حال الكون
وجودٌ لا حدَّ له ولا مدى، وبدءٌ ليس لهُ ابتدا، يفوق طور العيان فلم يرهُ بشرٌ قط، ويسمو على إدراك الأذهان فلا يمثلهُ إلا ذاته فقط. حتى إذا ما لمح كمالاته الممجَّدة، واستملح عنايته المؤَبَّدة، أوحى إلى الأبواب السرمدية فانفتحت، وأوعز إلى غوامض الحركة فاتضحت، فاندفع الغبار الكونيُّ من تلك المصارع الدهرية، وانتشر في هاتيك العرصات الأبدية، وإذ تبلبل ببعضه تسلح بالتجاذب، وحمل حمل التحارب، فانطبق كلٌّ على قرينهِ بالالتصاق طبقَ إيعاز الخلاق، فنجمت العوالم الكروية، شموسًا وكواكبًا درية، وانطلقت ثانويَّات تلك الملاحم الكونية.
أجيجٌ شبَّ من صراع ذلك الجم الغفير، فأحرق دقائق الأثير، حتى انبجس نور الاحتراق، وأنار غسق الانطباق، فكانت الحرارة في الأكوان، بظهور النور للعِيان. ولما استكملت تلك البخاريات جمادًا، بعد اتقادها أجيالًا وآمادًا، نضجت نضوج الثمر في الكِمام، وانشغل الفضاء بالأجرام، وهاكَ منها البعض، كعطارد والأرض.
ولما أصدرت الحرارةُ عنصرَ الضو، تمازجا فانبثقت منهما كهرباءُ الجو. فهاك ثلاثة متوالدة، قُمنَ في ذاتٍ واحدة، فحصحصت الكائنات، وتحركت الساكنات، وتنوعت الحركات وتجنَّست، وتفاقمت الآثار وتكردست. وإذ لاحت الأرض لتلك المؤثرات صلعاءَ قفرا، قالت: فلنكسُها بإذن الله جمال البردة الخضرا، فانضم عنصر الناريَّات النواهض، واتحد أصل الماء بأصل الحوامض، حتى ترتبت الأصول فتداخلت بالاتحاد، وتفاعلت على بعضها المواد. وهكذا نهضت الحياة بين تلك الأصول الراقدة، فنبَّهت إلى النمو والحركة سواكنَ الذرَّات الجامدة، فهبَّ النباتُ للحال من وراءِ تلك الفواعل الغارسة، حتى اخضرَّت اليابسة، وأصبحت الوحشية مأنوسةً وآنسة. فما كان الله ليرضى أرضًا بلا سكن، وقوتًا بلا بدن؛ ولذلك دعا تلك القوة الحيوية إلى التعاظم، ونبَّهها إلى التراكم، فتعاظمت القوة الحيوية وكملت، وشملت أصل الحركة وحملت، حتى انتشرت النطفة الحيوانية، بعد استكمالها مقومات البنية العضوية، فأخذ الحيوان يتجمل ويتكمل، ويتوالد ويتسلسل. ولما تعدَّد أنواعًا، طلب إشباعًا، فحمل كلٌّ على قريبه حمل البعول، حتى برزت المسوخُ والنغول، وهكذا حمل الهواءُ جانحه، والماءُ سابحه، والتراب سارحه، ولم يلبث أن خلق الله الإنسان، فكان عَلَم الأكوان.