر بأنني لا أطيق الانتظار.»
وأضاف الأب براون: «فهُرع جيمس ماير، الذي كان مفطور القلب من شدة الندم بالفعل، إلى الرجل الساقط وانحنى ليرفعه، وكان قد ألقى مسدسه من يده كأنَّه شيء نجس، لكنَّ مسدس موريس كان ما يزال موجودًا تحت يده ومُذخَّرًا برصاصته كما هو. ثُمَّ حين انحنى الرجل الأكبر سنًّا على الأصغر، رَفَع الأصغر نفسه على ذراعه اليسرى وأطلق الرصاصة على الأكبر في جسده. كان يعلم أنَّه ليس بارعًا في التسديد، ولكن لم يكن يوجد أدنى شكٍّ في أنَّه لن يُخطئ إصابة القلب من مسافةٍ قريبة كهذه.»
هب بقية الرفاق واقفين ومُحدِّقين إلى القسِّ بوجوهٍ شاحبة. ثم سأله السير جون أخيرًا بصوتٍ غليظ: «هل أنت متيقنٌ من ذلك؟»
قال الأب براون: «أنا متيقنٌ من ذلك، والآن، أتركُ موريس ماير، ماركيز مارن الحالي، لإحسانكم المسيحي. لقد كُنتم تكلِّمونني اليوم عن الإحسان المسيحي. وبدا لي أنَّكم تُعطُونه حيِّزًا أكبر من اللازم تقريبًا، ولكن يا لَحُسن حظِّ المُذنبين المساكين أمثال هذا الرجل بإسرافكم في الرحمة، واستعدادكم لمُسامحة البشر أجمعين.»
فانفجر الجنرال غاضبًا: «سُحقًا. إذا كنت تظنُّ أنِّي سأسامح أفعى قذرة كهذا، فأُؤكِّد لك أنِّي لن أنطق كلمةً واحدة لإنقاذه من الجحيم. لقد قلتُ إنَّ بوسعي العفو عن مبارزةٍ شريفة تقليدية، أمَّا جميع القتلة الغدَّارين …»
فيما صاح كوكسبر بانفعال: «يجب أن يُعدم. يجب أن يُحرَق حيًّا كزنجيٍّ في الولايات المتحدة. ولو كان بالإمكان أن يظلَّ يحترق إلى الأبد، فبالتأكيد …»
وقال مالو: «لن أمسَّه إطلاقًا ولو بنعل حذائي.»
فيما قالت السيدة أوترام وهي ترتجف من شعرها إلى أخمص قدمها: «للإحسان الإنساني حدود.»
قال الأب براون بواقعية ممزوجة بقدرٍ من الدعابة: «نعم صحيح، وهذا هو الفرق الحقيقي بين الإحسان الإنساني والإحسان المسيحي. يجب أن تسامحوني على أنني لم أتأثَّر إطلاقًا باحتقاركم لميولي اليوم نحو عدم التسامح، ولا بالخُطب الوعظية التي ألقيتموها عليَّ بشأن العفو عن الآثمين كافةً؛ لأنني أرى أنَّكم لا تعفون إلَّا عن الخطايا التي لا تظنُّونها آثامًا بالفعل؛ أي أنَّكم لا تعفون عن المجرمين إلَّا حين يرتكبون ما لا تعتبرونه جرائم، بل فعلًا مُتعارَفًا عليه بحكم التقاليد؛ لذا فأنتم مستعدون للعفو عن مبارزة تقليدية، تمامًا كما تعفون عن الطلاق التقليدي؛ أي أنَّكم تعفون لأنَّه لا يوجد أيُّ شيءٍ يُعفى عنه في الأساس.»
فصاح مالو: «سُحقًا، ولكن لا تقُل إنَّك تتوقع منَّا أن نغفر فعلةً خسيسة كهذه؟»
قال القس: «لا، ولكن يتوجَّب علينا نحن أن نكون قادرين على أن نغفرها.»
ثم وقف فجأة ونظر إليهم.
وقال: «يتوجَّب علينا أن نَمسَّ هؤلاء الرجال، ليس بنعال الأحذية، ولكن بالبركة. ويتوجب علينا أن نقول الكلمة التي ستُنقذهم من الجحيم. ونحن وحدنا مَن نبقى لنُنقذهم من اليأس حين يهجرهم إحسانكم الإنساني؛ لذا فابقوا أنتم منغمسين في ملذَّاتكم ولا تعفوا إلَّا عن الرذائل المفضلة لديكم وتسامَحوا مع الجرائم المتفقة مع تقاليدكم، واتركونا في الظلام، ظانِّين أننا مصاصو دماء في الليل، لنواسي أولئك الذين يحتاجون إلى المواساة حقًّا، الذين يأتون بأفعالٍ لا يمكن الدفاع عنها حقًّا، أفعالٍ لا يستطيع أي إنسانٍ في الدنيا ولا حتى هم أنفسهم الدفاع عنها، ولا يعفو عنها إلَّا قس. اتركونا مع الرجال الذين يرتكبون الجرائم الوضيعة المقززة الحقيقية، الوضيعة مثلما كان القديس بطرس وضيعًا حين صاح الديك، ومع ذلك، أتى الفجر.»
فقال مالو بارتياب: «الفجر. أتقصدُ الأملَ لروحه.»
فأجاب الآخر: «نعم، دعوني أطرح عليكم سؤالًا واحدًا. ها أنتم سيداتٌ فُضليات ورجال شرفاء وآمنون على أنفسكم، وربما تقولون لأنفسكم إنَّكم لن تنحرفوا أبدًا إلى فعلٍ وضيع كهذا. ولكن قولوا لي ذلك بصراحة: إذا افترضنا أنَّ أيًّا منكم قد انحرف هكذا، فمَن منكم سيجرؤ، بعد انحرافه بسنواتٍ حين يكون مُسنًّا وثريًّا وآمنًا، على سرد قصَّةٍ كهذه عن نفسه بدافعٍ من ضميره أو قسِّ الاعتراف؟ تقولون إنَّكم لا يُمكن أن ترتكبوا جريمةً حقيرة كهذه. فهل يمكنكم أن تعترفوا بجريمةٍ حقيرة كهذه؟» لملم الآخرون متعلقاتهم وخرجوا مثنى وثلاث من الغرفة في صمت. فيما عاد الأب براون، في صمتٍ أيضًا، إلى قلعة مارن الكئيبة.