حال الشيخوخة
إن حياتنا هي بخارٌ يتصاعد قليلًا ثم يضمحل. نعم، كلٌّ يضمحل كالضباب، حتى الجبال تمر مرَّ السحاب، فلا دوامٌ للوجود، ولكنما العدم محال، ولا طمعٌ في الخلود، فكلُّ مركَّبٍ للانحلال. فلا يزال الإنسان سايرًا في طريق عمره سير المسافر في القفار، إلى أن يبلغ رابع الأدوار، وهو دور الدثار. هذا إذا أمكنه الخلاص من لصوص الحوادث، والمناصُ من أُسد الكوارث، ونهبة الأعراض، وقتلة الأمراض. فيلبث هناك منهوكًا من تعب المسير، ومضض التأثير، إذ يعود منحنيًا تحت أحمال الحياة وأثقالها، ومرضوضًا من صدمات الدنيا وأهوالها، فتصمتُ ضوضاءُ حواسهِ وهواجسه، ويخرس رنين أنفاسه ووساوسه، فيكف بصرهُ، وتجف فكرهُ، ويقل ذوقهُ، ويكثر شوقهُ، ويبخل حتى بالفلس، ويزيد حرصهُ على النفس، ويجود بالقلس. فإذا الْتَفَتَ إلى ورائهِ ورأى الدنيا التي قطعها والطريق التي تتبعها، ظهرت لهُ الأشياء أشباح أحلام، ومراسح أوهام، وكلها تجري نظيره إلى الزوال، كالطيف والخيال، فيضحك على الجميع، ضحك الطفل الرضيعِ. أمَّا إذا التفت إلى الأمام، وطمِع ببقية الأيام، حنَّ إلى الوجود، وهام بحب الخلود. ولا يزال الماضي يدفعهُ، والحاضر يردعهُ، والمستقبل يطمعهُ، حتى تختطف يمامةَ نفسِه بزاةُ المنية، وتسلبهُ كل بغية وأمنية، فيهبط هبوط البنيان، ويغور في قبر النسيان، حيثما تسترجع الكليات جزئياتها، وتسترد المجموعات مفرداتها.