حال الهيئة الاجتماعية
ولما تقومت العيال، وتبادلت الأميال، أخذت كل عيلة تقترب من جارتها بالزواج، وتقايضها في أدوات النتاج، فاشتدَّت الروابط بين البشر، وانتصب عمود الوطر، وشرع الناس يحاضرون، وإلى بعضهم البعض يسافرون، حتى تشيَّدت بينهم المعاملات، وتمكَّنت المبادلات، فكثرت الحاجات الإنسانية، وتفاقمت الضرورات البدنية، حتى التزم هذا إلى ذاك، واحتاج ما هنا إلى هناك، وما لبث أن انتظم نثار البشر، وانضم البدو إلى الحضر. وهكذا قد استحدث الإنسان شرايع الانضمام، وأنشأ مواطن الالتئام، فنهضت مطامع النفوس، وحامت السعود والنحوس، حتى ثار الناس على بعضهم البعض، وجعلوا يسقون بدمائهم الأرض، فساد هؤلاء واغتنوا، وافتقر أولئك وعنوا، فقامت الملوك والرؤساءُ، وتمكَّنت الأسياد والأمراءُ، حتى لقي الإنسان ما جناه، وهلك بما جناه، إذ أضحت الروس تتهشم تحت مطارق السيادة، والأفكار تضل في مناهج القيادة، وأخذت الإنسانية بما أبدعت من المتاعب، ورجعت تشكو صروف المصائب، فما مصائبها إلا مآربها، وما أوجاعها إلا أطماعها. ولما احتاج الإنسان إلى لوازم الحياة الاجتماعية، وبواعث السكنى الانتظامية، أفضت به الضرورة إلى التمدُّن والألقاب، ولجم الطبيعة بالآداب، ليحسن نظام الجماعة في سلك الاتصال، وتتسهل سبل الأفعال والأعمال، وتتميز الأشخاص المجتمعة، وتتهذب الأطباع المندفعة. وما زال الاجتماع آخذًا في ازدياده، والنظام سالكًا في انعقاده، والضرورة تجهد المجرى، والعقل يجدُّ بالمسرى، إلى أن اتصلت القبايل بالقبايل، ولحقت الأواخر بالأوايل.